محاضرات أصول فقه2 - المحاضرة 14
تعريفهما اُصوليا:
قد أكثر الاُصوليون من تعريفاتهما، وأهمّ ما ذكروه:
- المنطوق: هو حكم دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق.
والمفهوم: هو حكم دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق.
- المنطوق: هو المعنى المستفاد من اللفظ من حيث النطق به.
والمفهوم: هو المعنى المستفاد من حيث السكوت اللازم فقط.
- المنطوق: ما دلّ عليه اللفظ وكان حكما مذكورا.
والمفهوم: ما دلّ عليه اللفظ وكان حكما لغير مذكور.
- المنطوق: حكم مذكور.
والمفهوم: حكم غير مذكور.
وكلّها تعطي المعنى الذي ذكرناه، وهو أنّ الجملة ذات المفهوم تفيد حكمين أحدهما يستفاد من ألفاظها بشكل مباشر، والآخر يستفاد منها بشكل غير مباشر.
أمثلتهما:
وبغية أن نستجلي هذا عن طريق الأمثلة نكون مع الجملتين التاليتين:
- الآية الكريمة (فلا تقل لهما اُفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما).
فالحكم المستفاد من منطوق الآية هو: حرمة قول اُف للأبوين.
والحكم المستفاد من مفهو الآية هو: حرمة إيذاء الأبوين بما هو أكثر إيذاء من التأفيف.
- الحديث الشريف (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء).
فالحكم منطوقا: هو عدم تنجس الماء البالغ مقدار كرّ.
والحكم مفهوما: هو تنجّس الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ.
وإخال أنّنا إلى هنا نكون قد تبيّنا معنى المفهوم في المصطلح الاُصولي بأنّه المعنى المستفاد من اللفظ بشكل غير مباشر.
محور البحث:
ومحور البحث الاُصولي في موضوع المفاهيم هو محاولة معرفة الأساليب ذات الدلالتين.
أعني تلك الأساليب التي لها منطوق ومفهوم.
وعبّر الاُصوليون عن ذلك بتشخيص (أي تعيين) ظهور الكلام في المفهوم، وهم يصفون به ما أوضحناه.
وسبب هذا التحديد لمحور البحث هو ما ذكرناه سابقا من أنّ الغرض من مباحث الألفاظ هو تشخيص الظهور في الكلام وتنقيح الصغريات لكبرى الظهور.
فما ذكره بعضهم من أنّ موضوع البحث هو حجيّة المفهوم يريد به هذا، لأنّ حجيّة ظهور المفهوم تابعة ونابعة من حجيّة مطلق الظهور.
فوظيفة الاُصولي هنا تشخيص ظهور الكلام في المفهوم، ومتى ما تحقّق أنّ له ظهورا، هذا هو معنى أنّه حجّة لأنّ الظهور حجّة كما تقدّم.
طرق التشخيص:
وفي ضوء ما ذكرناه من أنّ وظيفة الاُصولي هو تشخيص ظهور اللفظ في المفهوم اُثير التساؤل اُصوليا: ما هو الطريق الذي ينبغي أن يسلك إلى تشخيص ظهور الكلام في المفهوم؟
ذكروا لهذا طريقين، هما:
1- الفهم العرفي:
أي انّ ما يفهمه أبناء اللغة من هذا الاُسلوب المعيّن من حيث دلالته على المفهوم هو الوسيلة لذلك.
2- الإدراك العقلي:
ويريدون به الإدراك الذهني للتلازم بين المنطوق والمفهوم وبشكله البيّن بالمعنى الأخص.
فمتى أدرك العقل هذا فهو إدراك للمفهوم وتشخيص لظهور اللفظ فيه.
ولكن لأنّنا هنا نتحرّك داخل دائرة اللغة الإجتماعية يأتي الفهم العرفي هو الوسيلة الطبيعيّة لإدراك ذلك.
ويصل الباحث الاُصولي إلى الفهم العرفي عن طريق الاستقراء والملاحظة.
مفردات المفهوم:
وأهمّ ما ذكره الاُصوليون من مفردات المفهوم هي:
- دلالة الإقتضاء.
- دلالة الإشارة.
- مفهوم الموافقة.
- مفهوم المخالفة.
دلالة الاقتضاء
تعريفها:
دلالة الاقتضاء: هي ما يقتضيه ويتطلّبه سياق العبارة أو الكلام من تقدير أو تأويل ليستقيم في إعطاء المعنى المقصود للمتكلّم.
ولذا عرفها الغزالي في (المستصفى) بقوله: الضرب الأوّل: ما يسمّى اقتضاء، وهو: الذي لا يدلّ عليه اللفظ، ولا يكون منطوقا به، ولكن يكون من ضرورة اللفظ:
إمّا من حيث لا يمكن كون المتكلّم صادقا إلا به.
أو من حيث يمتنع وجوب الملفوظ شرعا إلا به.
أو من حيث يمتنع ثبوته إلا به عقلا.
وعرّفها شيخنا المظفّر بقوله: وهي أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلّم بحسب العرف، ويتوقف صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا أو لغة أو عادة، عليه.
وعرّفها الاُستاذ خلاف في (اُصول الفقه)(1) بقوله: اقتضاء النصّ المراد بما يفهم من اقتضاء النصّ: المعنى الذي لا يستقيم الكلام إلا بتقديره، فصيغة النصّ ليس فيها لفظ يدلّ عليه، ولكن صحتها وإستقامة معناها تقتضيه، أو صدقها ومطابقتها للواقع تقتضيه.
أمثلتها:
ومثّل لها الغزالي فقال:
أمّا المقتضي الذي هو ضرورة صدق المتكلّم فكقوله (صلى الله عليه وآله سلم): (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)، فإنّه نفى الصوم، والصوم لا ينتفي بصورته، فمعناه: لا صيام صحيح أو كامل، فيكون حكم الصوم هو المنفي لا نفسه، والحكم غير منطوق به، لكن لابدّ منه لتحقيق صدق الكلام.
وأمّا مثال ما ثبت اقتضاء لتصوّر المنطوق به شرعا فقول القائل: (اعتق عبدك عنّي) فإنّه يتضمّن الملك ويقتضيه، ولم ينطق به لكن العتق المنطوق به شرط نفوذه - شرعا - تقدّم الملك، فكان ذلك مقتضى اللفظ.
وكذلك لو أشار إلى عبد الغير وقال: (واللَّه لأعتقن هذا العبد) يلزمه تحصيل الملك فيه إن أراد البر، وإن لم يتعرّض له، لضرورة الملتزم.
وأمّا مثل ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به عقلا فقوله تعالى: (حرمت عليكم اُمهاتكم) فإنّه يقتضي إضمار الوطئ، أي حرم عليكم وطئ اُمّهاتكم، لأنّ الاُمّهات عبارة عن الأعيان، والأحكام لا تتعلّق بالأعيان، بل لا يعقل تعلّقها إلا بأفعال المكلّفين، فاقتضى اللفظ فعلا، وصار ذلك هو الوطئ من بين سائر الأفعال بعرف الاستعمال، وكذلك قوله (حرّمت عليكم الميتة والدم) و (اُحلّت لكم بهيمة الأنعام) أي الأكل.
ويقرب منه (واسأل القرية) أي أهل القرية، لأنّه لابدّ من الأهل حتّى يعقل السؤال فلابدّ من إضماره.
إنّ هذه الأمثلة التي ذكرها الغزالي - كما تراها - تتطلّب التقدير أو التأويل لاستجلاء مقصود المتكلّم من الكلام.
ففي المثال الأوّل: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام في الليل) المقصود منه أنّ الصيام لا يقع صحيحا من المكلّف إلا إذا نواه ليلا.
وهذا المعنى من حيث السياق لا يتأتّى إلا بالتقدير، وهو أن يقال (لا صيام صحيحا لمن لم يبيت فيه نيّة الصيام في الليل).
وفي المثال الثاني: (اعتق عبدك عنّي)، لأنّ العتق شرعا لا يكون إلا في ملك (لا عتق إلا في ملك)، ففحوى هذه العبارة أنّ المتكلّم يطلب من المخاطب أن يملكه عبده ببيع أو غيره ثمّ يعتقه بالوكالة عنه.
والتقدير: (ملكني عبدك ثمّ أعتقه عنّي).
وهكذا في المثال الثالث (واللَّه لأعتقنّ هذا العبد) - مشيرا إلى عبد الغير - بتقدير لأتملّك هذا العبد ثمّ أعتقه، لأنّ العتق - شرعا - لا يكون إلا في ملك.
وفي المثال الرابع (حرّمت عليكم اُمّهاتكم) بتقدير حرم عليكم وطئ اُمّهاتكم، أو حرمت عليكم اُمّهاتكم وطؤها، لأنّ المحرّم شرعا هو الوطئ، فمناسبة الحكم للموضوع تقتضي هذا التقدير.
وهكذا في المثال الخامس (حرّمت عليكم الميتة والدم) بتقدير حرّم عليكم أكل الميتة وشرب الدم، أو حرمت عليكم الميتة والدم أكلها وشربها، لأنّ المحرّم شرعا هو أكل الميتة وشرب الدم، فمناسبة الحكم للموضوع تتطلّب هذا التقدير.
ومثله المثال السادس (اُحلّت لكم بهيمة الأنعام) بتقدير أحلّ لكم أكل بهيمة الأنعام، أو أحلّت لكم بهيمة الأنعام أكلها، وهو في سبب التقدير كسابقيه.
وفي المثال الأخير (واسأل القرية) على تقدير (واسأل أهل القرية) لأنّ القرية كبيوت وطرقات لا يمكن أن يوجّه إليها السؤال عقلا، وإنّما الذي يسئل هم أهلها، فأمّا أن تقدّر كلمة (أهل) مضافة إلى (القرية) أو تؤول كلمة(القرية) بالأهل من باب المجاز في الإسناد.
وينتهي شيخنا المظفّر في بحثه عن (دلالة الإقتضاء) إلى النتيجة التالية:
1- جميع الدلالات الالتزامية على المعاني المفردة، وجميع المجازات في الكلمة أو الأسناد ترجع إلى دلالة الاقتضاء.
2- انّ المناط في دلالة الاقتضاء شيئان:
الأوّل: أن تكون الدلالة مقصودة.
والثاني: أن يكون الكلام لا يصدق أو لا يصحّ بدونها.
دلالة الإشارة
تعريفها:
عرّفها الغزالي في (المستصفى)(2) بقوله: ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ يعني: لا من عبارة اللفظ.
ثمّ أوضح تعريفه بقوله: ونعني به ما يتبّع اللفظ من غير تجريد قصد إليه، فكما أنّ المتكلّم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدلّ عليه نفس اللفظ فيسمّى إشارة، فكذلك قد يتبّع اللفظ ما لم يقصده به ويبني عليه.
ونستخلص من هذا: أنّ الفرق بين هذه الدلالة (دلالة الإشارة) وسابقتها (دلالة الاقتضاء) هو أنّ الاُولى لابدّ من أن تكون مقصودة للمتكلّم، أمّا هذه فيشترط فيها إلا تكون مقصودة للمتكلّم، وهو ما عناه الغزالي بقوله (من غير تجريد قصد إليها).
مثالها:
قال الغزالي بعد تعريفها وإيضاحه: ومثاله: تقدير أقلّ مدّة الحمل بستّة أشهر، أخذا من قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)، وقد قال في موضع آخر: (وفصاله في عامين)....
ويتمّ هذا - حسابيا - بطرح مدّة الرّضاع وهي 24 شهرا من مجموع مدتي الحمل والرضاع وهي 30 شهرا حيث يكون الناتج 6 شهور، وهي أقلّ مدّة الحمل.
وفرّق الشيخ المظفّر بينها وبين دلالة الإقتضاء بأن لا تكون هذه الدلالة مقصودة بالقصد الإستعمالي بحسب العرف، كما اشترط الغزالي، وزاد عليه أن يكون مدلولها لازما لمدلول الكلام لزوما غير بيّن أو بيّنا بالمعنى الأعمّ.
ثمّ قال: ومن هذا الباب دلالة وجوب الشيء على وجوب مقدّمته، لأنّه لازم لوجوب ذي المقدّمة باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ، ولذلك جعلوا وجوب المقدّمة وجوبا تبعيا لا أصليا، لأنّه ليس مدلولا للكلام بالقصد، وإنّما يفهم بالتبع، أي بدلالة الإشارة.
مفهوم الموافقة
تسميته:
سمّي هذا الموضوع بأكثر من اسم، منها:
- مفهوم الموافقة، لموافقة الحكم في المفهوم للحكم في المنطوق من حيث الإيجاب والسلب.
- مفهوم الأولوية، لأنّ ثبوت الحكم في المنطوق يقتضي ثبوته في المفهوم بطريق أولى.
وجاء في (إرشاد الشوكاني): مفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقا للملفوظ به.
- فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمّى (فحوى الخطاب).
- وإن كان مساويا فيسمّى (لحن الخطاب)...
- وقد يسمّى (قياس الأولوية) و (القياس الجلي) لتسرية حكم المنطوق إلى المفهوم لاشتراكهما في العلّة.
تعريفه:
عرّفه شيخنا المظفّر بقوله: مفهوم الموافقة: ما كان الحكم في المفهوم موافقا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق، فإن كان الحكم في المنطوق الوجوب - مثلا - كان في المفهوم الوجوب أيضا، وهكذا.
ومر - في أعلاه - تعريف الشوكاني القائل: مفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقا للملفوظ به.
والتعبير بـ(الموافقة) جاء في مقابلة قسيمه المسمّى (مفهوم المخالفة) لأنّ الحكم في المفهوم يخالف الحكم في المنطوق.
وملاك هذا المفهوم (أعني مفهوم الموافقة): التنبيه بالأدنى على الأعلى من مفردات الموضوع، أو العكس: التنبيه بالأعلى على الأدنى.
مثاله:
- قوله تعالى: (وقضى ربّك إلا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانا إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اُف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما).
وهو من التنبيه بالأدنى على الأعلى بتقريب أنّ قول (اُف) المبرز للتضجّر هو أقلّ ما يؤذي الأبوين، وهو أدنى العقوق كما جاء في الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام):(أدنى العقوق اُف، ولو علم اللَّه شيئا أهون منه لنهى عنه)، فما يكون أكثر إيذاءً لهما منه كالشتم والضرب والهجران يكون منهيا عنه بطريق أولى.
الهوامش:
(1)- ص 150.
(2)- 2/188.