محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 32 - المنافقون
2- الفئة الثانية.. المنافقون:
برزت حركة النفاق في المدينة المنورة بعد قيام الدولة الإسلامية كظاهرة طبيعية وصحية.. أما كيف أنها ظاهرة طبيعية فلأن الإسلام قد أصبح قوي وأصبحت له دولة وقد توسعت رقعة المسلمين في المدينة. كما وأن طريقة التوجيه اختلفت عما كانت في مكة حيث كان التوجيه يتم عبر الاتصال المباشر والمستمر أما في المدينة فلكثرة عدد المسلمين أصبح التوجيه العام هو الأسلوب الممكن في الاتصال بأعداد كبيرة من المسلمين.. وقد أدى ذلك إلى بقاء بعض الترسبات في نفوس من آمنوا فكان إزالتها بحاجة إلى وقت أطول وجهد أعمق.
كما وأن ظهور قوتين متناقضتين قوة الكفر وما يمثله من كيان ومصالح وفلسفة قائمة على عبادة الأوثان وقوة الدولة الإسلامية وما تمثله من مثل وقيم ونظرية فكرية وممارسة عملية جعل البعض يتذبذب ويعيش على الحافة لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك وقد وصف القرآن هذه الحالة..
(مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) (1).
(ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) (2).
ولذا ولادة هذه الظاهرة في المدينة المنورة مع قيام الدولة الإسلامية حيث وجد البعض أنفسهم منجذبين إلى قطبين متنافرين، فالكفر يجذبهم لأنه يضمن لهم مصالحهم المادية ويُبقي على عقائدهم وخرافاتهم والإسلام يجذبهم لأنهم يجدونه القوة المنتصرة ولا يمكنهم إلا مسايرته لأنهم يعيشون في قلبه وبين جموع المسلمين.
هذه هي طبيعة الحركة بصورة عامة أما على صعيد الحركة كأفراد فهناك أسباب أخرى مستقلة ساهمت هي الأخرى في ظهور هذه الحركة فكان لابد أيضاً من معالجة القضية من زاوية الحالات الفردية.
فالدواعي التي دفعت بعبد الله بن أُبي لأن يسقط في مستنقع النفاق ثم يتزعم هذه الحركة تختلف عن الحالات الأخرى للمنافقين.
فعبد الله بن أُبي فَقَدَ مكانته في المدينة بعد قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) إليها، فبعد حرب بعاث بين الأوس والخزرج قررت القبيلتان أن ينهيا المشاكل بينهما وأن يُوليا عبد الله بن أُبي ليصبح ملكاً على يثرب وأخذتا تعدان العدة لإقامة أضخم مهرجان لتتويجه لهذا المنصب لكن مع مجيء رسول الله إلى المدينة تبددت أحلام عبد الله بن أُبي فرأى أن محمداً (صلى الله عليه وآله) قد استلبه ملكه، ولما رأى قومه أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارهاً وظل مصرّاً في قلبه على عقائده السابقة.
أما أنها ظاهرة صحية.. فلأن الدولة الإسلامية كانت موعودة مع بروز هذه الظاهرة في يوم من الأيام فبروزها في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) ساعد كثيراً على معالجتها بصورة عملية يكفل التخلص منها. فظاهرة النفاق تشبه إلى حد بعيد الأمصال التي تزرع في الأبدان للتخلص من الأمراض الخبيثة فهي قد أوجدت في الأمة الإسلامية المناعة من الإصابة بهذا المرض وجعلت المسلمين على يقظة وحذر من الطابور الخامس الذي يزرع التفرقة والشقاق وهي بالإضافة إلى ذلك جعلت المسلمين صفاًَ واحداً أمام التحديات الداخلية التي تواجه الدولة الإسلامية، فمن العناصر الإيجابية في ظاهرة النفاق أنها كشفت للمسلمين عن ثغراتها فسارعوا لسدها قبل أن يندس من خلالها الأعداء فمثل المنافقين مثل المكروب الضعيف الذي يكشف للإنسان عن نقاط ضعفه فيسرع لاتخاذ اللازم ليصبح معافاً سليماً.
ولهذا كان تعامل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع هذه الظاهرة تعامل الرجل الحكيم والطبيب الحاذق والسياسي المتمرس فهو لم يعمل على تصفية هذا الوجود الدخيل بالقوة والعنف بالرغم من قدرته على ذلك فقد جاءته عروض كثيرة لقتل عبد الله بن أُبي وإحدى هذه العروض جاءته من ابنه عبد الله لكنه لم يقبل بها جميعاً لأنه كان ينظر إلى ظاهرة النفاق كظاهرة اجتماعية فهي بحاجة إلى معالجة اجتماعية نفسية أكثر من المعالجة السياسية وهنا تبرز الحكمة القيادية في الرسول الأعظم خلال هذه السياسة.
- برنامج المنافقين في تخريب الدولة الإسلامية:
كان المنافقون ينتهزون كل فرصة من أجل تسديد سهامهم ضد الدولة الإسلامية فكانوا يعملون بصورة جماعية أو أفراداً وكانوا يرمون بسهامهم بصورة مخططة أو بصورة عفوية وقد أتاح تواجدهم بين المسلمين أكبر الفرص للكشف عن ثغرات الدولة الإسلامية ثم الإسراع لتسديد السهم في الهدف وقبل فوات الأوان.
وكانوا يُغيرّون من اساليبهم تبعاً لتغيّر الاوضاع فكانت أساليبهم بعد انتصار المسلمين تختلف عن أساليبهم بعد الهزيمة. كما وان أساليبهم في فترة الاستقرار تختلف عن أساليبهم في فترة تأهب المسلمين للقتال.
وقد ساعدت الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالدولة الإسلامية في تنفيذ مآربهم. فكان يحيط الدولة أعداء ألدّاء فقريش من جانب وثقيف وهوازن من جانب آخر وحتى في الداخل كان المسلمون مهددين بأعداء لا يقل خطرهم عن المشركين هم اليهود، ومن جانب آخر كان الوعي الديني لدى قطاع من المسلمين الذين آمنوا لتوهم هابط فهم قد أصبحوا فريسة للقلوب الجائعة إلى الدغل والتآمر.
ومن جانب آخر كان المنافقين مندسين في صفوف المسلمين فهم غير معروفين للآخرين وكان يصعب على المسلمين تشخيص هويتهم فهم في الظاهر مسلمين ومتفانين في اسلامهم لكنهم في الباطن كانوا يمارسون تآمرهم وحقدهم على المسلمين (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطنيهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزؤون) والأخطر من كل ذلك كانوا يقربون أنفسهم إلى النبي (صلى الله عليه و آله) وإلى المسلمين ويظهرون الحماس والاهتمام المتزايد بالرسالة.
فقد حدثتنا كتب السير ان عبد الله بن أبي كان يجلس كل جمعة أمام الصفوف وينتهز فرصة جلوس الرسول (صلى الله عليه و آله) بين الخطبتين فيقوم ليقول للناس:
أيها الناس هذا رسول الله (صلى الله عليه و آله) بين أظهركم أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزّروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، واستمر على هذا المنوال وحتى بعد ان انكشف أمره للمسلمين فبعد هزيمة أحد وقف ليتكلم في احدى الجمع فقام اليه المسلمون فأخذوا بثيابه من كل مكان وصاحوا اجلس أي عدو الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت.
فقد حاول المنافقون ان يختفوا خلف حاجز كثيف من الأساليب والأعمال الظاهرية غافلين عن أعين الناس التي كانت تراقبهم وترسم علامات الاستفهام حول كل حركة تبدر منهم.
وإذا أردنا أن نحصي اعمالهم المعادية للاسلام في قائمة مرتبة فاننا سنجد أنفسنا أمام منهج متكامل ودقيق في أساليبه وخططه يستهدف تخريب الدولة الإسلامية ووضع العراقيل والعقبات أمامها وسنلاحظ أيضاً ان المنهج المعادي الذي سار عليه المنافقون متنوع في نشاطاته وميادينه وهي:
1- ترويج الشائعات وبث الأكاذيب بهدف تضعيف معنويات المسلمين وزعزعة الثقة بالإسلام وبرسول الإسلام وخصوصاً في أيام الحرب حيث المسلمين مشغولين في الدفاع عن حريم دينهم كان المنافقون يتأهبون تماماً لشن الحرب النفسية ضد المسلمين ففي غزوة الخندق وعندما استولى على المسلمين الخوف من كثرة الأعداء الذين حاصروا المدينة ولم يكن أمام رسول الله إلا ان يرفع من معنويات أصحابه ويبعث فيهم الأمل بسقوط قصور كسرى وقيصر تحت أقدام المسلمين في ذلك اليوم هبّ المنافقون ليقذفوا بسهام حربهم النفسية فأخذوا يسخرون من قول رسول الله (صلى الله عليه و آله) ويثيرون الخوف والهلع في نفوس المسلمين قائلين، كان محمد يعدنا ان نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدهم اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط فنزلت الآية لتصف جانباً من الحرب النفسية..
(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا).
وبعضهم كان يأتي إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) ليأخذ منه الاذن بالعودة إلى أهله مشجعاً الخائفين والمتذبذبين على الانسحاب.. (يستأذن فريقٌ منهم النبي يقولون: ان بيوتنا عورة وما هي بعورة يريدون إلا فراراً).
وعند الهزيمة كانت تقوى سواعدهم للفتك بالمسلمين فبعد معركة أُحد كان المنافقون يشمتون بالمسلمين الذين اشتركوا في المعركة وكانوا يقولون للمسلمين لو كان من قُتل منكم عندنا ما قُتل وأصبح عبد الله بن أُبي يقول عصاني محمد وأطاع الولدان (يقصد الشباب المراهقين) والله لكأني كنت أنظر إلى هذا.
وحتى في حالة الانتصار كانوا ينتهزون كل فرصة من أجل تثبيط العزائم والهمم، فبعد معركة بدر التي انتصر فيها المسلمون عاد المقاتلون إلى المدينة وهم متعبون وهو تعب طبيعي لكل من دخل المعركة لكن المنافقين استغلوا هذا الموقف ولم ينتظروا ليعرفوا نتيجة المعركة فبمجرد أن لاحت اليهم طليعة الجيش العائد من ساحة الحرب وكان في مقدمة العائدين زيد وكانت تلوح عليه امارات التعب والنصب ومن بعيد كانت النساء والشيوخ في انتظار عودة ذويهم وبينهم كان المنافقون يرددون عندما شاهدوا زيد على تلك الحالة قائلين قُتل صاحبكم ومن معه.
وهتف آخر قد تفرق أصحابكم تفرقاً لا يجتمعون بعده، وقتل محمد وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب.
هكذا كانوا يستغلون كل شيء في تبرير نهجهم المعادي للمسلمين محاولين أن يجدوا ولو منفذاً صغيراً لبث الشائعات والاكاذيب وهذا بالضبط ما يفعله اليوم الاعلام المعادي للاسلام والذي يحاول ان يستغل حتى المظاهر الايجابية من الصحوة الإسلامية في بث الدعايات وفي تسمية بعض معالم الصحوة بالارهاب أو التخلف أو التراجع إلى الخلف من أجل تسميم الجو الاعلامي ضد الإسلام.
2- تدبير المؤامرات.. فلم يُضيع المنافقون أية فرصة في تدبير المؤامرات مع أعداء الإسلام في الأوقات الحرجة وهذا ما يؤكد لنا ان المنافقين كانوا يطمحون ازالة الإسلام من الوجود وليس فقط تخريبه من الداخل ففي حصار المسلمين لبني النضير في السنة الرابعة للهجرة وبينما كان المسلمون يتأهبون لاخراج هذه القبيلة اليهودية من المدينة أحس عبد الله بن أُبي بالتخوف من المستقبل فبعث برسالة إلى زعماء القبيلة جاء فيها أثبتوا وتمنّعوا، فانا لن نسلمكم، إن قاتلتم قاتلنا معكم وإن أُخرجتم خرجنا معكم.. وتكشف هذه الرسالة عن نوايا وأهداف جماعة المنافقين فهم من جانب يعملون على تقوية معنويات حلفائهم بدعوتهم إلى التثبيت والمنعة ومن ناحية أخرى يعطوهم عهداً بأنهم سينصرونهم ليثيروا فيهم الاطمئنان وأكثر من ذلك إذا شنوا الحرب فانهم سيشاركونهم وسيعملوا كطابور خامس في صفوف المسلمين وقد جاءت الآية القرآنية لتفضح هذه المؤامرة الدنيئة (ألم ترالى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم).
ولم يكتف المنافقون بهذا القدر من التآمر بل تركزت جهودهم الحثيثة أيضاً على الطرف الإسلامي من أجل تضعيف ارادة القتال وعرقلة تقدم المسلمين نحو تحقيق الانتصار ففي حصار بني قينقاع وبينما كان المسلمون يحاصرونهم لتحقيق كسب عسكري آخر حاول ابن أُبي ان يمنع المسلمين من ذلك فجاء النبي متوسلاً: يا محمد احسن في مواليّ (أي اتركهم وشأنهم) فلم يجبه الرسول فاعاد: يا محمد احسن في مواليّ: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع الرسول وراح يكرر توسلاته.
فردّ عليه الرسول (صلى الله عليه و آله):
ويحك أرسلني.
فأجاب ابن أُبي..
لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، اربعمائة حاسر وثلاثمائة دراع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ اني والله امرؤ أخشى الدوائر.
فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله) هم لك ثم التفت إلى اصحابه قائلاً: خلوّهم، لعنهم الله ولعنه معهم.
والواضح أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن قد استقر رأيه على قتلهم فكان رأيه أن يكتفي باخراجهم من المدينة.. وعلى أثر التماسات ابن أبي اراد الرسول (صلى الله عليه وآله) منحه فرصة أخرى ليغير من نهجه فقال له هم لك لكنه في نفس الوقت لعنه أمام المسلمين حتى لا يستثمر هذا الموقف ويثبت من خلاله شرعيته بادعاء أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد استجاب له.
3- تضعيف القوة العسكرية.. ويرمي المنافقون بكافة سهامهم أثناء التهيّؤ للمعركة مع الأعداء فيصبح كل همهم هو تفتيت الارادة القتالية للمسلمين باشاعة الدعايات لاقناع البعض على عدم المشاركة في الحرب أو دفعهم إلى الانسحاب أثناء التقدم.
ففي غزوة أُحد أخذ عبد الله بن أُبي يثبط العزائم ويثير المخاوف مركزاً على مقترحه بالبقاء في المدينة والقتال فيها وكان يقول اطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس، وأثّرت اقواله في البعض واستطاع أن يقنع ثلث الجيش المتقدم للمعركة بالعدول عن القتال والانسحاب وجرت محاولات يائسة من قبل المسلمين لاعادتهم إلى صف المقاتلين فسعى عبد الله بن عمرو بن حرام الاتصال بالمنسحبين واقناعهم بالعودة قائلاً لهم يا قوم اذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم.
فأجابه بعبارة مستوحاة من دعايات عبد الله بن أُبي..
لو نعلم أنكم لما أسلمناكم ولكنا لا نرى انه يكون قتال.
وعندما باءت محاولاته بالفشل غضب عمرو بن حرام فرد عليهم قائلاً أبعدكم الله اعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه (3) إذ لم تكن الدعايات المضللة ذات مفعول على المؤمنين الصادقين.
وفي غزوة تبوك كرر المنافقون الاساليب نفسها التي استخدموها في أُحد لكن بصورة أوسع وأكثر تركيزاً فقد أقام عبد الله بن أُبي لجماعته معسكراً أسفل معسكر النبي (صلى الله عليه وآله) ومن ذلك المركز أخذوا يبثون الدعايات والتبريرات والمخاوف لتثبيط المسلمين فمرة كانوا يتعذّرون بالحر وأخرى بقلة المؤنة وطوراً بقوة العدو واستطاعوا أن يثيروا البلبلة في صفوف المقاتلين مما دفع بالعشرات ال التخلف عن المعركة قدر ابن هشام عددهم بضعة وثمانين رجلاً ومعظمهم من أصحاب الأموال وضعيفي الايمان الذين لم يستطيعوا أن يكيّفوا أنفسهم مع التيار الإسلامي.. وقد استفاد المنافقون من الجو العام الذي كان يحيط بهذه الغزوة فلم يكن العرب يحلمون يوماً من الأيام بمقاتلة الروم سيما وانهم قد حققوا لتوهم انتصاراً باهراً على الفرس كما وان توقيت الغزوة كان مع شدة الحر وفي الوقت الذي كانت فيه ثمار المدينة قد حان قطافها فلم يكن سهلاً على الاغنياء ترك هذه الفرصة والمضي إلى حرب لا تُعرف نتائجها ولا يعرف ما سيلاقونه في الحر والغربة وكانت الغزوة امتحاناً عسيراً محصّ الله فيه المؤمنين عن المنافقين، ولا ريب ان بعض ضعاف الايمان قد تأثروا بالحملة الشعواء المضادة للحرب التي شنها ابن أُبي وقد ندموا على تخلفهم من بينهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية الذين نزلت في حقهم آية من سورة التوبة قَبِلَ الله فيها توبتهم وسنأتي إلى حكايتهم عند الحديث عن معالجة النبي (صلى الله عليه وآله) لظاهرة النفاق.
4- إقامة كيان في قبال الكيان الإسلامي:
وازداد عدد المنافقين حتى قيل ان عدد من تخلف مع عبد الله بن أبي كان بعدد الذين كانوا مع النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى رغم المبالغة في هذا العدد إلاّ ان الواقع يؤكد على تنامي عدد هذه المجموعة التي استفادت كثيراً من سماحة الإسلام وعفو النبي (صلى الله عليه وآله) المستمر لهم.
وبلغ هذا التجمع حداً ان أوجد لديهم شعوراً بضرورة اقامة كيان في مقابل الكيان الإسلامي ليصطادوا من خلاله المزيد من ضعاف النفوس وكان لا بد من التحرك بصورة غير مثيرة وبالطريقة التي تمكنوا فيها من السيطرة على الرأي العام الإسلامي فأقاموا مسجداً حتى لا تنكشف نواياهم المبيتة وكان وراء قرار بناء المسجد أحد المنافقين هو أبو عامر الراهب وكان قد ترهّب في الجاهلية وقبل ان يقدم الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة ومع اسلام أهل المدينة تظاهر ابو عامر بالإسلام لكن ظل على معتقداته السابقة وبعد ان قوي الإسلام بفتح مكة التجأ أبو عامر إلى ثقيف ليتمكن من هناك التحرك ضد المسلمين لكن لم يمض وقت طويل حتى اسلمت ثقيف فاضطر ابو عامر الخروج من جزيرة العرب والالتحاق ببلاد الشام بعد أن اعلن تنصره وارتداده عن الإسلام وكان أبو عامر على اتصال مع شبكة من المنافقين المنبثين في المجتمع الإسلامي الذين كانوا يأتمرون بأوامره وكان قد كلف اتباعه بناء المسجد وان يجدّوا في امرهم ووعدهم بأنه سيذهب إلى قيصر ويحرضه على ارسال جيش قوي إلى المدينة للقضاء على النبي (صلى الله عليه وآله) ومن معه من المسلمين فكان المنافقون يتوقعون ذلك ولكن الله عجل بهلاكه قبل ان يصل إلى ملك الروم.
وبُني المسجد بأموال المنافقين وأموال المغفلين عن مؤامرات المنافقين كأبي لبابة الذي شارك بالمال فقط وقيل ان مؤسسي المسجد هم اثني عشر رجلاً ذكر المؤرخون اسماءهم وبعد ان أتموا بناء المسجد جاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا له يا رسول الله لقد بنينا مسجداً لذوي القلة والحاجة والليلة الممطرة وانا نحب ان تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فاعتذر النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه كان يتجهز لمعركة تبوك ووعدهم انه سيصلي فيه بعد عودته.
ويفهم من العلاقة بين اقامة المسجد وتهيؤ النبي (صلى الله عليه وآله) لقتال الروم بعد سماعه أنباء عن نية قيصر الروم بالهجوم على شمال جزيرة العرب ومطالبة ابو عامر الراهب الاسراع في انجاز المسجد يفهم من ذلك كله ان بناء المسجد لم يكن الا لغاية أكبر مما ذكره المؤرخون.. فكان وراء بنائه خطة انقلابية للاطاحة بالدولة الإسلامية بالتعاون مع القوى الاجنبية، وكان دور المنافقين في هذه الخطة هو دور الطابور الخامس الذي كان يمهد السبيل للغزو الأجنبي، والذي يؤكد على ذلك المحاولة الفاشلة لاغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) بعد عودته من تبوك وبعد ان انكشف امر المتآمرين واصداره قراراً بهدم المسجد واحراقه فقد كمن عدد من المنافقين في طريق النبي (صلى الله عليه وآله) خلف صخرة ووضعوا خطة لاغتياله عندما يصل إلى العقبة فيلقوه فيها مستفيدين من ظلام الليل لكن شاء الله ان يحبط هذه الخطة كما حبطت الخطط السابقة.
من هذه القرائن نستدل بأن الهدف الذي كان يسعى من أجله المنافقون هو القضاء على الدولة الإسلامية ولم يتركوا فرصة إلا واستفادوا منها.
ـــــــــــ
الهامش
1)- سورة النساء، الآية: 143.
2)- سورة الحج، الآية: 11.
3)- ابن هشام، السيرة النبوية: 174-175.