محاضرات التاريخ الإسلامي - المحاضرة 12 - البحث عن موقع أفضل
البحث عن موقع أفضل
أدرك الرسول (صلى الله عليه وآله) إن قريشاً غير تاركة إياه وهي ساعية للقضاء على حركته مهما كلفها ذلك من ثمن، ولم يعد وجوده في مكة بعيداً عن الخطر بعد أن غاب المعين (أبو طالب).
والمشكلة لم تعد محصورة فيه وحده، فقد كان وجوده هو وأصحابه في مكة يحول دون الانطلاق إلى أفق أوسع فكان عليه أن يبحث عن مكان يستطيع فيه ترسيخ دعوته، ثم ينطلق بها إلى أماكن أخرى. فوقع اختياره للوهلة الأولى على الطائف، وهي مدينة جبلية تقع على السفوح الشرقية لسراة الحجاز لا تبعد عن مكة كثيراً وهي ترتفع عن سطح البحر (1630 متراً) مما جعلها ذات مناخ معتدل صيفاً وشتاءاً وتحيط بها أودية تخزن كميات كبيرة من الماء هي وادي العقيق ووادي المحرم ووادي لية. وقد منحتها هذه الخصائص الجغرافية مكانة مرموقة في التاريخ فكانت تنتج التمور والحبوب والرمان والعنب وتتاجر بمنتجاتها مع تجار مكة، أضف إلى الإنتاج الزراعي كانت الطائف تعتبر من أفضل المصايف لأهالي مكة حيث كانوا يقضون فيها فترات الصيف الحارة وكان البعض من أغنياء قريش يستثمرون أموالهم في الزراعة في هذه المدينة بحثاً عن الربح ولهذين السببين أصبح للطائف مكاناً يتردد عليه الأغنياء والتجار من قريش.
وأصبحت العلاقة بين ثقيف القبيلة العربية التي سكنت الطائف وقريش من أوثق ما عليها العلاقات القبلية في الجزيرة العربية في وقت كانت فيها القبائل تتطاحن فيما بينها ولهذا السبب بالذات لم يلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) التجاوب من زعماء هذه المدينة. فقد مكث في المدينة عشرة أيام يعقد اللقاءات مع زعماء ثقيف لعله يجد أذناً صاغية لكن ما سمعه منهم ليس بأفضل مما سمعه من زعماء قريش وكأن ما بينهم وبين قريش من علاقات قد جعلتهم على نمط واحد من التفكير والعقلية ولون واحد من التعامل مع الإسلام.
قال أحدهم ساخراً:
إنني أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وآخر قال له:
أما وجد الله أحداً يرسله غيرك.
ومقولة أخرى تلقاها من نفر ثالث:
والله لا أكلمك أبداً. لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغ لي أن أكلمك.
فتركهم النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن يئس منهم وطلب منهم أن يكتموا أمره ولا يشيعوا خبر اتصاله بهم.. لكنهم لم يكتفوا بإذاعة الخبر بل دفعوا بصبيانهم وسفهائهم بأن يرموه بالحجارة من كل جانب فلم يكن يرفع قدماً ولا يضع أخرى إلا على حجارة فالتجأ إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة فقد صادف وجودهما هناك وهما يتفقدان مزرعتهما.. فأخذ منه التعب والإعياء فوقف على قدمين تنزفان دماً فلم يستطع الوقوف طويلاً فاتكا إلى شجرة كانت في البستان.
فيالها من لحظات عصيبة في حياة القادة الذين يبذلون راحتهم ويضحون بوقتهم الثمين من أجل الآخرين لكن في لحظات يجدون أن أتعابهم ذهبت أدراج الرياح ما بال أولئك الغلاظ الذين نسوا كل القيم وداسوا على أعرافهم في إكرام الضيف، ما بالهم يعاملوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذه الصورة.
وماذا يريد منهم غير النجاة والصلاح.
أما كان الأفضل لهم ان يمنحوا أنفسهم لحظة واحدة لسماع ما يقوله هذا الزائر الذي ظل ولعشرة أيام وهو يتكلم معهم. أما يكفيهم هذا العناد حتى أمروا عبيدهم أن يصرخوا بوجهه وأمروا أطفالهم أن يسبوه ويرموه بالحجارة.
هي لحظات رهيبة سجلها التاريخ بكثير من الشموخ..
وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) متكئاً على شجرة رافعاً يد التضرع إلى السماء غير نادم على الطريق الذي سلكه وغير متأثر لما لحق به من أهانه وتعذيب. في تلك اللحظات التي يتخلى فيها الصديق والقريب وتتراكم على الدعاة المشكلات والمصائب كغيوم الشتاء الكاملة في تلك اللحظات لن يجد الداعية مؤنساً سوى ذكر الله ولن يجد شيئاً ألذ من التوجه إلى الله فهو النصير بعد خذلان الآخرين وهو المدافع عندما ينزوي الآخرون فليس للقلب المتألم في تلك الساعة ما يخفف أوجاعه ويضمد جراحه غير السفر إلى الله ليبث شجونه إلى خالقه ثم ليستمد منه القوة والصلابة.
وهكذا فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهكذا كان دأبه في الملمات..
أدار طرفه ونبس من القلب..
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي.
وقلة حيلتي.
وهواني على الناس..
يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين.
وأنت ربي.
إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني ام إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحل على سخطك.
لك العتبى حتى ترضى.. ولا حول ولا قوة إلا بك.
فأذاب بتلك العبارات حتى الصخر الأصم وتململ اثنان من أعدائه كانا يجلسان إلى جواره، فأخذتهما الرأفة لحالة.. وهما عتبة وشيبة ابنا ربيعة.. والأول هو السفير الذي بعثته قريش للتفاوض معه إذ عاد من مهمته فاشلاً أما إصرار النبي (صلى الله عليه وآله) في رفض أي عرض من عروض قريش في مقابل التنازل عن مبادئه.
فتحت تأثير ذلك الموقف أرسل عتبة بعبده عداس ومعه قدح فيه قليلاً من العنب.
وسارع عداس واقترب من النبي (صلى الله عليه وآله) واضعاً القدح بين يديه. وأخذ يراقب كل سكنه وحركة تبدر من هذا الرجل الغريب الذي ملأ أسمه وخبره الآفاق.
مد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده إلى العنب قائلاً بسم الله.. فكانت أول ملاحظة يسجلها هذا الغلام الفطن، بسم الله لم يسمعها من قبل في هذه البلاد وعلى طبق العنب جرى هذا الحوار بين النبي (صلى الله عليه وآله) والنصراني..
* نصراني، من أهل نينوى.
- من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟
وبدهشة أجاب الغلام.
-وما يدريك ما يونس بن متى؟
*ذاك أخي.. كان نبياً وأنا نبي.
وتوالت الملاحظات في ذهن الغلام وتسارعت الأدلة لتجتمع في محطة واحدة لتكشف عن عظمة هذا الرجل الذي يجلس قباله وتيقن بأنه نبي مرسل وإنه لا يختلف عن عيسى ويونس وكل الأنبياء.
فأكب على الرسول (صلى الله عليه وآله) يوسعه لثماً وتقبيلاً ولم تنفع تحذيرات سيده في الابتعاد عنه.
في ضيافة الله
حامت حول الإسراء والمعراج جدال جميل وسقيم ودارت حوله الاختلافات والمناقشات حول كل فقرة من فقرات هذا الحدث العظيم وكاد هذا الجدل العقيم أن يمحي الصورة الرائعة التي تجلت في هذه السياحة التي قام بها الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى عالم الملكوت وكادت هذه الاختلافات أن تشطب على الغاية السامية لهذه الرحلة الإلهية.
وليس مهماً متى وكيف وأين وقع الحادث وليس من الضروري التأكيد على صحة هذا الرأي وسقم الرأي الآخر أو ترجيح أحد الرأيين.. المهم أن ندرك تلك المعاني المشرقة التي تجلت في حادثة الإسراء والمعراج والتي جعلتها من أهم الأحداث التي وقعت في التاريخ الإسلامي.
ومهما اختلف المؤرخون في تاريخ هذه الحادثة فانهم يجمعون إنها كانت عقب هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الطائف وقبل هجرته إلى المدينة.
وهاتان النقطتان الزمنيتان ترسمان لنا معالم هذه الحادثة العظيمة فما لقيه النبي (صلى الله عليه وآله) في الطائف وما سوف يعد نفسه للمستقبل هي التي تبين لنا موقعيه الإسراء والمعراج بين الحدثين.
فالكشف عن دور الأسرار والمعراج يقتضي بنا دراسة وضع الحركة في تلك الفترة العصيبة ودراسة الضرورات المرحلية التي تفرزها طبيعة التحولات في تلك الفترة الزمنية ولعل أهم هذه الضرورات هي..
1- تكريم القائد الذي عان طوال السنوات الماضية من الآلام والمصائب وقاسى ألوان المحن وأنواع الإهانات كان آخر ما لقيه في الطائف.
2- إقرار أصحاب الديانات السماوية بسلامة وصحة الدين الجديد وإن الإسلام هو الدين الذي يجب أن يعتقدوا به لأنه امتداد للديانات السماوية الأخرى فكان صلاة الأنبياء خلف الرسول (صلى الله عليه وآله) يحمل هذا المعنى الكبير.
4- ضرورة استزادة المسلمين في إيمانهم وثقتهم بالرسالة وبالرسول قبل أن يخوضوا غمار المرحلة القادمة وما فيها من صعوبات جمة.
5- كان لا بد من تشخيص المتذبذبين وأصحاب الإيمان الضعيف الذين يهتزون مع أقل ريح. كان لابد من تصفية العناصر الضعيفة المتزلزلة وتطهير التجمع الرسالي منهم لأنه يتأهب لخوض صراع مرير.
6- تحسيس المشركين بأخطائهم وانهم لا حجة لهم بعد اليوم في محاربة الإسلام بعد أن تأكد لهم صحة الدين الجديد وإنه من الله العلي القدير.
فجاءت حادثة الإسراء والمعراج لتحقق حاجات تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ الدعوة الإسلامية فالحادثة في جوهرها ضيافة إلهية لتكريم الرسول (صلى الله عليه وآله) ولتثبيت قلبه بعد كل الذي لقيه من أعداء الرسالة.
فقد جاءت هذه الضيافة مباشرة بعد تلك العبارات الموجعة والدعاء الذي دعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبال.. فقد دعاه الله إلى السفر إلى أعماق ملكوته ليظهر حبه وتكريمه لرسوله وليريه ما لم يشاهده في حياته وما لا سيشاهده أحد من الأحياء ولينقل إليه أسرار الخليقة ويريه مصير الإنسان الصالح والإنسان الطالح.
فقد كانت سياحة إلى عالم يشتاق لرؤيته كل إنسان وهي فضل من الله لم يتفضل به على أحد إلا على حبيبه ورسوله محمد (صلى الله عليه وآله) الذي بذل كل شيء من أجل الله فضحى بأعز الناس إليه عمه زوجته وواصل طريقه غير عابئ بالمعاندين والسفهاء والجهلاء. وتجلت في الحادثة العلاقة بين الإسلام والديانات السماوية الأخرى تستلهم من معين واحد وإن على المسلمين أن يتحملوا كما تحمل الأوائل في عهد إبراهيم وموسى وعيسى.
وفي استقبال عيسى وموسى وإبراهيم ويحيى للنبي الأكرم دلائل واضحة لأصحاب الديانات بأن محمد بن عبدالله على خط أولئك الأنبياء العظام وإن عليهم ان يتبعوه كما تبعه أنبيائهم فلا حجة لهم بعد ذلك في رفض الرسالة الإسلامية.
وكان الإسراء ابتلاء صعباً لأصحاب النفوس الضعيفة التي صعقت عند سماعها بالخبر فعادت إلى الكفر وكان تطهيرهم من هؤلاء أمر ضروري للتجمع الذي يستقبل مرحلة جديدة فكان لا بد من تمييز العناصر الضعيفة ثم نبذها بتلك الصورة. أما المؤمنون الذين ازدادوا إيماناً بعد سماعهم أخبار الإسراء والمعراج وازدادوا يقيناً بأحقية الرسالة كانوا بحاجة إلى المزيد من العلاقة الروحية مع القائد ليستطيع أن يتحرك بهم إلى مرحلة جديدة ومهام جديدة فقد سلطت الحادثة الضوء على عظمة القائد وعلى قدرته الخارقة في الاتيان بما لا يتمكن عليه أحد وهذا ما يزيدهم صلابة في انتمائهم وقوة في ولائهم للقائد. وبعد أن جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعطى الأدلة الكافية على صدق الإسراء والمعراج وتأكد المشركون من سلامة تلك الأدلة العينية التي شاهدها النبي (صلى الله عليه وآله) في طريق عودته فلم يكن أمامهم سوى الاعتقاد الجازم بصدق ما يقوله النبي (صلى الله عليه وآله) وما جاء به عند الله وانهم لا يمتلكون أية حجة بعد اليوم في مواصلة عنادهم.
- استراتيجية جديدة في التحرك:
بدأ الرسول (صلى الله عليه وآله) بخطة جديدة بعد أن قفل راجعاً من الطائف فوجد مكة ثائرة ضده سافرة عن كل ما تكنه من حقد وضغينة فكان عليه أما أن يعدل عن قرار العودة إلى مكة أو أن يحتمي بأحد الوجوه المعروفة والقادرة على توفير الحماية اللازمة له. فعرض الأمر على جمع من الشخصيات المكية فيهم الأخنس وسهيل بن عمرو فرفضا طلبه متعللين بحجج واهية وكانت الأمور في مكة قد تفاقمت بصورة لم تدع لأحد الجرأة في إجارة النبي (صلى الله عليه وآله) إلا مطعم بن علي حيث كان حوله جمع من أهل بيته يحملون السلاح وقد تمنطقوا بأسلحتهم وخرجوا إلى قريش معلنين عن قرارهم في إجارة النبي (صلى الله عليه وآله) فوجدها النبي (صلى الله عليه وآله) فرصة ذهبية لمواصلة تنفيذ بنود استراتيجية توسيع الدائرة البشرية للكيان الإسلامي للحصول على الموقع المناسب لإقامة أول دولة إسلامية.
فعلى صعيد توسيع نطاق الدائرة البشرية قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحركة واسعة لعرض الإسلام على القبائل فأجتمع بسادة قبيلة كنده في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم دعوته فأبوا ثم ذهب إلى فرع من قبيلة كلب هم بني عبد الله فقال لهم إن الله عز وجل قد أحسن أسم أبيكم وقد اخترتكم على سواكم فعرض عليهم أن يسلموا فلم يقبلوا منه ثم ذهب إلى بني حنيفة فردوه بصورة بشعة ثم أتى قبيلة بني عامر بن صعصعة وتم اللقاء في مكة وفي موسم الحج فعرض عليهم الإسلام فأبدوا بعض التجاوب إذ قال رجل منهم يدعى بحيرة بن فراس والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم التفت إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وقال له أريت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟
فأجابهم النبي (صلى الله عليه وآله) بلسان لا يعرف المساوية ولم يرد انتهاز الفرصة على حساب المبدأ قال لهم الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء.
فقال له بتأسف: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظفرت كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك ().
وعند عودة أفراد القبيلة والتفافهم حول شيخهم الذي لم يتمكن الاشتراك معهم في رحلة الحج، سألهم الشيخ عما شاهدوه في الموسم فقالوا جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم إنه نبي ودعانا لأن نمنعه ونقوم معه وتخرج به إلى بلادنا. فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف. والذي نفسي بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق، وأين كان رأيكم عنه.
وظل رسول الله يعرض الإسلام على القبائل قبيلة إثر قبيلة فسار إلى بني محارب وفزارة وغسان ومرة وسليم وعبس وبني نضر والحارث بن كعب وعذره والحضارمة دون أن يستجيب منهم أحد وكان يرافقه في تلك المهام الشاقة والمملوءة بالمخاطر ابن عمه علي بن أبي طالب وفي بعض المرات زيد بن حارثة.
وبعد فترة من الزمن انتهى النبي (صلى الله عليه وآله) بنتيجة هي ؛ إن وجود قريش بتحالفاتها وروابطها وهيمنتها على مكة وما حولها هو السبب في امتناع القبائل وعدم قبولها لدعوته.
فقريش تفرض هيمنتها على معظم القبائل في جزيرة العرب وكانت تتبادل معها المصالح الاقتصادية في نطاق نظام الايلاف بالإضافة إلى الهيمنة الدينية التي كانت تفرضها على سكان الجزيرة فكان على كل صاحب دعوة ان يحطم هذا الحاجز لكسر قيود الهيمنة القرشية على القبائل ونظرة فاحصة إلى القبائل التي قابلها النبي (صلى الله عليه وآله) ودعاها إلى الإسلام نجد انها كانت تنتمي في الغالب إلى شبكة العلاقات الاقتصادية التي صنعتها قريش لتأمين خطوطها التجارية في جزيرة العرب واستعملت قريش كل وسائلها لعرقلة تحرك النبي (صلى الله عليه وآله) نحو القبائل وبالأخص تلك التي كانت تأتي إلى مكة في مواسم الحج وكان أشد ما كان يرعبها هو امتداد الدعوة خارج مكة مما سيعرض كيانهم الوثني إلى خطر حقيقي فاجتمع الزعماء وتشاوروا فيما بينهم عما سيواجهونه من مواقف صعبة وهذه أيام الحج باتت قريبة منهم.
اقترح بعضهم أن يصفونه بالكهانة فرفض الوليد بن المغيرة ذلك وكان الاجتماع قد تم بدعوة منه.
وقال آخرون نقول عنه إنه مجنون لكن الوليد ظل لا يقبل بجميع تلك المقترحات وأقترح عليهم أخيراً أن يقولوا إنه ساحر في بيانه يفرق بين المرء وزوجه وبين الإنسان وأخيه وكان من أشد المحاربين له حرباً نفسية عمه أبو لهب فكان يدور بين القبائل ليقول لها إن محمداً كذاب وإنه عمه يشهد على كذبه لكن عزم النبي (صلى الله عليه وآله) على مواصلة نشاطه، ثم إعجاب القبائل بكلامه ورغبتها في الاستماع إليه وهي الكلمات التي جاء بها من عند الله والتي لم يسمعوا بها في حياتهم فهي ليست بسحر ولا يمكن أن يتهم من يقول هذه الكلمات من الله بكاذب فهم قد سمعوا كلام البشر هم أهل البلاغة والفصاحة وليس صعباً عليهم أن يميزوا بين كلام يقوله البشر وكلام آخر يعجزون عنه واستاءت قريش لأنها فشلت في استخدام سلاح الدعاية فوجهت أنظارها إلى النضر بن الحارث القصاص الذي يمتلك القدرة الكبيرة في جذب السامعين فأخذ النضر ينتهز كل فرصة يكون فيها محمد (صلى الله عليه وآله) بين قومه يدعو إلى الإسلام، كان هو أيضاً يجلس ليقص عليهم حكايات الفرس وعباداتهم ثم يقول للمسلمين بماذا يكون محمد أحسن حديثهاً مني أليس محمد يتلو من أساطير الأولين ما أتلو. ثم أخذوا يشيعون إن غلاماً نصرانياً اسمه جبر هو الذي يعلم محمداً أكثر ما يأتي به. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكثر من الجلوس عند المروة وكان في العادة يتزامن جلوسه هناك مع وجود هذا الغلام الذي يبيع بضاعته في المروة.
وعلى رغم الاخفاقات فقد واصل النبي (صلى الله عليه وآله) دعوته لكل من يتوسم فيه الخير في مواسم الحج وصادف في تلك الأعوام توتر في الأجواء السياسية في يثرب بين قبيلتي الخزرج والأوس بتدبير من اليهود فشهدت مكة وفوداً من القبيلتين جاءت لأجراء بعض التحالفات لتعزيز مواقفها في قبال خصومها فكان أن قدم وفد من خزرج بزعامة أبو الحيسر أنس بن رافع ومعه بعض من بني عبد الأشهل وكان الهدف من زيارتهم هو التحالف مع قريش (2) لكسب ميزان القوة إلى جانبهم وقبل أن يجروا اتصالاتهم التقى بهم النبي بعد ان عرف الغاية من سفرهم وقال لهم ؛ أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً وأنزل علي الكتاب.. ثم واصل النبي الحديث معهم عن تعاليم الإسلام تالياً عليهم بعض آيات القرآن فتأثر أحد أعضاء الوفد لحديث النبي وهو أياس بن معاذ وكان شاباً صغيراً فقال لأصحابه:
أي قوم هذا والله خير مما جئتم له فأخذ أنس بن رافع حفنة من التراب وضرب بها وجه أياس وقال دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا.
وما أن عادوا إلى يثرب حتى وقعت حرب بعاث بين الأوس والخزرج.
ـــــــــــــــ
الهامش
1)- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج2 ص 93.
2)- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج2 ص95.