محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 40 - مرحلة التحرير
ثالثاً.. مرحلة التحرير.
كان النبي (صلى الله عليه وآله) يترقب اليوم الذي تنتصل فيه قريش عن المعاهدة ليتنقل إلى المرحلة التاليةمن خطته من تحرير مكة وجزيرة العرب من الوثنية.
وفعلاً لم يمر وقت طويل حتى شنت بني بكر غارة على خزاعة وسارعت قريش لتقديم العون إلى القبيلة الحليفة لها وبذلك فقد خرقت البند الأول من الاتفاقية مما جعلت الاتفاقية بحكم الملغاة وجاءت خزاعة تطلب العون من المسلمين باعتبارهم حلفاء لها فوجد النبي (صلى الله عليه وآله) أن الفرصة قد سنحت فدعى المسلمين إلى التهيؤ لكنه أحاط قراره بهالة من السرية فجهز قوة عسكرية وأرسلها إلى الشمال للتمويه كما وأنه أغلق كل الطرق المؤدية إلى مكة وأفشل محاولة حاطب بن أبي بلتغة في نقل أخبار الاستعدادات إلى قريش.
وتقدم الملسمون وكانوا عشرة آلاف مقاتل وتبعهم عدد كبير من القبائل التي كسبها النبي (صلى الله عليه وآله) إلى جانبه خلال السنتين، فمزينة 1000 رجل و 1000 من سليم و 400 من أسلم و 400 من جفار وعدد من جهينة وأشجع وخزاعة وضمرة وليث وسعد بن بكر (1) كلهم جاوؤا مع النبي لفتح مكه وكانت خطه الرسول تتضمن قذف الرعب في نفوس المكيين ودفعهم الى الاستسلام دون حدوث المواجهه فما ان وصل الجيش الى مقربه من مكه حتى اشعلوا النيران فازداد اهل مكه رعبا فارسلوا ابا سفيان وبديل ليستطلعا الخبر فاعتقد بديل انها خزاعه قد جاءت للانتقام واستبعد ابو سفيان ذلك وكان العباس بن عبد المطلب في معسكر المسلمين يبحث عن ايه فرصه يتمكن الاتصال فيها بزعماء قريش لاقناعهم بالتسليم فعندما شاهد ابا سفيان دنى منه واخذه معه في حركة ذكية داخل معسكر المسلمين ليريه قوتهم فيثير فيه الرعب والخوف أما بديل فقد قفل راجعاً إلى مكة، ورتب العباس لقاء بين النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي سفيان في خيمته.
وحاول النبي (صلى الله عليه وآله) في اللقاء أن يدعوه إلى الإسلام قائلاً له ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله لا الله.
قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد ذلك واستمر النبي (صلى الله عليه وآله) في محاولته وأبا سفيان يرفض بأدب فغضب العباس فقال له ويحك أسلم وأشهد أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن نضرب عنقك فاضطر إلى إعلان إسلامه.
وقد تم إسلام أبا سفيان بتلك الطريقة ضمن خطة الدخول إلى مكة دون قتال وأخذ المسلمون يستعرضون قوتهم أمام أبي سفيان وهم يتقدمون نحو مكة فكلما مرت قبيلة كبرت ثلاثاً وأبو سفيان يشاهد عن كثب وإلى جنبه العباس (عليه السلام) فيسأله من في هذه فيقول سليم فيقول أبو سفيان مالي ولسليم وتمر قبيلة أخرى وهكذا حتى جاءت النوبة للكتيبة الخضراء التي تضم ألف دارع من المهاجرين والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق خلال الحديد وهي كتيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأل أبو سفيان سبحالن الله يا عباس من هؤلاء؟ فأجابه هو رسول الله في المهاجرين والأنصار فقال أبو سفيان ما لأحد بهؤلاء حول ولا طاقة فطلب منه العباس أن يسرع إلى قومه يعلمهم بما رأى وسمع فدخل أبو سفيان مكة وراح يصرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن (2).
وهكذا تكاملت حلقات الخطة فلم يجد أهل مكة بداً من التسليم لأمر زعيمهم أبي سفيان، وكان على الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يدخل مكة بصورة المنتصر فقسم جنوده إلى أربعة أقسام وجعل على كل قسم قائداً أوصاه أن لا يقتل أحداً إلا من رفع السيف بوجه المسلمين ودخل رسول الله في قسم من جنوده وكانت رأيته عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتحقق له وعد الله الذي بشر المؤمنين بالنصر وخرجت قريش إلى ذي طول ينظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يدخل مكة بذلك الجلال وتلك العظمة وتذكر كيف خرج هذا النبي من مكة وهو خائف يترقب وقد وضعوا لقتله جائزة ثمينة ؟؟؟ كيف تزايد عدد المسلمين بعد أن كانوا قلة قليلة خائفة.. وتذكروا كيف كاد الجوع أن يقضي عليهم وهم في شعب أبي طالب مر من أمامهم هذا الشريط وهم في لحظات الانبهار والتعجب لما أذلها الله بهذه الصورة، لم يبق أحد في مكة لم يذعن لهذه الحقيقة إلا نفر قليل من ذوي النفوس المصابة بالغرور الذين حاولوا أن يقاوموا الجيش الزاحف لكن دون جدوى فيذكر الرواة نموذجاً لهؤلاء هو حماس بن قيس، سارع حماس إلى بيته وأخذ يصلح سيفه فالتفتت إليه زوجته مستغربة: لماذا تعد سلاحك؟ قال: لمحمد وأصحابه..
وبغرور وصلف قال لها: وإني لأرجوا أن أجد لك منهم خادماً!!..
فقالت له: ويحك لا تفعل ولا تقاتل محمداً وإني والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء لكنه لم يسمح لنفسه حتى الرد على زوجته فطفق مسرعاً مع صفوان وجماعته واتجهوا جميعاً نحو الخندقة إحدى الطرق المؤدية إلى مكة وهو الطريق الذي كان قد كلف خالد بن الوليد الدخول منه إلى مكة فحاولت هذه المجموعة أن تمنع تقدم المسلمين لكن دون جدوى فقد قتل جلهم في ضربة واحدة فلم يكن أمام الآخرين سوى الفرار وقد حالف حماس الحظ فكان من جملة الفارين فجاء إلى بيته مسرعاً مرتعداً فرد عليه الباب، فسخرت منه زوجته قائلة أين الخادم الذي وعدتني به قال لها ويحك لقد جاء محمد بجيش لا طاقة لأحد عليه، وقد قال من دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن فقالت له ألم أنهك عن قتال محمد إنه ما مقاتلكم مرة إلا وظهر عليكم.
وتكشف هذه الحكاية عن طبيعة الأفكار التي كانت تسود مكة حول النبي (صلى الله عليه وآله) وقوته وتكشف عن طبيعة بعض النفوس المغترة وما آلت إليه في نهاية المطاف.
أما النبي (صلى الله عليه وآله) فقد واصل تقدمه حتى دخل مكة دون أن يلاقي أي مجابهة سوى الجيب الذي تعرض لقوات خالد في قاطع خندقة وكان أول عمل قام به هو اداء الطواف حول البيت الحرام وكلما مرة على صنم كان يشير بقضيب في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا فيكسر حتى وصل إلى هبل فكسر أيضاً ثم أمر بفتح الكعبة وكان في داخلها التماثيل والصور وقد ملئت جدرانه فأمر بإزالتها ثم صلى داخل الكعبة وخرج ووقف ببابها والجموع تنتظره فرفع صوته قائلاً الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده إلا أن كل مأثرة أو دم ربا في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج.
وهو أذان بانتهاء الجاهلية بقيمها وقوانينها والبدء بمرحلة جديدة ثم واصل الحديث.. يا معشر قريش إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتعظمها لآباءها الناس لآدم وآدم من تراب ثم تلا قوله تعالى:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
ثم وجه كلامه إلى أهل مكة وكانوا حاضرين ذلك الجمع فقال لهم ماذا ترون إني فاعل بكم وما تظنون قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وكانت غاية الرسول (صلى الله عليه وآله) من انتهاجه لهذه السياسية هو كسب قلوب المكيين الذين ما كان من السهل عليهم أن يتصوروا أنهم في يوم من الأيام سينضموا إلى المسلمين فقد كان الشعور بالغرور لا يدعهم يفكروا في ذلك أبداً فهم سادة العرب وأكثرهم مالاً وعزاً فكيف يسمحوا لأنفسهم أن ينبذوا عقائدهم وتقاليدهم في لحظة واحدة.
فكانت خطة النبي (صلى الله عليه وآله) في مكة هي كسب ودهم والتأثير في نفوسهم حتى يقبلواعلى الإسلام عن قناعة ووعي.
فجلس في المسجد يستقبل المبايعين فجاءه الرجال والنساء جاءت هند مبايعة وقد عفى عنها النبي (صلى الله عليه وآله) وهي التي أكلت كبد عمه حمزة فأخذ يوعظهم بآيات من القرآن الكريم حتى وصل النبي (صلى الله عليه وآله) الى قوله ولايقتلن اولادهن :فقالت هند ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فتجاهل النبي قولها ولم يك سهلاً على غيره ومن هو في مكانه أن يسمع هذا الكلام من عدوة لدودة لكن حلم النبي وصبره ورحمته هي الجسور إلى قلوب الآخرين.
وجاءه أيضاً رجلاً ليبايعه فأخذته الرعدة والخوف فنظر إليه رسول الله بعطف ورحمة وقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة.
وكان لسقوط مكة صدى واسع في أرجاء الجزيرة بين فرح مستبشر بسقوط قلعة الوثنية وبين مستاء متوجس خائف على نفسه ومن المستائين هوازن وحلفائهم من تثقيف وجشم ونضر.
- سقوط آخر قلاع الشرك.
عندما لاح لهوازن أن جيوش المسلمين استعدوا للقتال ظناً منهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) يريدهم لكن اتجاه النبي (صلى الله عليه وآله) كان نحو مكة وظلت هوازن على استعدادها للحرب وعندما بلغها خبر سقوط مكة ازدادت يقيناً بأن النبي (صلى الله عليه وآله) سيقصدهم في يوم من الأيام فلم لا يبادروا لقتاله بأنفسهم فتقدم ملك بن عوف زعيم هوازن وهو يسوق عشيرته نحو المواجهة الحاسمة مع المسلمين وكمنوا للمسلمين في الجبال والمرتفعات وانتظروا لحظة وصول الجيش الإسلامي وهو في طريقه إلى مواقعهم.
ولم ير النبي (صلى الله عليه وآله) بداً من التحرك نحو هوازن التي سبقته في الاستعداد للمعركة وما أن وصل ركب المسلمين وادي حنين حتى أخذوا على حين غرة فانتشر في صفوفهم الرعب وفروا منهزمين بلا هدى وأصبح الرسول يقاتل وحده ومعه جمع قليل من أصحابه وعادت صورة أحد تتكرر من جديد لكن بشكل آخر فالمسلمون في أحد كانوا قلة أما اليوم فهم كثرة وقد قال الله عن ذلك اليوم:
(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها).
فثبت النبي (صلى الله عليه وآله) في المعركة ومعه جمع من بني هاشم واستطاعوا بقتالهم العنيف أن يغّيروا الموقف وأن يعيدوا ميزان القوة لصالح المسلمين عندها عاد المسلمون ليقاتلوا ببسالة وشجاعة مكبدين العدو الخسائر الجسيمة غانمين أموالاً كثيرة وانتهت إلى الطائف فواصل النبي (صلى الله عليه وآله) تقدمه إلى الطائف وفرض حصاراً على المدينة التي لم تستقبله ذلك اليوم ذهب إليها وحيداً، فسخرت منه وأهانته.
ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) يريد من ثقيف سوى التسليم فقد استخدم ما كان بحوزته من الوسائل والأسلحة ومنها المنجنيق لدفعها إلى التسليم لكنها ظلت تقاوم وطالت فترة الحصار وجاءت أشهر الحرم فرأى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يفك الحصار عن المدينة ليمنح أهلها فرصة جديدة للتفكير بمصيرهم إذ لا خوف عليه منهم وأنهم لم يعودوا قادرين على الحيلولة دون قيام الدولة الإسلامية في الجزيرة كلها بعد أن سقطت عاصمة الشرك مكة وفعلاً لم يمر وقت طويل حتى جاءته ثقيف إلى المدينة وهي تريد الإسلام وكانوا يريدون أن يجمعوا بين الإسلام والإبقاء على صنمهم اللات فرفض منهم ذلك.. فأخذوا يساومونه في المدة ولو لفترة شهر واحد فكان يأبى ويصر على هدمها فوراً ثم ساوموه على ترك الصلاة فرفض أيضاً قائلاً لا خير في دين لا صلاة فيه وأخيراً قبلوا الإسلام دون قيد أو شرط فعادوا إلى مونهم وأمر عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) أحد زعمائهم وهو عثمان بن أبي العاص بعد أن أرى أنه أكثرهم حرصاً على نعم الإسلام من غيره.
ثم بعث النبي (صلى الله عليه وآله) المغيرة: إنك أمنع عندهم مني فباشر المغيرة بهدم اللات وقومه بنو متعب من حوله متأهبون للدفاع عند أي هجوم يتعرض إليه.. وبذلك سقط آخر معقل للوثنية ولم يبق أمام المسلمين سوى الزحف نحو الإمبراطورية البيزنطية.
العلاقات الدولية
لم تكن رسالة الإسلام محصورة بفئة خاصة ولا لبلاد خاصة ولا لشعب خاص فهي رسالة للعالم أجمع وعلى هذا الأفق سار ركب الإسلام وعلى هذا الأساس قامت خطة الرسول في إيجاد قاعدة قوية تنطلق منها الدعوة إلى أرجاء الأرض.
فكان بانتظار النبي (صلى الله عليه وآله) أعباء أكبر ومسؤوليات أعظم فعليه أن يعد ويهيئ الأرضية لتحمل تلك الأعباء فأول ما كان يحتاجه النبي (صلى الله عليه وآله) للانطلاق إلى المرحلة المتقدمة من حركته هو إيجاد قاعدة للانطلاق في المكان والإنسان فأقام الدولة الإسلامية على أرض المدينة والتي أخذت تتوسع مع تطور الأحداث كما وأقام قاعدة بشرية صامدة قادرة أن تصبح نقطة صامدة للانطلاق في أرجاء الأرض، وقبل أن يرحل النبي (صلى الله عليه وآله) إلى ربه فإنه استطاع خلال السنوات الأخيرة من عمره أن يوجد إمكانيات الانطلاقة الكبرى للإسلام والتي تتابعت حلقاتها في حياته وبعد غيابه.
فالرسول (صلى الله عليه وآله) بذلك أرسى قواعد للعلاقات الدولية قائمة على مبدأ الالتزام بالإسلام والإيمان بالدين الذي يضمن للبشرية الأمن والحياة السعيدة.
وبدأ النبي (صلى الله عليه وآله) يتحلك على الصعيد الدولي بعد أن أنجز المقدمات وبعد أن اطمأن على وضع الإسلام في جزير العرب وبالضبط بعد التوقيع على معاهدة الحديبية فأرسل الرسائل إلى كل من ملك الروم وملك فارس ومقوقس مصر ونجاشي الحبشة وملوك اليمامة وعمان وتضمنت رسائله الدعوة إلى الإسلام وأرسل مع هذه الرسائل سفراء وانتظر ردود الفعل على هذه الخطة حتى ينتقل إلى الخطوة التالية وقد تباينت ردود الفعل على هذه الرسائل وعلى أساسها تم التخطيط للمرحلة الأخرى.
وسنتناول كل علاقة على حدة بصورة مستقلة.
ـــــــــــ
الهامش
1)- سيرة ابن هشام: ص 81/828. الواقدي: 3325326، 358.
2)- ابن هشام: ص 286-287.