محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 2 - لماذا نزلت الرسالة في المجتمع العربي؟
لماذا نزلت الرسالة في المجتمع العربي؟
من الضروري إجراء مقارنة تقييمية بين الإنسان العربي والإنسان الفارسي والإنسان الرومي من أجل أدراك أبعاد الاختيار الإلهي لجزيرة العرب لتكون مهداً للحضارة الإسلامية، واختيار سكانها لاحتضان الرسالة الإسلامية، فقد كانت هناك ثلاث حضارات تتاخم جزيرة العرب، حضارة مجوسية في فارس وحضارة بيزنطينية نشأت في بلاد الروم وحضارة كانت في اليمن مهدت لتكوين الحضارات الأخرى.
وكانت مكة تشكل منتصف المثلث الحضاري في ذلك الوقت وكانت الحياة مختلفة تماماً في مكة عنها في تلك المناطق التي شهدت تطوراً نوعياً في الزراعة والصناعة والعمران، فانعكس هذا التقدم على طبيعة الفرد وطبيعة المشكلات التي يعاني منها، وفيما يلي أهم الفروق بين أفراد الجزيرة العربية الذين كانوا يعيشون وسط الصحراء وأفراد الدول الثلاث الذين كانوا يعيشون وسط حضارات متطورة.
- الفارق الأول: في المعتقد:
كان تمسك البدو بمعتقداتهم الخرافية أقوى من تمسك الأقوام الأخرى بالرغم من أنهم كانوا أكثر إيغالا في الخرافة والجهل من الآخرين، ولهذا السبب فإن تغيير هؤلاء المتخلفين كان أصعب من غيرهم وهذا يفسر لنا فشل حملات التهويد والتنصير التي كانت تشنها الدول بقصد تغيير ديانة العرب، فكان تمسك هؤلاء بمعقتداتهم على خرافتها قد افشل كل محاولة لتغيير العقيدة، وتكمن المشكلة في ضعف قابلية العربي على تغيير معتقده وقوة تمسكه به، وإذا ما بدل معتقده إلى معتقد آخر فانه سيتمسك بالعقيدة الجديدة بنفس القوة التي كان فيها قبل ذلك.
- الفارق الثاني: التحمل والشجاعة والصبر..
إنسان البادية أقوى وأكثر تحملاً من إنسان الحضر سيما أولئك الذين كانوا يعيشون حياة الترف في روما وفارس، فبينما يعيش العربي البدوي تحدياً مستمراً مع الطبيعة ويقاسي من خشونة الحياة وجشوبة العيش كان على العكس من ذلك أولئك الذين يعيشون فوق سهول فارهة بالثمار والخضار وعلى مقربة من شطآن الأنهار والجداول.
فكان طبيعياً ان يخرج الإنسان الحجازي أكثر صلابة وأكثر قدرة على التحمل والصبر فكان ترشيحه أقوى لتحمل أعباء الرسالة الإسلامية وما يتبعها من التزامات.
- الفارق الثالث: حيوية الفرد:
حيوية الإنسان العربي في جزيرة العرب هي أقوى من غيره ممن كان يعيش في بحبوحة وترف، والحيوية ناتجة عن حالة الاستنفار الدائم التي كان يعيشها الإنسان البدوي.
فقد صاغت البيئة من الإنسان العربي طاقة خلاقة إذا ما وجهت الوجهة الصحيحة، فكان دائم البحث عن الحياة الأفضل عن المرعى وعن المياه، وقد منحته حالة البحث هذه طاقة إضافية كان من الأولى عليه استهلاكها في وسائل العيش. لكن محدودية الصحراء جعلته محدود النشاط، واضطرته في بعض الأوقات إلى استخدام هذه الطاقة الإضافية في نشاطات مخربة محرمة اجتماعياً كقطع الطرق والغارة على القبائل.
وهناك فرق رابع: هو تعرض المجتمعات التي تعيش في ظل الحضارات إلى التلوث بسبب طغيان النزعة المادية، بينما ظل المجتمع البدوي محتفظاً بخصائصه الطبيعية دون ان يعتريه التلوث الحضاري فقد ظلت صفات الشجاعة والصدق والكرم والوفاء جزءاً من شخصيته.
وكانت هذه الفوارق تعطي الإنسان في الجزيرة العربية الأولوية في احتضان الرسالة الإسلامية، فأولا: لأن المجتمع العربي كان أحوج من غيره إلى رسالة سماوية بسبب ما بلغه من انحطاط اجتماعي وتردي عقيدي.
وثانياً: إقناع الإنسان العربي الموغل في الجهل سيعني ان للرسالة القدرة على إقناع غيره ممن يعيش حياة أفضل متنعماً بالوعي والشعور والإدراك.
وثالثاً: كان من الضروري للرسالة الجديدة وهي في انطلاقاتها ان تبحث عن أشخاص يتسمون بالشجاعة والجرأة وقدرة عالية على التحمل ويمتلكون طاقة مستنفرة تمكنهم من مواجهة أعباء المسؤولية ويصبحون حملة للحضارة الإسلامية إلى الأمم الأخرى، وهي حالة لم تكن لتتوفر إلا في جزيرة العرب، فما كان على صاحب أية دعوة جديدة إلا إزالة التراكمات الجاهلية وإعادة الإنسان العربي إلى فطرته ثم ترسيخ الفضيلة فوق تلك الأرض التي باتت مهيأة لاستقبال بذور الخير بعد ان كانت أرضاً جرداء لا تنبت سوى الشوك.
هذه الحقائق تدفعنا إلى الاعتقاد بان هناك أسباباً قد تكون واضحة في اختيار جزيرة العرب كمهبط للوحي فأرضها اخصب (للرسالة) من أية أرض أخرى بالرغم من جدبها، فإذا استقبلت بذرة الرسالة فإنها ستنمو بسرعة وستعطي ثمارها بسرعة أيضاً، فمثلها مثل الأرض الخصبة التي يخصصها الفلاحون لزراعة البذور في المرحلة الأولى ثم يتم نقلها على شكل نبتة إلى أماكن أخرى.
وأرض الجزيرة العربية أرض خصبة لكنها كانت بلا (زارع) فنمت فوق أرضها كل شجرة ضارة وأعطت ثماراً ضارة أيضاً.
فمثل هذه الأرض بحاجة إلى مزارع من نمط خاص يستطيع ان يقلع تلك الأشجار الضارة ويزرع مكانها أشجاراً باسقة ومثمرة.
ورابعاً: جزيرة العرب هي مهد الرسالات، ومكة هي موطن الأنبياء، فليس هناك من عجب ان ظهر نبي جديد على هذه الأرض التي طالما حملت مشعل النبوة والخير.
الانجذاب
تحكم التخلف بالمجتمع الجاهلي إلى درجة أغلق مسامع العربي عن كل شيء جديد، واغرقه في مستنقع من المعتقدات البالية بحيث لم يكن بمقدوره مشاهدة الحقيقة وهي ماثلة أمامه كالشمس في رابعة النهار.
ويذكر لنا التاريخ ان محاولات عديدة جرت لتغيير معتقدات ذلك المجتمع، لكنها اصطدمت بالإرادة المتكلسة لذلك الإنسان الجاهلي الذي ظل محافظاً على خرافاته معتقداً بها وكأنها جزء من شخصيته.
فعلى رغم ما كان يربط الإمبراطورية البيزنطية بالعرب من روابط وما كانت تقوم به من محاولات لنشر المسيحية في البلاد العربية وعلى رغم ما بذلته الجماعات اليهودية من مسعى لتهويد العرب فقد ظل سكان هذه البلاد متمسكين بمعتقداتهم إلا حفنة ممن اعتقد باليهودية والنصرانية لتمشية مصالحه، أما السواد الأعظم من سكان الجزيرة فلم ينجذبوا إلى هذه الديانات إلا اللهم بعض من تأثر بنصارى نجران الهاربين من سطوة اليهود الذين حكموا اليمن في فترة سابقة وهناك من تأثر باليهودية وهم عرب اليمن وبينهم ذو نؤاس الحميري أحد ملوك اليمن، وذكر في التاريخ ان الملك الحميري هو الذي قام بغزو نجران وقتل عدداً هائلاً من المسيحيين ويذكر المؤرخون الحادثة بهذا الشكل..
كان هناك مبشر مسيحي اسمه قيميون أظهر المسيحية فيها ودعى الناس إليها وتظاهر بالصلاح وحماية الفقراء فإذا سمع بمريض قصده ووعده بان يدعو الله شرط ان يصبح مسيحياً وإذا ما رأى فقيراً أعطاه ما يسد حاجته حتى استطاع ان ينصر أهل نجران، وقد أثار ذلك الملك ذونوءاس اليهودي الذي قرر إعادة المنطقة إلى الديانة اليهودية فهاجمها وقتل الآلاف في الأخدود.
وهناك حكايات كثيرة عن انتشار النصرانية واليهودية في الممالك التي تحيط بالجزيرة العربية كالحيرة التي كانت خاضعة للدولة الفارسية ودولة الغساسنة التي كانت تابعة لبلاد الروم، ومما يستخلص من كل ما ذكره المؤرخون ان الدول القوية كانت تحاول طيلة القرنين الخامس والسادس الميلادي ان تتسلل إلى منطقة الحجاز لفرض عقيدتها على القبائل العربية لكنها كانت تصطدم بجدار الوثنية وما كانت بقادرة على اجتياز المدن القريبة منها، ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة مجتمع الجزيرة وقوة تأصل الوثنية فيه، فعملية تغيير هذا المجتمع من الحالة الجاهلية إلى واقع آخر لم تكن بعملية سهلة ولم يكن بمقدور أي دين غير الإسلام، وأي رجل غير محمد (صلى الله عليه وآله) بقادر على القيام بأعباء هذه المهمة.
أما تغيير بعض العرب المحيطين بالجزيرة العربية لمعتقداتهم، فهناك أسباب واضحة وراء ذلك فقرب هؤلاء إلى الدول المتحضرة جعلهم أكثر تحضراً من عرب الحجاز وبالتالي كانوا أسهل اقتناعاً لأي معتقد أكثر تطوراً من الوثنية، كما وان بعض هؤلاء العرب كما هو الحال في دولة المناذرة والغساسنة واليمن كانوا يخضعون للاستعمار البيزنطي أو الفارسي الذي كان يفرض معتقداته على رعاياه من موقع القوة وبالتالي فلا تقيد بوضعهم العقيدي كقاعدة عامة بل القاعدة هي تكلس هذا المجتمع على معتقداته ورفضه لأي معتقد آخر إلا في حالة واحدة، وهي انجذابه لدين جديد يستطيع ان يسيطر على القلوب ويلمس الضمائر ويفتت العقيدة الوثنية الصماء، فأي دين يستطيع ان يجذب هذا الوثني وينتشله من الحضيض إلى القمة؟ وأي رسول يستطيع ان يقلب الصخرة الصماء إلى قلب نابض بالحياة؟
بالتأكيد ليس هناك غير الإسلام ديناً وغير محمد رسولاً، ولذا وجدنا بعض زعماء العرب يتفاجؤون بقوة محمد (صلى الله عليه وآله) وهو يثير فيهم سؤالاً ما انفك يؤرقهم هو كيف استطاع محمد (صلى الله عليه وآله) ان يغير هذه الهمج الرعاع ويحولها إلى مجتمع متحضر.. فاعتقد البعض انه ساحر واعتقد آخرون انه كاهن أما أصحاب البصائر فلم يتجاوزوا حدود ما رأته أعينهم ووعته قلوبهم انه ليس إلا رسول من رب العالمين.
لم ينجذب العرب إلى الرسول والرسالة في عشية وضحاها، فقد سبقت البعثة مقدمات حاكتها يد الأحداث كانت قد أوصلت خيوط الجذب إلى المركز في السابع والعشرين من رجب من عام 622 للميلاد فقد اشتركت عناصر كثيرة في تركيب الحدث القوي الذي قلب الإنسان العربي وجعله يقف بصورة معتدلة.
وعندما قامت الدعوة كان العرب على أهبة الاستعداد ليسمعوا ما يقوله الرسول إلا النفر الضال من المترفين المستكبرين، وانجذاب العرب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) تم قبل البعثة ومر بثلاث مراحل:
أولاً: الانجذاب إلى مكة..
ثانياً: الانجذاب إلى بني هاشم..
ثالثاً: الانجذاب إلى شخص الرسول (صلى الله عليه وآله)..
- أولاً: الانجذاب إلى مكة.
لم يكن في مكة ما يثير الاهتمام ويشكل عنصر جذب لدى سكان الجزيرة العربية، فلم تكن مكة أكثر من أرض صفراء محترقة بأشعة الشمس وسط صخور وجبال فقد افتقدت هذه الأرض كل ما يشكل عنصر جذب كوجود الماء أو الكلاء أو الأرض الصالحة للزراعة.
وبدأ الاهتمام بمكة يوم أقام إبراهيم وابنه إسماعيل البيت الحرام كمنطلق للتوحيد فأخذت الجماعات تفد إلى هذا المكان للإقامة حول البيت، واتخذ إسماعيل مكة مكاناً للسكن فتزوج من قبيلة جرهم إحدى القبائل الوافدة إلى مكة، وأغناه الله بالبنين الذين اصبحوا دعاة للتوحيد وظلت قيادة مكة بأيدي جرهم حتى هزيمتهم أمام خزاعة التي سيطرت على مكة وبدأت الفترة المظلمة من حياة هذه المدينة.
فقد حدثنا التاريخ ان عمرو بن لحي الخزاعي هو أول من غير الإبراهيمية بنصبه الأوثان في الكعبة وادخل عبادة الحيوانات إلى المجتمع العربي، ويعود السبب في ذلك إلى تأثر عمرو الخزاعي بعبادة الاوثان أثناء إحدى رحلاته إلى الشام فرأى أهلها يعبدون الأصنام ففتن بها وجلب بعضها إلى مكة فنصبها وأمر الناس بعبادتها وتعظيمها، وقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) انه قال في عمرو الخزاعي: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبة في النار كان أول من سيب السوائب).
وباتت مكة من ذلك العهد تغفو اغفائتها المعروفة في التاريخ فقد خرجت من دائرة الضوء وأصبحت مدينة عادية كأية مدينة أخرى، وخف الاهتمام بها والانجذاب إليها. واستمرت الإغفاءة حتى عهد قصي بن كلاب الجد الخامس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فانتقلت وفي منتصف القرن الخامس الميلادي من طور البداوة إلى طور الحضارة المدنية فقد استطاع قصي ان يتغلب على خزاعة وان يزيحها عن البيت الحرام في قصة تاريخية مذكورة في كتب السير.
وأخذ بعد أستتاب الأمر يرسي أركان حضارة محدودة على تلك الأرض فانتشر العمران وحلت البيوت المرصوصة بالحجر أو المبنية بالطين والحجر محل الخيام والاخبية، وانطلقت الحركة العمرانية مما يلي المسجد الحرام إلى بطحاء مكة , وكان أهلها يبنون بيوتهم أول الأمر بصورة لا تستوي على سقوف مربعة احتراماً للبيت، ثم غيروا عقيدتهم في ذلك فلم يروا بأساً أن يرفعوا أسقف منازلهم إلا أنهم كانوا لا يرفعون بيوتهم عن الكعبة.. وأخذت مكة تتطور وتنمو في ظل النظام الذي أقره قصي، فقد جاءته قريش والتفت من حوله فقسم الأرض إلى رباع وهي المنازل وما حولها فانزل كل جماعة من قريش في مكان مخصص.
وإلى جانب النظام العمراني والسكاني انشأ قصي داراً للندوة وكانت ملاصقة بالمسجد الحرام، وجعل بابها إلى المسجد وهي دار للشورى ودار للحكم والادارة، ولم يكن يدخل دار الندوة من غير بني قصي إلا ابن أربعين سنة وكانت الدار خاصة بهاشم وأمية ومخزوم وجمع وسهم وعدي وأسد ونوفل وزهرة، وأخذت مكة تشق طريقها إلى عالم جديد بعد ان وضعت قدمها على عتبة الحضارة وبعد فترة من عهود التخلف والظلمات أخذت تتقدم في مجالات مختلفة وأبرز هذه المجلات هي النشاط التجاري فقد ساعد على بروز هذا النشاط الموقع الهام الذي تحتله مكة، فقد كانت في منتصف الطريق بين الحضارات الثلاث وهمزة الوصل بين التجارة الذاهبة والقادمة من اليمن إلى الشام وبالعكس ومن اليمن إلى بلاد فارس وبالعكس، فكان التجار ينقلون من اليمن الجلود والبخور والثياب ومن العراق التوابل ومن الهند الذهب والقصدير والعاج وخشب الصندل والتوابل والزعفران، ومن مصر والشام الزيوت والغلال والأسلحة والحرير والخمور وينقلون من افريقيا الصمغ والعاج والتبر وخشب الأبنوس، فكانت تجارتهم عامرة في كل زمان في الشتاء والصيف وقد أدى هذا النشاط إلى نمو طبقة من أصحاب الأموال الطائلة من المترفين الذين كانوا يستخدمون أموالهم في نشاطات مختلفة بالإضافة إلى التجارة.
وازدهرت الحياة الأدبية في مكة وبرز فيها شعراء عمالقة في الشعر والأدب،وهوى البعض علوماً أخرى كالتفرس والعيافة ومعرفة النجوم والأنواء، وكان المكيون يحتقرون الصناعة ويحتقرون من يعمل فيها لكن هناك عدد كثير ممن مارس مهنة الصناعة كصناعة البناء والسيوف والدروع واشتهر الخباب بن الارت في صناعة السيوف.
ومع تزايد رؤوس الأموال ازداد تألق مكة بين العرب وازدادت الحاجة إلى تخصيص أماكن لمزاولة النشاط الاقتصادي فكانت الأسواق التجارية إلى جانب البيت الحرام وكان العرب يهرعون إليها من كل مكان ومن أبعد نقطة في الجزيرة فكان سوق للعطارين وسوق للفاكهة وسوق للرطب وخصص مكان للحجامين والحلاقين ومكان آخر لبيع الحنطة والعسل والحبوب وكان هناك زقاق للحذائيين وسوق للبزازين ووصل الأمر في هذه المدينة إلى تخصيص أماكن للترفيه عن الناس تستخدم كمنتجع في شهور القيظ.
وكانت ترسل من مكة هدايا إلى الملوك والحكام واشتهرت بإنتاج الأدم وهي الجلود، ويذكر لنا التاريخ أن قريشاً أرسلت الأدم إلى النجاشي ملك الحبشة لاسترداد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة.
وتحولت مكة وخلال فترة قصيرة إلى عاصمة للجزيرة العربية وتفوقت في تألقها وسمعتها على مملكة الحيرة وغسان، وأصبحت تتنافس في زعامة العرب عاصمة اليمن صنعاء وبسبب هذا التنافس خشي ملوك اليمن على سلطتهم وبسببه قامت واقعة الفيل عندما قرر أبرهة القضاء على مكة وإخضاعها لسيطرته، فخرج بجيش من الفيلة قاصداً مكة راغباً في تخريب البيت الحرام، وما ان وصل إلى مكان قريب حتى أرسل الله بجيش من الأبابيل أخذت ترميهم بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول كما ورد في القرآن الكريم.
وانتشر خبر الواقعة بين العرب وغير العرب وعظمت مكة مرة أخرى في أعين الناس أثر هزيمة أبرهة، فقد تجلت أمامهم عظمة هذه المدينة المقدسة وعظمة ما تحتضنه وهو بيت الله الحرام الذي قال عنه عبد المطلب يوم سأله أبرهة قال مختصراً: وان للبيت رب يحميه.
وأصبح لمكة بعد تلك الواقعة قدسية لا حدود لها لدى العرب الذين أخذوا يؤرخون الأحداث من ذلك العام الذي سمي بعام الفيل وهو أيضاً العام الذي ولد فيه سيدنا ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وهو عام (570 للميلاد)، لقد كانت هناك يد الهية ترتب كل شيء وتضع كل شيء في مكانه المناسب، فقد وصلت مكة بعد حادثة الفيل إلى قمة الشهرة وأخذ الناس يترقبون أخبارها وأنبائها ويتحدثون عن كل صغير وكبير فيها وأخذت تتلألأ فوق مسرح الأحداث، وأصبحت المدينة بمن فيها وبما فيها تموج بالأضواء الساطعة، وكان في قلب كل عربي حنين قوي إلى مكة ودافع قوي لأن يزورها ويتصيد أخبارها.
وكانت هذه المقدمات هامة للغاية قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) فحيث لم تكون هناك أجهزة اتصال سريعة وكان من المفترض ان تصل أنباء الرسالة إلى أبعد إنسان في الجزيرة بل إلى أبعد إنسان في ذلك العالم، وكان ذلك أمر مستحيل لولا وجود عناصر الجذب التي كانت تدفع بالإنسان العربي لأن يترك بيته وعياله ويقطع المسافات الطويلة ويرتحل بين الفيافي والهضاب ليصل مكة بعد شهور وسنين من أجل أن يتعرف على تفاصيل خبر البعثة التي انتشرت في زمن قياسي في أرجاء وسيعة من جزيرة العرب.