محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 10
2- افتقار سياسة عثمان المالية إلى حالة من التوازن وإلى قاعدة ثابتة في التوزيع العادل .
وكانت النتيجة الحتمية لهذه السياسة هي افتقار الرقعة الكبيرة من المجتمع الإسلامي وتسابق الأقلية الأموية على اقتناء الأموال والعقارات.
يذكر المسعودي: وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور منهم الزبير بن العوام بني داره بالبصرة وابتنى أيضاً دوراً بمصر والكوفة والاسكندرية وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخلف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة.
وكذلك طلحة بن عبد الله التميمي ابتنى داره بالكوفة المشهورة به إلى هذا الوقت المعروفة بالكناسة بدار الطلحيين وكان غلته من العراق كل يوم ألف دينار وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري ابتنى داره ووسعها وكان على مربطه مائة فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف شاة من الغنم وبلغ بعد وفاته ربع ثمن ماله أربعة وثمانين ألفاً وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق فرفع سمكها ووسع فضاءها وجعل أعلاها شرفات.
وقد ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار(1).
ويحاول المسعودي أن يوجد مفارقة بين البذخ في عهد عثمان والزهد في عهد الخليفة عمر فيقول..
وحج عمر فأنفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر ديناراً وقال لولده عبد الله لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا(2).
وكان بنو أمية يتعاملون مع بيت المال وكأنه من مالهم الخاص بل أكثر من ذلك كانوا ينظرون إلى ممتلكات الدولة الإسلامية على أنها جزء من ممتلكاتهم الشخصية.
فقد ذكر الطبري كان سعيد بن العاص والي عثمان في الكوفة يسمر مع وجوه الناس فقال مخاطبا الجمع من حوله، إنما هذا السواد بستان لقريش (3) ويقصد العراق.
فواجهه مالك الأشتر قائلاً أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيباً إلا أن يكون كأحدنا.
وكان الخليفة يشجعهم على اتباع هذه السياسة فقد كتب لمروان بخُمس مصر(4) فتجبروا وطغوا فأشاعوا الفساد والأرهاب بين الناس.
وقد أوجد هذا الغنى طبقة واسعة من الفقراء من العرب والموالين الذين كانوا يعملون على الأرض في الزراعة. ولعل أقوى دليل على وجود هذه الطبقة الوسيعة من الفقراء حركة أبي ذر الغفاري والتي كان على رأس أهدافها الدفاع عن حقوق المحرومين والفقراء، فكان يقول ويل للأغنياء من الفقراء.
وبشر الأغنياء بمكاوٍ من نار تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم.
ولولا هذه الحركة التي قام بها أبو ذر للدفاع عن الفقراء والمحرومين لما عرفنا بوجود الفقر في زمن عثمان، إذ لم يتحدث المؤرخون إلا عن الأغنياء وعما يمتلكون من أموال وأراض، أما الفقراء فلا نجد ذكراً لهم في صفحات التأريخ.
3- اتساع الإنحراف في المجتمع الإسلامي، فقد أدى تزايد الثروة لدى قطاع من المهاجرين والأنصار إلى إنتشار روح البذخ والإسراف وإلى اقتناء العبيد والجواري.
وكان هؤلاء العبيد يؤدون الأعمال بالنيابة عن سيدهم الأمر الذي أوجد الفراغ في حياة أصحاب الأموال الطائلة فكانوا يضطرون لملئه باللهو و الغناء، يقول الدكتور طه حسين عن هذه الظاهرة.
ونشأ عن ذلك أن الذين اشتروا الأرض في بلاد العرب عامة وفي الحجاز خاصة قد أرادوا أن يستغلوا أرضهم فاجتلبوا الرقيق وأكثروا من اجتلابه ولم يمض وقت طويل حتى استحال الحجاز إلى جنة من أجمل جنات الأرض، وأحسنها ثمراً، وأعودها على أهلها بالغنى وما يستتبع الغنى من الترف والفراغ، وما هي إلا أن تنشأ في الحجاز نفسه. في مكة والمدينة والطائف طبقة من هذه الارستقراطية الفارغة التي لا تعمل شيئاً وإنما يعمل لها ما جلبت من الرقيق والتي تنفق وقتها في فنون اللهو والعبث والمجون.
ونشأ عن هذا بعد ذلك أن جلبت الحضارة جلباً إلى الحجاز وغيره من بلاد العرب فكان الترف والتبطل وكانت الفنون التي تنشأ عن الترف والتبطل فكان الغناء والإيقاع والرقص والشعر الذي لا يصدر وجداً ولا نشاطاً وإنما يصدر بطالة وفراغاً وتهالكاً من أجل ذلك في اللذة أو عكوفاً من أجل ذلك على النفس وتعمقاً لما ينتابها من الهم(5).
وكان مما جلب الإماء والجواري والي الدولة الإسلامية على البصرة عبد الله بن عامر فيذكر ابن خرداذبه.
كان عبد الله بن عامر اشترى إماء نائحات وأتى بهنّ إلى المدينة فكان لهن يوم في الجمعة يلعبن فيه وسمع الناس منهن(6).
ويستنتج مما تقدم ان الغناء بدأ أول ما بدأ من بيوت الولاة الذين هم قدوة المسلمين وأنهم ولاة لبلادٍ دخلت في الإسلام لتوّها.
أما الخمرة فكانت رفيقة الغناء وهي أيضاً تنتشر في الأمصار وفي عاصمة الدولة الإسلامية حتى ذكر المؤرخون أن محمد بن أبي حذيفة قد وجد في حالة سكر وهو ربيب عثمان بن عفان، فأجرى عليه الحد. وكان ممن يُشيع شرب الخمر بعض ولاة الخليفة على الأمصار والأقطار.
وقد بدا كل شيء معكوساً، فإذا الذي يتولى مسؤولية مراقبة المجتمع ومواجهة مظاهر الانحراف ويعمل على اقامة الحدود على العاصين أصبح أول من يمارس الإنحراف ولا يتورع عن شيوع أنباء انحرافه في المجتمع، فكيف سيكون وضع الناس العاديين وعلى هذا فقس ما سواه.
4- ظلم الولاة واستئثارهم بالأموال وتجاهرهم بالفسوق.
اتبع الخليفة عثمان سياسة خاصة في نصب وعزل الولاة فلم يعر أية أهمية للمعايير الإسلامية في اختيار الولاة، فقد آثر مصالح العشيرة على المصالح الإسلامية العليا.
فقد ولى الوليد بن عقبة مكان سعد بن أبي وقاص مع علمه التام بأن الله أنزل فيه قرآناً وكان والده ممن يباشر عملية إيذاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان آخر شيء يفكر فيه سعد هو عزله وتعيين الوليد مكانه (وهو أخو الخليفة من أمّه).
ويذكر أنه عندما دخل الكوفة، قال له سعد: أزائراً يا أبا وهب أم أمير قال الوليد بل أمير يا أبا اسحاق قال سعد والله ما أدري أحمقت بعدك أم كست بعدي. قال الوليد: ما حمقت بعدي ولا كست بعدك وإنما ولي القوم الأمر فاستأثروا فقال له سعد ما أراك إلا صادقاً(7).
فكان الوليد يمتلك الشجاعة الكافية لكي يقول الحقيقة، إنما ولي القوم الأمر فاستأثروا ويقصد بالقوم بني أمية.
وإسلام الوليد هو إسلام ظاهري، فقد ظلّ على عاداته التي اعتاد عليها في الجاهلية ومنها شربه الخمر، وبلغ به الاستهتار حداً أنه تقدّم إلى صلاة الصبح وهو سكران، فصلى بهم أربعاً وقال أتريدون أن أزيدكم وقيل إنه قال في سجوده وقد أطال: أشرب واسقني فقال له بعض من كان خلفه في الصف الأول: ما تزيد لازادك الله من الخير والله لا أعجب إلا ممن بعثك إلينا والياً وعلينا أميراً وكان هذا القائل عتاب بن غيلان الثقفي.
وخطب الناس الوليد فحصبوه بحصباء المسجد فدخل قصره يترنح ويتمثل بأبيات لتأبط شرّاً:
ولست بعيداً عن مدام وقينـــــــة*****ولا بصفا صلد عن الخير معـزل
ولكنني أروى من الخمر هامتي*****وأمشي الملا بالساحب المتسلسل
واشاعوا بالكوفة فعله وظهر فسقه ومداومته على شرب الخمر فهجم عليه جماعة من المسجد منهم أبو زينب بن عوف الأزدي وجندب بن زهير الأزدي وغيرهما فوجده سكران مضطجعاً على سريره لا يعقل فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ ثم تقيأ عليهم ما شرب من الخمر فانتزعوا خاتمه من يده وخرجوا من فورهم إلى المدينة، فأتوا عثمان بن عفان فشهدوا عنده على الوليد أنه شرب الخمر، فقال عثمان وما يدريكما أنه شرب خمراً، فقالا: هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه فزجرهما ودفع في صدورهما. وقال تنحيا عني فخرجا من عندها وأتيا علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنه فأخبره بالقصة فأتى عثمان وهو يقول دفعت الشهود وأبطلت الحدود(8).
واضطر الخليفة أمام ضغط الرأي العام أن يذعن للأمر الواقع ويقيم الحد على الوليد.
وأرسل مكانه سعيد بن العاص، وكان الأحرى به أن يعين شخصاً آخر مقبولاً عند المسلمين ولا يمت له بقرابة ليخفف من حجم المعارضة الساخنة.
فقد فجر سعيد بن العاص بسياسته الهوجاء حالة التمرد. بمقولته المشهورة: إنما هذا السواد بستان لقريش –فهبّ بوجهه جمع من الصحابة وكانت حركتهم بداية انتفاضة تواصلت حتى مقتل الخليفة.
ومن الذين تم تنصيبهم والياً عبد الله بن عامر وكان فتى لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره تم تنصيبه مكان أبي موسى الأشعري، ليس لشيء إلا لقرابته فهو ابن أخت الخليفة وقد سبق ما ذكرنا في أحواله أنه كان مولعاً بشراء الإماء.
ومن ولاته عبد الله بن أبي سرح الذي نزلت في حقه آية من القرآن وقد أهدر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دمه يوم الفتح على رؤوس الأشهاد، والمسلمون يعرفون ذلك على مصر وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء معاوية بن أبي سفيان وإليه على الشام لاكتملت الصورة ولأدرك أبسط إنسان يعيش في ذلك اليوم، إن الكيان الإسلامي في خطر وإن الظلم والتعسف سيسودان الأمة.
نظرة الخليفة وأعوانه إلى الدولة
كان الخليفة وأعوانه يتصرفون في سياسة الدولة من خلال تصورٍ تفرزه عقيدة ثابتة ترسّخت لديهم وهي..
1- إن الخلافة منحة الهية، والخليفة مسؤول أمام الله، فعندما حاول بعض الصحابة الضغط على الخليفة وإجباره على خلع نفسه.
قال لهم: لا أنزع سربالاً سربلنيه الله، ولكن أنزع عما تكرهون(9) وهذه العبارة تعكس ما يصطلح عليه اليوم بنظرية الحق الالهي وعلى أساس هذا الإعتقاد كان الخليفة يتصرف وكأنه موكّل من قبل الله في تصريف أمور الناس وما على الناس سوى الطاعة ولاحق لهم في إرغامه على شيء.
وخطورة هذه الفكرة تكمن في السياسة المالية التي اتبعها الخليفة إذ أعطى لنفسه الحق في التصرف ببيت المال، فأخذ يوزّع العطاء حسب ما يراه من مصلحة، وقد سار عماله في الأموال بسيرته فأخذوا يتصرفون بالأموال كما يحلو لهم دون ضابط.
2- المشهور ان بني أمية لم يدخلوا الإسلام عن قناعة ولم يفهوا الإسلام كما هو منزل من قبل الله تبارك وتعالى. فكل ما يستطيع أن يدركه شيخ الأمويين أبو سفيان أن الدين الجديد الذي جاء به محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) من عند الله ليس أكثر من صراع للحصول على السلطة. وقد أفصح أبو سفيان عن عقيدته هذه ، يوم وقف هو و العباس ينظران إلى كتائب المهاجرين والأنصار، فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فردّ عليه العباس.. ويحك إنها النبوة(10).
فأبو سفيان لم يفهم الإسلام على أنه دين جديد نازل من عند الله. بل كل ما فهمه هووغيره إن الدين الجديد ما هو إلا أسلوب ذكي من محمد للسيطرة على السلطة وظل على هذه العقيدة حتى آخر عمره.
وعندما بويع عثمان بالخلافة دخل دار عثمان ومعه بنو أمية، فقال أبو سفيان أفيكم أحد من غيركم؟ وقد كان أعمى.
قالوا لا: قال يا بني أمية، تلقفوها تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة(11).
نلاحظ في هذا النص أمرين هامين:
الأول: استمرار حالة الشرك عند زعيم بني أمية أبي سفيان فهو لازال يشك بالله الواحد القهار ويقسم بالذي اعتاد أن يقسم عليه أهل الجاهلية.
الثاني: كل الذي حدث وجرى في جزيرة العرب على أيدي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما هو إلا تنافس على السلطة وها قد جاء الوقت المناسب لكي يستلم بنو أمية السلطة من بني هاشم ولا يدعونها تخرج من أيديهم.
وأخذ ولاة بني أمية يتصرفون بعد استلام السلطة وكأن كل شيء ملك يمينهم، وقد أفصح سعيد بن العاص عن هذه النظرة، عندما اعتبر العراق بستانا لهم يتقاسمونه بينهم، وما توزيع القطائع في الأمصار على بني أمية إلا تطبيق لتلك السياسة التي تعتبر البلاد ومن عليها ملكاً للسلاطين.
وليس أبلغ مقولة تكشف عن هذه النزعة من مقالة زياد وهو أحد ولاة بني أمية وأصبح يعتبر نفسه سليل البيت الأموي بعد أن لحقه معاوية بأبيه.
خطب زياد قائلاً أيها الناس: إنا قد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا.
فكم شيء لبني أمية طالما كانت السلطة بأيديهم.
ولعل أخطر أثر تركته خلافة عثمان هو زرع هذه الفكرة والتي مهدت الطريق لحكم معاوية بن أبي سفيان ومن بعده لملوك بني أمية الذين حولوا الخلافة الإسلامية إلى ملوكية.
المعارضة
بدأت المعارضة منذ اليوم الأول من اعتلاء عثمان بن عفان منصب الخلافة فقد كانت أول مواجهة للمسلمين مع الخليفة الجديد، هي تلك المواجهة التي حدثت نتيجة تساهل الخليفة مع جريمة القتل التي ارتكبها عبد الله بن عمر بسفكه ثلاثة دماء لم يثبت جرمها، فقد قتل الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة لمجرد شبهة اشتراك الهرمزان وجفينة مع أبي لؤلؤة في قتل أبيه. وكان المفترض إقامة حد القصاص عليه لأنه تجاوز على أناس لم يثبت للحاكم تواطؤهم في جريمة قتل الخليفة عمر، وعلى فرض ثبوت الإدانة بحقهم فالحد لا يجرى إلا بأمر الحاكم وطالما لم يأمر الحاكم بذلك فليس من حق أحد اجراء القصاص.
كيف تصرف الخليفة حيال هذه الجريمة؟
انقسم المسلمون الى قسمين، قسم وهُم الأكثرية وفي مقدمتهم علي بن ابي طالب ينادي بإجراء حد القصاص على عبيد الله.
وقسم آخر هم المقربون الى الخليفة الثاني وممن مهدوا السبيل لخلافة عثمان كانوا يرون التغاضي عما ارتكبه عبيد الله بحجة، يقتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم.
وكان أول ضعف كشفه الخليفة عن نفسه عندما مال الى الطرف الثاني، ووجد في كلام الداهية عمروبن العاص مايبرر له ذلك فقد قال له قد أعفاك الله القضية فقد حدث ماحدث وليس لك على المسلمين سلطان فقال عثمان وقد جعلتها دية واحتملها في مالي(12) وبذلك فلت عبيدالله من القصاص العادل، وفلت أيضاً من الدية الواجب تقديمها لأهل المقتول فلم يدفع منها قرشآ وقد شكل هذا الموقف بداية ظهور معارضة علنية ضد الخليفة، فنظم الأبيات في هذه الحادثة منهم زياد بن لبيد حيث سلب من الخليفة حقه في العفو قائلا:
أتعفوا إذ عفوت بغير حق*****فما لك بالذي تحكي يدان
ولم يمض وقت طويل على هذه الحادثة وبعد عام تقريباً عين أخيه من أمه الوليد بن عقبة بن ابي معيط والياً على الكوفة بدلاً من سعد بن أبي وقاص. فكان يجاهر في شرب الخمر وقد اضطر الخليفة لإجراء الحد عليه وعزله، وبعده انيطت الولاية الى أحد أبناء العشيرة وهو سعيد بن العاص وحتى سنة 30 للهجرة استطاع بنوأمية أن يطبقوا سيطرتهم على الدولة الاسلامية، ومع استبداد الولاة كانت المعارضة للحكم تزداد اتساعاً وتزداد قوة وأول عمل قامت به هو ازاحة سعيد بن العاص عن ولاية الكوفة وذلك في سنة 34 للهجرة.
ويذكر المسعودي في أحداث هذه السنة أن طلحة والزبير كانا جالسين أثناء خروج عمروبن العاص وقد سمع ماقيل في اجتماع الخليفة مع ولاته فقالا له:
تعال الينا فصار اليهما، فقالا: ماوراءك، قال: الشر ماترك شيئآ من المنكر إلا أتى به وأمره به وجاء الأشتر فقالا له إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد ردّ وأمر بتجهيزكم في البعوث وبكذا وبكذا، فقال الأشتر: والله لقد كنا نشكو سوء سيرته وماقمنا فيه خطباء فكيف وقد قمنا وايم الله على ذلك لولا اني انفذت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته الى الكوفة حتى أمنعه دخولها مقالا له فعندنا حاجتك التي تقوم بك في سفرك. قال: فأسلفاني إذن مائة ألف درهم قال فأسلفه كل واحد منهما خمسين ألف درهم فقسمها بين أصحابه وخرج الى الكوفة فسبق سعيدآ وصعد المنبر وسيفه في عنقه ماوضعه بعد، ثم قال أما بعد فإن عاملكم الذي انكرتم تعديه وسوء سيرته قد رد عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث، فبايعوني على أن لايدخلها فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة، وخرج راكبآ متخفيآ يريد المدينة أو مكة، فلقى سعيدآ بواقصة فأخبره بالخبر فانصرف الى المدينة وكتب الأشتر الى عثمان إنا والله مامنعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه فابعث الى عملك من أحببت. فكتب اليهم انظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه فنظروا فاذا هو أبو موسى الأشعري فولوه.
فكان لابد من وقفة تأمل أمام هذه الحركة لأنها كانت بداية الثورة على الحكم.
ا- شمولية المعارضة، فهي لم تكن مقتصرة على جماعة الإمام علي (عليه السلام) وخطه بل كانت تشمل آخرين كطلحة والزبير وعمروبن العاص، بغض النظر عن نواياهم المبيته.
2- كانت المعارضة في بداية أمرها ملتزمة فهي لاتتجاوز حدود معارضة الولاة الظالمين والمطالبة بتطبيق العدالة ولم تمس شخصية الخليفة.
3- حالة الفقر كانت قائمة على رغم ذلك الغنى الذي كان قد استشرى في الحجاز، فالأشتر وهو أحد كبار القادة لايملك المال لكي يعود الى العراق فيضطر للإستقراض من طلحة والزبير (100 ألف درهم).
4- سرعة التحاق الناس بالمعارضة بسبب الجور الذي لحق بهم والظلم الذي نالهم من ولاة عثمان.
ومع دخول عام 35 للهجرة دخلت المعارضة مرحلة أكثر صرامة في المواجهة بسبب إهمال مطاليبها والتي كان على رأسها اعتزال الخليفة للعصابة الأموية التي كانت تحيط به وعزل الولاة الأمويين الذين كانوا يحكمون بأهوائهم وليس بأحكام الله.
ومع تجاهل الخليفة لتلك المطالب، توجهت المعارضة نحو تعديل مواقف الخليفة، الا إنها لم تفلح في تغيير الوضع.
وأمامنا ثلاثة نماذج:
ا- عبد الله بن مسعود.
كان عبد الله بن مسعود وهو المعروف بأمانته وإخلاصه خازنآ لبيت المال في الكوفة وحدث أن اقترض الوليد بن عقبة مقدارآ من المال من بيت المال فطالبه ابن مسعود عند الأجل فتجاهل ذلك، وأمام الحاحه أرسل الوليد برسالة الى عثمان يطلب منه تعنيفه، فكتب اليه عثمان إنما أنت خازن لنا فلا تعرض الوليد فيما أخذ من بيت المال. فاغتاظ ابن مسعود وترك وظيفته، وأقام في داره مكتفيآ بالوعظ والإرشاد وتحول داره الى معقل للمعارضة وكل غاضب على السلطة واشتد ابن مسعود في تحركه ضد الخليفة عثمان فأرسل عليه، فعندما دخل عليه المسجد قابله بكلمات لاتليق بالخليفة وأخرج من المسجد بالقوة وضرب بالأرض فكسرت احدى اضلعه وقطع عنه الخليفة العطاء وحظر عليه الخروج من المدينة ليصبح تحت عيونهم وساءت أحواله الصحية، فمرض فعاده الخليفة بغية كسب رضاه فلم يبال بوجوده فأراد عثمان أن يعيد اليه العطاء فقال له ابن مسعود حبستم عني حين احتجت اليه وترده الي حين لاحاجة لي به فقال له عثمان يكون لأهلك، قال ابن مسعود: رزقهم على الله، ثم توفي ابن مسعود وصلى على جنازته عمار بن ياسر، ولم يخبروا عثمان بوفاته فغضب عثمان وهو يقول: سبقتموني به. قال عمار: فإنه أوصى ألا تصلي عليه، فأسرها عثمان في نفسه وكانت من أسباب غضبه على عمار(13).
الهوامش:
1- المسعودي 2/ 342.
2- المصدر نفسه 2/ 342.
3- الطبري 4/ 323.
4- الطبقات الكبرى 3/ 64.
5- طه حسين/ الفتنة الكبرى، عثمان ص740.
6- الآغاني7/ 179.
7- طه حسين اسلاميات80.
8- المسعودي مروج الذهب2/ 344- 345.
9- ابن سعد الطبقات الكبرى3/ 66.
10- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 246.
11- المسعودي مروج الذهب 2/ 352.
12- ابن الائير الكامل في التأريخ 3/ 75.
13- طه حسين اسلاميات ص 781.