محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 37
فقد كانت مناطق الشمال محتلة من قبل الروم ومناطق الجنوب محتلة من قبل الفرس بعد إن كانت خاضعة للحبشة فترة من الزمن.
وقامت سياسة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد فتح مكة على فصل القبائل المسيحية عن الدولة البيزنطية والدولة الفارسية وذلك لتحقيق الاستقلال الكامل لجزيرة العرب حتى تصبح جزيرة اسلامية صرفة لا وجود فيها لأية قوة سياسية بعد أن اندحرت القوة الرئيسية والمتمثلة بزعامة قريش.
وكانت أجواء التحاق مسيحيّ الجنوب بدولة الاسلام مشجعة، فقد كانت أراضيهم محتلة للدولة الفارسية التي تدين بالزرادشتية وكان لها علاقات جيدة مع يهود اليمن، وهي تروّج للعقيدة النسطورية التي ترفض المعتقد الذي يؤمن بطبيعة واحدة للسيد المسيح. وفي عام 628 للميلاد قتل امبراطورية دولة فارس مما سبب ضعفا في الدولة الفارسية. فاستثمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل هذه العوامل وأخذ يتحرك ابتداءاً من عام 630م نحو هذه القبائل بقصد عزلها عن الدولة الفارسية أولا ثم فتح الطريق أمامها لاعتناق الاسلام فدخلوه بأعداد غفيرة .
أما في الشمال فقد كان الأمر أشد أهمية فقد كانت الدولة البيزنطية تراقب عن كثب تقدّم القوات الإسلامية. فكان يحدو القيصر رغبة في ايقاف هذا الزحف متخذاً من القبائل العربية المسيحية التابعة للامبراطورية درعاً لكبح جماح التقدم الاسلامي باتجاه الشمال. من هنا فقد كان على الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يستبق الأحداث ويشل خطة القياصرة قبل أن يتمكنوا من تحقيق شيء يذكر.
فمن القبائل الشمالية التي آمنت بالاسلام:
1- قبيلة تميم، كانت تنتشر في المنطقة الواقعة بين اليمامة والحيرة وتنتمي إلى الكنيسة السورية الشرقية (النسطورية). وأول من اعتنق الاسلام الأقرع بن حابس ومعه عشرة من قبيلته التقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) أثناء فتحه لمكة فأغدق عليه النبي (صلى الله عليه وآله) ومنحه سهم المؤلفة قلوبهم من غنائم معركة حنين وجعله موضع احترام وتقدير، وانتشر الاسلام في تميم وعيّن النبي (صلى الله عليه وآله) مالك ابن نويرة أحد زعماء القبيلة جامعاً للصدقات.
2- قبيلتي بكر بن وائل وتغلب وهما قبيلتان مسيحيتان تؤمنان بطبيعة واحدة للمسيح وكان بينهما حروب طاحنة وكانتا من بين القبائل التي أرسلت وفوداً إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فاستقبلها استقبالاً حاراً وعقد معها حلفاً وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينظر إلى هاتين القبيلتين بنظرة استراتيجية دقيقة فمناطق بكر وتغلب تعتبر مداخل إلى العراق، كما وإن تمرس القبيلتان في القتال جعل منهما قوة عسكرية ذات ثقل في المناطق المتاخمة للحدود الجنوبية لدولة فارس. أضف إلى ذلك أن بكر شاركت ملوك الحيرة في المعركة الفاصلة التي اندحرت فيها دولة فارس عام 611م في معركة ذي قار فقد كسبت من خلال تلك المعركة مكانة سياسية هامة. وبرز من بكر قادة عسكريين من أمثال المثنى بن حارثة وهو من شيبان أحد بطون بكر.
3- حنيفة، وهي من القبائل المسيحية التي كانت تقطن وسط جزيرة العرب وترتبط بروابط حسنة مع الدولة الفارسية، يشتغل معظم أفرادها بالزراعة، يتزعم القبيلة ملك قوي هو هوذة بن علي الذي كان مسؤولاً من قِبَل الدولة الفارسية عن سلامة القوافل العاملة على طريق اليمن_ فارس. وكان طموحه بلا حدود فعندما كتب له النبي (صلى الله عليه وآله) طارحاً عليه اعتناق الاسلام كان رده انه يقبل هذا العرض في حالة تنصيبه ملكاً فيما بعد.
4- لخم، وهي قبيلة مسيحية تعيش في تخوم سورية وكانت تتعاون مع البيزنطيين، آمن قسم من أبنائها من حدس وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يراسلهم باستمرار ويعدهم بالحماية.
5- كلب، وهي قبائل تقيم على طريق العراق وعلى طريق سورية وتحتفظ لنفسها بموقع استراتيجي هام وطالما استخدمت هذا الموقع لضرب القوافل القادمة من المدينة مما أجبر النبي (صلى الله عليه وآله) على ارسال جيش بقيادة عبد الرحمن وطلب منه أن يتزوج ابنة قائد كلب واستطاع عبد الرحمن أن يعقد اتفاقاً مع الأصبغ بن عمرو أن يتزوج ابنته تماضر حسب ما أمره النبي (صلى الله عليه وآله) لتعميق الصلة، ومن أبرز شخصيات هذه القبيلة دحية الكلبي الذي استخدمه النبي كسفير له في المناطق المسيحية.
6- كندة، وكان قسماً منها يعيش في دوحة الجندل بالقرب من منطقة كلب، وهي قبيلة سكون أما القسم الأكبر فكان يعيش في جنوب جزيرة العرب، وكان زعيم هذه القبيلة هو أكيدر بن الملك وكان وجود هذه القبيلة يسبب عدم الاستقرار في خطوط التجارة المتجهة نحو المدينة، فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) قوة من أربعين شخصاً مع خالد بن الوليد تمكنت من أسر الملك أكيدر وفرضت عليه الجزية.
وبالقضاء على هذا الجيب تمكن النبي (صلى الله عليه وآله) أن يفرض سيادته على القبائل المسيحية الشمالية، أما باعتناقهم الاسلام أو بدفع الجزية مقابل توفير الحماية وحرية المعتقد أو بالمواجهة وهي حالة نادرة استخدمها الرسول مع أصحاب الجرائم كجرائم السطو على القوافل.
وعلى العموم النتيجة التي نستخلصها أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يحسب حساباً كبيراً لتلاحم النصارى مع الدين الجديد إلى حد ما استطاع بأخلاقه وتعامله الانساني وبالتوعية وكشف جوانب الانحراف في العقيدة المسيحية أن يكسب إلى جانبه عدداً كبيراً من المسيحين في الشمال والجنوب وأن يعبّد الطريق أمام انتشار الاسلام خارج حدود جزيرة العرب.
السياسة حيال المشركين
تصدّر أهداف الحركة الرسالية ابتداءاً من مكة وحتى فتحها وما بعده مواجهة الوثنية التي كانت مستشرية طاغية فارضة سيادتها على عقائد الناس وعلى علاقات القبائل فيما بينها. فكانت هذه الحركة قد خاضت حرباً حضارية مع الوثنية استغرقت ثلاث وعشرون عاماً، واستعملت فيها كل السبل المنطقية في صراعها المرير في مقابل استخدام الوثنيين لكل ما لديهم من وسائل بطش.
فالاسلام كان قد خاض مع الشرك معركة وجود وانتهت المعركة لصالح المسلمين حيث تغلبت كلمة الحق على الباطل واندحرت الوثنية من جزيرة العرب بعد سلسلة من المواجهات السياسية والعسكرية والاعلامية أحرز فيها المسلمون انتصاراً بعد انتصار حتى توّجت هذه الانتصارات بفتح مكة والذي تم فيه تصفية الوجود السياسي للوثنية الجاهلية.
وقد مرّت المعركة مع الشرك بثلاث مراحل هي:
1- مرحلة انهاك القدرة العسكرية والسياسية والاقتصادية لقريش.
2- مرحلة السلام المشروط.
3- مرحلة التحرير.
- مرحلة الاستنزاف:
وهي تبتدأ من منتصف السنة الأولى للهجرة وحتى فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وهي أهم فترة من فترات التاريخ الإسلامي حيث حفلت بأحداث هامة وخطيرة وحيث شهدت تحولات كبيرة في الخارطة السياسية لجزيرة العرب بعد أن برزت القوة الإسلامية كمعادلة أساسية في هذه المنطقة.
وكانت استراتيجية الرسول في هذه المرحلة تعتمد النقاط التالية:
1- كسب الأصدقاء من القبائل المجاورة فمنذ إقامة الدولة الإسلامية في المدينة والنبي (صلى الله عليه وآله) يسعى لمد جسوره إلى القبائل المجاورة وبالأخص التي تقع على الحدود بين مكة والمدينة، ومن بين القبائل التي دخلت في تحالف مع النبي (صلى الله عليه وآله) قبل قيام المواجهة مع قريش مدلج وضمرة.. كما وأبقى النبي (صلى الله عليه وآله) على التحالفات السابقة التي كانت بين القبائل العربية والقبائل التي دخلت الإسلام فكان بين خزرج وجهينة حلفاً قبل الإسلام أبقى عليه النبي (صلى الله عليه وآله) وكان لهذه القبيلة دوراً هاماً وقوع معركة بدر، فهي تتمتع بعلاقات حسنة مع قريش وقد مكنها موقعها الاستراتيجي أن تشكل عازلاً بين المسلمين وقريش عندما اقتربت القوتان وكادت المعركة تقع لولا هذه القبيلة.
وكان لمزينة حلفاً مع الأوس وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أبقى أيضاً هذا الحلف واستفاد من أبناء هذه القبيلة في بعض الشؤون الاقتصادية كالرعي وما إلى ذلك.
وأيضاً أبقى الرسول (صلى الله عليه وآله) على تحالفات بعض الشخصيات الإسلامية مع القبائل بل كان قد عمل على تعميق هذه التحالفات كما كان بين سعد بن معاذ وبني قريظة من تحالف في الجاهلية أبقى عليه النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن كان له جوار مع أحد القبائل المشركة أو مع فرد من أفراد تلك القبيلة كان أيضاً يستثمر هذا الجوار لقضاء النشاطات السياسية فكان لعثمان جار في مكة هو إبان بن سعيد بن العاص وكان قد أرسله النبي (صلى الله عليه وآله) في مهمة إلى المسلمين في مكة قبل صلح الحديبية ليطمئنهم أن الصلح لن يكون على حسابهم وأن الفتح قريب فذهب إلى مكة تحت غطاء هذا الجوار.
وهكذا لم يترك النبي (صلى الله عليه وآله) وسيلة يستطيع فيها أن يمد جسور التفاهم والتعاون مع القبائل العربية إلا واستخدمها وكان وراء هذه التحالفات أهداف سياسية واضحة فقد استثمر النبي (صلى الله عليه وآله) علاقاته مع القبائل العربية في مواقع سياسية وعسكرية حاسمة كان لها الأثر الكبير في استراتيجيته العامة.
فقد استفاد من علاقته مع مدلج وضمرة في تأمين الجهة الجنوبية للمدينة فقد كانت هاتان القبيلتان بمثابة عازل طبيعي أمام أية محاولة للغزو تقوم بها قريش مستفيداً مما كان بين بني ضمرة وقريش من عداء قديم.
كما واستفاد النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً من تحالفه مع خزاعة عندما انتدب أحد حلفائه من هذه القبيلة بعد معركة أحد وأرسله إلى قريش ليقذف بينهم الرعب وليقول لهم أن المسلمين يتجمعون من جديد ليوجهوا الضربة الانتقامية ضدكم مما جعل زعماء قريش يفكرون بالعودة إلى مكة مكتفين بما أحرزوه من نصر عسكري وكان رأيهم قبل ذلك هو مواصلة الهجوم حتى القضاء على الدولة الإسلامية وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يستفيد من مراكز هذه القبائل في مراقبة قريش أو التصدي لها فكان المسلمون الذين يتولون مهمة الاستطلاع يراقبون خطوط القوافل القرشية من أخبية الجهيني في منطقة الحوراء ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) ليكتفي بالفوائد السياسية التي يجنيها من تحالفاته مع القبائل بل كان يعمل في بعض الأحيان على تسديد النصح والموعظة إلى هذه القبائل مستفيداً من علاقاته الطيبة معها فكان يرسل المبلغين، مثال على ذلك:
قدم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أبو براء عامر بن مالك الملقب بملاعب الأسنة فعرض عليه الرسول الإسلام فأجل ذلك لكنه لم يرفض الإسلام وطلب من النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبعث رجالاً من أصحابه إلى أهل عشيرته وهي عامر بن صعصعة ليدعوهم إلى الإسلام علهم يستجيبوا له وعندما أبدى النبي (صلى الله عليه وآله) تخوفه على مصير المبلغين بعد الذي حدث لهم من غدر في ماء الرجيع قال أبو براء أنا جار لهم فأبعثهم فليدعوا الناس إلى أمري فأرسل معه أربعين من الدعاة وعين مسؤولاً عليهم و المنذر بن عمرو وعندما وصلوا بئرمعونة جاءوا إلى أحد رؤساء العشيرة وهو عامر بن طفيل إلى أحد المسلمين وهو يقدم له كتاب رسول الله اغتاظ فضربه برمح بجنبه خرج من الشق الآخر ثم استصرخ بني عامر أن يقضوا على الدعاة فلم يجيبوه التزاماً بجوار زعيمهم الآخر أبي براء فاضطر لأن يستصرخ بقبائل سليم المجاورة فاستجابوا له وأحاطوا بالمبلغين وحدث قتال شديد لم ينج من المسلمين إلا القليل منهم وعند عودة أحدهم إلى المدينة صادف في الطريق اثنين من بني عامر فقتلهما انتقاماً ممن قتل الدعاة فطلب عامر بن مالك ديتهما فاستجاب له الرسول (صلى الله عليه وآله) فأعطى ديتهما بالنيابة عن القاتل ويلاحظ في هذه الحادثة المأساوية عدة نقاط هامة الأولى :إصرار النبي (صلى الله عليه وآله) على مواصلة العمل والنشاط التبليغي على رغم حادثة شبيهة قد وقعت قبل أيام استشهد فيها أو أسر عدد من الدعاة بنفس هذه الطريقة، لكن من يريد العمل لا بد أن يفكر بالتضحيات ويحسب حساب الخسارة فبدونها لا يتحقق شيء والنقطة الثانية استثمار النبي (صلى الله عليه وآله) جوار أبي البراء في مد جسوره إلى بني عامر فقد كان هذا الجوار غطاءاً أمنياً وفعلاً نلاحظ أن بني عامر لم يستجيبوا لطلب زعيمهم الثاني عامر بن مالك في تصفية المسلمين والنقطة الثالثة هي استجابة النبي (صلى الله عليه وآله) لطلب عامر بن مالك بإعطاء دية القتيلين على رغم ما فعله عامر الذي تحمل دماء ما يقارب أربعين شهيداً من المسلمين فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) عند التزامه وحتى بعد خرق الطرف الآخر لهذه الالتزامات وذلك لكي يحافظ على علاقاته الودية مع القبيلة التي وقفت ذلك الموقف الشجاع ورفضت الانصياع لأوامر أحد سادتها.
2- تعميق الخلافات بين قريش والقبائل الأخرى فقد كان بين قريش وكنانة خلافات شديدة وكادت هذه الخلافات أن تلغي قرار الحرب في معركة بدر وقد وادع النبي (صلى الله عليه وآله) بني ضمرة ومدلج التي كانت تكّن لقريش العداء وهي تقطن المناطق القريبة من مكة.
أما جهينة التي كانت حليفة الخزرج قبل الإسلام فقد حاول النبي (صلى الله عليه وآله) بإبقائه على هذا الحلف أن يحيد هذه العشيرة التي كان لها علاقات طيبة مع قريش ولولا علاقته الجيدة لكانت هذه العشيرة قد دخلت الحرب ضده في غزوة بدر ويذكر لنا التاريخ أن مجدي بن عمرو الجهني حال دون قيام المواجهة بين أبي جهل ومعه مائة راكب من أهل مكة وبين حمزة بن عبد المطلب ومعه ثلاثين راكباً وذلك أثناء مهمة تفقدية كان يقوم بها على شاطئ البحر الأحمر ولولا حياد جهينة لوقع القتال ولقتل عدد كبير من الثلاثين مقاتل على ايدي الكثرة من المشركين.
وكانت خطة النبي (صلى الله عليه وآله) في استثمار خلافات قريش مع القبائل بتطويق قريش بحلقة عازلة تستطيع أن تحد من حركتها سواء العسكرية منها أو الاقتصادية، وأغلب الذين وادعهم النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا يقطنون على حافات الطرق التجارية الذاهبة إلى مكة.
3- ففرض الحصار الاقتصادي اذ كان عماد الحياة في مكة قائم على الحبوب والمنتجات المستوردة من الشام ومن المدينة وفي حالة إغلاق الطرق كان من غير الممكن وصول هذه المواد الغذائية وليس هناك مكان آخر لاستيراد هذه المواد فالطريق من مصر البحر لابد وأن يمر بطريق الجار وهو مرفأ تابع للمدينة(1) وهو خاضع للسيطرة الإسلامية أما اليمن فقد أدت الاضطرابات السياسية والمشاكل المناخية إلى فقدان أهميتها كمصدر للمحاصيل الزراعية فكان ضرب الحصار على هذه الطرق سيؤدي حتماً إلى أزمة غذائية في مكة وسيؤدي أيضاً إلى التأثير في مكانة قريش بين القبائل مما سيخفف من أهميتها على هذه القبائل وبالتالي سيمنح النبي (صلى الله عليه وآله) فرصة لفتح جسور العلاقات مع هذه القبائل.
وكان أول ما قام به النبي (صلى الله عليه وآله) بعد إرساء دعائم الدولة الإسلامية هو إرسال فرق عسكرية باتجهات مختلفة غايتها سلب الحالة الأمنية للطرق التجارية والذي كان سيؤدي حتماً إلى أزمة اقتصادية حقيقة في مكة.
4- استنزاف القدرة العسكرية لقريش..
لم يكن خروج النبي (صلى الله عليه وآله) من مكة نهائياً فمكة هي مهبط الوحي وهي المكان الذي عاش فيه إبراهيم وبنى فيه بيته الحرام ومكة هي مركز جزيرة العرب بدونها لا يمكن الانتشار إلى المناطق الأخرى.
ومن ناحية أخرى فإن وجود قريش كقوة سياسية وعسكرية يحبط أية خطة للتوسع وكان لابد للإسلام من التوسع والانتشار وكان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقيم دولته الكبرى في جزيرة العرب وأن يوصل رسالته إلى الدول الأخرى المجاورة وهو غير ممكن مع وجود قريش كقوة منافسة ولها شرعية دولية لدى السلطات الفارسية والبيزنطية فبدون سقوط قريش لم يك من الممكن كسب الشرعية الدولية.
ومن جانب آخر إن الغاية الأولى للإسلام هي بناء الحضارة ونشر القيم والمثل وتركيز معايير الحق والتعاون والعدالة وهذا كله لم يكن ليتحقق دون الإمساك بالمجتمع وإخضاعه لتوجيه عام وإيجاد الظروف السياسية والاجتماعية المناسبة فكان من أولى مستلزمات بناء الحضارة الإسلامية هو توحيد جزيرة العرب تحت لواء واحد وهو غير ممكن مع وجود قريش العدو اللدود.
فكان لابد من إزالة هذا الكيان، لكن كيف؟ وهنا تكمن المشكلة الحقيقة التي واجهت النبي (صلى الله عليه وآله) فهو لم يكن يريد سفك الدماء في مكة وأن يتحول بيت الله الحرام إلى ساحة للمعارك إذ أن أي قتال في مكة سيخدش حرمة هذا المكان المقدس وإن كل من يقاتل فيه سيكتب في التاريخ أنه تجرأ على قدسية بيت الله الحرام ذلك المكان الذي جعله الله مكان أمن وسلام وهو في غير صالح المسلمين.
ولذلك نلاحظ أن النبي (صلى الله عليه وآله) اعتمد خطة منذ مجيئه إلى المدينة تقوم على إنهاك القدرات الاقتصادية والعسكرية للكيان القرشي لدفع هذا الكيان تدريجياً إلى التلاشي حتى يمكن إخضاعه دون قتال.. ولقد كلفت هذه الخطة زمناً طويلاً دام ثمانية أعوام قضاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جهاد مرير بقضم قوائم الكيان القرشي حتى ينهار هذا الكيان بذاته دون استخدام قوة خارجية ومنذ مجيئه إلى المدينة بدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهيئ نفسه للمواجهة مع قريش لكنها حتمية فأخذ يرسل السرايا نحو طرق المواصلات التجارية لعرقلة سير التجارة من وإلى مكة وقد تطورت الأحداث على أثر فعالية هذه السرايا لتصل إلى مستوى المواجهة المسلحة والتي بدأت بمعركة بدر.
ـــــــــــ
الهامش
1)- بيضون الحجاز والدولة الإسلامية: ص112.