محاضرات أصول فقه2 - المحاضرة 40 - دليل المجوّزين
دليل المجوّزين:
واحتجّ القائلون بالإمكان بوجهين - كما في المعالم -:
لأوّل: أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص، ثمّ خاطه في ذلك المكان.. فإنّا نقطع بأنّه عاص ومطيع، لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.
والثاني: لو امتنع الجمع، لكان باعتبار اتّحاد متعلّق الأمر والنهي، إذ لا مانع سواه اتّفاقا، واللازم باطل، إذ لا اتّحاد في المتعلّقين، فإنّ متعلّق الأمر الصلاة، ومتعلّق النهي الغصب، فكلّ منهما يتعقّل إنفكاكه عن الآخر، وقد اختار المكلّف جمعهما مع إمكان عدمه، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما اللتين هما متعلّقا الأمر والنهي، حتّى لا يبقيا حقيقتين مختلفتين فيتّحد المتعلّق.
ويلاحظ عليه:
انّه لابدّ لنا من أن نقدّر بأنّ التشريع غير التكوين، وانّ البحث في التشريعيات يعني التعامل مع اعتباريات المشرّع، والبحث في التكوينيات يعني التعامل مع واقعيّات الكون.
فإذا كان لا يمكن إجتماع الضدّين في التكوينات لأنّهما وجوديّان والمحلّ الواحد لا يتحمّل أكثر من وجود واحد لمحدوديّة قابليته، فإنّ هذا لا يجري في التشريعيّات لأنّ الأمر فيهما يرجع إلى اعتبار المعتبر لا إلى واقع الفعل لأنّه يتحمّل من حيث الإعتبار وذلك بتعدّد الحيثيّة فمن حيث هو صلاة هو طاعة ومن حيث هو غصب هو معصيّة.
والمعتبر - وهو المشرّع - هو الذي يقرّر جواز الجمع أو منعه، لأنّ الجمع فعل مقدور للمكلّف.
فعلينا - أوّلا - أن نبحث عن كيفيّة التشريع، لا عن طريق مقايسته بالتكوين، وإنّما عن طريق ما يفيده المشرّع في ذلك من خلال النصوص الشرعيّة.
فان عثرنا على ما يفيد تجويز الجمع أو منعه أخذنا به.
وان لم نعثر، فالمكلّف يدرك - وبالضرورة - أنّه قد جمع في فعله هذا بين الطاعة والمعصيّة.
وعلى هدي هذا ينبغي أن يصاغ السؤال كالتالي: انّ اجتماع المأمور به مع المنهي عنه في فعل واحد ماذا يستلزم؟
هل يستلزم إعتباره طاعة من حيث إنّه إمتثال للأمر بالصلاة، ومعصيّة من حيث انّه مخالفة للنهي عن الغصب، أو أنّه يستلزم شيئا آخر نفيده من النصوص الشرعيّة؟
الحقّ - فيما أقدر - مع الرأي المنقول عن الفضل بن شاذان، ففي كتاب (الحدائق)(1): انّ صريح كلام الفضل بن شاذان من قدماء أصحابنا (رضوان اللَّه عليهم) وخواص أصحاب الرضا(عليه السلام) هو الجواز كما نقله في (الكافي) في كتاب الطلاق، حيث قال - في مقام الردّ على المخالفين في جواب من قاس صحّة الطلاق في الحيض بصحّة العدّة مع خروج المعتدة من بيت زوجها - ما هذا لفظه: وإنّما قياس الخروج والإخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخول الدار، وصلاته جائزة لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة لأنّه منهي عن ذلك صلّى أم لم يصلّ.
وكذلك لو انّ رجلا غصب من رجل ثوبا أو أخذه فلبسه بغير إذنه فصلّى فيه لكانت صلاته جائزة، وكان عاصيا في لبسه ذلك الثوب لأنّ ذلك ليس من شرائط الفرض لأنّ ذلك أتى على حدة، والفرض جائز معه، وكلّ ما لم يجب إلّا مع الفرض، ومن أجل ذلك الفرض، فانّ ذلك من شرائطه لا يجوز الفرض إلّا بذلك على ما بيّناه، ولكن القوم لا يعرفون ولا يميّزون ويريدون أن يلبسوا الحقّ بالباطل.. إلى آخر ماذكره(قدس سره).
ومرجعه إلى أنّه حيث لم يشترط الإباحة في المكان واللباس بالنسبة إلى الصلاة كما ورد اشتراطها بستر العورة والقبلة وطهارة الساتر ونحوها فلا يكون الإخلال بها مضرّا بالصلاة وموجبا لبطلانها، فتجوز الصلاة حينئذ في المكان والثوب المغصوبين، غاية الأمر أنّه منهي عن التصرّف في المغصوب صلّى به أم لم يصلّ، وغاية ما يوجبه هذا النهي هو الإثم في التصرّف بأي نحو كان.
وهو كلام متين، ومن ثمّ مال إليه المحدّث الكاشاني في المفاتيح.
قال شيخنا المجلسي(قدس سره) في كتاب (البحار) - بعد نقل الكلام بطوله - ما صورته: فظهر أنّ القول بالصحّة كان بين الشيعة، بل كان أشهر عندهم في تلك الأعصار. انتهى.
أقول: ويؤيده - أيضا - أنّ صاحب الكافي قد نقل ذلك ولم ينكره ولم يطعن عليه في شيء منه.
إقتضاء النهي الفساد
العنوان:
كثرت كلمة القوم في تحرير عنوان المسألة:
- ففي (المعالم) و (القوانين) وعند شيخنا المظفّر: (دلالة النهي على الفساد).
- وفي (الكفاية): (النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا).
- وفي (المنتهى) للبجنوردي: (النهي إذا تعلّق بالعبادة أو المعاملة هل يقتضي الفساد أو لا).
- وفي (التهذيب) للسبزواري: (النهي عن الشيء هل يوجب الفساد).
- وفي (تحرير المعالم) للمشكيني: (النهي ودلالته على الفساد).
وكما ترى، بعضهم عبّر بـ(الدلالة) وآخر بـ(الإيجاب) وغيرهم بـ(الإقتضاء)، وكلّها تحوم حول حمى المعنى المقصود لهم وهو (الإستلزام) بالمعنى الذي ذكرناه له في تمهيد هذه المباحث.
والتعبير بـ(الإقتضاء) أولى لأنّه أقرب إلى معنى الإستلزام ان لم يعط معناه كاملا.
المفردات:
ولأجل أن نتبيّن بالتحديد محور البحث نوطّىء له بتعريف المفردات التي اشتمل عليها العنوان، وهي: الإقتضاء. النهي. الفساد.
(الإقتضاء):
يراد به - هنا - الإستلزام، يقال: (إقتضى النهي عن العبادة بطلانها) أي استلزام النهي بطلانها.
(النهي):
يراد به ما يعمّ النهي بجميع أقسامه: التحريمي والتنزيهي (الإرشادي) والنفسي والغيري بقسميه الأصلي والتبعي.
(الفساد):
يراد به البطلان في مقابل الصحّة.
والصحّة في العبادة: هو توافرها على جميع ما هو مأمور به ومطلوب توافره فيها من أجزاء وشروط وأوصاف.
وهي في المعاملة: توافر المعاملة على ما هو مطلوب فيها أيضا من أجزاء وشروط وما إليها.
وفي مقابلها يأتي معنى الفساد بأنّه عدم توافر العبادة أو المعاملة على جميع ما هو مطلوب توافره فيها، وتتوقّف صحّتها عليه.
والتقابل بين الصحّة والفساد هو من تقابل الملكة وعدمها، فما من شأنه الصحّة يدخله الفساد، وما ليس كذلك، ليس كذلك.
تصنيف المسألة:
ولا تختلف هذه المسألة عن أخواتها السابقة في الإختلاف في تصنيفها بين مباحث الألفاظ ومباحث الملازمات، وما فعلناه هناك نفعله هنا، فالاُخت على سرّ أخواتها.
محور البحث:
ومن معرفتنا لمفردات عنوان المسألة عرفنا محور البحث فيها، وهو: الملازمة العقليّة بين النهي عن الشيء وفساده.
يقول شيخنا المظفّر: فانّه (يعني محور البحث) يرجع إلى النزاع في الملازمة العقليّة بين النهي عن الشيء وفساده.
فمن يقول بالإقتضاء فإنّما يقول بأنّ النهي يستلزم عقلا فساد متعلّقه، وقد يقول مع ذلك بأنّ اللفظ الدالّ على النهي دالّ على فساد المنهي عنه بالدلالة الإلتزامية.
ومن يقول بعدمه إنّما يقول بأنّ النهي عن الشيء لا يستلزم عقلا فساده.
أو فقل: إنّ النزاع - هنا - يرجع إلى الممانعة في وجود النزاع والمنافرة عقلا بين كون الشيء صحيحا وبين كونه منهيّا عنه، أي انّه هل هناك مانعة جمع بين صحّة الشيء والنهي عنه أو لا؟.
الأمثلة:
وقد ورد في الشرع شيء غير قليل من هذا، ومنه المثالان التاليان:
- مثال النهي في العبادة: نهي المرأة المكلّفة عن الصلاة أثناء حيضها، (دعي الصلاة أيّام أقرائك).
فهل هذا النهي عن الصلاة المذكور في الحديث المذكور يستلزم فساد صلاة الحائض وبطلانها.
- مثال النهي في المعاملة: النهي عن البيع عند النداء لصلاة الجمعة (ياأيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللَّه وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
فهل هذا النهي عن معاملة البيع عند النداء لصلاة الجمعة مستلزم لبطلان المعاملة وفسادها.
الهوامش:
(1)- 7/ 103- 104.