محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 5
والشخصية الرابعة التي حملت راية التحنث في عصر ما قبل البعثة عثمان بن الحويرث وهو أيضاً من أقرباء خديجة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله) اضطرته أفكاره المعادية للوثنية بأن يترك الجزيرة العربية إلى بلاد الروم فتنصر فيها فقرٍبه ملك الروم وأحسن إكرامه وقيل انه أراد إقناع ملك الروم بضرورة احتلال مكة وهدم الوثنية فيها وإحلال النصرانية محلها وان يكون هو عاملاً فيها من قبل القيصر وعندما أحس المكيون بنواياه طردوه من بلادهم فاضطر الالتجاء إلى بلاد الغساسنة وهناك لم يكف عثمان بن الحويرث إلحاق الأذى بالمجتمع الوثني فحث ملك الغساسنة على قطع الطريق أمام تجارة مكة وما أن أحس المكيون بذلك حتى سارعوا في إرسال الهدايا إلى ملك الغساسنة وتآمروا على حياة خصمهم بن الحويرث فقتلوه بالسم ولم يذكر لنا التاريخ أسماء أخرى غير هؤلاء الأربعة الذين أعلنوا تحنثهم. وهناك طائفة من الأحداث والوقائع نقلها لنا المؤرخون عن أشخاص استهانوا بأصنامهم كحادثة أمرؤ القيس عندما استقيم بالازلام ثلاث مرات عند صنم يعظمه العرب (ذي الخصلة) وكانت تخرج عليه بالنهي عن الثأر لمقتل أبيه فغضب امرؤ القيس وجمع الأقداح وكسرها وضرب بها الصنم وسبه وسب من يعظمه ثم غزا بني أسد فظفر بهم ولم يستقسم بعدها أبدا، لكن مثل هذه الحوادث لا ترقى لمستوى حركة التمرد التي حمل رايتها أشخاص كزيد بن عمرو وغيره ممن ذكرناهم.
وحتى حركة زيد لم تكن بمستوى الحركة الإصلاحية التي يعول عليها إصلاح الوضع المتخلف في الجزيرة العربية فقد اقتصرت هذه الحركة على أنشطة فردية محصورة بفرد واحد لا تتجاوز حالة واحدة هذا أولاً، وثانياً أنها كانت تفتقر إلى البعد الاجتماعي في كانت حركة فكرية لإصلاح العقيدة من الوثنية إلى التوحيد ولم تكن حركة اجتماعية تتبنى إصلاح مظاهر التخلف الأخرى في المجتمع الجاهلي وثالثاً: ان هذه الحركة لم تجد في الجزيرة العربية مكانا لها للمقاومة الضارية التي كانت تواجهها أية حركة تنوير في المجتمع الجاهلي فاضطر هؤلاء المتحنثون ان يتركوا أرض الجزيرة العربية إلى مكان أخرى أكثر تحرراً وأكثر تنوراً من الجزيرة العربية ويجدون فيه الحماية الكاملة وهذا مؤشر واضح على استحالة عملية الإصلاح في بيئة الجزيرة العربية لتصلب مجتمع الجزيرة على الجاهلية ومقاومتها لأية صيحة إصلاحية.
لقد أراد المستشرقون ان يقللوا من حجم العمل الجبار الذي قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند تركيزهم على وجود هذه الحركة وكأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أخذ مبادئه من هؤلاء.
ولدحض هذه الشبهه كان لابد من إعطاء صورة واقعية لحركة التحنث التي ظهرت قبيل الإسلام فهي لم تكن ذات قوة أو تأثير على المجتمع المكي ولم تستقر هذه الحركة عند نظرية واضحة في الحياة والموت والكون فهي حركة محصورة بعدد من الأفراد ولم تستطع أن تصنع واقعاً سليماً في المجتمع لافتقارها للعنصر الاجتماعي. وخلاصة الأمر ان بعض العرب عندما تعمقوا في دراسة الديانات لمسوا تفاهة الوثنية فقاموا بنبذها فأطلقوا العنان لفطرتهم السليمة التي قادتهم إلى الحنيفية الإبراهيمية فأين هذه الحركة الصغيرة من ذلك السيل الذي أنهمر على رؤوس المشركين فطهرهم من رجس الوثنية والجاهلية وجعلهم قادة الأمم وزعماء التاريخ؟
ان من الخبث مقايسة حركة الرسول (صلى الله عليه وآله) بحركة جماعة صغيرة اندثرت مع موت أفرادها وظلت الرسالة الإسلامية خالدة خلود الزمن لأنها رسالة خير وإصلاح لكل البشر على مدى الزمن وعبر المسافات الشاسعة.
-
الانحلال الاجتماعي في جزيرة العرب:
لا يعرف التاريخ جاهلية ظلماء كتلك التي سادت المجتمع العربي قبل الإسلام.
فبأستثناء بعض الخصائص الاجتماعية والثقافية التي أوجدتها حياة الصحراء أو التي تعلقت ببقايا الديانات والموجات الإصلاحية التي حدثت في الجزيرة العربية فبأستثناء ذلك فأن حياة الإنسان العربي كانت حياة مشبعة بالتخلف متصفة بالانحطاط والهبوط.
فقد كانت الخرافة قد احتلت مواقعها في عقل الإنسان في ذلك اليوم فسدت منافذ العلم والحكمة فلم يكن في الجزيرة العربية يومذاك من يعرف الكتابة والقراءة إلا بعدد الأصابع وقد أدى ذلك الجهل إلى انتشار الخرافات ففي أيام الجفاف وانقطاع المطر كانوا يربطون بعض الأعشاب والأغصان اليابسة إلى ذيل بقرة ويشعلوا فيها النار ويأخذوا البقر إلى الجبل وهي طريقتهم في الاستسقاء معتقدين ان لهب النار يشبه وميض البرق وان وجود اللهب في أعالي الجبل سيسبب نزول المطر وعندما كانت تحل عليهم مصيبة كانوا يدخلون البيت من الباب الخلفي أرضاءاً للأرواح الشريرة التي يعتقدون بأنها تدأب على إيذاء الإنسان بخلق المتاعب له وأنها السبب أيضاً في أصابه الإنسان بالأمراض فكانوا يقومون بالعزائم لدفع الأرواح الشريرة.
وكان العرب يتطيرون بحركة الطير فمتى ما اجتاز الطير من الشمال إلى اليمين تفاءلوا بذلك وسموه بالسابح وإذا اجتازتهم من اليمين إلى الشمال تشاءموا وسموه بالبارح وعندما يموت منهم أحد كانوا يربطون بقبره بعيراً يتركونه لوحده دون ان يقدموا له الأكل فيجوع حتى الموت معتقدين ان ميتهم سوف يركب البعير يوم المحشر.
وفي مجتمع تتحكم فيه الجاهلية تصبح المرأة والبهيمة على حد سواء فقد كانت سلعة يتوارثها الأبناء عن الأباء فيحق لهم التصرف بها كيفما شاؤوا ويتم استخدامهن في البغاء لكسب المال لأسيادهن وخصوصاً الأسيرات.
وكان يحق للرجال الأقوياء ان يقيموا ما يشاؤوا من العلاقات المحرمة مع النساء وحتى المتزوجات وكان الرجال يجيزون لزوجاتهم ان يتصلن بالآخرين وخصوصا الأشداء من الرجال من أجل تحسين الإنجاب وكان يعرف هذا العمل بـ (الاستبزاء).
وكان الرجال يجبرون الجواري على التعري والسير في الطرقات بصورة مستهجنة.
وأصبح تعري المرأة أمراً عادياً غير مستهجنا حتى وهي تطوف حول البيت الحرام.
وكانت إذا أرادت ان تطوف ولم تجد ثوباً من الثياب الخاصة للعبادة فإنها تطوف عارية واضعة يدها على فرجها وفي رواية انها تنزع جميع ثيابها إلا درعا مفرجاً عليها وتطوف به. وقد طافت ضياعة بنت عامر بن صعصعة على تلك الحال وهي تنشد مخاطبة الرجال من حولها.
اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا احله
وتجسد عبارات ضياعة وسلوكها الوضع السائد للمرأة في الجاهلية وضياعة ليست بالمرأة الوضيعة فهي بنت الأشراف وقد أدعى بعض المؤرخين ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد ان يتزوج بها فقيل له فيها كبرة فتركها. وبالرغم من كون الرواية تثير الشك لأن ضياعة كانت معروفة لدى القاصي والداني فمن غير الممكن ان لا يعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحالها وإذا علم بحالها فمن غير الممكن ان يتقدم للزواج منها إلا أنها في الواقع تؤكد الواقع المزري الذي كانت تعيشه المرأة في الجاهلية.
وكان من العادات التي ينتقص من قيمتها انتشار ظاهرة وأد البنات فكان الأب يبقى بانتظار لحظة الولادة {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ} فيمنع انتشار الخبر قبل ان يأخذها إلى الصحراء ويحفر لها حفرة صغيرة فيدسها وهي حية ترفس بأيديها وأرجلها وتستصرخ بعويل يذيب الصخر وفي بعض الحالات كان الزوج يجبر زوجته ان تقوم بنفسها بهذا العمل كبرياءاً منه وعتواً وكانت المسكينة تأخذ فلذة كبدها لتضعها تحت التراب امتثالاً لأوامر زوجها.
فأي شقاء كان أعظم من شقاء هذه الأم المفجوعة. وأي قلب قاسي فارغ من الإنسانية والمحبة كان يمتلكه هذا الزوج وهو لا يعبأ بمنظر الضحية ولا بمنظر الأم الوالهة. لقد خلت القلوب من الشفقة والرحمة لأنها كانت قلوباً مريضة بمرض الجاهلية وكانت بحاجة إلى طبيب حاذق والى دواء سريع المفعول والاداء. ولم يكن ذلك الدواء إلا الإيمان. الذي كان له مفعولاً ساحراً في النفوس فمع أول جرعة من هذا الدواء كان كل شيء يستقيم في ذلك الإنسان.
كانت الحياة تعود إلى ذلك القلب المتحجر وكانت ومضة الفكر تشع في ذلك العقل المعطل. وفي لحظة واحدة كان أنسانا جديداً يولد في هذا العالم من تلك الكتلة المتراكمة من الرذائل والخرافة والانحطاط وهذه هي معجزة الإسلام انه استطاع ان يصنع من الماء الآسن ماءاً طهوراً وأن يوجد من وسط الجاهلية الظلماء من يحمل مشعل العلم للعالم.
-
العالم عشية البعثة:
كان العالم في القرن السادس الميلادي ينقسم إلى أربع تقسيمات جغرافية وهي الهند والإمبراطورية الايراينة والإمبراطورية البيزنطية والجزيرة العربية وكانت الدول الأخرى مصر وسوريا وغيرها دولاً محتلة تابعة لإحدى هذه الامبراطوريات.
ولعل هناك إجماع من المؤرخين الغربيين والشرقيين المسلمين وغير المسلمين ان العالم كان يعيش ظلاماً سحيقاً في القرنين الخامس والسادس الميلادي وكانت البشرية تترقب بسبب المعاناة والمظالم والفسخ إلى من ينقذها من جحيم الجاهلية والتخلف.
وقد سبق وتحدثنا عن أوضاع المجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية وبقي ان نتحدث بإيجاز عن أوضاع المجتمعات في المناطق الأخرى.
1- الهند:
* عانى المجتمع الهندي من ابشع أنواع التفاوت الطبقي وكان مقسماً إلى أربع طبقات لكل طبقة مكانة معينة ومركزاً محدداً فالبراهمة طبقة الكهنة ورجال الدين لهم امتياز خاص فالبراهمي لا يعاقب عندما يذنب لان ذنوبه مغفورة ولا تجبى منه الضرائب وليس للطبقات الأخرى الحق في مجالسة البراهمي ولا يحق لهم ان يلمسوا يد البراهمي.
* سادت في الهند في القرن السادس حالة الفوضى وأصبحت ساحة للتنافس والحروب دفعت الطبقات السفلي ضريبتها الباهظة.
*حط من قدر المرأة، وكانت تباع وتشترى على مائدة القمار. وعندما يموت الزوج كانت الزوجة تبقى إلى آخر عمرها بلا زوج وكانت العوائل الأرستقراطية تجبر الأرامل على حرق أنفسهن وفاءاً للزوج الميت وهي عادة لا زالت باقية في الهند وتسمى بـ (ستي).
* لفترات طويلة كانت الهند محتلة وكان للمحتلين امتيازاً اقتصادياً فهم يسنون الضرائب وتنقل إليهم ما تدره الأرض من محاصيل وأرباح وكان المحتلون يتقاسمون الأموال بينهم وبين طبقة البراهمة تاركين الغالبية العظمى من سكان الهند يتضوعون جوعاً ويتصببون عرقاً.
2- الإمبراطورية الإيرانية:
* كان ملوكهم يمارسون الحكم بالحق الإلهي معتقدين أنهم مفوضون من قبل الله وكانوا يعتبرون أنفسهم أعلى من مستوى الإنسان فيأخذون ويسلبون ويقتلون وينكحون ما شاؤوا من النساء دون ان يمنعهم مانع وكان على الناس الإذعان لهم وتقديسهم والقيام للملوك كما يقوم العبد أمام ربه للصلاة. وكانت موارد البلاد كلها ملكاً لهؤلاء الملوك وغالوا في اكتناز الأموال وادخار الجواهر والكنوز وعاشوا عيشة بذخ وترف ويذكر لنا التاريخ ان يزدجر عندما هرب من المدائن مع دخول العراق في الإسلام أخذ معه ألف طاه والف مغن والف قيم للخمور والف قيم للبزاة هذا ما استطاع أخذه أما ما لم يستطع فهو أكثر.
* وكان الشعب يعاني من بؤس وشقاء، يرهقونهم بالعمل الشاق في الزراعة أو الصناعة ويحرمونهم من الأجر ولا يستطيعون حتى سد رمقهم وستر عورتهم. وكانوا يعيشون عيشة البهائم وفي الحروب وما أكثرها بين الدولة الساسانية والدولة البيزنطية كانوا هم الوقود لها يحترقون فيها من أجل غيرهم.
* تحولت إيران في القرنين الخامس والسادس إلى حلبة لصراع المذاهب والأفكار فبالإضافة إلى الزرادشتية الديانة القديمة لبلاد فارس ظهر في القرن الثالث الميلادي من جدد هذه الديانة هو ماني وسمي مذهبه بألمانية. حرم ماني الزواج على اتباعه لإيقاف النسل معتقداً ان انقطاع النسل سيؤدي إلى انتصار النور على الظلمة لأنه سيمنع امتزاج النور بالظلمة وهو مصدر شرور العالم.
وعلى نقيض ما جاء به ماني جاء مزدك في أوائل القرن الخامس الميلادي بمذهب يدعو إلى إباحة النساء والأموال وجعل الناس شركاء فيها فانتهكت الأعراض وانتشرت اللصوصية وأصبح الفرد وهو لا يأمن على أمواله ونسائه. فكان الأقوياء يدخلون البيوت فينهبونها ويمتلكون النساء والمزارع والأراضي التي باتت خربة مقفرة في العهد المزدكي لان الملوك الجدد لم يكن لهم عهد بالزراعة.
3- الإمبراطورية الرومانية:
* اعتبر الرومان أنفسهم أصحاب رسالة وأنهم على دين عيسى (ع) لكنهم أوغلوا أيضاً في تحريف المسيحية ومزجها بالوثنية فقد اقتبس المسيحيون طقوسهم الدينية من المجتمعات الوثنية فأصبحوا يألهون أبطالهم ويصنعون التماثيل لهم وأخذوا يعبدونهم معتقدين أنهم حلقة وصل بين الله والإنسان فهم لهذا يحملون صفة الألوهية.
فاصبحوا لا يختلفون عن جاهلية الجزيرة العربية في عبادة الأصنام مع اختلاف ضعيف ان أولئك كانوا يعبدون شهداءهم وأبطالهم بينما هؤلاء يعبدون هبل ويسوع.
ومن جانب آخر كانت حروب طاحنة تجري على قدم وساق بين نصارى الشام والعراق وبين نصارى مصر حول طبيعة المسيح فكان كل فريق يكفر الفريق الآخر.
* كان القياصرة يدعون أنفسهم بأنهم آلهة وعلى الناس الاعتراف بذلك والسجود للقيصر وكانوا يستخدمون هذه الصفة في فرض الضرائب حتى أصبح الناس يفضلون ان تحكمهم حكومة أجنبية بدلاً من حكومة القياصرة.
* حاول البعض من الغربيين وحتى المتغربين من بلاد الإسلام ان يصف المجتمع البيزنطي بأنه مجتمع ديمقراطي مستدلين بوجود مجلس للشيوخ يناقش فيه قرارات القيصر لكن في الحقيقة لم يكن وجود هذا المجلس إلا وجوداً صورياً فليس بمقدوره مطلقاً معارضة القيصر الذي يعتبر نفسه الهاً. وقد كان الحكم في الإمبراطورية الرومانية حكماً دكتاتورياً فردياً. عانى فيه المواطن أشد المعاناة فامتهنت كرامته وبالأخص من كان في مصر وسوريا يعيش تحت سيطرة الحكم الروماني حيث كان جهده وعرقه يذهب ثمناً لبقائه في الحياة.
* انتشرت في الإمبراطورية الرومانية ظاهرة الألعاب القاسية فأُنشأت ساحات الألعاب الرياضية تتسع لجلوس الآلاف من المتفرجين وكانت تجري فيها العاب المصارعة بين مصارعين أو بين مصارع وأحد الحيوانات المفترسة وكانت تنتهي هذه الألعاب دائما إلى مشاهد مأساوية يستلذ بها المتفرجون الذين باتوا يعشقون العنف والدماء والوحشية.
وهذه كانت التسلية المفضلة لأهل الروم.
وهكذا تكشف لنا النظرة العامة لأوضاع العالم في القرن السادس الميلادي، ان العالم كان تائهاً بين المتناقضات حائراً بين الدولتين المتصارعتين منتظراً لمن يستطيع إنقاذه وقد مرت فترة طويلة من الزمن لم تلتق البشرية فيها بأي مصلح يؤدي دوراً إنسانيا وسط ذلك التراكم من السلبية. فقد كانت تمزقها الخلافات وتأكلها الحروب الطاحنة وتعصف بها رياح التخلف والجاهلية على رغم التقدم النسبي الذي شهدته الدولتان الساسانية والبيزنطية لكن حتى هذا التقدم الجزئي لم يكن له نتائج مؤثرة حيث تسحقه عجلات الدكتاتورية الفردية التي كانت تتحكم بمقاليد الزعامة في كلا الدولتين ولم يعد الإصلاح ممكنا في أجواء التحكم والجهل وسيطرة مبدأ القوة.
فكان السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية هو ان تمتد اليد الإلهية إلى الأرض من جديد وتبعث رسولاً جديداً وبرسالة جديدة تناسب المرحلة الزمنية.
من هنا كان ظهور الإسلام في ذلك الزمن يمثل أكثر من ضرورة لإرساء قواعد جديدة لحياة الإنسان تمكنه من أعادة حياته وتضمن له السعادة في الدنيا والآخرة.
وكان لا بد من الإشارة هنا إلى محاولات بعض المفكرين التقليل من شأن الرسالة الإسلامية بالادعاء الواهي بان الرسالة الإسلامية جاءت لتحقيق غاية محددة وأنها أتت استجابة لوضع خاص كان يعيشه العالم في نهاية القرن السادس الميلادي. فهم يحصرون القيمة العملية للرسالة بذلك الزمن المحدد.
فالإسلام حمل راية وجاء لمعالجة مشكلات ذلك العهد والقرآن جاء يتحدث بلغة ذلك العصر. أما اليوم فالبشرية تعيش عصراً آخر هو عصر العلم وعصر التقدم الفكري والتكنولوجيا فلم تعد هناك حاجة إلى ذلك الدين الذي جاء قبل خمسة عشر قرناً.
إن هذه الشبهة وغيرها من الشبهات اضعف مما هي بحاجة إلى رد لأنها تحمل في ذاتها بذور التناقض، ولا ريب فان المؤمنين بهذه الشبهات يقرون بصورة لا واعية بان الإسلام هو رسالة كل عصر لانهم يعترفون بحقيقة الدور الذي قام به الإسلام في بداية ظهوره.
والملاحظ أن مشاكل البشرية الرئيسية التي تصدى لها الإسلام هي نفسها في كل زمان ومكان وهي مشاكل ترتبط بالعقيدة وبالعلاقات الاجتماعية وبالعلاقات الاقتصادية شرور مصدرها الطغيان سواء كان طغيان الحاكم أو طغيان المال.