محاضرات أصول فقه2 - المحاضرة 2 - تقسيم تغيير المعنى
- تقسيم تغيير المعنى:
قرأنا في نصّي أولمان وغيرو المتقدّمين أنّهما ذكرا تقسيمين لتغيّر المعنى، هما: التقسيم المنطقي والتقسيم النفسي.
-(التقسيم المنطقي):
هكذا سمّاه أولمان، وعبّر عنه غيرو بـ(الشكل المنطقي لتبدّلات المعنى).
ويرجع هذا التقسيم في وضعه للأوائل من علماء الدلالة من متأخّري لغوي القرن التاسع عشر الميلادي أمثال: دار مستتر، بريال، بول، فانّهم عندما قطعوا علاقتهم بعلم البلاغة بسبب وضعهم لعلم المعنى أو علم الدلالة، كان من أعمالهم العلمية أن وضعوا هذا التقسيم وأقاموه على أساس الإمكان العقلي ولذا نعتوه بالمنطقي، فقد قالوا انّ المعنى الحقيقي إذا قورن ببدائله المجازية إمّا أن يكون أوسع من المجاز، أو أضيق منه، أو مساويا له.
وقد مثّل أولمان لهذا بأمثلة من اللغة الإنجليزية والفرنسية، وإذا حاولنا التماس بعض الأمثلة أو الشواهد لذلك من اللغة العربية، فإنّنا قد نجد هذا في مثل الكلمات التالية:
-يقال: (جنح الطائر: إذا كسر جناحيه للوقوع، وهو معنى حقيقي، وفي القرآن الكريم: (واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة) أي اكسر جناحك ذلاً لأبويك كما يخفض الطائر جناحيه للوقوع فيهبط من علياء طيرانه إلى أرض محطّه، والذلّ إنكسار يهبط بالولد من علياء غروره إلى محطّ الخضوع لوالديه، وهو معنى مجازي.
والمعنيان - كما يبدو - متساويان.
-ومثال آخر: (الأسد) والكلمة في معناها الحقيقي هي اسم للحيوان الوحشي المعلوم، والمعروف بالجرأة، ومنها أخذ لفظ (الأسد) بمعنى القوّة والإقدام، واستعيرت للرجل الشجاع فقيل له (أسدَ) لما يملك من القوّة والإقدام، قال الزمخشري في (الأساس): (ومن المجاز: استأسد عليه أي صار كالأسد في جرأته، واستأسد النبت: طال وجُنَّ، وذهب كلّ مذهب، قال أبو النجم:
) مستأسد ذبانه في غيطل) وآسد الكلب بالصيد: أغراه به، وآسد بين الكلاب: هارش بينها، وآسد بين القوم: أفسد).
وهي - كما تراها - دلالات جعلت من المجاز معنى أوسع من الحقيقي.
ومثله (حاتم) اسما لابن عبداللَّه الطائي العربي المشتهر بجوده، وهو معنى حقيقي، ووصفا لكلّ جواد كريم، وهو معنى مجازي أوسع.
ولما هو أضيق: جلّ المصطلحات العلميّة، ولعلّ كلمة (علم) أوضح مثال لذلك، فالعلم لغة: مطلق المعرفة، وإصطلاحا: المعرفة المنظمة.
فالمعنى الاصطلاحي - كما هو واضح - أضيق من المعنى اللغوي، والاصطلاحي - بالنسبة إلى اللغوي - مجازي.
فالمجاز هنا أضيق من الحقيقة.
ويعلّق أولمان على هذه القسمة بقوله: إنّ أهمّ مميزات هذه الخطّة المنطقيّة يظهر في كمالها، فليست هناك امكانية رابعة للتقسيم الذي اشتملت عليه.
ومن مميزاتها أيضا بساطتها وسهولة تطبيقها، فهي تمكنّنا من تحديد نوع التغيّر الذي يصيب المعنى بسرعة فائقة.
ولكن هذه المزايا تقابلها تضحيات فادحة الثمن، فهذه الخطّة لا تعدو أن تكون مجرد نوع من النظام الشكلي الذي لا يستطيع أن يمدّنا بأيّة معلومات عمّا يكمن خلف عمليّات التغيّر التي تقوم بدراستها، إنّنا نقرّر أنّ الكلمة ) posionالسم) قد ضاق مجال تطبيقها ولم نقل في الواقع شيئا يستحق الذكر، أمّا العوامل النفسية المسؤولة عن إنحطاط معنى هذه الكلمة، والظروف المباشرة لهذا التغيّر، والأسباب النهائية التي دعت إليه، فقد بقيت كلّها تنتظر التوضيح والتفسير.
وتميل خطط التقسيم في الوقت الحاضر إلى التركيز بقوّة على هذه العوالم النفسيّة.
- (التقسيم النفسي (:
ويختلف عن التقسيم المنطقي في انّه لا يعتمد الإمكان العقلي، وإنّما يقوم على أساس من تبيّن نوع العلاقة بين المعنى والمعنى الآخر، فإن كانت العلاقة بين المعنى القديم والمعنى الجديد هي المشابهة بينهما، تلك المشابهة التي تعني تسليط الضوء من قبل المتكلّم على الخصائص المشتركة بين المعنيين، فهي المقصودة هنا.
وهذه العلاقة تختلف في إشارة المتكلّم إليها بما يعبّر عن حالة نفسية لديه هي التي تتحكّم في عمليّة التغيير.
فقد يعبّر المتكلّم عن هذه العلاقة تعبيرا صريحا، وذلك باستعمال أدوات التشبيه اللغوية، وهو ما يصطلح عليه بالمجاز لأنّ الموقف اقتضى ذلك (مقتضى الحال).
وقد يعبّر عنها تضمّنيّا لا صراحة، وذلك بابتعاده عن استعمال أدوات التشبيه، اللغوية، وهو ما يصطلح عليه بالاستعارة لأنّ الموقف اقتضى ذلك (مقتضى الحال(.
وفي ضوئه: فإنّ نسبة المعنى الجديد إلى المعنى القديم في التقسيم المنطقي كان يراعي فيها مساحة المعنى الجديد بالنسبة إلى المعنى القديم من حيث السعة والضيق أو التساوي.
بينما الملحوظ هنا هو اُسلوب المتكلّم في التعبير وفق متقضيّات الموقف.
- تعريفهما:
)الحقيقة (:
قال السيوطي في ( المزهر)(1): قال ابن فارس في فقه اللغة: الحقيقة من قولنا: حقّ الشيء إذا وجب.
واشتقاقه من الشيء المحقّق وهو المحكم، يقال: ثوب محقّق النسج، أي محكمه.
فالحقيقة: الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة، ولا تمثيل، ولا تقديم فيه، ولا تأخير، كقول القائل: أحمد اللَّه على نعمه وإحسانه.
وأمّا المجاز فمأخوذ من جاز يجوز إذا استنّ(2) ماضيا، تقول: جاز بنا فلان، وجاز علينا فارس، هذا هو الأصل، ثمّ تقول: يجوز أن تفعل كذا: أي ينفذ ولا يردّ ولا يمنع، وتقول: عندنا دراهم وَضَحٌ وازِنة، واُخرى تجوز جواز الوازنة، أي إنّ هذه وان لم تكن وازنة فهي تجوز مجازها وجوازها لقربها منها.
فهذا تأويل قولنا مجاز، يعني أنّ الكلام الحقيقي يمضي لسننه لا يعترض عليه.
وقد يكون غيره يجوز جوازه لقربه منه، إلا أنّ فيه من تشبيه واستعارة وكفّ(3) ماليس في الأوّل، وذلك كقولنا: عطاء فلان مزن واكف، فهذا تشبيه، وقد جاز مجاز قوله: عطاؤه كثير واف، ومن هذا قوله تعالى: (سنسمّه على الخرطوم) فهذا استعارة.
وقال ابن جني في (الخصائص): الحقيقة: ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة.
والمجاز: ما كان بضدّ ذلك.
والاُصوليون لم يخرجوا في تعريفهم للحقيقة والمجاز عن تعريف اللغويين والبلاغيين.
فالحقيقة- عندهم -: هي اللفظ المستعمل في ما وضع له.
وبعكسه المجاز، أي: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له.
وهم - أعني الاُصوليين - يتفقون في أنّ لكلّ من لفظي الحقيقة والمجاز دلالة ومدلولا.
ويتفقون - أيضا - على أنّ دلالة اللفظ على معناه الحقيقي هو بسبب وضع اللفظ للمعنى.
ويختلفون بالنسبة إلى دلالة المجاز: هل هي بسبب الوضع أيضا؟
ذهب إلى هذا قوم فقالوا: كما كان للدلالة الحقيقيّة وضع لابدّ أن يكون للدلالة المجازية وضع، وهو في طول اللفظ لمعناه الحقيقي، أي أنّ الوضع المجازي يأتي بعد الوضع الحقيقي.
أو هي بسبب الاستعمال، فلا تحتاج إلى وضع آخر غير الوضع للمعنى الحقيقي.
ذهب إلى هذا قوم، منهم اُستاذنا الشهيد الصدر، قال في كتابه (دروس في علم الاُصول - الحلقة الثانية – المجاز): يكتسب اللفظ بسبب وضعه للمعنى الحقيقي صلاحية الدلالة على المعنى الحقيقي من أجل الاقتران الخاصّ بينهما.
كما يكتسب صلاحية الدلالة على كلّ معنى مقترن بالمعنى الحقيقي اقترانا خاصّا كالمعاني المجازية المشابهة، غير أنّها صلاحية بدرجة أضعف، لأنّها تقوم على أساس مجموع اقترانين.
ومع اقتران اللفظ بالقرينة على المعنى المجازي تصبح هذه الصلاحية فعليّة، ويكون اللفظ دالا فعلا على المعنى المجازي.
وما ذكرناه من اكتساب اللفظ صلاحية الدلالة على المعنى المجازي لايحتاج إلى وضع خاص وراء وضع اللفظ لمعناه الحقيقي، وإنّما يحصل بسبب وضعه للمعنى الحقيقي.
إلا أنّ التعريف ليس هو هدف الاُصوليين من البحث في موضوع الحقيقة والمجاز، وإنّما هو تعرّف الطريق الموصل إلى معرفة المعنى الموضوع له اللفظ (المعنى الحقيقي) ليحمل اللفظ عليه عند الشكّ في إرادته من قبل الناطق به.
وتقدّم أن أوضحت هذا في الحديث عن موقف الاُصوليين من أقوال اللغويين.
ولهذا السبب انصبّ البحث الاُصولي:
على دراسة علامات الحقيقة، وهي تلك التي يرجع إليها لاثبات المعنى الحقيقي.
وعلى تأصيل الأصل الذي يرجع إليه عند الشكّ، وهو (أصالة الحقيقة) التي هي - في الحقيقة - وجه من وجوه أصالة الظهور.
يقول اُستاذنا الشيخ المظفّر في كتابه (اُصول الفقه - المجلّد الأوّل - علامات الحقيقة والمجاز): قد يعلم الإنسان - أمّا عن طريق نصّ أهل اللغة، أو لكونه نفسه من أهل اللغة - أنّ لفظ كذا موضوع لمعنى كذا، ولا كلام لأحد في ذلك، فإنّه من الواضح أنّ استعمال اللفظ في ذلك المعنى حقيقة وفي غيره مجاز.
وقد يشكّ في وضع لفظ مخصوص لمعنى مخصوص، فلا يعلم أنّ استعماله فيه هل كان على سبيل الحقيقة فلا يحتاج إلى نصب قرينة عليه، أو على سبيل المجاز فيحتاج إلى نصب القرينة.
وقد ذكر الاُصوليون لتعيين الحقيقة من المجاز - أي لتعيين أنّه موضوع لذلك المعنى أو غير موضوع - طرقا وعلامات كثيرة.
والملاحظ في التعريف المألوف للحقيقة والمجاز أنّه يعتمد على عنصر (الوضع).
وهو - أيضا - الأساس في قسمة اللفظ إلى حقيقة ومجاز.
وهذا بطبيعته يقتضي أن يكون هناك فرد معيّن أو جهة معيّنة تقوم بالوضع، وعن طريقه يمكننا معرفة المعنى الموضوع له والمعنى غير الموضوع له، وعندما لا نستطيع الوصول إليها نرجع إلى العلامات أو الأصل لنلتزم بمفاده.
وهذا الشيء حادث - شأنه شأن الحوادث الاُخرى - يتطلّب ما يثبته، وحيث لاسبيل لنا إلى إثبات ذلك إلّا عن طريق الاستنتاجات العقليّة لأنّه من تاريخ ما قبل التاريخ، أُلغي اللغويون المحدّثون اعتباره، وأخذوا بالنظرية الاجتماعية التي تقول: انّ اللغة ظاهرة اجتماعية تنشأ في المجتمعات نتيجة الحاجة إلى التفاهم.
ومن أهمّ خصائص الظاهرة الاجتماعية عنصر التلقائية، والتلقائية لاتشتمل على عنصر القصد، وهو الفارق بينها وبين الوضع حيث يعتمد على عنصر القصد.
وعليه فالتلقائية استعمال لا وضع.
وعلى هذا الأساس جاء تعريف اللغويين المحدّثين، وبخاصة الدلاليين منهم أمثال الدكتور إبراهيم أنيس الذي يقول: ذلك أنّ الحقيقة لا تعدو أن تكون استعمالا شائعا مألوفا للفظ من الألفاظ، وليس المجاز إلّا إنحرافا عن ذلك المألوف الشائع، وشرطه أن يثير في ذهن السامع أو القارئ دهشة أو غرابة أو طرافة.
وحدود تلك الغرابة أو الطرافة تختلف باختلاف تجارب المرء مع الألفاظ، وباختلاف وسطه الاجتماعي أو الثقافي، فقد تضعف تلك الغرابة أو الطرافة في ذهن السامع إزاء استعمال أحد الألفاظ، ويوشك اللفظ حينئذ أن يكون كالحقيقة رغم إنحرافه عن المألوف الشائع، وقد تقوى فتحرّك من السامع مشاعره وعواطفه فتنال إعجابه أو سخريته على حدّ سواء لأنّه مجاز في كلتا الحالتين، أو خروج عن المألوف في دلالة اللفظ. فنحن - مثلا، حين نقرأ ما يروى عن المعظّم عيسى بن الملك العادل حين قال في صفة مشروب يعالج به داء الذنوب:
(شراب مركّب نافع لشاربه يوم الفزع الأكبر شافع، يؤخذ من مستحكم مرير الصبر، وما احلولى من لذيذ الذكر، فيغربلان بغربال التفكّر السهري، ويدافان بماء العين النظري، ثمّ يصفّى المجموع بلباب العلم التجردي، ثمّ يعجن بعسل المحبّة الإلهيّة).
أقول: إنّ المرء - عادةً - حين يقرأ مثل هذه القطعة لا يكاد يتمالك نفسه من الابتسام أو الضحك، لأنّ ما يثيره استعمال ألفاظها قد جاوز الحدود المألوفة لها مجاوزة كبيرة، جعلت من المجاز فكاهة وسخرية، ومع ذلك فقد يقف الصوفي من مثل هذه القطعة موقفا مباينا، فيتبيّن فيها نواحي من الجمال، وتحلّ من نفسه ومن قلبه محلّ الرضا والإعجاب.
ومن خلال هذه النظرة الفردية للألفاظ يستطيع الباحث أن يتبيّن ما يمكن أن يسمّى بالحقيقة العامّة أو المجاز العامّ في بيئة معيّنة. وفي جيل معيّن من الناس.
فرغم اختلاف الأفراد إزاء كلّ لفظ نرى قدرا كبيرا من الاشتراك بينهم، وذلك القدر المشترك في فهم الدلالات هو الذي يكون الحقيقة العامّة أو المجاز العامّ(4).
الهوامش:
(1)- 1/ 355.
(2)- استن: مضى على وجهه.
(3)- الكفّ: أن يكفّ عن ذكر الخبر اكتفاءً بما يدلّ عليه الكلام كقوله:
إذا قلت سيري نحو ليلى لعلّها جرى دون ليلى مائل القرن أعضب
(4)- دلالة الألفاظ 129.