محاضرات أصول فقه2 - المحاضرة 25
وهناك تقسيم آخر في كتاب (اُصول الفقه) للشيخ خلاّف، أفاده من استقراء النصوص - كما نصّ على ذلك.
والاختلاف بين تقسيمه والتقسيم المتقدّم هو في أساس القسمة، وتسمية الأقسام.
وقد مرّ بيان أساس القسمة وأسماء الأقسام في التقسيم الإمامي.
أمّا في تقسيمه:
فالأساس هو ملاحظة اُسلوب العامّ واقترانه أو عدمه بما يحدّد دلالته.
وأقسامه هي:
1- عام يراد به قطعا العموم:
ويعرّفه بقوله: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه.
ومثّل له بقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على اللَّه رزقها)، وقوله: (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي) وعلّق على الآيتين بقوله: ففي كلّ واحدة من هاتين الآيتين:
تقرير سنّة إلهيّة عامّة، لا تتخصّص ولا تتبدّل.
فالعام فيهما قطعي الدلالة على العموم، ولا يحتمل أن يراد به الخصوص.
أي أنّه نصّ في العموم.
2- عامّ يراد به قطعا الخصوص:
وعرّفه بقوله: وهو العامّ الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه، وتبيّن أنّ المراد منه بعض أفراده.
ومثّل له بقوله تعالى: (وللَّه على الناس حجّ البيت)، وقوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول اللَّه).
وعلّق على الآية الاُولى بقوله: فالناس في هذا النصّ عامّ، مراد به خصوص المكلّفين، لأنّ العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين.
وعلى الآية الثانية بقوله: فأهل المدينة والأعراب في هذا النصّ لفظان عامّان مراد بكلّ منهما خصوص القادرين لأنّ العقل يقضي بخروج العجزة.
فهذا عامّ مراد به الخصوص، ولا يحتمل أن يراد به العموم.
أي انّه نصّ في الخصوص.
3- عامّ مخصوص:
وأوضحه بقوله: وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، مثل أكثر النصوص التي وردت فيها صيغ العموم مطلقة عن قرائن لفظية أو عقليّة أو عرفية تعيّن العموم أو الخصوص.
وهذا ظاهر في العموم حتّى يقوم الدليل على تخصيصه، مثل (والمطلّقات يتربصنّ)...(1).
ويلاحظ على هذا التقسيم:
انّ البحث في العموم والخصوص - بما هما ألفاظ لها دلالات - يهدف منه إلى تشخيص ظهورهما في العموم أو الخصوص، لكي يستخدم هذا الظهور صغرى في قياس استنباط الحكم. ويتمثّل البحث عن هذا في اللفظ غير المقترن، ذلك أنّ اللفظ المقترن، تكون القرينة التي اقترن بها هي الدالّة على المعنى.
فالقسم الأوّل المقترن بما يفيد دلالة اللفظ على العموم نصّا لا يدخل ميدان البحث.
وكذلك القسم الثاني المقترن بما يفيد دلالة اللفظ على الخصوص نصّا لا يحتويه حريم النزاع.
فالفائدة في هذا التقسيم هي تعيين القسم الثالث موضوعا للبحث من حيث ظهوره في العموم، وتنسيق المسائل الاُخرى عليه كجواز العمل به قبل الفحص عن مخصّصه، وما إلى ذلك.
أقسام الخاصّ:
يتفق الاُصوليون على أنّ الخاص ينقسم باعتبار ذكره في سياق الكلام المشتمل على العامّ، وذكره مستقلا عنه باُسلوب وكلام خاصّ به إلى قسمين: متصل ومنفصل.
1- الخاص المتّصل:
ويراد به - كما ألمحت - اللفظ المخصّص لدلالة العامّ الذي يتصل به في سياق كلامي واحد، أو يكون ملابسا له حال النطق به.
وبتعبير آخر:
المخصّص المتصل: هو القرينة التي يعتمد عليها المتكلّم في تضييق دائرة دلالة العموم إلى ما عدا الخاصّ.
وهذه القرينة:
- قد تكون لفظيّة متصلة بالعام في سياق كلامي واحد.
- وقد تكون حاليّة ملابسة ومصاحبة لكلام المتكلّم عند تكلّمه بالعام.
ومثال القرينة اللفظيّة:
(إنّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر).
(حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اُهلّ لغير اللَّه به والمنخنقة والموقوذة والمترديّة والنطيحة وما أكل السبع... فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فانّ اللَّه غفور رحيم).
(إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اُهلّ به لغير اللَّه فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه انّ اللَّه غفور رحيم).
ففي الآية الاُولى:
(الإنسان) هو العام.
و (إلا) أداة التخصيص.
و (الذين آمنوا.. الخ) هو الخاص.
ومجئ هذا المخصّص متصلا بالعام ضيق في دائرة شمولية دلالة العامّ لجميع أفراده، وذلك بقصره على ما عدا الخاصّ.
فالعامّ من البداية لا ظهور له إلا فيما عدا الخاص، وذلك بسبب اتّصال الخاص به.
ويرجع هذا إلى أنّ الكلام لا ينعقد له ظهور في المعنى المقصود للمتكلّم في رأي العرف إلا بعد تماميته وفراغ المتكلّم منه.
فوجود الخاص متصلا بالعامّ هو الذي منع من شمول العامّ لجميع أفراده، وقصره على ما عدا الخاص.
وهكذا الشأن في الآيتين الثانية والثالثة:
فالعامّ: هو حكم التحريم الشامل لجميع المكلّفين.
والخاص المتصل: هو المضطر (فمن اضطر).
وحكم التحريم من البدء لم يشمل الخاص الذي هو المضطر، واقتصر به على من عداه من المكلّفين.
وتمثيلا للقرينة الحاليّة:
يقول السيّد مكّي العاملي في (قواعد الاستنباط)(2):وقد يكون (الخاصّ) قرينة حاليّة حافّة بالكلام، يصحّ أن يعوّل عليها المتكلّم في تخصيص كلامه العامّ مثل أن يعرف من حاله أنّه يكره إكرام أعدائه من جيرانه فيها إذا قال: (أكرم كلّ جيراني)، فإنّ حاله المذكورة قرينة تخصّص العامّ بغير أعدائه.
وقد تناول الدكتور حمّودة في دراسة المعنى عند الاُصوليين(3) القرائن غير اللفظيّة تعريفا وتعدادا وتوضيحا، معتمدا في استقاء مادّتها من كتابي (المستصفي) للغزالي و (الأحكام) للآمدي، قال: تشبه هذه القرائن ما يسمّى في نظريّة السياق بالشقّ الاجتماعي، أو السياق الثقافي والاجتماعي الملابس للنصّ اللغوي.
وعددها بالتالي:
1- الحسّ:
ومثّل له بقوله تعالى (تدمر كلّ شيء بأمر ربّها) في قصة الريح التي اُرسلت لعاد قوم هود، فإنّها خصّصت حسّا بإخراج السماء والأرض وأشياء اُخرى كثيرة لم تأت عليها الريح.
2- العقل:
ومثّل له بقوله تعالى: (خالق كلّ شيء)، إذ خرج عنه عقلا ذاته تعالى وصفاته.
3- العرف أو العادة:
وقسّمه إلى قسمين: العرف القولي والعرف العملي.
وعرّف القولي بأنّه نوع من التغيير الدلالي بسبب الاستعمال الشائع، يسير بالدلالة من الاتّساع إلى التضييق غالبا كإطلاق لفظ (الدابّة) على دواب الحمل خاصّة، وهي في الأصل لكلّ ما يدبّ على الأرض.
ثمّ قال: والاُصوليون متفقون على انّه (يعني العرف القولي) يخصّص العامّ، لأنّ الشارع إنّما يخاطب الناس بما تعارفوه في اللغة.
وعرّف العملي ب ما جرى عليه عمل الناس، وتعارفوه في سلوكهم وتصرفاتهم.
ثمّ قال: وقد تنبّه الاُصوليون إلى أنّ هذه العناصر الاجتماعية الخارجة عن النصوص اللغوية الملابسة لها تؤثّر في تحديد المعنى، يقول الغزالي: فعادة الناس تؤثّر في تعريف مرادهم من ألفاظهم حتّى إنّ الجالس على المائدة يطلب الماء يفهم منه العذب البارد.
ثمّ ذكر خلاف الاُصوليين في تخصيص العرف العملي للعمومات الشرعيّة حيث ذهب الجمهور إلى انّها لاتخصّصها، وذهب أبو حنيفة إلى أنّها تخصّص، قال: وهكذا تؤثّر العادة في تخصيص العام من الألفاظ التي يتخاطب بها الناس.
لكنّ، هل تؤثّر هذه العادة العمليّة أو العرف العملي في تخصيص عموم ألفاظ الشارع؟
يذهب جمهور الاُصوليين إلى أنّها لا تؤثّر في تغيير خطاب الشارع، فلايعمل بها في تخصيص عموم ألفاظه، خلافا لأبي حنيفة.
4- الإجماع:
قال: يبدو أنّه لا خلاف بين الاُصوليين في جواز تخصيص القرآن والسنّة بالإجماع.
ومثاله: انّ إجماع الاُمّة خصّص آية القذف بتنصيف الجلد في حقّ العبد والأمَة.
هذا ما أفاده الدكتور حمّودة باختصار وتصرّف، ولكن يلاحظ عليه إدراجه العقل والإجماع ضمن قائمة القرائن، وهما - في واقعهما - دليلان من أدلّة التخصيص ومصدران من مصادره كما سيأتي.
فالقرائن الحالية - على أساس منه، هي: الحسّ والعرف.
2- الخاص المنفصل:
ويراد به المخصّص لدلالة العامّ المستقل عنه في كلام آخر، أي أنّه لا يذكر في سياق الكلام المشتمل على العامّ، وإنّما يذكر في كلام آخر منفصل ومستقل عنه.
أو قل: هو قرينة - أيضا - على إرادة ما عدا الخاص من أفراد العام، لكنّها قرينة منفصلة عن العامّ غير مصاحبة له.
ومن هذا نتبيّن الفرق بين الخاص المتصل والخاص المنفصل، وهو أنّ العام مع الخاص المتصل من البدء لا ينعقد له ظهور إلا في من عدا الخاص.
وبعكسه العامّ مع الخاص المنفصل فانّه ينعقد له ظهور في العموم بشموله لجميع أفراده، ولكن بمجيء الخاص بعد ذلك يقوم - كما يقول الاُصوليون - تعارض بين دلالة العامّ على العموم ودلالة الخاص على الخصوص التي تمنع من حمل العام على العموم.
ولأنّ دلالة الخاص أقوى من دلالة العام، وذلك لأنّ الخاص قد يكون نصّا في معناه، ومن المفروغ منه أنّ النصّ عند تعارضه مع الظاهر يقدّم على الظاهر، وقد يكون الخاص ظاهرا في معناه، ولكنّه بالمقارنة مع ظهور العامّ في معناه يعتبر ظهور الخاص عرفا أقوى وأظهر من ظهور العامّ، لأنّ الخاص قرينة، ودلالة القرينة، في نظر العرف أقوى من دلالة ذي القرينة، ومن المفروغ منه أيضا أنّه عند تعارض الأظهر والظاهر يقدّم الأظهر لأنّه أقوى دلالة.
ومثاله:
قوله تعالى: (من بعد وصيّة يوصي بها)، وهو عامّ قرآني خصّصته السنّة الشريفة في مثل ما روي (في الرجل يعطي الشيء من ماله في مرضه؟ قال: إن أبان فهو جائز، وان أوصى فهو من الثلث).
وهذا التقسيم للخاص هو التقسيم الموجود والمعروف أيضا في اُصول الفقه السنّي، مع اختلاف في التسمية عند الأحناف حيث يطلقون على المخصّص المتصل اسم (القصر) وعلى المخصّص المنفصل اسم (النسخ)(4).
التخصيص:
كلمة (التخصيص) من المصطلحات المشتركة بين أكثر من حقل معرّفي فهي:
- عند النحّاة (تعني) تقليل الاشتراك الحاصل في النكرات.
وذلك يكون - غالبا - بواسطة الوصف أو الإضافة نحو (رأيت رجلا عالما) و (لبست خاتم ذهب).
- وفي عرف أهل المعاني: هو القصر، وهو: تخصيص شيء بأمر.
وذلك يكون بواسطة أداة حصر نحو (لا إله إلا اللَّه)، أو تقديم ما حقّه التأخير نحو (إيّاك نعبد)...- محيط المحيط، مادّة: خصّص -.
- وفي اُصول الفقه: التخصيص هو: التضييق في شمولية دلالة العامّ.
أو قل: هو قصر العامّ على بعض أفراده.
وظاهره التضييق في الدلالة من حيث الاستعمال الاجتماعي أوسع بكثير من ظاهرة توسيع المعنى، فعن العالم اللغوي برييل: انّ التغيير الطبيعي للدلالة يكون من الاتّساع إلى التضييق.
أمّا الطريق المضاد - وهو توسيع المعنى - فانّه يوجد بدرجة قليلة، وحيثما وجد فهو مرتبط بأحداث تاريخيّة(5).
وهذا يعني أنّ ظاهرة التطور الدلالي في تضييق دائرة الدلالة ظاهرة لغوية اجتماعية عامّة منتشرة.
وفي مجال المقارنة بين الفكر اللغوي والفكر الاُصولي في حدود تعريف هذه الظاهرة يقول الدكتور عبدالكريم مجاهد في كتابه (الدلالة اللغوية عند العرب) تحت عنوان (تخصيص العامّ)(6) -:
وتخصيص العامّ وهو المسمّى عند اللغويين تضييق المعنى، ويقصدون به (خروج الكلمة عن معنى عامّ إلى معنى خاص، بحيث يصبح مدلول الكلمة مقصورا على أشياء تقلّ في عددها عمّا كانت تدلّ عليه الكلمة في الأصل إلى حدّ ملحوظ)(7).
ويعتبرون هذا الأمر تطورا لدلالة اللفظ كتوسيع المعنى وانتقاله.
وتوسيع المعنى أندر من تضييقه ف من الملاحظ أنّ التطور من الاتّساع إلى التضييق هو التطور الطبيعي لتاريخ اللغة.
وهذا ما ذهب إليه الاُصوليون من قبل في تحديد الدلالة، ويظهر في قولهم المشهور (ما من عامّ إلا ويتخيّل فيه التخصيص).
أمّا الطريق المضاد - وهو توسيع المعنى - فإنّه يوجد بدرجة قليلة، وحيثما وجد فهو مرتبط بأحداث تاريخيّة(8).
الهوامش:
(1)- ص 185، 186.
(2)- ص 475.
(3)- ص 37- 39.
(4)- اُنظر: الدلالة اللغوية عند العرب – ص35.
(5)- دراسة المعنى عند الاُصوليين ص 33 نقلاً عن:
A.S. Diamond: The history and crigin of language. P. 175.
(6)- ص 34- 35.
(7)- نقلاً عن الدكتور مراد كامل: دلالة الألفاظ العربية وتطورها، معهد- الدراسات العربية العالية، القاهرة 1963م ص 25.
(8)- نقلاً عن الدكتور السيد أحمد عبد الغفار: التصور اللغوي عند الاُصوليين رسالة ماجستير كلية الآداب- جامعة الاسكندرية ص 1100 وفي طبعتها الاُولى ص، نقلاً عن:
A.S. Diamond: The history and origin of language.p.175.