محاضرات أصول فقه2 - المحاضرة 1 - مباحث دلالة الألفاظ - المفردات والتراكيب
الباب الثاني / مباحث دلالة الألفاظ / المفردات والتراكيب....
الحَمدُ للَّهِ والسَّلامُ عَلى عِبَادِهِ الّذينَ اصْطَفى
الحقيقة والمجاز
- تغيير المعنى:
تكتسب دراسة الحقيقة والمجاز أهميتها في بحوثنا الاُصولية من أنّها تشكّل ظاهرة مهمّة من ظواهر ما يعرف في علم الدلالة بـ(تغيّر المعنى).
وهي بهذا ترتبط بموضوع الدلالة أو دلالة الألفاظ ارتباطا مباشرا.
ومن أوائل من تناول الحقيقة والمجاز بالدرس والبحث هم الفلاسفة.
- الاغريق
ومن أقدم ما وصل إلينا من دراساتهم هي بحوث ارسطو في كتابيه (الخطابة) و(الشعر).
وقد بدأت دراسة تغيّر المعنى في الحقل النحوي أوّلا، وكان هذا عند الغرب، وعند العرب، فقد ولدت هذه الدراسات عند النحويين العرب في بحوث سيبويه في (الكتاب)، ثمّ وعلى يدي عبدالقاهر الجرجاني وزملائه انتقلت من النحو إلى البلاغة.
ويقول العالم الدلالي الفرنسي بيار غيرو Pierre Guiraudفي كتابه (علم الدلالة - (La Semantigueترجمة انطوان أبو زيد – (1): من الفصل الثالث (تبدّلات المعنى وأشكالها): (حدّد النحويون منذ القدم تبدّلات المعنى ووصفوها، وقد شكلت دراساتهم هذه جزءا مهما من البلاغة.
إنّ تبدّلات المعنى أو النظائر هي (صور الكلمات)، وتشكّل هذه الصور مع غيرها صور الأداء، والإنشاء، والتفكير، ومناهج اُسلوب، - أي طرائق أكثر احتفالا بالرسم وأكثر حيوية، وأقدر على التكلّم - وهذا يتوافق مع ما كنّا دعوناه حتّى الآن (القيم التعبيريّة).
وقد لقيت نظرية البدائل التي ترقى إلى عهد (أرسطو) تحوّلا هامّا في العصر الأسكندري واللاتيني، فسمّى النحويون هذه النظائر أربعة عشر نوعاً: الاستعارة، المجاز المرسل، الكناية، الاستعارة المجرّدة، المحاكاة الصوتية، النعت، المجاز، اللغز والتهكّم المنقسمين إلى مقاطع جُمليّة صغيرة، المبالغة وتقديم الكلام أو تأخيره.
والثابت أنّ التردّد لازم علماء النحو واللغة على امتداد التاريخ حين واجهوا مسائل التعريف، والتصنيف، والتسمية، هذه المسائل التي ما برحت عالقة منذ ما أنشأ القروسطيون(2) بلاغتهم.
- وقد رأى اُولو علم الدلالة أمثال:( دار مستتر) و( بريل) في المجاز المرسل، والاستعارة المجردة، والاستعارة، النماذج الأساسية لتبدّلات المعنى، وقد ظلّت الاستعارة، وستبقى موضوع دراسات لا متناهية.
انّ كلمات من مثل: استعارة، تهكّم، مبالغة، وتورية، هي مفاهيم وعبارات شائعة.
على أنّ تحليلات مستجدّة كالتي باشرها(ستيرن) أو (أولمان) والتي ترتكز تعريفاتها وتصنيفاتها إلى مقاييس جديدة تكاد تحتفظ بالنظائر الرئيسيّة التي لدى الأقدمين في إطار تبيانات علماء الدلالة الخاصّة بهم. في حين لا يسع تقدّمات التحليل الدلالي أن تضع في الاعتبار القيمة العلومية الزهيدة التي تمتلكها النظائر القديمة، وأن تدعو بالتالي إلى تصنيفات اُخرى).
- كيفية تغيير المعنى:
أمّا ماذا يراد بتغيير المعنى، وكيف يتمّ ذلك؟ فيقول أولمان في (دور الكلمة) تحت عنوان (كيفية تغيير المعنى): (حاول رجال القواعد (النحويون) وعلماء البلاغة جاهدين منذ أرسطو أن يخضعوا تغيّرات المعنى لشيء من التنظيم والتقعيد، غير أنّهم حصروا جهودهم لقرون طويلة في تصنيف(المجازات) أو ما يعرف بأنماط انتقال المعاني من مجال إلى آخر لأسباب جمالية أو اُسلوبية، فلم تكن هناك حتّى نهاية القرن الماضي أيّة محاولة لتنظيم البحث في عمليات انتقال المعاني خالية من مضموناتها الأدبية، ولقد ظهرت منذ ذاك الوقت نظم كثيرة متداخلة متشابكة، فبعض العلماء - أمثال الاُستاذ ج . ستيرن Stern G.
يفضّلون ترك الحقائق تتكلّم عن نفسها،( فقد) اختبر ستيرن عددا ضخما من تغيرات المعنى في اللغة الانجليزية، ثمّ قام بتصنيفها إلى أنواع مختلفة بقدر ما سمحت به المادّة التي ظفر بها، وتوصّل بذلك إلى سبعة نماذج رئيسيّة لتغيّر المعنى بالإضافة إلى أنواع اُخرى فرعيّة، ولكن معظم الثقات من الدارسين كان همّهم البحث عن مبادئ عامّة يبنون عليها نظام التقسيم: مبادئ لا تساعد على وضع التغيّرات في نظم متسقة فحسب، بل تعيّن كذلك على الفهم الجيّد السليم، ومن أوفق الخطط المختلفة التي وضعت في هذا الشأن الخطتان المنطقية والنفسية للتقسيم) اللتان سيأتي الحديث عنهما.
- الحقول التي بحثت الحقيقة والمجاز:
وفي هدي ما ذكره كلّ من أولمان وغيرو: انّ حقول المعرفة التي تناولت الحقيقة والمجاز بالدرس، هي - ووفق ترتيبها التاريخي -:
1- علم النحو(القواعد).
2- البلاغة.
3- علم الدلالة.
والآن وحيث ولد علم الاُسلوب - وهو يبحث ما يبحث فيه علم البلاغة - يدخل حقلا رابعا في قائمة الحقول المعرفية التي تناولت الحقيقة والمجاز بالدرس.
كما لابدّ من الاستدراك على ما ذكره الغربيون من حقول معرّفية درست الحقيقة والمجاز بأنّ علم اُصول الفقه - هو الآخر - قد درس الحقيقة والمجاز، فلابدّ من أن يدرج في التسلسل التاريخي لدراسات الحقيقة والمجاز، ويأتي ترتيبه بعد علم النحو، وقبل علم البلاغة، وذلك لنشوء علم الاُصول قبل علم البلاغة.
ولابدّ من الإشارة - أيضا - إلى أنّ اُصول الفقه كان قد تأثّر وهو في مراحله الاُولى ببحثه للحقيقة والمجاز بدراسات ارسطو، وبعد ذلك طعم دراسته لهما ببعض الأفكار البلاغية العربية، وبخاصة أفكار وآراء السكاكي والتفتازاني.
كما لابدّ من اُشير إلى أنّني ساُحاول الاستفادة من كلّ هذه الحقول المعرّفية المذكورة في دراستي هذه، مع المحافظة على الخطّ الاُصولي الذي يتمثّل بالتالي:
- إثبات انّ الحقيقة والمجاز من الظواهر اللغوية الاجتماعية العامّة. هذا من ناحية نظرية.
- ومن ناحية تطبيقيّة محاولة معرفة واقع هذه الظاهرة في الاستخدامات اللغوية العربية.
الهوامش:
(1)- ص 57.
(2)- القروسطيون: نسبة إلى القرون الوسطى.