محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 19
فقد وضع النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة الخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي أخذ يتشعب بمرور الزمن وبازدياد الحاجات الحياتية ونلمح من هذه البادرة التي قام بها الرسول (صلى الله عليه وآله) ضوابط عديدة استهدفت تنظيم مصادر الثروة بحيث تصبح الثروة أداة محركة للاقتصاد والاتجاه الذي يكفل سعادة أبناء المجتمع.
فالاقتصاد الإسلامي يوصل المجتمع إلى العدالة في مختلف ميادين الحياة على عكس ذلك الاقتصاد الذي كان سائداً في الجزيرة قبل الإسلام فقد كان يرتكز على تثبيت مراكز أصحاب الأموال من أرباب التجارة والعقار والذي كان يؤدي بهذا المجتمع في نهاية المطاف إلى الاحتكار والربا وتحكم المظاهر السلبية بتلابيب المجتمع.
وعند تقصي معالم الاقتصاد الإسلامي في العهد المدني نجد أنفسنا أمام عدة ضوابط أقامها الإسلام كسد منيع أمام تبذير الثروة منها تحريم الربا، فقد حدد الإسلام طرقا مشروعة لكسب الثروة وعلى رأسها العمل ورفض الاعتراف بالطرق الأخرى التي كانت سائدة في المجتمع ومنها الربا لأن الربا كسب سهل ليس عن طريق عمل مؤثر في الحياة الاقتصادية وهو ما يريده الإسلام.
وإذا عرفنا ان معظم الأرباح الناجمة عن الربا تذهب لجيوب غير المسلمين وهم اليهود عند ذاك سندرك المغزى السياسي والاقتصادي لتحريم الربا مع أول حركة لتنظيم الهيكل الاقتصادي فقد نزلت هذه الآية الكريمة:
((فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ، بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ)).. وقد أدى إلغاء الربا إلى خروج زمام الاقتصاد في المدينة من أيدي اليهود إلى أيدي المسلمين الأمر الذي منحهم فرصة إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية على أسس إسلامية بعيدة عن مركز القوة الاقتصادية اليهودية، فقد دفع الإسلام الحياة الاقتصادية بعيداً عن الربا أو المقومات التي تنتهى إلى الربا معتبراً الربا مرضاً يصيب الجسد الاقتصادي لأية أمة فقد ورد في القرآن الكريم ((يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا)) فليس للربا أي مردود اقتصادي نافع وكان قد تفشى في جسد المجتمع الجاهلي بحيث اصبح له أشكالا وصوراً مختلفة وذا تفريعات عديدة لا تشمل فقط المال بل الأرض والسلع الإنتاجية أيضاً.
وقد روى عبدالله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله) الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها.. مثل ان ينكح الرجل أمه وأن أربى الربا من الرجل المسلم، والحديث ينوه عن الآثار الاجتماعية العظيمة التي تظهر نتيجة انتشار الربا.
واوقف الرسول (صلى الله عليه وآله) التعامل بالمخابرة التي كانت رائجة في عهد قبل الإسلام وقد جاء عن زيد بن ثابت.. نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن المخابرة قلت: وما المخابرة؟ قال: ان تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع فالإسلام يريد للزارع ان يهنأ بمحصوله وان يصبح مالكاً للأرض التي أحياها فهذا هو السبيل لربط الإنسان بالأرض ودفعه للعمل عليها، أما العمل على قاعدة المخابرة أو العقود الملغاة الشبيهة بها كالعينة والملامسة والمزابنة والمحاقلة فهي لا تشجع على إيجاد هذه العلاقة وبالتالي لا تزيد من الإنتاج بل تعرقل مسيرة الإنتاج من هنا سارع الرسول إلى إلغائها.
وحرم على المسلمين شرب الخمر وتعود أسباب تحريم الخمر إلى عوامل اجتماعية فهو يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، كما جاء في الآية الكريمة بينما يريد الإسلام ان يبني مجتمعاً نظيفاً خالياً من العُقد والعداوات ومن ناحية أخرى هناك أبعاد اقتصادية لتحريم الخمر فهو شراب كان يستورد من الشام والعراق وتكلف تجارته مبالغ طائلة حتى يصل إلى أيدي المستهلك في المدينة ومكة كما وان الرابح من هذه التجارة هو التاجر الوثني الذي يقوم بعملية الاستيراد.
فجاء تحريم الخمر ضربة اقتصادية موجعة لهؤلاء التجار بالإضافة إلى انه وفر الكثير من الأموال التي كانت تبذر على هذه المادة.
وبعد إقامة السدود المنيعة منح رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحياة الاقتصادية دفعة قوية من خلال ربطه للحلقتين الاقتصاديتين الإنتاج والبيع فقال (صلى الله عليه وآله) (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) وذلك عندما سؤل (صلى الله عليه وآله) أي كسب أطيب.
فكلما بذل المسلم من عرقه وجهده هو أقرب إلى الإيمان والإسلام وأطيب شيء يتناوله الإنسان هو ان يأكل ما أنتجته يده وبنفس هذا الاحساس يبيع ناتجه لا لكي ينتفع بالربح بل لكي يسدي لبني جنسه اجل خدمة.
فالاقتصاد في خدمة المجتمع هذا هو المبدأ الذي سعى لتطبيقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ان كان المجتمع في خدمة الاقتصاد في بعض حواضر جزيرة العرب... فهو يندفع نحو العمل من اجل رخاء المجتمع وليس إسعاد نفسه فقط، فقد كانت أقواله (صلى الله عليه وآله) تستثير فيهم الهمم.. طَلبُ الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة.. ومن أكل من كد يده نظر الله إليه بالرحمة ثم لا يعذبه أبدا.. ومن أكل من كد يده حلالاً فتح له أبواب الخير يدخل من أيها يشاء.. وجاء في الروايات ان الرسول (صلى الله عليه وآله) رفع يوماً يد عامل مكدود فقبلها تقديراً للعمل واخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ان أزال التراكمات يوجه أنظاره نحو تنظيم الحياة الاقتصادية بصورة تكفل حركة المجتمع نحو الرقى والتقدم، فوضع قاعدة للتبادل على أساس عملة موحدة بعد ان كان التعامل الاقتصادي يتم على أساس تبادل بضاعة بأخرى.
فقد روى أبو سعيد الخدري ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكلَّ تمر خيبر هكذا فقال لا والله يا رسول الله انا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً.
فيفهم من هذا الحديث ان تبادل البضاعة كان شائعاً فمنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووضع عوضاً عنه أسلوب جديد في التعامل هو العملة.. وفي بعض الأحيان كان يتم التبادل بين البضاعة الواحدة في مستويات مختلفة من الجودة.
فعن أبي سعيد الخدري أيضاً ان بلالاً جاء النبي (صلى الله عليه وآله) بتمر فقال النبي من أين هذا؟ قال بلال كان عندنا تمر رديء منه صاعين بصاع.
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) أو عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت ان تشتري بع التمر ببيع آخر ثم اشتر به وبهذه الخطوة حرر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحياة الاقتصادية من قيود كثيرة وبعث النشاط في شرايين التجارة الداخلية فأصبح لا يقلق على بضاعته لأنه سيبيعها في مقابل ثمن وليس في مقابل بضاعة يحتاجها ولا يجد فيها حاجته، لقد أحدثت هذه الخطوة قفزة نوعية في النظام الاقتصادي في المدينة المنوره وجعلته يسير بحركة ثابتة وقوية نحو تكميل الحلقات الأخرى للعملية الاقتصادية.
ومن الخطوات الأخرى في تنظيم الحياة الاقتصادية إقرار رسول الله (صلى الله عليه وآله) المكيال لأهل المدينة كما وانه أقر الميزان لأهل مكة وتتجلى الحكمة في هذا القرار ان أهل المدينة ينتجون الحبوب والتمور وهي تحتل مساحة واسعة من نشاطهم الاقتصادي بينما تعتمد الحياة الاقتصادية في مكة على المنتجات المستوردة من الخارج وهي توزن بميزان فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة (1).
- الخزينة...
وقد جرت العادة في الجزيرة العربية ان يقبض رئيس العشيرة ربع أرباح عشيرته وجاء الإسلام ليلغي هذه الضريبة التي لم يكن ليستفيد منها سوى شخص واحد، وسن نظاماً للضرائب يكفل إقامة خزينة الدولة.
فالدولة التي لها خزينة مملوءة بالأموال أقدر على تنفيذ برنامجها على صعيد إسعاد البشر.. وقد أولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهمية كبيرة لإنشاء خزينة مالية للدولة تستطيع ان توفر الاحتياجات المستمرة، وشرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في توفير السيولة المالية بالدعوة إلى الإنفاق وقد حث القرآن الكريم المسلمين على الإنفاق في آيات كثيرة.
((وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)) (2).
((وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)).
((فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)) (3).
((قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً)) (4).
فهناك بالإضافة إلى ما تقدم عشرات الآيات القرآنية التي ورد فيها الحث على الأنفاق بهذا اللفظ وبألفاظ أخرى.
ومن جانب آخر منع الإسلام اكتناز الأموال ((وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)) (5) فالفائض يجب ان ينفق في سبيل الله.
وقد وعد القرآن الكريم المنفقين أجراً كبيراً ((وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ...)).
ومع نمو الثروة وزيادة الإنتاج شرع الإسلام ضريبة الزكاة على الأرض وعلى النقود وعلى الثروة الحيوانية وشرع الخمس على الأرباح وبها وضع الإسلام أسس الخزينة المالية التي أصبحت المعول الأول لمشاريع وبرامج الدولة بالإضافة إلى سد العجز في دخل الأفراد الفقراء فقد كان رسول الله يدفع من بيت المال الدية عمن لا يمتلك الأموال اللازمة.
واخذ النظام الاقتصادي يتطور مع تشعب النشاط الاقتصادي وبالاتجاه المتجانس مع تطور الأوضاع ليحفظ لهذا المجتمع العدالة والمساواة فقد جاء عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ما جاع فقير إلا بما مُتع غني فقد أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) أروع نظام اقتصادي يقوم على أساس معالجة مشكلة الفقر إما بالتحريض على العمل أو بحل المعضلات الاجتماعية المانعة عن العمل أو ما شابه.
لقد بنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجتمع الغنى عندما رفع مستوى الفقير إلى مستوى الغني فهو القائل:
نِّعم العون على تقوى الله الغنى، بعكس النظام الاشتراكي الذي يعمل على إزالة الفوارق بين الفقير والغني بجعل الغني فقيراً وتكون النتيجة هو المجتمع الفقير لا الغني، وبذلك استطاع الإسلام ان يوجد قوة ذاتية في هذا المجتمع يمكنه من أداء مسؤوليته التاريخية بين الأمم، فالاقتصاد القوي يمكّن المسلمين من مواصلة العمل لاجتثاث جذور الوثنية والشرك ليس في جزيرة العرب وحسب بل في العالم بأسره.
ثالثاً: الاستعداد العسكري:
لم يك بدا من الصراع فالإسلام دين التحرر والثورة على القيم والأعراف الجاهلية وكان من الطبيعي ان يقف الكفر كله في مواجهة الإسلام حاملاً الدعاية والسلاح والقوة.
كان المستقبل واضحاً أمام رسول الله فالكفر سوف لا يتهاون مع الرسالة الإسلامية وإذا استطاع الإسلام ان يخرج من مكة سالماً بالأساليب الحكيمة وإذا تمكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان ينجو من أيدي المشركين بالمعجزة فان هذا الوضع سوف لا يستمر إلى الأبد إذا لم يستعد المسلمون الاستعداد الكافي كان على المسلمين ان يحسبوا حساب ذلك اليوم الذي ستقدم فيه قريش للقضاء على الإسلام فالأيام القادمة أيام عصيبة وهي تحمل في طياتها مفاجآت كثيرة واحتمالات عديدة كان لا بد من الاستعداد لها وإلا فان مصير هذا الكيان مهدد بالخطر فلقد شاءت إرادة الله ان تجري الأمور بأسبابها وكان بمقدور هذه الارادة ان تؤمن الحماية الكافية للمسلمين وان تتحمل عنهم أعباء الدفاع والمواجهة مثلما حدث ذلك في مواقع كثيرة حيث تدخلت فيها إرادة الله لحسم الموقف لصالح الإسلام.. لكن شاءت إرادة الله ان تصبح هذه الجماعة قدوة لأية جماعة اخرى تأخذ على عاتقها مسؤولية الرسالة وتتقدم لحمل الراية فكان على هذه الحركة ان تمضي في طريقها بصورة طبيعية لتخزن في أعماقها تجربة رائدة تبقى آثارها لآخر الزمن.
كان على الجماعة ان تتهيأ للصراع المرير مثلها مثل النبتة التي تشق طريقها بعنت بين الحصى والتراب من اجل ان تخرج من باطن الأرض إلى السماء فالنبتة التي لا تقاوم التربة تقبر حتى النهاية ولا يرى لها من أثر.
ومنذ ان شعر رسول الله (صلى الله عليه وآله) باستحالة البقاء في مكة أخذ يخطط لمرحلة المواجهة المنتظرة فاختياره ليثرب مكاناً لإقامة الدولة كان يحمل مؤشراً بأن صراعاً مريراً ينتظر الدولة فالمقومات الجغرافية للمدينة تمنحها القدرة والمقاومة وتحصنها ضد الهجمات الخارجية.
وبعد تعيين الأرض كان لا بد من تأسيس العلاقة بين أفراد الجماعة على مبدأ المواجهة والصراع وكان ذلك بداية لإرساء القوة العسكرية للكيان الإسلامي.
1- بيعة على الجهاد
إذا ما تتبعنا تطور نشوء الجماعة الإسلامية في المدينة للاحظنا تزايد عدد المسلمين في فترة البيعة الأولى فعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على تغيير أسلوب البيعة في العقبة الثانية فطلب من المسلمين ان يمنعونه بما يمنعون به نساءهم وأبناءهم، فمد البراء بن معرور يده إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلاً.. بايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
ووقف العباس بن عبادة ليقول..
يا معشر الخزرج أتعلمون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فان كنتم ترون انتم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن فدعوه فهو والله ان فعلتم خزي الدنيا والآخرة وان كنتم ترون إنكم وافون له ما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
فأجاب القوم: أنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا يا رسول الله ان نحن وفينا بذلك؟ فرد عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) قائلاً: الجنة (6).
فبايعوه بأجمعهم على ذلك.
وكانت تلك بداية التهيأة لفصل جديد من تاريخ الحركة الإسلامية وظهرت نتيجة هذا الاستعداد سريعاً.. فعندما أحس المسلمون المجتمعون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) انهم مراقبين من قبل الأعداء وقف العباس بن عبادة ليقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والله الذي بعثك بالحق ان شئت لنميلنَّ على أهل منى غدا بأسيافنا فقال لهم لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم فرجعوا إلى مضاجعهم.
وبهذه البيعة وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجر الأساس لبناء قوة مقاتلة مهمتها حماية الدين في قبال ثمن باهظ هو الجنة.. ويتجلى في هذه الخطوة البعد السياسي والروحي فالمرحلة القادمة هي مرحلة مواجهة حقيقية بحاجة إلى أناس على استعداد لتحمل أعباء المسؤولية القتالية وهو الأسلوب الأفضل لإقامة كيان سياسي للأمة الإسلامية ولردع من يحاول النيل من هذا الكيان إذ سيصبح لهذا الكيان ثقلاً سياسياً بما يمتلك من قوة عسكرية أما في مقابل ما يبديه المسلمون من جهاد وتحمل للمسؤولية فانهم سينالون الجنة.. من هنا فان حمل السلاح في الإسلام هو لتحقيق غايات نبيلة وليس لتحقيق أهداف شخصية أو مصلحة قبلية أو منفعة قومية.
الهدف من الجهاد هو الخير وهو السبيل إلى الجنة فبقدر ما تتضمن خطوة البيعة من توجيه سياسي تتضمن أيضاً توجيهاً روحياً يشد من عزيمة المسلمين ويعضد من إصرارهم على المواجهة طالما كان الثمن الذي سيقبضونه هو الجنة.
2- تحالف سياسي على مواجهة الأعداء:
وقد جاء دستور المدينة الذي أبرمه الرسول (صلى الله عليه وآله) مع القبائل العربية واليهودية ليرسم معالم التحالف السياسي الذي يستهدف بالدرجة الأولى أهل المدينة بكافة قبائلهم وأديانهم في مواجهة أي عدوان خارجي فجاء في الصحيفة وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة والمقصود بهم اليهود والمسلمين معاً.
فقد كانت من أولويات المواجهة تحديد هوية الصراع فالمعركة الفاصلة هي مع الوثنية المكية التي اعتدت على المسلمين وسلبت منهم أموالهم فكان على المسلمين ان يقيموا وهم يتأهبون للمواجهة التحالف مع الجماعات الأخرى أو على الأقل تحييدها ووضعها خارج خارطة الصراع عند وقوع المواجهة فكانت هناك قوى غير إسلامية ليس بالضرورة وضعها في خانة الأعداء طالما كانت هناك إمكانية التحالف معها أو تحييدها على الأقل، كاليهود مثلاً.
فكانت الصحيفة بما تضمنته من دعوة للتحالف العسكري والسياسي مع اليهود خطوة رائدة نحو توظيف الاهتمام بالعدو المباشر والرئيسي وهو الوثنية المكية، وبغض النظر عن الجماعات الأخرى التي لا تشكل خطرا على الجماعة الإسلامية أو حتى التعاون مع هذه الجماعات وعقد الاتفاقية معها.
وانتهج الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه السياسة في كافة مراحل الصراع فقد كانت دائما هناك قوى مضادة مائة بالمائة وقوى تختلف في عدائها فلم يكن الرسول يعاملها بصورة مساوية بل كان يعمل على تجميد خلافاته مع بعض الجماعات المضادة له من اجل التفرغ للعدو الرئيسي.. نلحظ هذه السياسة في الأسلوب الذي انتهجه النبي (صلى الله عليه وآله) مع العدو الداخلي المنافقين وتجميده الصراع مع المكيين في صلح الحديبية مقدمة لفتح خيبر.. ففي وقت ما جمد الرسول (صلى الله عليه وآله) الصراع مع اليهود ليصرف اهتمامه في المواجهة مع الوثنيين المكيين وبعد عشر سنوات نجد المعادلة المعكوسة حيث جمد النبي (صلى الله عليه وآله) صراعه مع الوثنيين ليتوجه لحرب اليهود.
وهذا يؤكد لنا ان الإسلام كان يواجه في كل فترة قوى متباينة في عدائها وأهدافها المبيتة ضد الإسلام وعلى أساس هذه النوايا كانت تتحدد مواقع هذه الفئات في خارطة الصراع السياسي والعسكري.
ـــــــــــ
الهامش
1)- رواه جمع من المحدثين، رواه أبو داود، والنعماني، والدار قطني، وغيرهم..
2)- سورة البقرة، الآية: 272.
3)- سورة الحديد، الآية: 10.
4)- سورة الحديد، الآية.
5)- سورة إبراهيم، الآية: 31.
6)- هيكل، حياة محمد: ص 205.