محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 13 - النفوذ إلى يثرب
النفوذ إلى يثرب
وجه النبي (صلى الله عليه وآله) اهتمامه صوب يثرب لتصبح قاعدة إسلامية قوية حيث كانت مقسمة على نفسها تفتك بها الحروب، فأصبح يترقب مواسم الحج للالتقاء بعناصر يثربية وجرى لقاء آخر وآخر وفي إحدى اللقاءات حالف النبي (صلى الله عليه وآله) الحظ بالتقائه بجماعة من بني عفراء فسألهم إلى أي القبائل ينتسبون فقالوا له من الخزرج.
فقال لهم أمن موالي يهود أنتم ؟ فأجابوا نعم. فجلس معهم وعرض عليهم الإسلام ودعاهم إلى الله عز وجل وتلا عليهم شيئاً من القرآن فوجد في عيونهم التجاوب وفي قلوبهم اللهفة لسماع المزيد من الآيات. وكان بين اليهود وبين هذه القبيلة مواقف متشنجة وحديث مرير ووعد ووعيد. وكلما كانت تتفجر بينهم المشاكل كان اليهود يسارعون لإطلاق تهديداتهم بالنبي (صلى الله عليه وآله) الذي ينتظرون قدومه وكانوا يقولون لهم إن نبياً قد بعث الآن وقد أطل زمانه وسنتبعه ونقتلكم قتل عادٍ وارم (1).
وقد تركت هذه الخلفية أثراً كبيراً على موقف القبيلة من دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) وقد تأكدوا من حديث محمد (صلى الله عليه وآله) إنه هو النبي الذي يقصده اليهود فأخذوا يتهامسون بينهم قائلين إنه والله النبي الذي كان يتوعدونكم به، فلا يسبقنكم إليه. فأعلنوا في الحال موافقتهم وقالوا للنبي (صلى الله عليه وآله) (أنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك والى الدين الذي أجبناك عليه) ثم مضوا إلى مدينتهم وكانوا ستة أنفار شرعوا يتحدثون عما شاهدوه وسمعوه في مكة حول الرسالة داعين الآخرين من أبناء عشيرتهم إلى الامتثال لهذه الدعوة ولم يمض وقت طويل حتى ازداد عددهم وتسارعت الأيام وجاء موسم آخر للحج فوجدوها فرصة ذهبية للالتقاء بالنبي (صلى الله عليه وآله) فقدم اثنا عشر من الرجال والتقوا به سراً في العقبة، فأخذ النبي منهم البيعة على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقون ولا يزنون ولا يقتلون أولادهم ولا يأتون البهتان واستنتج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اللقاء بأن يثرب هي المكان المناسب لانتشار الدعوة الالهية فقد كانوا في العام الماضي ستة أنفار فازدادوا خلال سنة واحدة إلى الضعف بفعل تحركهم الذاتي برغم غياب العنصر الخارجي.
والتبليغ كالزراعة والمبلغ كالمزارع يبذر البذرة فإذا نمت إلى نبتة فسيعرف بأن هذه البيئة صالحة للزراعة.
فعندما لا حظ النبي (صلى الله عليه وآله) تزايد عدد المسلمين الأنصار وشاهد بنفسه المعنويات العالية التي يحملونها أخذ يوجه كل خططه ونشاطاته نحو إيجاد قاعدة متقدمة من المسلمين في يثرب فأرسل مصعب بن عمير مع الوفد عند عودتهم إلى وطنهم.
- مهمة خارج الحدود:
استبشر النبي (صلى الله عليه وآله) بالإنجاز الذي حققه في يثرب والذي شكل تطوراً محسوساً في مسيرة الدعوة. فكان عليه أن يستثمر الواقع الجديد في دفع حركة الإسلام المتصاعد وانتهى موسم الحج وها هم الذين آمنوا من أهالي يثرب يعودون إلى وطنهم فكان لا بد من إرسال من ينظم شؤونهم. فمن سيختار لهذه المهمة. فالقادر على النهوض بهذه المهمة يجب أن يتحلى بخصال ومزايا تمكنه من الاستمرار في العمل في مكان بعيد عن مكة لا يتأثر بأجواء الشرك التي كانت تسيطر على المدينة ولا يضعف عندما يبتعد قليلاً عن الأجواء الإسلامية الساخنة بالمعنويات العالية، ولا تنهار قواه عندما يجد نفسه وحيداً في ساحة كبيرة غريبة عنه.
فمن لهذه المهمة؟؟
لم يكن اختيار الرجل المناسب أمراًَ صعباً على النبي (صلى الله عليه وآله) الذي عرف أصحابه حق المعرفة ومثلما اختار بالأمس رجلاً مناسباً لإدارة شؤون المسلمين في الحبشة وللتفاوض مع زعامتها فهو اليوم يختار من تنطبق مواصفاته على شروط المهمة التي ستوكل إليه، وما ذلك سوى مصعب بن عمير الذي أصبح أمثولة تضرب، عندما شاهده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يرتدي جلباباً ممزقاً ومرقعاً أسرعت شفتاه.. لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه.. ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله. ويوم شهادته وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليتلو على رأسه هذه الآية الكريمة.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ...}. ثم ها أنت ذا أشعث الرأس يا بردة لقد وجد رسول الله في مصعب رجل المهمات الصعبة يتكيف مع كل الظروف القاسية ويستصغر المشكلات وحتى لو كانت كبيرة، ويستطيع أن يجالد في المواقف الحرجة ليصنع من الهزيمة انتصار.
جاءه أسيد بن خضير شيخ بني عبد الأشهل وعيناه تستعران بالغضب ويداه قابضتان على حربة مشرعة لتقتحم صدر بن عمير ومضيفه أسعد بن زرارة.
وتفجر أسيد وعروقه متوثبة ما جاء بكما الينا؟ أتسفهان ضعفاءنا اعتزلا لنا إن كانت لكما في نفسيكما حاجة.. فابتسم مصعب في وجهه وقال بهدوء ورزانة.
أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهت فكف عنا.
فضعف أيد أمام هذا المنطق فركز حربته في الأرض وجلس ليستمع إلى مصعب وهو يقرأ له القرآن ويشرح له مبادئ الإسلام ولم تمض هنيئة من الوقت حتى هتف أسيد من أعماقه كيف تصنعون إذا أردتم ان تدخلوا في هذا الدين فأجاب مصعب:
تغتسل فتطهر ثوبك ثم تشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأسرع أسيد لينطق بالشهادة ثم أردف (إن ورائي رجلاً ( وهو يشير إلى سعد بن معاذ) ان أتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن).
وما لبث ان جاء سعد بن معاذ وفي نفسه من الثورة والغضب مثلما كان في نفس صاحبه أسيد ومرة أخرى تتجلى حكمة مصعب ورزانته وقدرته الفائقة على تغيير النفوس الطائشة الغاضبة إلى نفوس مؤمنة فعلى رغم صغر سنه فقد كان خبيراً بالنفوس عارفاً بأمراضها وكيفية علاجها ولهذا السبب وقع اختيار النبي (صلى الله عليه وآله) عليه ليصبح أول سفير لرسول الله خارج الحدود ومكث مصعب فترة من الزمن في المدينة يدعو الناس إلى الإسلام فلبى دعوته جمع كثير من أهل يثرب ومع قدوم موسم الحج وجد المسلمون في يثرب فرصة اللقاء بالنبي (صلى الله عليه وآله) والطلب منه بالمجيء إلى مدينتهم. فاختاروا من بينهم وفداً من خمس وسبعين نفراً بينهم اثنان من النساء التقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) ثم حددوا موعداً للقاء آخر موسم في أواسط أيام التشريق. وتم اللقاء دون علم أحد وحتى دون علم المسلمين في مكة إلا من اشترك مع النبي (صلى الله عليه وآله) وما أن مضى من الليل ثلثه ونام الناس خرج المسلمون من أخبيتهم يتسللون تسلل القطا حتى لا يحس بهم أحد واجتمعوا في الشعب ينتظرون رسول الله فجاء ومعه بعض أهل بيته فبدأ الاجتماع وتكلم القوم ثم تحدث رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتلا شيئاً من القرآن ثم دعا إلى الله وقال أبايعكم على ان تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر.
ثم تحدث أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله ثم قال:
الدم الدم والهدم الهدم (أي إن كل ما يجرى عليكم يجري علي) أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.
وبعد أن تيقن من وفائهم وصدق انتمائهم طلب منهم أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً يتولون المسؤولية والأشراف على الجماعة الإسلامية ويصبحون حلقة الوصل بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وبعد أن تم الانتخاب لم يبق من الاجتماع إلا فقرة أخيرة هي المبايعة فقبل أن يمدوا أيديهم انبرى العباس بن عبادة وهو أحد النقباء وتحدث قائلاً: يا معشر الخزرج هل تدرون علمَ تبايعون هذا الرجل: قالوا نعم، قال إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون إنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن فدعوه فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون إنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
فأجابوه بأجمعهم أنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ثم التفتوا إلى رسول الله متسائلين..
فما لنا بذلك يا رسول الله ان نحن وفينا بذلك.
قال: الجنة..
فقالوا: أبسط يدك فبسط يده فأخذوا يتسابقون إلى البيعة بقلوب يغمرها الفرح والسرور واثقين من المصير عالمين بما سيجرى عليهم وانقضى الاجتماع بسلام دون أية مشكلة وخرج رسول الله مزهواً بما شاهده وسمعه وازداد طمأنينة على مستقبل الدعوة وتضاعف يقينه ان يثرب هي المكان الأنسب لإقامة الدولة.
الهجرة صوب يثرب
لم يك هناك خيار أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) إلا أن ينقل مكان الدعوة إلى يثرب فقد توفرت على أرض يثرب كل المقومات الضرورية لإقامة الكيان الإسلامي، فهي أرض ذات موقع استراتيجي منيع يحصنه ضد أعدائه في مكة فهي تبتعد عنها بالقدر الذي يحول دون توجيه ضربة مفاجأة للكيان الإسلامي النامي لكنها في الوقت نفسه ليست بعيدة بذلك البعد الذي يجعلها منفصلة عن محيط القضايا المكية وما يدور فيها من أحداث.
- الخصائص البشرية والجغرافية والاقتصادية ليثرب:
تقع يثرب على الطريق الاستراتيجي الذي يوصل الشرايين الاقتصادية بالمركز التجاري القائم في مكة دون أن تمتلك مكة هذا الامتياز.
أما الطبيعة الجغرافية فيمنحها حصانة عسكرية ضد أي عدوان خارجي فالموانع الطبيعية تحيط بها من ثلاث جهات، ففي جهة الغرب تحيط بها حرة الوبرة وهي أرض وعرة تتكون من الحجارة النخرة المحترقة التي يصعب على الإنسان والإبل السير عليها، أما من جهة الشرق فتحيط بها حرة واقم، أما الجهات الأخرى فتحيط بها أشجار النخيل الكثيفة التي تكون حائلاً دون اجتياز الجيوش عبر هذه النقطة نحو يثرب. وقد أشار النبي (صلى الله عليه وآله) إلى هذه الخواص الاستراتيجية عندما أخبر أصحابه قائلاً لهم: (أني رايت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان.
ويضاف إلى الخصائص الجغرافية الميزات الحضارية التي تمتلكها يثرب فأرضها أرض زراعية غنية بالمحاصيل، ويمكن إقامة نظام اقتصادي فريد مرتكز على سياسة الاكتفاء الذاتي على العكس من ذلك مكة حيث تفتقر للمرتكزات الإنتاجية بسبب وعورة الأرض وجفاف المناخ فيها.
ومن ناحية أخرى كان التماسك الاجتماعي في المجتمع اليثربي ضعيفاً بالمقارنة إلى المجتمع المكي حيث كانت قبيلتان عربيتان تعيشان على أرض يثرب في تطاحن وتقاتل ويعيش إلى جانب القبيلتين قبائل يهودية كانت في نزاع دائم مع العرب وقد منح هذا التفكك الاجتماعي للدين الجديد فرصة الانتشار والتوسع دون أية مقاومة ضارية كالتي حصلت في مكة.
ويختلف عمق الاعتقاد الوثني في يثرب عما هو قائم في مكة فالوثنية في مكة أرتبطت بشبكة الأواصر الاقتصادية أصبح من العسير الفصل بينهما إذ أصبحت العقيدة الوثنية لأهل مكة موقف حياتي بالنسبة إلى الزعامة بينما لا نجد هذا الارتباط بين العقيدة الوثنية والاقتصاد اليثربي. إذ لا يشكل تجاوز هذه العقيدة أي خطر يهدد الحياة الاقتصادية لهذه المدينة. ومفارقة أخرى تكمن بين الشريحتين هي طبيعة الاستجابة والمناعة نحو الأفكار والتيارات الدينية القادمة. فقد كان المجتمع المكي محصن ضد الديانات مما حد من انتشارها بينما لا نجد ذلك في يثرب إذ انتشرت المسيحية واليهودية، وأحدث وجود هاتين الديانتين إلى جانب الوثنية نضوجاً فكرياً في المجتمع اليثربي اكثر من المجتمع المكي جعله قادراً على المقارنة بين الأديان باختيار الدين الأفضل لهذه الأسباب نجحت تجربة التوسع الإسلامي في يثرب وطرحت أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) حقيقة ناصعة حول إمكانية اقامة الكيان الإسلامي على هذه الأرض.
ومما زاد في إصرار الرسول (صلى الله عليه وآله) على اختيار يثرب هو نجاح تجربة النفوذ داخل المجتمع اليثربي والنمو المطرد الذي شهدته الجماعة المسلمة، واستعداد هذه الجماعة للتضحية والفداء مما يمكن الاعتماد عليها كقاعدة قوية لإقامة الكيان الإسلامي فوقه.
وكلما اشتد أذى قريش ازداد رسول الله (صلى الله عليه وآله) تصميماً على الخروج من الحصار المضروب عليه في مكة وسط المجتمع الجاهلي. فهو لم يستسلم للوضع الشاذ ولم يضع يده اليمنى على اليسرى ويجلس القرفصاء بانتظار الفرج. بل شمر عن ساعد الجد واستخدم فكره في البحث عن الطريق الأفضل للخلاص من الحصار المضروب.
فالرسول (صلى الله عليه وآله) لم يتوقف بل تحرك.. لم ييأس بل حاول.. وحاول حتى وجد الطريق إلى يثرب وبالطبع لم تكن محاولاته بعيدة عن الرعاية الإلهية التي كانت تمده في كل لحظة بالرأي السديد وبالخطة الحكيمة. واتخذ قرار الهجرة بصورة مؤكدة بعد نزول الإذن الإلهي، حينذاك أمر رسول الله أصحابه بالهجرة لكن بصورة سرية ودقيقة حتى لا تفسد الخطة التي أعدها في انتقال كافة المسلمين القادرين على الهجرة، فحرص رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا يصل قريش أصداء هذا التحرك الجديد حتى تتم العملية بسلام فكانوا يخرجون متفرقين يتسللون ليلاً والناس نيام وفرغت مكة من المسلمين فلفت ذلك أنظار المشركين وكشف عما يخططه النبي (صلى الله عليه وآله) في نقل دعوته إلى يثرب فكانت الطامة الكبرى فسعت إلى مقاومته بكل ما أوتيت من قوة فلحقت بمن تبقى في الطريق من المهاجرين مستخدمة أساليب التعذيب والأغراء لإعادتهم إلى مكة وكانت قريش حريصة أشد الحرص على أن تبقى مكة منطقة يسودها الهدوء وهذا ما جعلها تخشى عواقب قتل المهاجرين الرافضين للعودة لأن قتلهم سيسبب في نشوب حرب داخلية في مكة يدفعون ثمنها غالياً على صعيد موقعهم التجاري ومكانتهم الدينية.
وعادت قريش خائبة غير قادرة على إيقاف حركة الهجرة.. لكنها لم تحفل بما حدث طالما كان محمد (صلى الله عليه وآله) في قبضتها فهو لا يزال في مكة..
لكن عليها أن تسرع قبل أن يفلت هو الآخر من أيديها فتكون المصيبة أعظم. اجتمع زعماء قريش في دار الندوة وتباحثوا حول أساليب التخلص من محمد (صلى الله عليه وآله) وبرز من بين الآراء، رأي يدعو إلى تقييده بالحديد ووضعه في السجن حتى يأتيه الموت ورأي آخر يرى الطرد من مكة فتنفض قريش يدها منه، استبعد المجتمعون هذين الرأيين واتفقا على رأي أبي جهل بن هشام الذي يدعو على اختيار كل قبيلة فتى من فتيانها الأشداء ويعطى كل واحد منهم سيفاً ماضياً فيعمدون إليه بأجمعهم فيضربونه ضربة واحدة فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها ولم يعد باستطاعة أحد من بني هاشم المطالبة بدمه فيضطرون إلى اختيار الدية على القتل واتفقوا أيضاً على الليلة التي سيتم فيها تنفيذ المؤامرة. وأبلغ الله رسوله بالدسيسة وأمره بالهجرة في تلك الليلة العصيبة وفي ثلث الليل خرج النبي (صلى الله عليه وآله) من الدار بعد أن ترك ابن عمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) في فراشه ليوهم الأعداء بأنه لا يزال في البيت.
وكم كانت خيبة أعداء الله عندما تفاجأوا في الصباح الباكر بأن النائم في فراش النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن سوى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكم كانت فرحة علي (عليه السلام) كبيرة عندما نجحت الخطة واستطاع أن يكسب رسول الله الزمن الكافي للخروج من مكة وتمكن أيضاً أن يعيد الأمانات التي كانت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أهلها.
وهنا تتجلى خلقية الحركة الإسلامية فلم ينس رسول الله (صلى الله عليه وآله) تلك الأمانات وحتى وهو في أشد ضيق فقد استعد لأن يضحي بابن أخيه وأقرب الناس إليه من أجل استرداد هذه الأمانات فعلى صغر هذا الأمر في أعين بعض الناس سيما إذا كانت حالتهم كحالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تلك اللحظة التي كان يهاجر فيها وطنه لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) معلم الأخلاق لم يكن لتفوته هذه الأمور على صغرها فهو قد حسب لكل شيء حساباً وأعد لكل هدف خطة.
وفي الصباح كان علي (عليه السلام) يطرق أبواب الناس ليعيد إليهم أماناتهم حتى تبقى أواصر الثقة على حالها لا تزحزحها المواقف الصعبة وكانت هذه الثقة هي الوسيلة الأقوى إلى قلوب الناس وقد انتشر الإسلام في أول الأمر عن هذا الطريق.
ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستفيداً من الظلام في اقتحام أسوار المستحيل راسماً للمسلمين تاريخاً جديداً يبدأ من هذه النقطة.
فمن هذا التحرك صوب يثرب بدأ التاريخ يدور دورة جديدة.
والتاريخ يبدأ من الفعل.. من الحركة.. فالجمود لا يصنع التاريخ.. لأن التاريخ هو حشد كبير من الأحداث.. والحدث فعل وحركة.
والهجرة هي أبرز مقطع في مسيرة الحركة الإسلامية، فقد تجلى فيها الفداء بأعظم أشكاله وأبهى صورة وتجلت فيها الشجاعة بأعظم ألوانها، فلقد كانت لحظات عصيبة حقاً عندما واجه علي (عليه السلام) أولئك الفتية الذين جاؤا إلى قتل الرسول، فأي شيء بمقدور الإنسان أن يفعله في تلك اللحظة الرهيبة غير التوسل بالشجاعة والصلابة.
ولحظات عصيبة مرة أخرى عندما تابعت قريش خطوات النبي (صلى الله عليه وآله) ومعها أهل الخبرة بالقيافة حتى بلغوا الغار الذي يختبئ فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فانقطع الأثر عند باب الغار ولم يكن بينهم وبين المطلوب سوى شبر واحد، فكم كانت لحظة حرجة على النبي (صلى الله عليه وآله) وهو لائذ في ذلك الغار.
ــــــــــــــ
الهامش
1)- نفس المصدر ونفس الجزء والصفحة.