محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 17 - مرحلة بناء الدولة
ثانيا مرحلة بناء الدولة
بعد إرساء القواعد أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله) يهيئ السبل للمواجهة لأنها هي قدره الذي لا يمكنه تجاوزه بأي حال من الأحوال. فالمواجهة مع أعداء الإسلام قضية حتمية كان لا بد من الاستعداد لها وتهيئة الظروف القادرة على التصدي لها.
ولأن المواجهة مع الأعداء مواجهة شاملة فقد أخذت الاستعدادات في مختلف المناحي حتى تصبح الأرضية شاملة أيضاً.
فقد عمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على تركيز القدرة في شرايين الجسد الإسلامي في مختلف أجزاء هذا الجسد.
فعلى صعيد المجتمع قام ببناء مجتمع قوي قادر على الصمود بوجه الأعاصير وأما على صعيد الاقتصاد أرسى الرسول دعائم اقتصاد قادر على تحمل أعباء المواجهة وأما على الصعيد العسكري أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل وأخذت ترسل إليه الوفود وأما على صعيد الدولة فقد عمل على ترسيخ نظام الدولة من خلال التشريعات التي سنت لتنظيم الشؤون المختلفة.
أولاً بناء المجتمع المتراص ظلت قضية البناء تحظى بأولوية في منهاج الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) عقب وصوله المدينة المنورة فبوصوله إليها كان على الحركة ان تتخطى مرحلة بناء الإنسان إلى بناء المجتمع ثم تجذير عوامل القوة والبقاء في هذا المجتمع. وقد استمر الرسول (صلى الله عليه وآله) في هذه المهمة حتى في مرحلة المواجهة بل ان المواجهة هي التي صقلت المجتمع وعمقت فيه معاني الإيمان والصمود.لكن قبل ان تحدث المواجهة كان لا بد لهذا المجتمع ان يشرع في تكوين ذاته وتنظيم شؤوناته حتى يستطيع الوقوف قبال التحديات.
فالمجتمع القوي المتراص هو الذي يفرز جيشاً قوياً متراصاً وهو المعين الذي لا ينضب في التضحية والفداء.
والمجتمع الإسلامي المتماسك لا يسمح بوجود الثغرات في داخله ويواجه التحديات الداخلية بنفس الروح التي يواجه بها التحديات الخارجية.
أولاً: سد الثغرات:
تركب المجتمع الجاهلي على أسس مغيرة للعقل والمنطق فطغت عليه السلبيات وتراكمت عليه الأمراض من كل صوب وكانت هناك أمراضاً مزمنة علاجها بحاجة إلى وقت طويل وجهد كبير ومن هذه الأمراض التي تصدى لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكافحها أشد مكافحة.
1- النزعة الفردية، نشأت النزعة الفردية نتيجة انتقال المجتمع الجاهلي من حالة البداوة إلى حالة الحضر فنمت مع ازدهار الحالة الاقتصادية الأنانية والنزعة الفردية وقويت هذه النزعة مع التطور الكبير الذي شهدته تجارة الايلاف التي ربطت مجموعة من القبائل العربية الواقعة على خط سير القوافل بمصالح مشتركة مع المجتمع المكي.
وكان أخطر ما واجهه الرسول أثناء بناء المجتمع الإسلامي هو التخلص من هذه النزعة وتصفيتها تصفية شاملة لأنها تنذر دائماً بعودة الحالة الجاهلية فقد حث النبي (صلى الله عليه وآله) على تنمية المشاعر الجماعية وتركيزها مكان النزعة الفردية فقال عمن هو مصاب بهذا الداء ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره طاو وما آمن بي من بات كاسياً وجاره عاري (1).
وقال لأبي ذر، يا أبا ذر إياك وهجران أخيك فان العمل لا يستقبل مع الهجران (2).
وذكر عنه صلوات الله عليه وآله وسلم من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم (3).
وعن العلاقة مع الجار حرمة الجار على الإنسان كحرمة أمة (4).
وقال أيضاً لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه (5).
وخاطب المسلمين يوماً جاءني جبرائيل فقال لي يا أحمد الإسلام عشرة أسهم وقد خاب من لا سهم له فيها، أولها شهادة ان لا اله إلا الله والكلمة..
والتاسعة الجماعة وهي الألفة (6).
وحثهم الرسول (صلى الله عليه وآله) على اداء الصلاة في المسجد قائلاً لا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع المسلمين الأ من يليه (7).
وكان المجتمع الذي انغمس لفترة طويلة في الأنانية وحب الذات بحاجة إلى إعادة بناء من جديد وذلك من خلال الممارسة العملية فبالعمل يمكن ان تزال الترسبات فبالاندماج مع المجتمع يمكن معالجة الأنانية وحب الذات، فالكلام وحده لا ينفع في علاج بعض الأمراض الاجتماعية لكن الكلام يصبح نافعاً عندما ترافقه الأجواء السليمة فعبر تلك الأجواء استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يذيب تلك النوازع الشيطانية التي لازالت تعتمل في بعض النفوس حتى يصبح المجتمع طاهراً معافاً من كل مرض.
2-الرق، تعود نشأة الرق إلى فترة الحروب التي كانت تدور رحاها في الجزيرة العربية وفي المناطق المجاورة لها فالذين كانوا يولدون في الأسر يباعون ويشترون كعبيد هكذا كان حال زيد بن حارثة وصهيب وغيرهما ومع ظهور عهد الرخاء الاقتصادي في مكة برز الرق كظاهرة اجتماعية خطرة تهدد المجتمع بتوارث الحقد والكراهية. ولم يكن من السهل على النبي (صلى الله عليه وآله) تصفية هذه الظاهرة بصورة سريعة فتجذرها في الحياة الاجتماعية كان يتطلب زمنا أطول وبرنامجاً شاملاً يعمل على مواجهة هذه الظاهرة من نواح عديدة.
فقد دعى القرآن الكريم المسلمين إلى عتق العبيد (فك رقبة) كما وان رسول الله ما انفك يوماً وهو يعتق العبيد الذين ارتبطوا به أما بالهدية أو نتيجة الحرب وأول من أعتقه هو زيد بن حارثة وهو هدية من زوجته خديجة فقد ظل متعلقاً برسول الله أشد علقة وحتى بعد ان وجده أبوه فضل البقاء مع النبي (صلى الله عليه وآله) على الالتحاق بأسرته وتمكن الرسول وعبر هذا المنهج ان يحد من انتشار هذه الظاهرة إذ لم يكن من السهل تصفيتها وبصورة نهائية لان ذلك مدعاة لمشاكل اجتماعية أخرى.
لمواجهة ظاهرة الرق في المجتمع الإسلامي حظر رسول الله على المسلمين استرقاق المسلم تأكيداً على مفهوم الأمة الإسلامية التي يتساوى أبناؤها ولا فضل لمسلم على آخر إلا بالتقوى.
لقد استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يصفي هذه الظاهرة من الوسط الإسلامي وان ينقذ المجتمع الإسلامي من آثارها الوخيمة أما الرق كظاهرة إنسانية فقد عمل الرسول بمثابرة لقطع دابرها من خلال الدعوة المكررة إلى تحرير العبيد.
3- الانتقام.. اتسمت العلاقات الخارجية بين القبائل بحالة التوتر الدائم وكان الانتقام يلعب دوراً كبيراً في رسم خريطة العلاقات السياسية في الجزيرة العربية واغلب الحروب الطاحنة التي اندلعت بين القبائل كانت بسبب الانتقام.
وابرز حادثة تذكر في هذا الصدد معركة البسوس التي دامت أربعين عاماً بين قبيلتي تغلب وبكر وكان وراء هذه الحرب الطاحنة حادثة انتقام لمقتل ناقة فقد كانت هذه الناقة لأحد أبناء جرهم يقال لها سراب وقد سكن الجرهمي بجوار البسوس بنت منقذ وهي خالة جساس صاحب الإبل الكثيرة وكانت سراب ترعى مع ابل جساس وهي في نفس المكان كانت ترعى مع ابل كليب وهو زوج جليلة أخت جساس.
ففي أحد الأيام كان كليب يتفقد ابله فشاهد ناقة لم يعدها من قبل فسأل عنها فقيل له انها ناقة جارنا الجرهمي فاغتاظ كليب وطلب ان لا تعود الناقة مرة أخرى إلى هذا المكان. وتجاهل جساس فقال كليب ولم يعدلها أية أهمية فعاد كليب ليهدد هذه المرة بقتل الناقة قائلاً لأضعن سهمي في ضرعها فرد عليه جساس، لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن سنان رمحي في لبتك.
واطلعت زوجته بالذي جرى فعملت ما بوسعها لتحاشي الفتنة لكن لم يهدا غيظ كليب فخرج إلى الحمى وجعل يتفقد الإبل فرأى الناقة المشؤومة فرمى ضرعها فقتلها فصرخ صاحبها بالذل وسمعت بسوس خالة جساس صراخ جارها فخرجت لترى الناقة ممددة على الأرض فوضعت يدها على رأسها ثم صاحت وأذلاه وجساس يراها ويسمع فسارع جساس نحو كليب ليفي بوعده فرمى كليب برمح فسقط من على فرسه ميتاً.
وقامت المآتم على كليب وكانت جليلة أخت جساس القاتل وزوجة كليب المقتول في المآتم عندما طلب منها ان تغادر المكان لأنها أخت القاتل وعادت جليلة إلى بيت أبيها مرة كئيبة حزينة وكانت حاملاً بهرجس من كليب.
وكان مرة والد جليلة وجساس يتحلى بقدر من الحكمة وعلى عادة العشائر القريبة التي بينها صلة رحم تلتقي فيما بينها للفصل فكانت شروط عشيرة كليب صعبة المنال فقد وضعوا مرة أمام أحد أربعة خيارات أما ان يقتلوا جساس أو يقتلوا أخاه هماما أو يقتلوه هو أو ان يعيد إلى الحياة قتيلهم فأجابهم بان جساس قد فر وانه لا يمنع من القصاص منه وأما همام فانه أبو عشرة وان أصدقاءه لن يسلموه بسهولة في قبال جرم لم يرتكبه وأما هو فانه يريد ان يقتل في الحرب ولن يتعجل الموت وعوضا عن هذه الشروط قدم لهم عرضين الأول ان يأخذوا أحد أبنائه ليقتلوه في قبال قتيلهم أو ان يدفع إليهم ألف ناقة. فاستاء القوم من هذا العرض فقالوا له أسأت ببذل هؤلاء وتسومنا اللبن من دم كليب؟ فنشبت الحرب واستمرت أربعين عاما دمرت القبيلتان تدميراً ولم تخف إلا بمقتل جساس ولقتله قصة ظريفة تعكس أيضاً حالة العرب قبل الإسلام وكيف كانوا يقدسون الانتقام ويضعوه في الأولوية على كل شيء.
فيواصل المؤرخون تتبع الحادثة الأليمة فعندما تعود جليلة وهي حامل إلى عشيرتها يقوم جساس برعايتها وعندما تلد مولودها يعتبر هذا المولود ولده فيرعى شؤونه ويعامله افضل من معاملة الأب لابنه حتى إذا كبر يزوجه ابنته وينشأ هرجس وهو لا بعرف أبا له غير جساس إلى ان اكتشف الحقيقة في حادثة خصام مع رجل من بكر فعيره بابيه فدخل على أمه كئيباً فلم ترض ان تخبره شيئاً وحاول ان يعرف الحقيقة من زوجته فأنكرت معرفتها بالحادث فحدثت أباها بما ألم يزوجها. وفي اليوم التالي طلب جساس صهره هرجس وأراد ان يطمئنه قائلاً له إنما أنت ولدي وأنت مني بالمكان الذي تعلم وزوجتك ابنتي وقد كانت الحرب في أبيك زماناً طويلاً وقد اصطلحنا وتحاجزنا وقد رأيت ان تدخل في ما دخل فيه الناس من الصلح وان تنطلق معي حتى تأخذ عليك مثل ما اخذ علينا فاضطر هرجس موافقته على ما قاله خاله لكنه كان قد بيت مؤامرة قتله فانتهز فرصة عقد المصالحة فطعن خاله وهرب إلى قومه مضحياً بحياة رغيدة إلى جانب زوجته وأمه.
ويمضي مسلسل القتل والانتقام فالطرف الآخر لا يزال مصراً على الانتقام وهو لم يكتف بكل تلك الدماء التي سفكت خلال الأعوام الأربعين إذ لا زال يطالب بالثأر لكليب الذي نخرت عظامه وبليت خلال هذه الأعوام المديدة. وبعد مقتل جساس كادت الأوضاع ان تهدأ ويعود الصلح والصفاء بين القبيلتين سيما وان رجلاً حكيماً من بكر قرر ان يضحي بأحد أولاده من اجل إنهاء القتل فأرسل بابنه بجير إلى المهلهل وأرسل معه رسالة قال فيها انك قد أسرفت في القتل وأدركت ثأرك سوى ما قتلت من بكر وقد أرسلت ابني إليك فأما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين وأما أطلقته وأصلحت ذات البين فقد مضى، من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيرا لنا ولكم. فلما وصل بجيرا إلى المهلهل قتله وهو يقول بو بشسع نعل كليب فسمع الأب بمقتل ابنه فتألم لموت ولده لكنه فرح بأن السلام والوئام سعيودان إلى القبيلتين لكنه عندما سمع بما قاله المهلهل عندما ساوى بين ابنه وشسع نعل كليب غضب وتفجرت في عروقه العصبية القبلية فنادى بفرسه وعادت الحرب من جديد ولم تنته الفتنة إلا بعد ان قرر المهلهل مغادرة الوطن إلى مكان آخر هو اليمن.
ذكرنا هذه الحادثة بكل تفاصيلها لكي نتبين أولاً حالة العرب في الجاهلية وكيف كانوا يعيشون مغرمين بسفك الدماء لا بسط حادث وكم كان عملاً عظيماً ما قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ قلب هذا المجتمع على رأسه ليقف على قدميه مع طلوع فجر الإسلام أما الأمر الثاني فهو للتدليل على ماكان وكيف كانوا يضحون بمصالحهم وعلاقاتهم من أجل تحقيق غاية الانتقام لأنها اقدم عمل يقومون به وثالثاً لكشف مواطن الضعف نتيجة غياب السلطة السياسية فكان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يقلع هذه النظرة من نفوس المجتمع الذي دعاه إلى الإسلام وان يضع حدا لهذه الظاهرة الخطرة على تماسك المجتمع ووحدته فوضع قانوناً بدل الانتقام هو القصاص في حالة قتل العمد والدية في غير ذلك واستطاع وخلال فترة قصيرة ان يعبد الطريق أمام قيم الاخوة الإسلامية وقيم القانون لتحل محل هذه القيمة الجاهلية، وإذا بمعركة بدر الفاصلة أصبح فيها الابن المسلم يقف في جبهة وفي مقابله كان يقف أبوه أو عمه وكثير من المسلمين شهدوا مقتل آبائهم كأبي حذيفة الذي شهد مقتل أبيه عتبة ومقتل عمه شيبة ومقتل أخيه الوليد ولم يطرأ في نفسه شيء على قاتلهم وعندما وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الحفر التي ووري فيها قتلى قريش اخذ يعدهم بأسمائهم يا عتبة يا شيبة يا أمية بن خلف هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا فلاحت منه التفاتة فرأى تغيراً قد طرأ على وجه أبي حذيفة وكان واقفاً مع المسلمين فقال له لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء فأجابه أبو حذيفة لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي وفي مصرعه ولكنه كان له عقل وحلم وفضل وكنت أرجو له الإسلام فلما رأيت ما مات عليه من الكفر أحزنني ذلك هكذا تحول المجتمع العربي من حرب البسوس إلى المستوى الذي اصبح فيه الرجل يشارك في قتل أبيه أو أخيه أو ابنه فأي تحول عظيم طرأ على هذا المجتمع وأية قوة كانت قادرة على أحداث هذا التغيير غير قوة العقيدة والايمان الصادق.
ــــــــــــ
الهامش
1)- الكافي: ج 2 ص 10.
2)- مكارم الأخلاق: ص 554.
3)- الكافي: ج 2 ص 164.
4)- مكارم الأخلاق: ص 143.
5)- مكارم الأخلاق: ص 143.
6)- الوسائل: ج 1 ص 14.
7)- الوسائل: ج 5 ص 377.