محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 38 - العبادة
رابعاً: العبادة.
يمتاز أصحاب الحق بالمعنويات العالية، ومصدر هذه المعنويات هو علاقتهم الوطيدة بربهم، فكلما قويت هذه العلاقة ازدادوا معنويةً وارتفعوا في مدارك الكمال الإنساني وقد مارس أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) هذه العلاقة على أفضل صورة فضربوا أروع الأمثلة في العبادة والقُرب إلى الله سبحانه وتعالى.
ففي ذلك الزمن العصيب الذي ينسى فيه الإنسان نفسه، لم ينس أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) واجبهم الديني، فقد قضوا ليلة العاشر من محرّم ولهم دويّ كدويّ النحل وهم ما بين راكع وساجد وقارئ للقرآن، لم يذق أحد منهم طعم النوم في تلك الليلة الدامية، لم ينل العدو من نفوسهم الطاهرة ولم يلن من عزيمتهم، فقد ظلوا على صفائهم وعلى هدوئهم لم تستطع الأجواء العدوانية مهما بلغت من وحشيتها أن تنال منهم، فإيمانهم أخذهم تلك الليلة إلى رحاب الله فقضوا تلك الساعات العصيبة مع الله مستمدين منه الحول والقوة.
وبعد يوم من قتال شرس، وعندما انتصف النهار جاء أبو ثمامة الصائدي إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ليقول له: "نفسي لنفسك الفداء، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، والله لا تُقتل حتى أُقتل دونك وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه والصلاة التي قد دنا وقتها. وبعد أن تأكد الإمام من وقت الظهر قال لأبي ثمامة الصائدي: "ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها" وأخذوا يصلون في وسط بحيرة من الدماء، ووسط غابة من الرماح تحيط بهم من كل جانب ومكان، وبمجرد وقفة مع حياة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) نجد إنها كانت حافلة بالعبادة والزهد فكل واحد منهم كان أمثولة في العبادة، وكانوا قد عُرفوا بالعبادة عند القاصي والداني حتى أنّ النّوار بنت جابر قالت لكعب بن جابر الذي قتل بُريراً: "أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيد القرّاء، لقد أتيت عظيماً من الأمر لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً(1).
أمّا أصحاب عمر بن سعد فكانوا أرباب لهوٍ وفسقٍ وشرب للخمور، وقد ذكر المؤرخون أنّ الذين كانوا يحملون رؤوس أهل البيت والأصحاب كانوا يدمنون على شرب الخمر أثناء الطريق إلى أن وصلوا إلى الشام، ولا عجب في ذلك فالناس على دين ملوكهم، فإذا كان دين خليفتهم هو شرب الخمر واللهو والفسق والفجور فلا غرابة أن يأتي جنوده على النسق نفسه.
خامساً: الهدفية.
التجمع الذي يقوم على أساس الأهداف الكبيرة هو التجمع القادر على الحركة لأنه يعرف كيف يعمل ونحو أي اتجاه يتجه، فالهدفية تتطلب التخطيط السليم وتدعو إلى تظافر الجهود والإمكانات، والهدفية تجعل من التجمع قوة واحدة ولساناً واحداً ويداً واحدة على الأعداء.
ومن خصائص حركة الإمام الحسين (عليه السلام) أنها تسير وفق أهداف مرسومة لها وكل فرد في هذه الحركة كان يتحمل قسطاً مسؤولية هذه الأهداف.
وكلما كان الهدف كبيراً استوجب المزيد من النشاط والتحرك، وهذه صفة التجمعات الهادفة فهي تجمعات تمتاز بكثافة العمل والنشاط وتتجلى الهدفية في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في كل حركة وسكنة، في كل قول وفعل لم ينسَ أصحاب الإمام الحسين أهدافهم فمزجوها ومارسوها بأحاسيسهم وجوارحهم فجاءت على ألسنتهم كلمات ومشاعر كشفت عن غور نفوسهم وعمق مشاعرهم.
فهذا العباس بن علي (عليه السلام) يُعلن وبصراحة عن هدفية تسمو على الأمور الصغيرة فيقول:
والله إن قــــطـــــعتم يميــــني*****حامي أبداً عـن ديني
وعــــن إمام صادق اليـــقين*****نجل النبي الطــــاهر الأمين
فحماية الدين والدفاع عمن تمثل به الدين هو الهدف الكبير الذي يسعى إليه كل فرد في حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، بينما لا نجد هذه الهدفية في معسكر ابن زياد والذي كان يضم عدداً كبيراً من المرتزقة، والانتهازيين الذين لا هدف لهم سوى جمع الغنائم والحصول على حطام الدنيا وكان في مقابل ثمن باهظ هو دم الإمام الحسين (عليه السلام).
سادساً: الاستعداد للتضحية.
الثورة هي حقيقة ذاتية قبل أن تكون مظهراً خارجياً، فالثورة تبدأ أولاً من داخل الثوار ثم تظهر على سلوكهم ومواقفهم، وأبرز مظاهر الثورة على سلوك الإنسان هو الاستعداد الكامل للتضحية.
تظهر هذه الحقيقة جلية في نفوس أصحاب الحسين (عليه السلام) الذين آلوا على أنفسهم أن يضحوا بأنفسهم من أجل أهدافهم، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يحثّ أصحابه على التضحية ويضع شرطاً للانتماء إلى ثورته هو الاستعداد للتضحية ففي الرسالة التي كتبها إلى بني هاشم عند رحيله عن مكة جاء فيها: "من الحسين بن علي إلى أخيه محمد ومن قبله من بني هاشم، أمّا بعد: فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام(2).
فقد وضعهم الإمام أمام أحد خيارين، أمّا الاستعداد للشهادة وأمّا الخسران المبين، فالشرط الأول لقيام أي تجمع ثوري هو الاستعداد للتضحية.
وأروع موقف للتضحية في واقعة الطف هو موقف أبي الفضل العباس (عليه السلام) ولم يكن موقفاً واحداً بل مجموعة مواقف.
الموقف الأول: عندما هتف شمر بن ذي الجوشن: أين بنو أختنا العباس وأخوته فقال له العباس وأخوته: ما تريد يا بن ذي الجوش؟
فقال: لكم الأمان، فصاح العباس ومعه أخوته: لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أمان له.
وموقف آخر عندما طلب من أخوته من أمه أن يتقدموا للشهادة قائلاً لهم: تقدموا يا بني أمي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله، فكان يريد أن يراهم قد وفوا لإمامهم وضحوا بأنفسهم.
وقال لأخيه الأكبر سناً عبد الله: تقدم يا أخي حتى أراك قتيلاً واحتسبك، ما أروع هذا المشهد وما أصعب على الأخ أن يقدم أخوته للشهادة حتى يرى دمائهم وهي تختلط مع دماء بقية الشهداء، ومرة ثالثة عندما أوصل نفسه إلى الماء وكان قد أخذ منه العطش مأخذاً كبيراً، فاغترف من الماء غرفة وأراد أن يشرب منه إلاّ أنه تذكر عطش أخيه ومن معه من النساء والأطفال فرمى الماء من يده وأخذ يقول:
يا نفس من بعد الحسين هوني*****وبعــــده لا كنتِ أن تكــــوني
هذا الحســـــــــين وارد المنـــون*****وتشـــــربين بـــــارد المعــــــــين
تـــــالله ما هــــذا فعــــــال ديني
فقلما يجود التاريخ بمثل هذه المواقف التي ظلت ومنذ وقوعها وحتى يومنا هذا أمثولة للوفاء والإيثار والتضحية لأنها لم تتكرر حتى الآن ولربما سوف تتكرر لأنها جاءت بخصوصية قلما نجد لها نظيراً، فالعباس وهو حصيلة تربية أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أخ ا لحسن والحسين (عليه السلام) وهو ابن أم البنين التي اشتهرت بالتضحية والفداء، فهذا النموذج وبهذه الخصوصيات لا يمكنها أن تتكرر لكن سيجد العباس (عليه السلام) من يقتفي أثره ويحاول أن يقتدي به في التضحية والفداء.
وعلى النقيض من هؤلاء نجد أصحاب عمر بن سعد الذين جاؤوا لحرب الإمام الحسين (عليه السلام) لغرض دنيوي بحت، فكانوا مجموعة من المرتزقة والانتهازيين الذين تنافسوا على حطام الدنيا، فبينما كان أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) يتنافسون للذود عن إمامهم ودينهم كان هؤلاء يتنافسون على قتل أولياء الله ثم يتخاصمون فيما بينهم كل واحد يدعي أنه قتله ليحظى بالجائزة عند الأمير، ولعل أوضح صورة لأنانية جيش عمر بن سعد وتنافسه على حطام الدنيا هو نهبه لخيام الحسين (عليه السلام) تلك الصورة التي لو حاول الإنسان أن يجد مثيلاً لها ناطقة بالجشع والخسة لما وجد ما يشابهها.
فكربلاء جمعت أروع المواقف الإنسانية والبطولية إلى جانبها جمعت أخسّ المواقف وأرذلها، فهي قدمت لكل دارس للتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس نموذجين فريدين، نموذج الإنسان الذي يسمو بالإيمان إلى أعلى مراتب السمو، ونموذج للإنسان الساقط، وكيف يتهاوى إلى الحضيض لو تجرّد عن الإيمان.
سابعاً: الحفاظ على حقوق الناس.
الثورة لا تعني الفوضى، وقد شاهدنا الكثير من الثورات التي تحولت إلى عمليات للسلب وسحق الكرامات وانتهاك للقوانين والأعراف، وهذه ليست بثورة، فالثورة التغييرية هي التي تنبع من أعماق الإنسان الذي يريد أن يغير المجتمع، فمن غير الممكن أن يسلك هذا الإنسان الطرق الملتوية في تحقيق الثورة، فالحركة التغييرية هي التي تصبوا إلى تنظيم المجتمع على أسس صالحة، فليس بالنهب وسلب الحقوق والتجاوز على الآخرين يتحقق هذا الهدف، وضمن هذا الإطار جاءت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وهي أشد حرصاً على حقوق الآخرين، ومنها حق الناس في أموالهم وممتلكاتهم.
فقد روى الطبراني أنّ الإمام أمر منادياً ينادي في أصحابه" لا يُقتل معنا رجل وعليه دين" فقام إليه رجل من أصحابه فقال له: "إنّ عليّ ديَناً وقد ضمنته زوجتي، فقال (عليه السلام): وما ضمان امرأة(3).
فحرص الإمام على حقوق الناس منع هذا الرجل من أن يكون في ركابه وهو أحوج ما يكون إلى الناصر والمعين.
فالنظرة الإنسانية للإمام شملت حتى أعدائه فقد أمر أخوته من أبيه أن يجيبوا شمر بن ذي الجوشن عندما اقترب إلى معسكر الحسين منادياً: أين بنوا أختنا العباس وأخوته؟، فأراد العباس وأخواته أن لا يجيبوهن فقال لهم الحسين (عليه السلام): أجيبوه ولو كان فاسقاً، فأجابه بذلك الجواب الذي ذكره المؤرخون وبهذا الموقف الإنساني يريد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يعلمنا أخلاقية الصراع ,وإنّ على الإنسان أن يحترم حتى أعدائه حتى لو كانوا على عكسه وهو حال جيش عمر بن سعد، ذلك الجيش الذي تجاوز على الحقوق وانتهك القوانين والأعراف، ومع ذلك يقابلهم الإمام لأنه كان ذو رسالة تغييرية تريد إعادة المجتمع إلى حالة الصواب.
ثامناً: حرية الاختيار.
ليّس في الثورة فرض أو إجبار، فالثوار يصبحون ثواراً بإرادتهم وبوعيهم فهم يختارون طريق التغيير وليست هناك أية قوة في العالم تستطيع أن تجبرهم على عمل لا يتفق وإرادتهم. وهم لا ينصهرون في الثورة بقوة دوافع خارجية بل بإرادة ذاتية واعية، وطالما ظلت هذه الإرادة كانوا قادرين على العمل الثوري. وقد امتثل الإمام الحسين (عليه السلام) لهذه القاعدة فلم يفرض على أحدٍ من أصحابه الانتماء إلى ثورته والالتحاق به، فحتى بنو هاشم انضموا إليه بإرادتهم الذاتية فلم يجبرهم أحد على الانخراط في الثورة، كتب إليهم زعيمهم وولي أمرهم: " من لحق بي فقد استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح"، فأعطى حق الاختيار لبني هاشم إن أرادوا شاركوا في الثورة وإن لم يريدوا لم يشاركوا فيها.
وكان يقول لآل عقيل: "حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا فقد أذنت لكم".
وفي ليلة العاشر من محرّم جمع أصحابه وقال لهم: "أمّا بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي فجزاكم الله جميعاً عني خيراً إلاّ وأني لا أظن من هؤلاء الأعداء غداً، وإني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حل ليّس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإنّ القوم إنما يطلبونني، ولو أصابونني لهوا عن طلب غيري(4).
موقف فريد من نوعه حيث تسعى الحركات الثورية إلى ضمّ أكبر عدد من الناس إليها لتوسيع نطاق الحركة، إلاّ أننا في واقعة كربلاء نرى العكس تماماً، نرى الإمام (عليه السلام) يدعو أصحابه إلى التفرّق من حوله، ويصّر عليهم أن يتركوه لوحده لكنهم لا يفعلون ذلك لأنهم جاءوا معه واتبعوه عن عقيدة راسخة واقتناع كامل فلم يكن انضمامهم لدافع مادي أو نفسي بل عن وعي وبصيرة، حتى أنّ العدو عرف فيهم هذه الخصيصة وأخذ يصفهم بأصحاب البصائر، فقد أصروا على البقاء مع الإمام حتى لو كلفهم ذلك دماؤهم. وبذلك يضع الإمام الحسين (عليه السلام) أمام الثوار قاعدة ذهبية هي إعطاء الناس حق الاختيار وعدم إجبارهم على الانخراط في أي حزب سياسي أو أي تجمع بشري، لأن الإجبار لا يأتي إلاّ بالهروب والتراجع مثلما حدث في جيش عمر بن سعد الذين انخرطوا في هذا الجيش بصورة إجبارية.
فقد عاكس ابن زياد منهج الإمام الحسين (عليه السلام) فأصدر أوامره المشددة إلى أهل الكوفة بالخروج لقتال الإمام الحسين (عليه السلام)، وممّا جاء في رسالته إلى أهل الكوفة: "فلا يبقى رجل من العرفاء والمناكب والتجّار والسكان إلاّ خرج فعسكر معي، وأي رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفاً عن المعسكر إلاّ برئت الذمة منه(5).
وقد أمر بعض رجاله بأن يقرأوا هذه الرسالة على أهل الكوفة ويجبروهم على الالتحاق بمعسكره في النخيلة، ومن يرفض كان مصيره الموت، وقد ذكر البلاذري أنّ الشرطة ألقت القبض على رجل من همدان قدم الكوفة يطلب ميراثاً له فأتى به إلى ابن زياد فأمر بقتله، ولما رأى الناس مصير هذا الرجل أسرعوا إلى النخيلة، حتى لم يبق في الكوفة محتلم إلاّ خرج إلى المعسكر(6).
واستطاع ابن زياد وعبر استخدام سياسة التخويف والتهديد بالقوة أن يكون له جيشاً جراراً، لكن لم تمضِ مدة طويلة على هذا الجيش حتى بدأ يتفتت حيث أخذ الجنود يهربون من معسكرهم لأنهم لم ينتموا إليه عن عقيدة وإيمان.
ويشير البلاذري إلى ذلك قائلاً: "إنّ القائد يكون على ألف مقاتل لا يصل إلى كربلاء إلاّ ومعه ثلاث مائة أو أربع مائة أو أقل من ذلك، فقد كانوا يفرون كراهة منهم لهذا الوجه(7).
تاسعاً: الرحمة والشفقة:
ليّست الثورة طغياناً، وليّس الثوار طغاةً وجبابرة بل هم أناسٌ اندفعوا للعمل بعد إحساسهم بالمسؤولية وأنهم ثاروا من أجل الناس، لأنهم شاهدوا ما يلاقيه الناس من الظلم والطغيان فأرادوا أن يزيحوا عن كاهلهم شبح الظالمين والطغاة، فمن غير المعقول أن يأتي هؤلاء الثوار بالأعمال نفسها التي يمارسها الطغاة.
فلأنهم ثاروا من أجل الناس لم ينسوا أنهم رسل رحمة حتى لأعدائهم، لأن طموحهم في التغيير يتسع لمساحة أكبر من ا لمؤيدين لهم حتى أنه يشمل أعدائهم أيضاً لأن شعورهم بالمسؤولية يمنحهم قلباً كبيراً يتسع حتى لأولئك الذين جاءوا إلى حربهم، وهذا ما نشاهده في جبهة الإمام الحسين (عليه السلام)، نجد في هذه الجبهة الرحمة والشفقة بأعلى درجاتها حتى مع الأعداء الذين جاءوا للقضاء عليهم.
عندما وصل جيش حر بن يزيد الرياحي إلى ذي حُسم لإلقاء القبض على الإمام كان قد أخذه العطش، فلاحظ الإمام عليهم حالة الإعياء وأنهم مشرفون على الهلاك من شدة الظمأ فرّق قلبه الكبير عليهم، وتجاهل أنهم جاءوا لحربه فسقوا الجيش ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملأون القصاص والطساس فإذا عُب فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت وسقي الآخر حتى سقوا الخيل عن آخرها، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) إلى جانب أصحابه يسقي جيش أعدائه بالماء حتى أنّ علي بن الطعان المحاربي أحد الجنود ذكر قائلاً: "كنت مع الحر بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال: أنخ الراوية، والراوية عندي السقاء ثم قال: يا ابن أخي أنخ الجمل فأنخته فقال: اشرب فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسين: أخنث السقاء أي اعطفه قال: فجعلت لا أدري كيف أفعل، قال: فقام الحسين فخثهُ فشربتُ وسقيت فرسي(8).
لم يذكر التاريخ لنا مناقبية قائد عسكري بلغت إلى هذه الدرجة التي بلغتها مناقبية الإمام الحسين (عليه السلام) إلاّ اللهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث كانا يعاملان أعدائهما بالحسنى، والحسن هو ثمرة تلك التربية الرسالية التي بذرها رسول الله وأمير المؤمنين.
وعلى عكس ذلك نجده عند الأعداء، الذين تخلوا عن الإنسانية واستخدموا كل الوسائل الدنيئة للضغط على الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، فقد نُزعت عن قلوبهم الرحمة والشفقة وباتوا وحوشاً كاسرة لم يرحموا الطفل الصغير ولا الشيخ الكبير فمنعوا الماء عن أصحاب الإمام وأخذوا يلوحون بجريمتهم البشعة فهذا المهاجر بن أوس يرفع صوته قائلاً: يا حسين ألا ترى إلى الماء يلوح كأنه بطون الحيات، والله لا تذوقه أو تموت، وذاك عمرو بن الحجاج يهتف قائلاً: يا حسين هذا الفرات تلغُ فيه الكلاب وتشرب فيه الحمير والخنازير، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنم.
وذاك عبد الله بن حصين يرفع صوته قائلاً: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً.
وبرزت وحشيتهم مرة أخرى عندما تطاولوا على الطفل الرضيع ولم تأخذهم به الرحمة والشفقة، وقد جاء به الإمام الحسين (عليه السلام) إلى القوم ليسقوه ماءً فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه في حجر أبيه، فتلقى الحسين دمه حتى امتلأت كفه، ثم رمى به إلى السماء(9).
عاشراً: المعنويات العالية.
معنويات المتقاتلين من أهم العوامل المؤثرة في الانتصار، فالجيش الذي لا يملك أفراده المعنويات العالية سيكون عُرضة للهزيمة لا محالة.
وتتكوّن المعنويات نتيجة عوامل عديدة ذكرنا بعضها؛ ذكرنا رسوخ العقيدة والتفاني من أجل الأهداف، والقناعة بالقيادة والمنطلقات، فعند توفر هذه العوامل ترتفع معنويات الثوار، وينجم عن المعنويات العالية رضى النفس وانشراحها، فالثوار تعلوهم الابتسامة وهم يخوضون غمار الصراع الدامي، لأنهم مطمئنون من نهجهم واثقون من أنفسهم ذائبون في أهدافهم.
فهؤلاء أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا يتقدمون للشهادة والابتسامة تعلوا وجوههم المستبشرة، فهذا حبيب بن مظاهر خرج إلى أصحابه وهو يضحك، فأنكر أحد الأصحاب هذا العمل قائلاً له: ما هذه ساعة ضحك، فأجابه حبيب عن عقيدة وإيمان أي موضع أحق من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين(10).
وهذا برير بن خضير يداعب عبد الرحمن الأنصاري، فاستنكر الأنصاري قائلاً: ما هذه ساعة باطل، فأجاب برير: لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكني مستبشراً بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، وودتُ أنهم مالوا علينا الساعة(11)، هذا ما نجده في جبهة الإمام الحسين؛ نجد البسمة والفرحة والبشرى!!
وماذا نجد في الجبهة المعاكسة؟.
لنسمع ما يقوله قائد الجيش الذي جاء لحرب الإمام الحسين (عليه السلام)، قال عمر بن سعد لمّا رجع إلى الكوفة بعد مقتل الإمام: "ما رجع أحد إلى أهله بشر ممّا رجعت به أطعت الفاجر الظلم ابن زياد، وعصيت الحكم العدل، وقطعت القرابة الشريفة وارتكبت الأمر العظيم(12).
ثم نأتي إلى أحد القادة الأساسيين في جيش عمر بن سعد وهو شبث بن ربعي فعندما طلب منه ابن سعد أن ينجد عروة بن قيس أبى وقال: " سبحان الله شيخ مصر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري" وكان وراء هذا التردد ندم عميق وشعور بوخزة الضمير يمكن ملاحظته في كلامه: "لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً، ولا يسددهم أرشد ألا تعجبون أنّا قاتلنا خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ضلال يا لك من ضلال(13).
ثم نأتي إلى مقاتلً آخر في جيش عمر بن سعد لنلمس من نبراته الشعرية شعوراً عميقاً بالندم، وهو يعبر عمّا يجري في ضميره من صراع عنيف، وهذا المقاتل هو رضى بن منقذ العبدي:
لقد شاء ربي ما شهدت قتالهم*****ولا جعل النعماء عندي ابن جابر
لقد كان ذاك اليوم عاراً وسُبــّة*****يُعيــــّره الأبنــــــاء بــــعد المعـــــاشر
فيا ليت أني كنتُ من قبل قتــله*****ويوم حسين كنـــت في رمـــس قابر
الحادي عشر: الإستقامة والتصميم.
الاستقامة هي قيمة إنسانية سامية، وهي أيضاً قيمة حركية كبرى لأنها تمد الحركة بأسباب البقاء حتى تحقيق النصر، ورأسمال كل ثورة هو عدد الذين يبقون على المبدأ ولا ينحرفون في ميادين الصراع ويواصلون جهادهم حتى النفس الأخير.
وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي من تلك الثورات النادرة التي امتازت باستقامة أفرادها وثباتهم على المبدأ، وقد سجّل لنا التاريخ صوراً رائعة عن استقامة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) فهذا نافع بن هلال يجرح في المعركة ويؤخذ أسيراً إلى ابن سعد فقال له ابن سعد: ما حملك على ما صنعت بنفسك، فأجابه نافع: إنّ ربي يعلم ما أردت.. والتفت إليه بعض أصحاب ابن سعد وقد رأى الدماء تسيل على وجهه ولحيته فقال له: أما ترى ما بك؟
فقال مستهيناً بهم: والله لقد قتلت منكم إثني عشر رجلاً سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عَضُد ما أسرتموني.
وأراد شمر أن يقتله فقال له: والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا فالحمد لله الذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه(14). وهذا موقف ينمّ عن استقامة وثبات واستهانة بالعدو قّل نظيره في التاريخ.
وصورة أخرى يذكرها لنا التاريخ عن عبد الله بن يقطر وكان الإمام (عليه السلام) قد أوفده إلى الكوفة ومعه كتابه إلى مسلم بن عقيل فألقت الشرطة القبض عليه في القادسية وأرسل إلى عبيد الله بن زياد الذي طلب منه في مقابل إطلاق سراحه أن يصعد المنبر ويلعن الإمام الحسين (عليه السلام)، وظنّ ابن مرجانة أنه سيفعل ما أمره حتى ينجو من موتٍ محقق، ولم يكن ينتظر تلك النتيجة المرّة؛ صعد عبد الله بن يقطر المنبر وأعلن لأهل الكوفة: أيها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ بن الدعّي لعنه الله، وأخذ يلعن ابن زياد، ويذكر مساوئ بني أمية ويطلب من الناس الالتحاق بالإمام الحسين ونصره على جيش يزيد، فغضب ابن زياد وأمر بأن يرمى من أعلى القصر، نكتفي بهذين النموذجين عن استقامة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، وما أكثر صور الاستقامة في معسكر الإمام، أمّا في معسكر ابن زياد فنكتفي بهذا النموذج، وهو قول شبث بن ربعي.
قال أبو زهير العبسي فأنا سمعته (شبث بن ربعي) في إمارة مصعب يقول: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً ولا يسددهم لرشد ألا تعجبون أنّا قاتلنا مع عليّ بن أبي طالب ومع ابنه من بعدهِ آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ضلال يا لك من ضلال(15).
وإذا عرفنا أن شبث بن ربعي أحد أبرز القادة العسكريين في جيش ابن زياد لعرفنا واقع هذا الجيش وأنه لا يستند إلى موقف أصيل لأنه ضمّ بين جنبيه أفراداً مرتزقة يضعون أيديهم في أيدي أية سلطة تستولي على الحكم، وإذا فتشنا عن بقية قادة هذا الجيش لوجدناهم أنهم ليّسوا بأفضل من شبث بن ربعي، فالجامع الوحيد الذي يجمعهم هو الانتهازية والنفعية أو الخوف من سطوة السلطان.
الهوامش:
1- الطبري: 4/329.
2- دلائل الإمامة: ص77.
3- المعجم الكبير: 1/141.
4- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 3/285.
5- أنساب الأشراف: 3/178.
6-7- أنساب الأشراف: 3/179
8- الطبري: 4/302.
9- الإرشاد: ص224.
10- رجال الكشي: ص53.
11- البداية والنهاية: 8/187.
12- الدنيوي: الأخبار الطوال، ص217.
13- الكامل في التاريخ: 3/219.
14- البداية والنهاية: 8/84.
15- الطبري: 4/332.