محاضرات أصول فقه2 - المحاضرة 34 - علم الجنس
(علم الجنس):
يقسّم النحّاة العرب العلم – (وهو الاسم الذي يدلّ على مسمّاه تعيينا مطلقا دون الحاجة إلى قرينة) - باعتبار تشخّص معناه وعدم تشخّصه إلى قسمين:
1- علم الشخص:
وهو ما يتحدّد المقصود منه بذاته، باستخدام اللفظ الدالّ عليه، نحو: زيد ورهوان (اسم حصان) وبيروت وتغلب (اسم قبيلة).
2- علم الجنس:
وهو ما وضع لتحديد الجنس كلّه لا فرد واحد منه، نحو: اسامة (علم يقصد به كل أسد)، وثعالة علم يقصد به كلّ ثعلب(1).
وعلم الجنس - بتعريفه المذكور - هو المقصود بالبحث عنّا.
ولابدّ من أن يراعي: أنّه لا يوجد في لغتنا العربية علم جنس لكلّ جنس من الأجناس، وذلك لأنّ علم الجنس سماعي يقتصر فيه على المسموع والمنقول عن العرب، ولهذا قال ابن مالك في ألفيته:
ووضعوا لبعض الأجناس علم***** كعلم الأشخاص لفظا وهو عم
مــن ذاك أم عــريط للـعقرب***** وهكــذا ثـــعالة للــــثعلب
ومثله برة للمبره ***** كذا فجارِ علم للفجره
وهذه الأعلام (أعلام الأجناس) هي - في واقعها - أسماء أجناس مع فارق يسير بينها وبين أسماء الأجناس.
هذا الفارق جعلها تأخذ عنوان (علم الجنس)، وقد ألمح إليه بوضوح ابن الناظم في شرحه للأبيات الثلاثة المذكورة من ألفية أبيه ابن مالك، قال: الأجناس التي لا تؤلّف كالسباع والوحوش واحناش الأرض، لا يحتاج فيها إلى وضع الأعلام لاشخاصها فعوّضت عن ذلك بوضع العلم فيها للجنس مشارا به إليه إشارة المعرّف بالألف واللام، ولذلك يصلح للشمول، كنحو: (أُسامة أجرأ من الضبع)، وللواحد المعهود كنحو: (هذا اُسامة مقبلا).
وقد يوضع هذا العلم لجنس ما يؤلّف كقولهم: (هيان بن بيان) للمجهول، و(أبو الدغفاء) للأحمق، و (أبو المضاء) للفرس.
ومسميّات أعلام الأجناس: أعيان ومعان.
فالأعيان كـ(شبوة) للعقرب، و (ثعالة) للثعلب، ومنه (أبو الحارث) و(اُسامة) للأسد، و (أبو جعدة) و (ذؤالة) للذئب، و (ابن دأية) للغراب، و(بنت طبق) لضرب من الحيّات.
وأمّا المعاني فكـ(برة) للمبرة، و (فجار) للفجرة جعلوه علما على المعنى مؤنثا ليكمل شبهه بـ(نزال) فيستحق البناء، ومن ذلك (حماد) للمحمدة، و(يسار) للميسرة، وقالوا للخسران (خباب بن هياب)، وللباطل (وادي ثخيب)، ومنه الأعداد المطلقة نحو (ستّة ضعف ثلاثة)، و (أربعة نصف ثمانية).
هذه الأسماء كلّها أسماء أجناس، وسمّيت أعلاما لجريانها مجرى العلم الشخصي
في الاستعمال، وذلك لأنّها لا تقبل الألف واللام، وإذا وصفت بالنكرة بعدها انتصبت على الحال، ويمنع منها الصرف ما فيه تاء التأنيث، والألف والنون المزيدتان، فلمّا شاركت العلم الشخصي في الحكم ألحقت به.
ويقول السيّد السبزواري في الفرق بينهما (التهذيب)(2): ولا فرق بينه (يعني علم الجنس) وبين اسم الجنس إلا من جهتين:
الاُولى: انّ اسم الجنس نكرة بخلاف علم الجنس فانّه معرّف لفظي يجري عليه أحكام المعرفة في الجملة من صحّة الابتداء به ونحو ذلك، ولكن تعريفه اللفظي لايسري إلى المعنى، كما أنّ التأنيث اللفظي لا يسري إلى الذات.
ولكن هذا القسم نادر في غالب الاستعمالات المحاورية خصوصا في الفقه.
الثانية: انّ اسم الجنس وضع لذات المعنى على نحو ما مرّ، بخلاف علم الجنس فانّه وضع لذات المعنى في حالت تميّزه عن غيره من دون أن يكون اللحاظ قيدا حتّى يكون مقيّدا، ويمتنع صدقه على الخارجيات، بل بنحو القضيّة الحينيّة الشرطيّة، وهذه العناية أوجبت كونه معرّفا لفظيا، وهذا الفرق يرجع إلى الأوّل في الواقع.
ويقول السيّد المروج في (المنتهى)(3):الفرق بين علم الجنس واسمه (اسم الجنس) واضح، لكون:
الأوّل: الماهيّة الملحوظ معها التعيّن الذهني.
والثاني: الماهيّة المبهمة التي لم يلاحظ معها شيء.
وإذا عدنا إلى قواعد لغتنا العربية (والعود أحمد) سوف نرى أنّ الفرق بينهما هو الفرق بين النكرة التي لا تدلّ على معيّن والمعرفة التي تدلّ على معيّن.
فاسم الجنس لأنّه نكرة لا دلالة فيه على معيّن، وهو معنى الإبهام المذكور في تفرقتهم.
وعلم الجنس لأنّه معرفة يدلّ على معيّن، وهو الذي عنوه بالتعيّن الذهني.
(النكرة):
الفرق في محطّ البحث عن النكرة في موضوع (ألفاظ العموم)، وفي موضوعنا هذا هو:
- انّ النكرة هناك بحثت كمفردة في اُسلوب تعبيري معيّن، هو (النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط).
- بينما بحثها هنا يقوم على انّها مفردة، أي لا ضمن اُسلوب تعبيري معيّن، ولهذا سمّيت (النكرة المطلقة)، وهي التي يقال فيها: إنّ مفهومها نفس الجنس والماهيّة المقيّدة بالوحدة التي يدلّ عليها تنوين التنكير، فتدلّ على حصّة أي فرد من الماهيّة غير معيّن، فيكون مدلولها فردا من الأفراد على البدل لأنّ الفرد الذي يوجد يكون بدلا من الآخر(4).
والمراد بـ(أل) - هنا - الجنسيّة البيانيّة مثل: (العلم خير من الجهل) والاستغراقيّة مثل: (الإنسان في خسر)، والاُخرى العهديّة وبجميع أقسامها من ذكريّة وذهنيّة وحضوريّة.
وقد اختلف الاُصوليون في دلالة هذه المفردة (الاسم المعرّف بأل) على الشمول.
- فهل تدلّ على الشمول (الإطلاق) أو لا دلالة فيها عليه؟
- وعلى تقدير دلالتها على الإطلاق: هل هذه الدلالة مستفادة من وضع أل التعريفيّة لذلك، أو من القرائن؟
هذه تساؤلات أُدير البحث الاُصولي حولها.
والسبب الذي دعا القوم إلى إثارة هذه التساؤلات هو ما يبدو من تناف بين الأفراد المستفاد من كلمة (المفرد) في عنوان المسألة (المفرد المعرّف بأل) الذي لا يدلّ على أكثر من واحد، والاستغراق المستفاد من كلمة (أل الجنسيّة).
ويصوغ التفتازاني الإشكال المشار إليه في كتابه (المطوّل)(5) بقوله: إنّ إفراد الاسم يدلّ على وحدة معناه، واستغراقه يدلّ على تعدّده، والوحدة والتعدّد ممّا يتنافيان، فكيف يجتمعان؟.
ويجيب في رفع هذا الإشكال بما أجاب به الخطيب القزويني في كتابه (تلخيص المفتاح) فيقول: أشار (يعني القزويني) إلى جوابه (يعني الإشكال) بقوله:.. (ولا تنافي بين الإستغراق وإفراد الإسم لأنّ الحرف) الدالّ على الإستغراق كحرف النفي ولام التعريف (إنّما تدخل عليه) أي على الاسم المفرد حال كونه (مجردا عن) الدلالة على (معنى الوحدة)، كما أنّه مجرد عن الدلالة على التعدّد.
ويلاحظ عليه:
أنّ هذا الاستغراق والشموليّة أو الإطلاق يستفاد من الأداة التي هي (أل) إذا كانت جنسيّة استغراقيّة بحيث يصحّ حلول (كل) محلّها.
أمّا في حالة كونها بيانيّة أو عهديّة فإنّها لا تفيد الاستغراق، وإذا كان ثمّة استغراق فانّه يستفاد من القرائن السياقيّة أو القرائن الخارجيّة التي عبّر عنها (أعني القرائن الخارجيّة) الاُصوليون بـ(مقدّمات الحكمة).
فالقول الذي ينبغي أن يعتمد عليه في هذه المسألة هو التفصيل بين الرأي المشهور الذي يقول بأنّ الإستغراق هنا مستفاد من الوضع، وبين رأي السيّد سلطان العلماء القائل بانّ الإطلاق مستفاد من القرائن.
ذلك التفصيل الذي نفرّق فيه بين:
- الفرد المعرّف بأل الجنسيّة الاستغراقيّة فانّه يفيد الإطلاق بحاقّ لفظه لدلالة (أل) عليه.
- والمفرد المعرّف بأل البيانيّة أو أل العهديّة الذي يستفاد إطلاقه من القرائن التي قد تكون سياقية وقد تكون خارجيّة.
انّ هذه المسألة هي من أبرز وأعمق المسائل التي تأثّر فيها اُصول الفقه بالفلسفة.
والذي يلاحظ هنا:
انّ الاُصوليين يصرّحون وينصّون على انّ الإطلاق والتقييد ليس لهم فيهما إصطلاح خاص، وإنّما أخذوهما من العرف الاجتماعي بما لهما من معنى لغوي عرفي، وكذلك الألفاظ التي يطلق عليها المطلق التي هي أسماء الأجناس وأخواتها هي الاُخرى يقولون بأنّها مفاهيم عرفيّة، فكان المفروض منهجيّا أن تعرّف وتفسّر هذه المفاهيم من خلال الفهم العرفي لها، ولكن التزام الاُصوليين بالمنهج الفلسفي فرض عليهم أن يعرّفوها تعريفا فلسفيّا بما أوقعهم في المفارقة المذكورة.
والناس الذين لا يعرفون شيئا من هذا التفكير والتعبير الفلسفيين، وكذلك الفقهاء الذين لم يدرسوا الفلسفة كانوا يتعاملون مع أسماء الأجناس ويدركون فيما إذا كان لمفهوم الاسم إطلاق أو ليس له إطلاق، وذلك عن طريق الأداة أو القرائن السياقيّة أو الاُخرى الإحاطيّة، فكان الأصوب - من ناحية منهجيّة - أن يقال، ومن البدء: إنّ الإطلاق في هذه المفاهيم يعرف بواسطة الأداة أو القرينة، من غير حاجة إلى أن نعرّف مفهوما عرفيّا تعريفا فلسفيّا فنقع في مفارقة منهجيّة نحن في غنىً عنها.
الهوامش:
(1)- موسوعة النحو والصرف والإعراب 368.
(2)- 1/151.
(3)- 3/ 689.
(4)- قواعد استنباط الأحكام 313.
(5)- ص 68.