محاضرات التربية الإسلامية - المحاضرة 48
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثنا في المحاضرة السابقة عن الدعاء ومهّدنا له ببعض الحديث عن موضوعات شتى تتصل بالدعاء وبما ينبغي أن يسلك حياله من آداب خاصة ترتبط بآداب التربية في تلاوة الدعاء، أما الآن فنتحدث عن الدعاء من حيث مضموناته التي ينبغي أن نقف عندها حتى نستطيع من خلال ذلك أن نصوغ العمليات التربوية التي ينبغي أن يسلكها قارئ الدعاء وهو يتواصل مع الله سبحانه وتعالى من خلال المضمونات التي تنطوي الأدعية عليها ومن ثمّ من خلال نمط اللغة التي ينبغي تربوياً أن يتعامل معها بالنسبة إلى قارئ الدعاء، وفي هذا الميدان نمهّد لذلك الموضوع ببعض التمهيد فنقول:
إن ما يلاحظ في الدعاء بالنسبة إلى الطابع العام لمطلق الأدعية هو تضخم العنصر العاطفي فيه حيث قلنا في بداية حديثنا عن الدعاء، أن الدعاء هو تعامل وجداني مع الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الدعاء تعاملاً وجدانياً حينئذٍ فإن العنصر العاطفي سيتضخم فيه ولا شك، ونحن إذا قمنا بمقارنة بين النصوص الفنية بشكل عام وبين النص الشرعي نجد أن النصوص الفنية بنحوها المطلق تتضمن في الواقع ثلاثة عناصر تتآزر فيما بينها بنسب متفاوتة، العناصر المشار إليها هي اللغة المنطقية واللغة التخيلية واللغة العاطفية، كما قلنا أن النسبة العاطفية في الدعاء تتضخم بالقياس إلى النصوص الفنية الأخرى بما فيها النصوص الإسلامية التي تتناول جوانب متنوّعة من الظواهر العبادية، فمثلاً النص الفقهي يتضمن اللغة المنطقية فحسب، أما الدعاء فيتضمن اللغة العاطفية وأما الخطبة فمثلاً تتضمن اللغة العاطفية والمنطقية كليهما، لأسباب تتصل بمخاطبة الجمهور والسيطرة على مشاعره حيث يتطلب العنصر العاطفي، إلا أن طبيعة المضمون الذي يستهدف توصيله يتطلب لغة منطقية وهكذا..
ونحن في الواقع نطرح هذا السؤال لا لنتحدث عن جوانب بلاغية وفنية بقدر ما ينبغي أن نعنى بالعنصر العاطفي الذي يسم الدعاء لأننا سنواجه مثلاً نمطاً من آداب التلاوة مشفوعة بالبكاء مثلاً، أو التباكي ونحو ذلك من الظواهر التربوية التي تطالبنا التوصيات الإسلامية بمراعاتها، وهذا ما يتطلب كما قلنا أن نقف عند تحديد اللغة العاطفية في الدعاء ونتابع هذا فنقول أو نتساءل في الواقع: لماذا يتطلب الدعاء عنصراً عاطفياً ضخماً بالقياس إلى أشكال النصوص الشرعية الأخرى؟ ترى هل يمكن أن نتخيل أكثر من الشحنة العاطفية يتوافق مع الطلب الملح لحاجاتنا المشروعة؟.
طبيعياً لا يمكن أن نتحدث بلغة الأرقام عن حاجة تشتعل في أعماق الشخصية مثلاً بقدر ما يمكن التحدث عن قضاء هذه الحاجة بلغة العاطفة وهذا لو افترضنا مواجهة حاجة قد نرتكن من خلالها إلى شخص أو مؤسسة، ولكن إذا افترضنا أننا نتجه في الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى وهو يمتلك وسائل الإشباع بنحوها المطلق حينئذ فإن التصاعد العاطفي سوف يتضخم حجمه ولا شك، فمن جانب نجد أنفسنا ضعفاء أمام القدرة المطلقة ونجد أنفسنا من جانب آخر أمام المصدر الرئيس في إشباع حاجاتنا، وليس أمام وسائط، ونجد أنفسنا من الجانب الثالث متحسسين بقصورنا العبادي، وحينئذ إذا أضفنا إلى هذه الجوانب جانباً رابعاً وهو الإحساس بالخجل مثلاً حينما يحتجز المرء من الطلب بالنسبة إلى الآخرين فإن هذا الحاجز ليختفي تماماً عند الاتجاه بالطلب من الله تعالى.
وهكذا عندما نجد أنفسنا ضعفاء ومقصرين وأمام قدرة مطلقة وبلا حاجز عندها نغرق عاطفياً حتى لنصل إلى درجة البكاء وهي قمة التعبير العاطفي حيث تطالبنا النصوص الشرعية بأن نمارس هذه العملية وتشدد فيها كل التشدّد كما سنرى، لذلك سنبادر إلى سؤال جديد هو الملاحظ أن التوصيات الإسلامية تطالبنا بالبكاء أو التباكي، ترى ما هو السر في ذلك؟ هل أن السر هو مجرد كون البكاء بعداً عاطفياً أم يتجاوز ذلك إلى معطيات غيرها.. كلنا يعلم أن البكاء لا يتم إلا في حالات استثنائية كفقدان عزيز مثلاً، وهذا يعني أن ندرة حدوثه تظل على صلة بطبيعة القلب الإنساني من حيث تصاعد أو تضاؤل نبضه بالدلالات المجردة عن أوضاع الحياة النفعية العابرة، إلا أن ظاهرة البكاء تحدث في حالات كثيرة نتيجة خسار مادي أو نفعي عابر وحينئذ أين دلالته الإنسانية المجردة؟ لذلك نقول ثمة فارق بين البكاء بصفته حالة وجدانية أو عاطفية وبين الأسباب الكامنة وراءه، والواقع حديثنا عن البكاء عنه كونه حالة وجدانية فحسب، وأما أسبابه فأمر ترشدنا التوصيات الإسلامية إليه من خلال شدّنا إلى الله تعالى، أي التواصل مع الله. وبعبارة أكثر بساطة ووضوحاً البكاء هو تعامل مع الله تعالى فحسب، ولكن المهم هو ملاحظة الحالة الوجدانية عند ممارسة الدعاء وهي من الأهداف التربوية المهمة في نصوص الشرع الحنيف.
ويمكننا أن نلاحظ أن التوصيات الإسلامية أو التربوية تشير إلى ضرورة أن يمارس الدعاء في حالة الرقة، لاحظوا أن الرقة هي تعبير عاطفي صرف بصفة أن القلب إذا رقّ ينجلي عنه صدأ الحياة وتتوهج الدلالة الإنسانية فيه، والبكاء يبدأ من حيث تبدأ الرقة ويتصاعد بقدر تصاعدها، هنا نلفت الانتباه إلى حقيقة أخرى مترتبة على سابقتها أي الرقة، وهي عند ممارسة عملية بكاء على ذنب مثلاً أو قصور عبادي أو البكاء تشوقاً إلى الله تعالى فإنما يعبر جميعاً عن الرقة، لذلك فإن الأسباب الكامنة وراء البكاء تظل في الواقع على صلة مع التعامل مع الله تعالى ولا علاقة لها بمنفعة أو معطى دنيوي.
في ضوء ما تقدم تظل الرقة هي الحالة الوجدانية التي تعايش عند مزاولة عملية الدعاء، لذلك بقدر ما يرق القلب تتصاعد درجة البكاء.
والآن نتجه إلى ما يتصل بحالة أخرى هي التباكي وليس البكاء، فالتوصيات الإسلامية تطالبنا من جانب بأن نجتهد في استدرار الدمع ولو قطرة مثلاً، وتطالبنا أيضاً بأن نتباكى بالنسبة إلى المطالبة الأولى نجد أن نصوصاً شرعية متنوعة تشير إلى أن القلب القاسي يمتنع عن البكاء، وهذا تعبير عن شقاوة الشخصية التي لم توفّق إلى ممارسة البكاء، بما يعني أن البكاء أمر لا مناص منه عند الشخصية الإسلامية الملتزمة الواعية، المهم إذا لم يتح للشخصية أن توفّق إلى البكاء حينئذٍ فإن التوصيات الإسلامية تطالبه بأن يتباكى، أي يصطنع البكاء إذا لم يقو على ذلك، ونتساءل هنا تربوياً عن الفارق بين البكاء وبين التباكي؟ أو لنقل المطالبة بالتباكي وافتراق ذلك عن المطالبة بالبكاء؟.
هذه الأٍسئلة تتطلب تبسيطاً لبعض الحقائق فنقول: لحسن الحظ إن المدرسة السلوكية هي إحدى مدارس علم النفس الحديث ترتكن في ميدان تعلم السلوك إلى ممارسة المصطنع من السلوك، ومن الطبيعي لا تعنينا أمثلة هذه الاتجاهات الأرضية من حيث وجهة نظرها في عملية تعلم السلوك، ما دمنا نتجه إلى السماء في تعلمنا للسلوك، لكن ما يهمنا هو أن نلفت النظر إلى أن تجارب الواقع قد تعمق قناعتكم أو قناعة بعض المستضعفين فكرياً بما تطرحه توصيات الإسلام. المهم يقول الإمام علي (عليه السلام) في إحدى توصياته: (إذا لم تكن حليماً فتحلم) وقد عرضنا عليكم هذه التوصية في محاضرات سابقة في سياق خاص، وأما الآن فنحسب أن الطالب يدرك بأن الحلم هو مفردة من قائمة السلوك ولا خصوصية له في ميدان تعلم السلوك، بل يمكن للطالب أن يصطنع أي سلوك ويتدرب عليه ليفضي به في نهاية المطاف إلى أن يتعلمه ومن أمثلة ذلك التعلم للبكاء من خلال اصطناعه.
هنا نذكر ببديهية هي أن المفهوم من التباكي أن نصطنع صوتاً يوهم السامع بأننا في حالة بكاء حقيقي، لكن يتعين أيضاً أن نضع في الاعتبار أن هذا ينبغي أن يقترن بحالة وجدانية هي استحضار دلالة الدعاء وبكلمة أكثر وضوحاً أن نكون على وعي أولاً بما ندعو به وأن ننفعل به ثانياً ولنفترض أننا مثلاً في سياق طلب غفران الذنب في أمثلة هذه الحالة نمتلك وعياً بأننا قد مارسنا ذنباً من الذنوب، وفي الآن ذاته نندم على صدورنا منه وهذا هو انفعالنا بالموقف، لكن في مثل هذه الحالة يظل إحساسنا بالندم أو بوخز الضمير طافياً على السطح لم يصل إلى القعر، أو لم يصل إلى درجة الذوبان، وحتى في حالة ندمنا العميق على الذنب قد لا نجد أنفسنا قادرين على البكاء لأسباب نوضحها فيما بعد، إلا أن ما نستهدفه الآن هو أن الموقف لا يسعفنا بممارسة البكاء الحقيقي، وعندها فإن مجرد اصطناعنا لعملية البكاء مع وعينا وإحساسنا بالذنب سيترك أثره تدريجاً من خلال التكرار على صياغة موقف وجداني جديد هو البكاء الحقيقي، أي يتحول التطبع إلى طبع في نهاية المطاف.
والآن نتجاوز هذا الجانب ونتحدث عن إجابة الدعاء وعدم الإجابة نظراً لأهمية هذا العنوان من حيث السلوك التربوي الذي ينبغي أن يمارسه ونحن ندعو الله سبحانه وتعالى ونتوقّع الإجابة حيناً وعدم الإجابة حيناً والتأرجح بين هذا وذاك حيناً آخر، من هنا نقرر الحقائق الآتية فنقول:
ذكرنا أن الطابع الوجداني للدعاء يفرض ضرورته لأسباب أوضحناها ومن ذلك ما انتهينا إليه من أن الدعاء ما دام يجسد طلباً لحاجاتنا المختلفة حينئذٍ لا مناص من أن يقترن بحالة عاطفية تتناسب وطلب الحاجة، وحينئذٍ نطرح هذا السؤال المهم جداً ونرجو الانتباه اليه جداً أيضاً ألا وهو ألا يعني ونحن نستجيب عاطفياً في تعاملنا مع الله سبحانه وتعالى بالنسبة إلى إشباع حاجاتنا، ألا يعني ذلك أن قارئ الدعاء يتوقع شيئاً واحداً هو إجابة دعاؤه؟ أي أن يتحقق الإشباع لحاجته، بطبيعة الحال نوافق على القول بأن الداعي يتوفق إجابة دعائه ولا أدلّ على ذلك من أن القرآن الكريم يقرر بوضوح (ادعوني استجب لكم)، وكذلك قوله تعالى: (أجيب دعوة الداع إذا دعان)، كما أن أحاديث المعصومين (عليهم السلام) تؤكد ذلك بجلاء، لكن إذا كان الأمر كذلك فلم نلاحظ عدم الإجابة في بعض الحالات؟!.
الإجابة على السؤال المتقدم سوف نختصرها تماماً لأن المحاضرة لا تسمح بالتفصيل بقدر ما تسمح بأن نقرر بشكل عابر وسريع فنقول: التوصيات الإسلامية بالنسبة إلى الدعاء من حيث استجابته وعدم استجابة ذلك تشير إلى أن من يقرأ الدعاء فإن الأثر المترتب على ذلك لا يخلو من إحدى حالات ثلاث:
1- إما أن يستجاب له دعاؤه.
2- إما أن يدفع عنه سوء كبير من خلال عدم استجابة الدعاء.
3- إما أن يدّخر له في اليوم الآخر.
فمثلاً إذا قدّر لواحد منا أن يمرض مثلاً ودعا الله سبحانه وتعالى أن يشفيه من مرضه حينئذ فإن الأثر المترتب على هذا الدعاء لا يخلو من إحدى الحالات الثلاث، إما أن يستجيب الله سبحانه وتعالى لهذا القارئ للدعاء فيشفي المريض من مرضه، وإما أن يدفع به سوءاً آخر أشد من المرض، وإما أن يبقى على مرضه إلا أن الله سبحانه وتعالى يثيبه على ذلك أخروياً. طبيعياً لا قيمة للشدة التي يتحملها المريض في الحياة إذا قيست بالإثابة الأخروية التي لا حدود لتصور الأمتعة فيها.
ثمة توصية تقول بما مؤداه إن المرء ليتمنى يوم القيامة لو قرض بالمقاريض في الدنيا حتى يكتسب مزيداً من الثواب في الآخرة، ترى ألا يعني هذا أن المرء يتمنى في حياته التي يحياها الآن أن يبقى رهين شدائده كالمرض والفقر وحينئذ لا يتجه إلى الدعاء حتى تستمر شدته ومن ثم حتى يكتسب مزيداً من الإثابة؟!. مما لا شك فيه أن أمثلة هذه التوصيات تحفيز للشخصية المؤمنة بأن تصطبر على الشدة وأن لا تجزع منها مهما بلغ حجمها.
ونحسب أنكم تقدرون تماماً أن الشخصية إذا امتلكت وعياً عبادياً حاداً لهذه الظاهرة أي تحمل شدائد الحياة، حينئذ فإن انعكاساتها النفسية ستتضاءل إلى درجة تقبلها للشدائد واحتفاظها بالتوازن النفسي لشخصيتها ما دام الأمر يقترن بالثواب الأخروي كما هو واضح. طبيعياً إذا أدركنا تماماً أن الدعاء قد يستجاب لمصلحة ما وقد لا يستجاب لمصلحة ما حينئذ فهذا لا يعني أن نكفّ عن الدعاء حتى نظفر بنتائجه الإيجابية في الدار الآخرة.. كلا، بل إننا نطالب دائماً بممارسة الدعاء وبطلب حاجاتنا إلى الله سبحانه وتعالى بأن تقضى، كل ما في الأمر إذا قضيت الحاجة فإن الأمر سيكتسب سمة خاصة هي إشباع الحاجة وفي حالة عدم الاستجابة سيفضي الأمر إلى ما لاحظناه من دفع شدة أكبر حجماً أو تأجيل ذلك إلى الإثابة الأخروية.
على أية حال إذن المؤمن ينبغي عليه أن يمارس الدعاء وهذا ما تكفّلت به توصيات متنوعة لأن الدعاء في الواقع هو تواصل مع الله سبحانه وتعالى، أي عدم تغافل حيث أن التوصيات الإسلامية تطالبنا بأن لا نحيا تغافلاً عن الله سبحانه وتعالى. ثانياً إن الأدعية في الواقع ليست مجرد إشباع لحاجات الإنسان الدنيوية بل هي أيضاً إشباع لحاجاته العبادية وفي مقدمتها تمجيد الله سبحانه وتعالى والثناء عليه حيث أن التمجيد والثناء لا يرتبط بحاجة فردية دنيوية أو أخروية للإنسان. ومنها كذلك ما لاحظناه من الدعاء إلى الغير، إذن الدعاء منه ما هو ذاتي ومنه ما هو موضوعي، ومع ملاحظة هذا الجانب حينئذ إن ما هو موضوعي لا علاقة له بالإشباع الفردي العابر أو الخالد، وهذا يعني أن ممارسة الدعاء في الحالات جميعاً تكتسب طابعاً إيجابياً بالنحو الذي ألمحنا إليه عابراً.
لكن ثمة سؤال في غاية الأهمية ألا وهو هل إن عدم الإجابة للأدعية تنحصر في المعطيين اللذين أشارت التوصية الإسلامية إليهما وهي إما أن يدفع به شراً أشد حجماً مما دعا له، أو أن يدّخر له في اليوم الآخر، هل إن المسألة تنحصر في هذين الجانبين فحسب؛ طبيعياً لا، سرّ ذلك أن التوصيات الإسلامية ذاتها تدلّنا على أن أسباب عدم الإجابة للدعاء تتوزع في مجالات متنوّعة سوف نسردها على نحو الاختصار أيضاً، وفي مقدمتها أولاً ممارسة الذنب.
إن ممارسة الذنب في الواقع تظل في مقدمة الأسباب الكامنة وراء عدم استجابة الدعاء في السياقات الخاصة التي أشرنا إليها حتى أنه ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الميدان أن موسى (عليه السلام) صادف رجلاً يدعو وهو ساجد فأوحى الله تعالى إلى موسى بما مؤداه لو سجد حتى ينقطع عنقه ما استجبت له حتى يتحول عما أكره إلى ما أحب. وورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن العبد يسأل الله الحاجة فيقول للملك لا تقضي حاجته وأحرمه إياها فإنه تعرّض لغضبي أو لسخطي.
إذن ممارسة الذنب تقف سبباً مهماً وراء عدم استجابة الدعاء، لكن ثمة سؤال هو من الواضح أن المعصومين (عليهم السلام) والأنبياء والنخبة فحسب هم المنزّهون عن ممارسة الذنب وهل يعني ذلك أن الأصل في الدعاء هو عدم الاستجابة ما دام البشر غير معصوم من الذنب، الإجابة تتطلب لفت النظر إلى جملة ملاحظات لا نحسبهم غافلون عنها، وهي أن التوبة والندم وعدم الإصرار على ممارسة الذنب ...الخ، تظل أبواباً مفتوحة للداعين دون أدنى شك، أي أن مجرد الندم على ممارسة هذا الذنب أو ذاك أو عدم النية بمعاودته أو الإقرار أمام الله تعالى به تظل طرقاً إلى إجابة الدعاء كما هو صريح التوصيات الإسلامية التي سنعرض لها مفصلاً إنشاء الله عند حديثنا عن الخاتمة التي نختم بها أحاديثنا التربوية ألا وهي التوبة ومعطياتها التربوية.
وأما السبب الآخر لعدم إجابة الدعاء فيتمثّل في عدم توجّه القلب، فثمة سبب آخر يحتلّ أهمية كبيرة يقف وراءها عدم استجابة الدعاء وهو عدم توجّه القلب كما قلنا حيث أن النصوص الإسلامية طالما تشير إلى أن الله تعالى لا يستجيب للداعي في حالة كونه ساهياً أو حالة كونه لاهياً، ولا نحسبنا غافلين عن هذا الجانب، طالما نعرف جميعاً أن الدعاء هو محاورة انفرادية مع الله تعالى، حينئذ كيف نتوقع استجابة دعاؤنا ونحن منصرفون بذهننا وقلوبنا عنه، هذا يعني أننا نتحاور مع الألفاظ دون أن نصل إلى دلالاتها في أعماقنا أو أذهاننا، من هنا نقول إن كلاً من عدم حضور القلب من جانب، ثم عدم الطاعة أو ممارسة الذنب من جانب آخر يقف كل واحد منهما سبباً وراء عدم استجابة الدعاء.
والآن إذا تجاوزنا هذا الجانب من عدم استجابة الدعاء حينئذٍ لنتجه إلى دلالة مضادة لما سبقت وهي أن عدم استجابة الدعاء خارجاً عن الأسباب الرئيسية التي قلنا أنها تتمثل إما في ادخار ذلك أخروياً أو دفع ضرر أشد، نقول خارجاً عن ذلك ثمة آثار إيجابية تترتب على عدم استجابة الدعاء أو تأخير ذلك، ومن هذه المعطيات التشرّف والفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى.
إن التوصيات الإسلامية تشير بما مؤداه أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً حينئذ يقول للملك احتبس أو أخّر حاجته فإني أحب أن أسمع صوته ونداءه، وبالعكس إذا أبغضه الله سبحانه وتعالى يقول للملك اقض حاجتك فإني أبغض صوته.
لاحظوا إن هذا المضمون الذي تؤكده جملة من النصوص الواردة عن المعصوم (عليه السلام) اذا طرنا فرحاً بهذا الجانب حيث نقول هل ثمة ما يشرف المؤمن أكثر من البشارة بأن الله تعالى يستمع إلى صوته وإنه تعالى يحب أن يتكرّر هذا الصوت حتى يستمع إليه؟ لا نحسب أن أحداً يزهد بأمثلة هذا العطاء الضخم أبداً وإذا كان الأمر كذلك فما قيمة الحاجات الدنيوية كلها، أو كما قال المعصوم (عليه السلام): (وأي شيء الدنيا).
ننتقل إلى الحديث عن معطى آخر من المعطيات المترتبة على الدعاء بغضّ النظر عن قضاء حاجة الداعي أو عدم قضائها بل من حيث المعطى المترتب على نفس عملية الدعاء ألا وهو ظاهرة الإلحاح في الدعاء، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله جبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدون أبداً ومنهم من أعير الإيمان عارية فإذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان)، التوصية هذه ترتبط بظاهرة الإلحاح في الدعاء، والإلحاح في الدعاء شيء ومجرّد أن يمارس الإنسان دعاءاً ما شيء آخر. وهذا يعني أن ظاهرة الإلحاح في الدعاء لها معطىً متميز وهو موت الشخصية على الإيمان، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأمور بخواتيمها وأن أحدنا لا يتاح له أن يخبر كونه ممن جبل على الإيمان أو ممن أعير الإيمان إلا أن البشرى التي يصوغها النص المتقدم وهو إلحاحنا في الدعاء سوف يشيع نمطاً من الاطمئنان لدى الشخصية التي تمارس الدعاء وتلحّ في ذلك.
ولعلّ المعطى التربوي الملاحظ في هذا الجانب هو ما ورد في التوصية التربوية التي ينقلها أحد الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: (قلت لأبي عبد الله ربما دعا الرجل بالدعاء فاستجيب له ثم أخّر ذلك إلى حين فقال (عليه السلام): نعم؛ قلت: ولم ذاك ليزداد من الدعاء؟ قال: نعم).
وثمة توصيات أخرى توضح لنا أن الداعي إذا أعطي طلبه فتر عن الدعاء وتوقف، وإذا أخّر طلبه عاود الطلب وألحّ في المسألة.
إذن الإلحاح من جانب واستمرارية الدعاء دون توقف وارتباط ذلك بتأخير الإجابة أو عدمها، إنما يظلّ متصلاً بظاهرة تربوية ذات أهمية كبيرة ألا وهي استمرارية التواصل مع الله سبحانه وتعالى وهذا معطى ضخم لا حدود لتصوّراته، على أية حال ليظل الدعاء سمة عبادية في غاية الأهمية، تلحّ التوصيات الإسلامية على ممارسته والإلحاح فيه أيضاً بالنحو الذي حدثناكم عنه سريعاً.
وهناك في الواقع جملة معطيات تترتب على الدعاء أيضاً ينبغي علينا أن نشير إليها ولو بالنحو العابر أيضاً ومن ذلك الدعاء في حالة الرخاء والشدة، إن هذا العنوان يشير إلى أننا ما دمنا قد أدركنا تماماً أن الدعاء في الحالات جميعاً ينبغي أن لا يفتر المؤمن عنه، حينئذ ينبغي أن نقول إن التعامل مع الله سبحانه وتعالى ينبغي أن لا يفتر أبداً وإن الشخصية الإسلامية الملتزمة ينبغي عليها أن تمارس الدعاء في حالات الرخاء والشدة أيضاً، والمعطى التربوي لهذا النمط من التوصيات، أي التوصية بالدعاء في الرخاء والشدة هو: أن الشخصية في الغالب تتجه إلى الله سبحانه وتعالى عندما تحس بالحاجة إلى أن تشبع، أي في حالات الشدة ولكن البشر في حالات الرخاء من الممكن أن يتراخوا عن الله سبحانه وتعالى وأن يكفّوا عن الدعاء لأن حاجاتهم مشبعة، من هنا فإن الحاجة المشبعة سوف تصرف صاحبها عن التوجّه إلى الله تعالى، وفي هذا ما فيه من خسار دون أدنى شك. لذلك نجد تربوياً أن التوصيات الإسلامية تسلك مختلف أنماط السلوك لتجعل من الشخصية الإسلامية ممارسة للدعاء في حالتي الرخاء والشدّة، وهو أمر سوف نعرض لكم جانباً منه من خلال النصوص الآتية:
تقول التوصية: (من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء وقيل صوت معروف لم يحجب عن السماء ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة صوت لا نعرفه).
وتقول توصية أخرى: (من تخوّف بلاء يصيبه فتقدم فيه بالدعاء لم يره الله سبحانه وتعالى ذلك البلاء أبداً).
واضح أن هذه التوصية الأخيرة قد ألمحت التوصية الأولى إلى دلالتها أيضاً ولكننا أفردناها نظراً لاستقلاليتها في الدلالة، ونطالب الطالب الآن بأن يدقق في التوصية الأولى حيث أنها تتضمن محاورة الملائكة فيما بينهم حيث يخاطب بعضهم البعض الآخر من أنهم يألفون أصواتاً معينة ولا يألفون أصواتاً أخرى، ترى ماذا يقصدون من وراء ذلك؟.
الإجابة واضحة، إنهم يقولون إن هذا الداعي في الشدّة لا عهد لنا بصوته سابقاً، إنه لا يدعو الله تعالى في حالة الرخاء، إذاً سوف يحجب صوته عن السماء، وبالعكس إنهم يقولون فيمن يمارس أدعيته في الحالات جميعاً إن صوت هذا الداعي لمعروف عندنا إذا سوف يخترق صوته الحواجز.
والآن ننتقل إلى التوصية الأخرى التي تحدد بصراحة بأننا إذا مارسنا الدعاء في حالة تخوفنا من الشدة فسوف يستجاب لنا في النجاة منها، لماذا؟ لا أعتقد بأننا نحتاج إلى تأمل كبير حتى ندرك بأن المطلوب هو أن نتواصل مع الله سبحانه وتعالى في الحالات جميعاً، فنحن حتى في علاقتنا العادية مع الآخرين لو كنا لا نتعامل إلا وفق مصالحنا عندئذٍ سنتحسس بمدى جفاف العلاقة وانحسار البعد الإنساني عنها، فكيف لو نقلناها إلى علاقتنا مع الله تعالى. إذاً أمكننا أن ندرك دلالة هذه التوصيات والمعطيات التربوية المترتبة عليها.
وقبل أن نختم حديثنا عن الدعاء وما يواكبه من الظواهر، نود أن نشير إلى جملة من الآداب التربوية التي ينبغي أن تسلك حيال ممارستنا للدعاء وفي مقدمتها العنوان الآتي وهو: (الاستفتاح بتمجيد الله تعالى والصلاة على نبيه وآله).
من الأسباب المفضية إلى استجابة الدعاء كما أوضحت النصوص الإسلامية ذلك هو التمهيد لطلب الحاجة بتمجيد الله تعالى والصلاة على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعصومين (عليهم السلام) ونسأل ما هي الأسرار الكامنة وراء ذلك؟!!.
الإمام علي (عليه السلام) يجيبنا قائلاً: (الثناء على الله والصلاة على رسوله قبل المسألة وإن أحدكم ليأتي الرجل فيجب أن يقول خيراً قبل أن يسأل حاجته).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا طلب أحدكم حاجة فليثن على ربه وليمدحه فإن الرجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه).
لاحظوا هاتين التوصيتين التربويتين تستشهدان بالتجارب اليومية مع الآخرين سواء أكانوا عاديين أو ذوي مكانة اجتماعية وتلفتان النظر إلى أننا لو نتعامل مع بشر مثلنا لهيأنا لهم أحسن ما نقدر عليه من الكلام فكيف بنا ونحن نتعامل مع الله سبحانه وتعالى، والحق إن هذه التوصيات التربوية لا تقف عند هذا الحد بل إن منعكساتها على الشخصية سوف تظهر بوضوح إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن المسألة تتصل بتدريب الشخصية على التعامل مع الله تعالى ومع المعصومين (عليهم السلام) بالنحو الأكمل، فأولاً سنتدرب على نبذ ذواتنا حينما نتجه موضوعياً إلى الله تعالى من خلال تمجيده، وثانياً سنتدرب على معرفة أن الله تعالى يقبل على عبده بقدر وعي العبد وإقباله على الله تعالى من خلال تمجيده.
هذه جميعاً تفسر جانباً من المطالبة بأن نمهد لدعائنا بتمجيد الله تعالى، وأما الصلاة على نبيه وعلى المعصومين (عليهم السلام) فيمكن أن نشير إلى ذلك من خلال ذهابنا إلى أن المعصومين (عليهم السلام) هم النخبة التي انتخبها الله سبحانه وتعالى من بين عباده بصفتهم يمارسون الطاعة بنحوها المطلوب ولأنهم كذلك فإن محبتهم للناس تشكل إحدى مفردات سلوكهم، وعلى ذلك فإن منزلتهم عند الله تعالى من جانب ومحبتهم للمؤمنين من جانب آخر يفسر لنا دلالة صلواتنا عليهم في طلب حاجاتنا، يضاف إلى ذلك أن التدريب على أن نكون موضوعيين كما أسلفنا ولا نعنى بذواتنا فحسب بل نعبر أسوار الذات إلى خارجها، ونتعامل مع الحقائق الأسمى ومع الآخرين، وفي مقدمتهم المعصومون (عليهم السلام) أولئك جميعاً تفسر لنا جانباً من أسرار صلواتنا على المعصومين (عليهم السلام) عند طلب حاجاتنا.
على أية حال نكتفي الآن بالحديث عن الدعاء ومستوياته المتنوعة، ونكتفي بما قدمناه من عرض عابر كنا نود أن نفصّل الحديث في مجالات كثيرة متنوعة من الدعاء إلا أننا نحيل الطالب إلى المظان في هذا الجانب ولعلّنا في فرص أخرى إنشاء الله تعالى نستطيع أن نستكمل حديثنا عن الدعاء وبهذا ننهي كما قلنا الحديث عن الدعاء ونتجه إلى آخر مفردة من مفردات التربية الإسلامية ألا وهي الحديث عن التوبة ومعطياتها والعمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حتى نتوفّر على مفهوم هذه الظاهرة التي تنعكس آثارها بنحوٍ مهم كل الأهمية على مستقبلنا الأخروي، وهذا ما سنحدثكم به إنشاء الله في المحاضرتين الأخيرتين المتبقيتين، وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..