محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 17
4- استرداد ما أخذ من مال المسلمين.
لم تقم سياسة تقسيم الأموال على عهد عثمان على مبدأ واضح فقد كانت هذه الأموال توزع بشكل غير منتظم كما وأن جمعاً من بني أمية من أقارب الخليفة استأثروا بالقسم الأعظم من تلك الأموال فاشتروا بها العقار.
أيضاً قامت سياسة الخليفة عثمان على مبدأ ترضية كبار الصحابة بمنحهم قطع من الأرض المفتوحة، ولم يشك أحد إن هذه الأموال والأراضي هي من حصة المسلمين فلابد من اعادتها اليهم.
فالذين استملكوا تلك الأراضي على رغم انها قطعت لهم من قبل الخليفة إلا أنها أموال عامة يشترك فيها كل المسلمين فلم يساوم ولم يتردد في إعادة تلك الأموال ، بيت مال المسلمين على رغم ماسيصيبه جراء هذا الموقف، فقد وقف الإمام ليعلن على الملأ وليسمعه كل المنتفعين من حكم عثمان.. يقف ليقول:
ألا وإن كل ما أقطعه عثمان من مال الله مردود الى بيت مال المسلمين فإن الحق قديم لايبطله شيء و والله لو وجدته تفرق بين البلدان وتزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم(1).
كان يفترض على الامام أن يعيد الحق الى نصابه وإلا لما كان على الحق ولما كان الحق معه كما قال رسول الله فيه. وأول مايجب استرداده هو حقوق الناس التي استبيحت على أيدي حفنة متزلفة.
لايخشى علي ما سيؤول اليه هذا الموقف وهويدري إن هؤلاء سوف لا يسكتوا عنه وانهم قد يتآمروا عليه وانهم قادرون على اثارة الرأي العام ضده بما يملكون من أموال يوزعونها على ضعاف النفوس.
لايهم علي كل هذا.. طالما كان موقفه هو الحق.
فإصراره على استعادة الحق لاحد له.
والله لو وجدته تفرق بين البلدان وتزوج به النساء وملك به الاماء لرددته.
بهذه العزيمة وبتلك الصلابة بدأ الامام عهداً جديداً من الحكم الاسلامي بعد غياب طال أمده.
القصاص من قتلة الخليفة عثمان
من القضايا الملحة التي كانت مطروحة على الامام، يوم تحمله للمسؤولية قضية القصاص من قتلة الخليفة عثمان سيما وإنه كان على يقين بأن اعداءه سيستغلون هذه القضية، وربما أتهم بالتقصير إذا لم يسرع في أخذ القصاص؟ فلماذا تخلف الامام وهل كان من المصلحة أن يؤجل هذا الموضوع؟
لايخفى أن الامام كان يرى ضرورة التحري عن قتلة عثمان لإنزال حكم الله عليهم.
يذكر سيف بن عمر في كتابه الفتنة:
واجتمع الى علي بعد مادخل طلحة والزبير في عدة من الصحابة، فقالوا: ياعلي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل، وأحلوا بأنفسهم.
فقال لهم: يا أخوتاه إني لست أجهل ماتعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم، هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت اليهم اعرابكم وهم خلانكم يسومونكم ماشاؤوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قا لوا:
لا , قال : فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه ان شاء الله.
وأخذ الامام يحلل لهم الموقف:
ان هذا الامر أمر جاهلية.. وإن لهؤلاء القوم مادة.. وذلك إن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبداً. إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور: فرقة ترى ماترون، وفرقة ترى مالاترون، وفرقة لاترى هذا ولا هذا حتى تهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدأوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا(2).
والتأمل السريع في الرسائل المتبادلة بين الامام ومعاوية سيكشف عن تلك الحقيقه..
وتبدأ القضية من اتهام معاوية للإمام والتأليب عليه.
جاء في رسالته لأهل مكة والمدينة، أما بعد فإنه مهما غاب عنا فإنه لم يفت علينا أن علياً قتل عثمان والدليل على ذلك ان قتلته عنده، وانما نطلب بدمه حتى يدفع الينا قتلته فنقتلهم بكتاب الله تعالى.. فإن دفعهم الينا كففنا عنه(3).
فأجابه الإمام برسالة أرسلها مع جرير جاء فيها..
فأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان(4)
فكتب معاوية لعلي:
وقد أبى أهل الشام الا قتالك حتى تدفع اليهم قتلة عثمان، فإذا دفعتهم كانت شورى بين المسلمين(5)
فأجاب أمير المؤمنين (عليه السلام):
وأما حق لك ندفع اليك قتلة عثمان فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أمية. وبنوعثمان أولى بعثمان منك. فإن زعمت أنك أقوى على ذلك فادخل في الطاعة ثم حاكم القوم الي(6)
وهذا هو منطق الانسان المسؤول الذي يريد حل المشكلة.
فالقصاص من قتلة عثمان بحاجة الى تشخيص وتعيين هوية القاتل.
وهو ليس بعملية سهلة فتحديد الجاني في قضية محاصرة الخليفة وقتله مسألة معقدة ولم يكن من اليسر التحقيق فيها في ذلك الوضع المضطرب، لأن قتل عثمان لم يتم بطريقة فردية حتى يمكن تشخيص القاتل، إذ انه قتل في ظروف ثورة شعبية والذين اشتركوا في قتله عدة أشخاص وليس فرداً واحداً.
كما وإن اجراء العدالة، وأخذ القصاص من القتلة هو شيء مستحيل في ذلك الوضع المضطرب الذي ماكاد ينتهي حتى بدأت معركة الجمل والتي اتبعها معاوية بعصيانه على الحكومة المركزية.
وقد وضع أمير المؤمنين معاوية أمام المحجة بعد أن كشف عن زيفه.
فإذا كان معاوية صادقاً في دعواه ويريد حقاً القصاص من قتلة الخليفة فكان
الأولى به مساعدة الخليفة الجديد والعمل على استتباب الأمن ثم عليه أن ينصاع لأوامره حتى يحين الظرف الملائم لإجراء التحقيق في هوية القاتلين ومن ثم اجراء القصاص عليهم، فهل فعل معاوية ذلك؟
أم انه كان يبحث عن أي مأخذ لإثارة الفوضى والقلاقل.
الكوفة دار الخلافة
كان من بين الخطوات السياسية الهامة التي قام بها الإمام علي(عليه السلام) بعد معركة الجمل هو اتخاذه الكوفة عاصمة للدولة الاسلامية..
ويرجع قرار الإمام الى العوامل التالية:
ا- مع امتداد الدولة الاسلامية وتوسعها في آسيا وأفريقيا لم تعد المدينة المنورة الا مدينة نائية بعيدة عن الأمصار التي أنشئت في البلدان التي تم فتحها، فكان لابدّ من اختيار موقع آخركمقر للقيادة، ولم يكن هناك موقع أفضل من الكوفة، حيث كانت تشكل نقطة اتصال بين الشرق والغرب وبين الجنوب والشمال، الأمر الذي يسهل الاتصال بين المدن الاسلامية المختلفة بالأخص تلك التي أنشئت في عهد الخلافة الراشدة والتي أصبح لها دور مهم في الدولة الاسلامية.
2- تتركز في الكوفة القاعدة الموالية للإمام علي (عليه السلام)، فأهل المدينة آثروا الحياد والابتعاد عن الصراعات السياسية.
يقول ابن كثير: وكان علي لما عزم على قتال أهل الشام قد ندب أهل المدينة الى الخروج معه فأبوا عليه(7).
بينما كان أهل البصرة يوالون طلحة والزبير، بقي أهل مصر الذين انقسموا الى جناحين، جناح يوالي الامام علي(عليه السلام) وجناح آخر يوالي الخليفة عثمان.
أما أهل الكوفة فكانوا كما وصفهم الامام أميرالمؤمنين(عليه السلام)
اني قد اخترتكم على أهل الأمصار، فرغبت اليكم وفرغت لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً، وانهضوا الينا فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخواناً(8) فأهل الكوفة هم سند الإمام.. وفي تلك الفترة التي عجت بالصراعات، كان من الطبيعي أن يكون الإمام بين أنصاره والمؤيدين له. فهم سيساندون سياسته الرامية الى تطهير الكيان الإسلامي مما علق به من تراكمات الفترات السابقة أضف الى ذلك فإن أهل الكوفة يمتازون بخصال قلما توجد في أهالي الأمصار الأخرى فقد وصفهم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):
يا أهل الكوفة انكم من أكرم المسلمين وأقصدهم تقويماً وأعدلهم سنة وأفضلهم سهما في الإسلام وأجودهم في العرب مركباً ونصاباً، وأنتم أسد العرب وداً للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته وإنما جئتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبير وخلفهما طاعتي(9).
3- النظرة التأريخية لبداية تأسيس هذه المدينة تشير الى أهمية خاصة تحظى بها الكوفة على سائر الأمصار.
فيذكر ان الخليفة عمر بن الخطاب كتب الى سعد ابن ابي وقاص، إن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح الشاة والبعير، فلا تجعل بيني وبينهم بحراً، وعليك بالريف، فأتاه ابن بقيلة فقال له: أدلك على أرض انحدرت عن الفلات وارتفعت عن المبقة؟ قال: نعم، فدله على موضع الكوفة(10).
ولم يكن الاختيار صدفة بل جاء ضمن مواصفات وضوابط. فقد ازدادت الفتوحات وكثرت الفعاليات العسكرية فكان لابدّ من البحث عن مكان مناسب لاستراحة المحاربين فوقع الإختيار على الكوفة من بين كل المناطق.
4- اتصفت الكوفة بأراضيها الخصبة وبثرواتها الوفيرة.
فذكر الحميري في الروض المعطاء في وصف الكوفة.
ويقال لها كوفان، ولها ضياع وفرايح ونخل كثير وأهلها مياسير ومياهها عذبة وماؤها صحيح وأهلها من صرح العرب(11)
وينقل البراقي عن ابن حوقل مقايسة بين الكوفة والبصرة.
مدينة الكوفة قريبة من مدينة البصرة في الكبر، هواؤها أصح، وماؤها أعذب(12).
وبمقايسة الكوفة بثرواتها ومياهها العذبة وهواءها المنعش، بالمدينة بقلة مياهها وسخونة هوائها ومحدودية ثرواتها لأدركنا أبعاداً أخرى مادية في اختيار هذه البقعة لتصبح عاصمة للدولة الإسلامية.
5- اجتمع في الكوفة شرائح اجتماعية من مختلف أصقاع البلاد الإسلامية، من اليمن والحجاز والعراق وبلدان أخرى حيث أصبحت مركزاً للعالم الإسلامي، يتجمع فيه المسلمون من كل مكان فتختلط فيها الأجناس والأعراف والقوميات، الأمر الذي جعلها مدينة عالمية كماهي العواصم الكبرى اليوم حيث تلتقي فيها أجناس وأقوام مختلفة.
6- وهناك سبب آخر لعله أهم الأسباب، هو قرب الكوفة الى مناطق التوتر في العالم الإسلامي، فالبصرة ودمشق هما أهم النقاط التي اندلعت فيها القلاقل والإضطرابات ضد الدولة الإسلامية في عهد الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام).
فالبصرة كانت تختزن بقايا الزبيرين، بينما كانت دمشق حاملة لراية العصيان بقيادة معاوية بن ابي سفيان. وكان الإمام على علم ويقين بأن صراعه مع معاوية سيستمر لأمد طويل من الزمن لما عرفه عنه من مكر وخديعة.. فعليه أن يتهيأ لفصل طويل من الصراع. فلوكان الإمام قد بقي في المدينة المنورة لكان قد تغير الوضع العسكري لصالح معاوية. فيعد اختياره للكوفة دعامة من دعامات الاستراتيجية العسكرية التي وضعها الإمام لمواجهة مناطق التوتر سيما وان اختياره جاء عقب نشوب القلاقل في البصرة.
وكانت خطة الإمام العسكرية في الجانب الآخر تقتضي التصدي لمعاوية في عقر داره أو على الأقل على مقربة من الشام فكان ارسال الجيش من المدينة (على فرض ان الامام كان قد بقي فيها) الى الشام ليس بالأمر الميسور إذ كان يكلف القيادة ثمناً غاليا حيث كان يستوجب حركة قطاعات الجيش عبرمسافات شاسعة في عمق الصحراء لتصل بعد التعب والإرهاق الى القوات المتمردة في الشام. فوقع الإختيار على الكوفة كمركز خلفي يمد الجيوش المقاتلة بالجنود والمؤن ويستقبل الجرحى لمداواتهم.
اضافة الى ذلك فإن بروز فلول حركة التمرد داخل الجيش، وتحصن هذه الفلول في قرية حرورية التي لاتبعد عن الكوفة سوى نصف فرسخ (13) كان يستوجب هو الآخر مراقبة دائمة وتأهب مستمر بالقرب من حرورية.
ولانبالغ عندما نقر بأن اختيار الكوفة كموقع خلفي في المعارك الثلاثة قد ساعد كثيراً على تسجيل النصر لصالح الامام علي (عليه السلام) ويعد هذا الاختيار ركن مهم من الاستراتيجية العسكرية الناجحة التي اتبعها الامام في مواجهة الفئات المتمردة والطامعة بالخلافة.
وبعد أن وقع الاختيار على الكوفة، دخلها يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له إنزل بالقصر الأبيض، فقال: لا(14)
وكان أول عمل قام به الإمام(عليه السلام) هو الصلاة في الجامع الأكبر والخطبة المشهورة التي امتدح بها أهل الكوفة.
نلمس من خطوات الإمام الأولى، إنه يريد أن يعكس صورة ايجابية عن الحاكم الاسلامي تنسجم وواقع الرسالة وواقع الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
فالحاكم ليس بالقصر.
ولابالكرسي المرصع.
ولابالحرس والحشم والجواري..
أولئك هم حكام الجور.. ملوك فارس وقياصرة الروم، فقد جاء الاسلام ليلقي بكراسيهم وقصورهم الى مزبلة التأريخ.
ولازال المؤرخون يقفون بإجلال ويكتبون بأقلام فخورة كيف تساقطت قصور القياصرة والأكاسرة في يوم مولد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
وهم يقفون بألم محرق ليسطروا بأقلامهم..
إن تلك القصور والكراسي المرصعة قد عادت على أيدي معاوية وهو ليس بأكثر
من والي.. فكيف به لو أصبح خليفة؟.
دخل معاوية على الخليفة عمر بن الخطاب وكان والياً في زمانه، دخل عليه في
أبهة الملك وزيه من العديد والعدة فاستنكر عمر ذلك وقال له في غضب:
أكسروية يا معاوية(15).
كان الإمام يراقب أوضاع الشام وسلوك معاوية خلال فترة ولايته في عهد الخليفة الثاني والثالث، وكان يرى في معاوية سلوكاً شاذاً عن روح الإسلام وسينجر هذا السلوك الى انحراف في المنهج إذا لم يقف بوجهه سريعاً.. فكان أول فعل قام به أن حذف من حوله كل الزوائد التي التصقت بالولاة والحكام فلا قصرلا كرسي ولا أي مظهر من مظاهر الزخرفة والكبكبة. فقد أراد بهذا النهج أن يعيد الى السلطة الإسلامية قيمتها الحقيقية واعتبارها الرسالي والتي بدونها تتحول إلى أداة قسرية وإلى سوط مرصع بالذهب ينهال على ظهور الفقراء والمحرومين.
أراد علي أن يعلن الحرب على منهج خاطىء سلكه معاوية.. وهي حرب شهرها بسلوكه وسيرته الرسالية والتي برز من خلالها مدى الإنحراف الذي انجر إليه معاوية بن أبي سفيان.
الهوامش:
1- دعائم الإسلام ج 1ص 396.
2- سيف بن عمر الفتنة ووقعة الجمل ص 280.
3- ابن قتيبة الإمامة والسياسة 98-99.
4- ابن قتيبة الإمامة والسياسة 93.
5- الإمامة والسياسة ص101.
6- الإمامة والسياسة ص102.
7- ابن كثير البداية والنهاية 7/ 241.
8- ابن كثير البداية والنهاية 7/ 245.
9- المجلسي بحار الأنوار 32/ 115.
10- الحموي معجم البلدان 4/491.
11- الحميري الروض المعطاء في خبر الأقطار 51.
12- البراقي تأريخ الكوفة ص 113.
13- الحميري الروض المعطاء في خبر الأقطارص 190.
14- ابن كثير البداية والنهاية ص 264.
15- ابن خلدون المقدمة الفصل 28 ص 03 2.