محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 1 - تاريخ امير المؤمنين (عليه السلام)
تاريخ امير المؤمنين (عليه السلام)
الدرس رقم 1
الساعد الأيمن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
انقشعت شمس الرسالات عن جزيرة العرب فترة من الزمن، فأمست سماؤها معتمة بغيوم الجهل والخرافة.
فكان في مقابل إله واحد، هنالك آلهة متعددة.. هنالك من عبد الشمس ومن عبد النار، ومن عبد الاصنام.
ومقابل العمل والسعي، توسل الانسان بالخرافة، فقيّد طاقته الخلاقة بحركة الرياح وحركة الطيور، فتحوّل إلى عنصر مشلول عاجز عن العمل يحتقر كل صنعة مفيدة وكل عمل نافع إلا ما توارثه عن أبيه وجده.
وفي قبال القيم والمُثل والفضائل تمسّك إنسان الجزيرة بالعادات والتقاليد المناهضة للعقل البشري والمضادة للفطرة الانسانية.. فمن ودأ البنات إلى احتقار النساء إلى اتخاذ إناس من البشر عبيداً وجواري.
وفي قبال القيم الانسانية الطافحة بالحب المتبادل بين بني الانسان تركزت الحياة في جزيرة العرب على قيم العشيرة فإذا حدود العشيرة تصبح هي حدود تفكير واهتمام انسان ذلك اليوم. فكل شيء خارج حدودها هو عالم غريب لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد.
وكانت حصيلة سيادة هذه الروح السلبية انتشار الظلم والتعصب والفساد والجهل والخرافة، حتى أصبحت هذه الأمور الخمسة هي المظاهر الطبيعية في المجتمع.
وبات الإنسان لا يرى لتغيير هذا الموضع، طالما أصبح المجتمع يستمرئ هذه الحالة واعتاد عليها دهوراً من الزمن في غياب الرسالات السماوية. فلم يكن التغيير أمراً هيناً لذلك الوضع المُتردي، بل كان أمراً يستدعي عملاً جباراً، ورجالاً عظاماً يتحملون مسؤولية التغيير حتى الشوط الأخير.
ولم يكن بين كل بني البشر من يستطيع تحمل ذلك العبأ، غير ذلك الفتى الذي سمته العرب بالأمين لكثرة أمانته، وصدقه، واخلاصه.
لقد نشأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قيم رسالية، فكان النموذج المغاير لإنسان الجزيرة في معتقده وتفكيره وسلوكه وأخلاقه، فسلك ومنذ نعومة أظفاره خطأ موازياً لقيم رسالات الأنبياء سيّما شيخهم إبراهيم الخليل.
وكان في قناعة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إن هذا الخط لا يلتقي بالمجتمع الجاهلي، بل هو في سيره باتجاه هذا الخط إنما يسير عكس التيار الجارف، فإذا أراد لهذا الجتمع أن يتغير فلابد وأن يوجد تياراً معاكساً له يسير بخطى ثابتة نحو تحقيق الأهداف الإنسانية الكبرى. وقناعته إن التغيير لابد وأن يبدأ من الفرد ليعم المجتمع، ولابُد للأفراد أن يتحولوا إلى مجتمع فاضل.
من هنا بدأ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ثورة التغيير، بإنشاء نواة الأسرة المؤمنة المتكونة من علي وخديجة وزيد.
من ابن عمه، وساعده الأيمن وخديجة زوجته الوفيّة الصابرة، وزيد خادمه المطيع فقد قرر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الأسرة أن يشق مجرى التاريخ، وأن يفتح طريقاً وسط التيار. وأن يُقاوم بتلك الأسرة الانحراف، وأن يُحدث منها موجاً هادراً يتحول شيئاً فشيئاً إلى تيار جارف للوثنية والجاهلية.
بدأ المهمة قبل أن يُبعث رسولاً نبياً.
ذكر المؤرخون، إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنذ السابعة والثلاثين من عمره الشريف، أخذ يتهيأ لتلقي مسؤولية الرسالة، فكان يتحنّث شهراً من كل سنة، يأخذ معه أهله سيما في السنة التي تلقى فيها الوحي.
فإن تأكد لنا هذا الخبر(1) فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعمل على نقل أسرته الكريمة من أجواء ذلك المجتمع الجاهلي إلى رحاب الله، من عالم الظلم والقهر والجهل والتخلف إلى عالم العدل والانعتاق، من عالم العبودية والشرك إلى عالم الوحدانية والعقيدة الصافية.
وعندما نزل عليه الوحي، كان هؤلاء الثلاثة هم أول من آمن به، وكان علي (عليه السلام) أول من آمن بالله بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كما ورد في رواية زيد بن أرقم والتي ذكرها النسائي وجمع من رواة الحديث(2).
وروى مُسلم الملائي عن أنس بن مالك قال: استنبئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء(3).
واختلف المؤرخون عن السنة التي أسلم فيها، فأكثر الآراء تتجه إلى أنه كان ابن عشر سنين.
أجل.. ابن عشر سنين، وهو ينتهل من معين الرسالة ويده الغضة الصغيرة تصافح يد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
لم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قيمة هذا الولد الصغير، وما الذي يُحسنُه عندما دعاه للإسلام، ليصبح أول مؤمن به، فأصحاب الدعوات يبحثون عن الشخصيات والوجوه اللامعة في أول دعوتهم، إذ ان وجود مثل هذه الشخصيات سيمنحهم القوة أما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أودع الأماة عند فتى لم يتجاوز العاشرة ليصبح أو مؤمن به وأول سند للرسالة.
فهل كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على علم بالعظمة الكامنة عند علي وهو صبي؟
أجل كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على علم كامل بمستقبل هذا الغلام.. ألم يقل حين ولادته هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي.
فرسول الله كان يدري ماذا يصنع عندما قرر مع نفسنه الاهتمام بعلي، واعداده الاعداد الجيد ثم دعوته ليصبح أو مؤازر له.
إذ من الأمور الهامة التي يُفكر بها كل مصلح هو اختيار من يساعده على تحمل المسؤوليات ويعينه على مكاره الدهر ويستشيره في الأمور التي لا يستطيع أن يبيحها لغيره.
وقد اختاره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساعده الأيمن منذ نعومة أظفاره، بل اختاره الله له منذ يوم ولادته فمنذ ذلك ايوم وهو يباشر أمر تربيته وإعداده.
ومع انبعاث الرسالة تعاظمت العلاقة الأخوية بين علي ومحمد عليهما أفضل الصلاة والسلام، فقد دخلت هذه العلاقة مع البعثة دائرة المسؤولية المشتركة وبذل الجهد المشترك لتعزيز مواقع الرسالة الاسلامية.
فأصبح علي ومنذ اليوم الأول ملاصقاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجمعهما هم مشترك وهو يستوجب اللقاء الدائم والمتواصل.. وتطلب المشورة المستمرة.
وصية أبي طالب لولده.. فألزمه
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي وعليّ وراءه يصلي خلفه، فدخل أبو طالب عليهما فوجدهما على هذه الحالة، فلما أتمّا الصلاة تقدّم علي من أبيه وقال بلا تردد ولا خوف وهو يُعلن إسلامه على رؤوس الأشهاد.
يا أبت لقد آمنت بالله وبرسوله، وصدّقت ما جاء به واتبعته.
فأجاب والده المطمئن من سلامة هذا الدين.
أما أنه لا يدعون إلا إلى الخير فألزمه(4). فدعوة أخرى إلى علي.. تطلب منه الالتصاق بالنبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).. فألزمه.
وهو أكثر أفعال الأمر دلالة على الالتصاق.
وهو يعني الانشداد المستمر دون انقطاع.
وهذه وصية أخرى تضاف إلى عوامل الجذب القوية بين محمد وعلي. ألزمه.. هو الرد الذي كان ينتظره علي (عليه السلام) من والده عندما أخبره بإسلامه، وهو يعكس طبيعة العلاقة بين الوالد والولد.. وطبيعة العلاقة بين العم وابن أخيه، وطبيعة التصور الذي أخذه أبو طالب عن الدين الجديد.
فهو يعرف ابن أخيه كما يعرف نفسه، ومطمئن إلى صدق ما يقوله، وما جاء به من ربه وهو الحق، وهو وكأي رجل حكيم في ذلك الزمن كان يترقب اليد المنقذة التي تمتد نحو الأرض لتنقذ ما بلغه المجتمع من جاهلية رعناء ومن تردٍ ونكوص عن القيم والفضائل.
وها هي اليد قد امتدت من السماء، وتمثلت بتلك الدعوة التي أطلقها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لانقاذ البشرية من الشرك والظلم، فلم لا يؤمن بهذا الدين إن كان حقاً من السماء وكان امتداداً لدين إبراهيم الخليل. ولم لا يدفع بأبنائه إلى نصرة هذه الرسالة ونشرها في الآفاق لتنعم الانسانية بوجودها.
لقد كان سرور أبي طالب كبيراً عندما وجد علياً يقف جنباً إلى جنب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكتف بذلك بل ذهب مسرعاً إلى بيت أخيه العباس، وكان ابنه جعفر في كفالته فدعاه وأخذ بيده إلى المكان الذي يُصلي فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له:
صل جناح ابن عمك يا ولدي(5)
ومن هذه اللحظة أخذ الدين الجديد ينتشر خبره بين الناس، فقبل هذه اللحظة كان الذي يدور في خلد قريش إن دعوة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي مجرد حالة فردية، ولم يدركوا أبعاد هذا الحدث العظيم إلا عندما سمعوا بأن آخرين أصبحوا مع محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) يتعبدون معه ويحملون مبادئه.
وهناك موقف مشابه ذكره لنا عفيف الكندي، يقول:
كنت امرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج، فأتيت العباس فبينما نحن عنده إذ خرج رجل فقام تجاه الكعبة يُصلي ثم خرجت أمرأة تصلي معه ثم خرج غلام فقام يصلي معه، فقلت يا عباس ما هذا الدين.
فقال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، زعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه وهذه امرأته خديجة آمنت به وهذا الغلام عليّ بن أبي طالب آمن به، وأيمّ الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة، قال عفيف: ليتني كنت رابعاً(6).
اجتماع بني هاشم
وأخذ خبر الدين الجديد يتفشى في صفوف القرشيين، وشرع الذين هداهم الله للإيمان يتقاطرون على الإسلام، وأخذ عود المسلمين يقوى ويشتد أزره، وبعد ثلاث سنوات تحوّل إلى كيان قوي قادر على المواجهة، عند ذلك جاء الأمر الإلهي بتبليغ الرسالة.
(وأنذر عشيرتك الأقربين) الشعراء/ 214.
فكان لابُدّ من الإستعانة بعلي ليتحمل جزءاً من أعباء هذا الإبلاغ الإلهي.
فعلى إجماع رواة الحديث والمؤرخين، إن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليا (عليه السلام) فأمره أن يصنع طعاماً ويدعو له بني عبد المطلب ليكلمهم ويبلغهم ما أمر به، فصنع علي (عليه السلام) صاعاً من طعام وجعل عليه رجل شاة وملأ عساً من لبن ثم دعاهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه منهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فأكلوا، قال علي (عليه السلام)، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وما أرى إلا موضع أيديهم، وأيم الذي نفس علي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ثم قال أسق القدم فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يُكلمهم بادره أبو لهب فقال لقد سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً في اليوم الثاني أن يفعل كما فعل آنفاً وبعد أن أكلوا وشربوا قال لهم رسول الله يا بني عبد المطلب أنني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدينا والآخرة. وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، قال: فأحجم القوم عنها جميعاً.
وقال علي: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لإبنك وتطيعه، وفي رواية أخرى، قالوا لأبي طالب أطع ابنك فقد أمرّه عليك(7).
وتناول المستشرقون هذا الاجتماع بشيء من السخرية، وتحدثوا بنفس الطريقة التي تحدّث بها أبو لهب، وكأنهم أرادوا أن يشاركوه هذه السخرية.
يقول المستشرق أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام.
قال النبي: إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر فأحجم القوم عنه جميعاً إلا علي، فقد صاح في حماسة صبي، أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فقام القوم يضحكون(8).
وكان ذلك اللقاء الحامي بداية مرحلة جديدة في حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اتسمت بالتحدي المتبادل ثم المواجهة السافرة بين الإسلام والشرك.
وقد لعب أبو طالب وولده علي دوراً هاماً في حماية رسول الله من أيدي المشركين والطامعين.
وقف أبو طالب وقفة شجاعة إلى جانب ابن أخيه.
فمنذ اللحظة التي شهر فيها أبو لهب سلاح العداء لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً لبني عبد المطلب:
خذوا على يدي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه قُتلتم وإن تركتموه ذللتم، فمنذ ذلك الوقت قرر أبو طالب أن لا يفوِّت أية فرصة في الدفاع عن ابن أخيه.
لم يترك مقولة أبي لهب تذهب بدون جواب. فأجابه بضرس قاطع.. يا عورة والله لننصرنه ثم لنعيننه.
وياله من خزي وعار مضغه أبو لهب بصمت وهدوء ثم التفت أبو طالب إلى محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً له:
يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح(9).
وكان يتكلم بلسان الجمع فهو سيد بني هاشم ولن يردّه إذا أراد شيئاً.
لقد وفّر أبو طالب بهذا الموقف غطاءً من الحماية لابن أخيه، فلم تجرأ قريش أن تطاله بأيّ مكروه طالما كان أبو طالب في الحياة.
فتوة واعية
وعندما عجز الرجال عن مواجة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دفعوا بصبيانهم، وأطفالهم لإيذائه (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانوا يرصدونه في الطريق فيرمونه بالحجارة..
وهنا يأتي الدور لعلي بن أبي طالب، وهو لا يزال فتىً صغيراً.. فكان يطارد الصبيان المترصدين للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والويل لمن وقع في قبضته.. فكان لا يتركه حتى يوجعه قضما فلا يجرؤ أن يعود إلى ذلك العمل من جديد.
وظل رنين الوجع يدوّي في قلوب الصبيان.. الذين كبروا فيما بعد وهم لم ينسوا القاضم.
ففي معركة أحد برز طلحة بن أبي طلحة فبرز إليه الإمام علي بن أبي طالب.
سأله طلحة من أنت يا غلام؟
قال: أنا علي بن أبي طالب.
قال طلحة قد علمت يا قضيم إنه لا يجسر عليّ أحد غيرك(10).
وكانت تلك المهمة، أول اختبار لعلي(عليه السلام) يقيس به مدى حبّه لقائده وتفانية من أجله، ولم يكن صعباً على القائد أن يكتشف مواهب هذا الفتى في الشجاعة والاقدام والجرأة وهو على صغر سنه. فيجد الطمأنينة الكاملة لمستقبل الرسالة الاسلامية التي تنتظرها أياماً صعبة.
فقريش ستعمل المستحيل من أجل القضاء على هذه الدعوة لأنها تهدد مصالحها وتقضي لابد من وجود مدافع قوي يستطيع أن يقف قبالة قريش ويظلّ ملاصقاً لصاحب الرسالة، وما ذلك الإنسان إلا عليّ (عليه السلام)(11) الذي كان من السهل على القريبين منه أن يكتشفوا مقوماته الذاتية وقدراته الخلاقة مع أول تفرّس في شخصيته.
رجل الإرتباط
منذ اللحظة التي قرر فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الانطلاق بالدعوة إلى الآخرين، أخذ عليّ بن ابي طالب مواقعه في سلم المسؤولية التأريخية، فقد اختار الكعبة مكاناً لاقتناء العناصر الجيدة، فاتخذ زواية من المسجد الحرام يتفرس في الوجوه ويقرأ من خلالها ما يعتمل في القلوب، فكان يقترب ممن يقع عليه الاختيار، وهناك يبدأ الحوار ويبدأ الارتباط فيكون اللقاء في مقر الرسالة حيث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ينتظر العناصر الجديدة التي تتقدم لتضع يدها في يد المسلمين، وقد قسم المسؤوليات بينه وبين من آمن به. ففي الأيام الأولى من الدعوة جاء إلى مكة رجل من غفار وفي نفسه رغبة جامحة لمعرفة المزيد عما سمعه عن الدين الجديد.
ووصل إلى الكعبة وهو يقرأ في الوجوه ما يوصله إلى بغيته ويسمع ما تقوله الألسن عن الدين الجديد فيزداد شوقاً وحباً لمعرفة المزيد. وتوارت الشمس ودبّ الظلام وأبو ذر لازال يبحث في زوايا المسجد الحرام عن ضالته وفجأة يكتشفه علي ابن أبي طالب(عليه السلام) ويتصافح الوجهان وتنزلق الأسئلة على لسان علي(عليه السلام)
من الرجل؟ ويأتية الجواب سريعاً
من بني غفار.
فاطمأن أبو ذر أنه قد مسك بطرف الخيط الذي يبحث عنه. فلم يتباطأ في القيام مع علي عندما دعاه إلى منزله، ولم يكن هناك داع للسؤال طالما حدثه قلبه بأن علي ممن يدين بالدين الجديد. وصمت علي (عليه السلام) ولم يخبره بشيء حتى أقبل الصبح فخرج أبو ذر وعاد إلى المسجد الحرام يتصيّد الأخبار ويلتقط المعلومات عن الرسالة الجديدة، وفي الليل التقى بعلي(عليه السلام) من جديد فدعاه إلى بيته قائلاً: أما آن للرجل أن يعرف منزله وبات الليلة الثانية، وفي اليوم الثالث نفذ صبر أبي ذر فسارع يسأل علياً عن الرجل الذي خرج يدعو إلى الله سبحانه وأخذ عليه العهد ليكتمنّ أمره.
فقال(عليه السلام) إني ذاهبٌ إليه فاتبع أثري.
وعلّمه الرمز..
فإني إن رأيت ما أخاف عليك اعتللت بالقيام كأني أريد أريق الماء وإن لم أر أحداً فاتبع أثري حتى تدخل حيث أدخل.
ومضى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى دار الأرقم، فأسلم وكان الخامس من بين من أسلم.
وانتشر الإسلام وأصبح كياناً يقض مضاجع المشركين الذين وجدوا في الدين الجديد ما يُشكل خطراً على مصالحهم، فشهروا سلاح المواجهة واعتمدوا أساليب الغدر والقهر لإسكات صوت الرسالة.
وكان لعلي دور بارز في الوقوف قبال مؤامرات قريش في تعبأة المجاميع المؤمنة ومن بينها مجموعة بني هاشم حيث كان هو وأخوه جعفر أبرز شباب هذه المجموعة. فبفضل المؤمنين من بني هاشم وقفت هذه العائلة الكريمة موقفاً شريفاً من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى الذين لم يؤمنوا من أفرادها.
وواصل أبو طالب مهمته في توفير الغطاء الأمني، لما له من هيبة في نفوس زعماء قريش، الذين لم يجرأوا على النيل من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنهم كانوا يعرفون إن ذلك يعني مواجهة سافرة مع أبي طالب وهم في غنى عنها، لأنها ستكلفهم ثمناً غالياً فاتجهوا نحو المستضعفين من المسلمين من العبيد والفقراء لارواء غليلهم من الحقد والكراهية فانقضوا انقضاض الغراب على الفريسة على أكوام الاجسام البريئة ومارسوا ألوان العذاب والقهر ولم يتركوا مكاناً من تلك الاجسام الذابلة إلا وأشبعوها من التعذيب.
بدأوا ببلال وهو عبد أسود جاؤوا به من الحبشة ليرموا به على الرمضاء وعلى صدره أطنان من الحقد والكراهية.
وظنوا أن قيمة بلال وقدرته على التحمل مساوية لسعره عند شرائه، لكنهم اصطدموا بالحقيقة فإذا ببلال أكبر مما توهموا وأكبر مما حسبوا له حساباً فقد وجدوا أنفسهم وهم يمارسون التعذيب أنهم ليسوا أمام عبد معروف السعر، بل إمام حر لا يمكن حصر قيمته في نطاق الماديات.
وفي زاوية من الصحراء كان هشام بن الحكم وأبو سفيان يقيمان مهرجاناً من التعذيب على أجساد الأسرة الفاضلة التي فقدت الأب وهو ياسر والأم وهي سمية ولم تخضع لإرادة الجلادين لانها كانت إرادة جاهلية قاومتها بإرادة ربانية.
وفشلت محاولات التصفية لأن القائمين عليها لم يدركوا أن السياط والقيود لن تستطيع أن تغلق منافذ العقل، بل هي تدفع بالعقل لأن ينطلق أكثر فأكثر وتدع الروح لان ترتفع وتسمو في سماء العظمة.
كانت مشاهد التعذيب هي الثمرة الطبيعية للإصرار على المبدأ والإلتزام بنهج الرسالة، وكانت النتيجة الفعلية للجهد المتواصل الذي بذله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ورواد الرسالة الأوائل في الدعوة لهذا الدين.
كانت تلك المشاهد تمرّ بمرأى أو بمسمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) وبقية الرواد فتزيد من اصرارهم على المضي في الطريق الذي اختاره الله لهم والذين انتخبوه طواعية لا كرهاً. فتلك البطولات النادرة التي ركعت الطغاة كانت مفخرة لأولئك القادة الذي شادوا هذا الدين وتحملوا العبأ الأكبر في نشر دعوته بين الناس.
واشتد التعذيب فلم ير المسلمون المستضعفون بداً من الخروج من مكة والبحث عن مكان أفضل يجدون فيه الراحة، وفرصة الدعوة إلى الإسلام فاختار لهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الحبشة ففيها ملك عادل يحب الخير، وأعطى قيادة المجموعة لجعفر بن ابي طالب لتحليه بصفات قيادية تقتضيها المهمة وسلم المسملون المهاجرون من أذى قريش وفتح الله لهم أبواب الحياة في مكانهم الجديد.
أما الذين مكثوا في مكة من بين هاشم وبعض الصحابة فقد استعدوا لكل الاحتمالات التي تفرضها مرحلة المواجهة مع الشرك القرشي.
ولما لم يبق في مكة من المسلمين إلا الوجهاء والشخصيات، فقد كانت المواجهة الدموية هي أبعد ما يكون سيما إن ظلال أبي طالب لازالت تبعث بدفء الأمن في نفوس المسملين وتفرض الحصانة ضد أي عدوان تقدم عليه قريش.
وعندما سقطت كل الخيارات لم يبق أمام قريش إلا أن تفرض حصاراً اجتماعياً واقتصادياً، فبدأت معركتها السلبية مع الإسلام.
وتجمع المسلمون وبنو هاشم في شعب أبي طالب لتوفير سبل الحماية بصورة أفضل.. فتم ايجاد خطوط دفاعية قوية لمواجهة أية محاولة اجرامية تقوم بها قريش.
وعلى رغم الوضع الأمني المستتب حول الشعب، فقد ظل أبو طالب يخشى على حياة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ففي تلك الأجواء المتشنجة، قد تقدم قريش على عمل دنيء في خلسة من الليل البهيم. فللمزيد من التدابير الاحتياطية كان أبو طالب يطلب من ولده علي أن يبيت في مكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(12).
وكان علي (عليه السلام) يسارع إلى الامتثال لأوامر والده، ويضطجع في فراش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فادياً نفسه من أجل الرسالة.
المهم أن يبقى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأن بقاء الرسالة مرهون ببقائه، ولا يهم بعد ذلك أي شيء آخر.
فقد تعوّد علي (عليه السلام) ومنذ الصغر أن يفدي بنفسه لابن عمه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا بدافع القرابة، ولا بدافع العصبية القبلية بل بدافع المبادئ التي آمن بها علي(عليه السلام) وهو صغير لم يبلغ الحلم، ولم يكتف علي (عليه السلام) بهذا القدر من المخاطرة بنفسه بل كان يخرج من الشِعب إلى مكة سرا ليأتي بالطعام (13) إلى المحاصرين، إذ اضطروا في بعض الأيام أن يقتاتوا على حشائش الأرض، واستمر الحصار سنتين أو ثلاثاً على هذا الحال حتى هزُلت اجسامهم وهدت قواهم، وزادت قريش من حلقة الحصار فتضاعفت المحنة على بني هاشم والمسلمين ففي تلك الظروف الصعبة من يستطيع أن يتحمل مسؤولية ذلك الجمع غير ذلك الشاب الذي كان يبيت في فراش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لإيهام الاعداء إذا أرادوا الغارة على الشعب، وفي نفس الوقت كان يأمن الحدّ الأدنى من الطعام للأطفال والنساء والشيوخ. من كان يستطيع أن يقوم بتلك الأعمال في مثل تلك الظروف الصعبة غير علي بن أبي طالب حيث قضى في الشعب أفضل فترات الشباب حيث دخلها وعمره 17 عاماً وخرج منها وعمره عشرون عاماً، فكانت تجربة جديدة في حياته عوّدته على الإستهانة بالمخاطر.. وجعلته متأهباً مستعداً لمواجهة أي طارئ وعودته على الفداء. وأعطته فرصة أكثر للإلتصاق بالنبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كما وعودته على الصبر والطاعة، الصبر على الجوع، وطاعة أوامر أبيه بالمبيت في فراش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونقل الطعام إلى الشِعب.
وأنتهت مهزلة الحصار بمعجزة السماء، وانحنت هامات المشركين من جديد وخرج المسلمون من شعب أبي طالب بمعنويات عالية لكن بأجسام هزيلة.
وما أن تنفسوا الصعداء إلا وحلت بهم مصيبة كبرى فقد توفى أبو طالب بعد أن أدى ما عليه من واجبات نحو الرسالة والرسول.
وبدأت بوفاته مرحلة صعبة من حياة المسلمية محفوفة بالآلام والمعاناة. فقد تبدد بوفاته الغطاء الأمني الذي كان يرفرف على رؤوس المسلمين ويبعث فيهم الطمأنينة والأمن على حياتهم وحياة الرسالة، وكان على علي (عليه السلام) أن يضاعف من حرصه على حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فعندما نقل إليه خبر وفاة عمه حزن حزناً شديداً وسمى ذلك العام بعام الحزن.
الهوامش:
1- جاء في أعايان الشيعة الجزء1 ص373 أن علياً كان يحمل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام التحنث الزاد والماء من بيت خديجة إن لم تحمله الخادم.
2- محمد بن عبدالبر الاستيعاب في معرفة الاصحاب 3/ 1095.
3- محمد بن عبدالبر الاستيعاب في معرفة الاصحاب 3/ 1095.
4- ابن الأثير/ الكامل في التاريخ 1/58.
5- الحسني (هاشم معروف) سيرة المصطفى ص204.
6- ابن الأثير، الكامل في التاريخ 2/57.
7- تاريخ الطبري 2/63 وتاريخ ابن أثير الكامل في التاريخ 2/62.
8- أرنولد، الدعوة إلى الإسلام ص36.
9- تاريخ اليعقوبي ص27-28.
10- الأمين سيد محسن أعيان الشيعة 1/372.
11- ذكر ابن الأثير في الكامل 2/59 وكان زيد وعلي يلزمان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج إلى الكعبة أو النهار ويصلي صلاة الضحى وكانت قريش لا تنكرها وكان إذا صلى غيرها قعد علي وزيد بن حارث يرصدانه.
12- ابن كثير البداية والنهاية 3/84.
13- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة 13/ 256.