محاضرات التربية الإسلامية - المحاضرة 9
تحدثنا في لقاءات سابقة عن مراحل التربية وحدثناكم عن المرحلة الطفولية الأولى؛ أي المرحلة التي تبدأ مع ولادة الطفل وحتى السنة السابعة، أما الآن فنحدثكم عن المرحلة الثانية، أو ما سمى بمرحلة الطفولة المتأخرة، وهي المرحلة التي تبدأ من العام السابع إلى العام الرابع عشر، وقد سبق أن قلنا أن هذه المرحلة - أي المرحلة الطفولية الثانية - بالنسبة إلى التصور الإسلامية تحتل أهمية كبيرة بحيث لم يعن بها الاتجاه الأرضي بقدر ما كان الاتجاه الأرضي يعنى بالمرحلة الطفولية الأولى.
وقبل أن نواصل حديثنا عن هذه المرحلة نود أن نكرّر ما سبق أن قلناه من أن علماء التربية والنفس من المؤكد جداً ينبغي أن يعنوا بهذه المرحلة لأنها ما دامت تشكل في التصور الإسلامي مرحلة شبه حاسمة في تحليل سلوك الشخصية اللاحق، حينئذٍ فإن هذا الجانب ينبغي أن نهتم به وأن نركز كل جهودنا التربوية في سبيل أن تعطي التربية ثمارها المطلوبة، ولعلّ الذي يدفعنا إلى ذلك هو ما نلاحظه من نصوص عيادية تشير إلى هذا الجانب بحيث تقول (ألزمه نفسك سبع سنين - أي نلزم الطفل سبع سنين - فإن أفلح وإلا فلا خير فيه) وهذه اللغة الصادرة من المشرع الإسلامي، وإلا فلا خير فيه ليست فقرة مجازية أو بلاغية الهدف منها هو مجرد المبالغة، بل الهدف من ذلك هو مدى أهمية هذه الفترة وإلا لا توجد فترة في حياة أية شخصية ييأس منها، حيث أن النصوص الإسلامية تشير أن الإنسان حتى لو بلغ أرذل العمل من الممكن أن تتحول شخصيته من كائن معيّن إلى كائن آخر، ولكن ما دام هذا النص الذي يشير إلى أنه لا خير في الشخصية إذا لم نفلح في تربيتها على النحو المطلوب خلال السنوات السبع الثانية حينئذٍ فهذا يعني أن لهذه المرحلة أهمية كبيرة سواء أكانت هذه المرحلة تتصل بالتعلّم الفكري أو التعلّم العلمي أو التعلم السلوكي بشكلٍ عام.
إن أهم ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد هو أن نشير إلى الفارق الكبير - كما قلنا - بين التصور الإسلامي لهذه المرحلة والتصور العلماني من حيث نظرتهما إلى مرحلة الطفولة الأولى والطفولة الثانية، حيث نجد أن أكثر من اتجاه أرضي يشدد الأهمية على الطفولة الأولى معتبراً إياها المرحلة الحاسمة في السلوك اللاحق عند الشخصية، بينما يرى المشرع الإسلامي أن الطفولة الثانية وليست الأولى هي المرحلة الحاسمة في السلوك اللاحق للشخصية، ومما لا شك فيه أن مثل هذا التفاوت في النظر إلى مرحلتي الطفولة ينبغي أن لا يهمله المعنيون بشؤون التربية ما دام الأمر متصلاً بأهمية نمط المرحلة التي سيتطبع سلوك الشخصية عليها.
المهم أن الإفادة من المشرع الإسلامي ينبغي أن يضعه المربي بنظر الاعتبار ما دام التشريع في الحالات جميعاً يشكل موقفاً حاسماً لكل مشكلة تربوية يتردد العلمانيون في تقرير الحقيقة الصائبة منها.
على أية حال لا نطيل الحديث بقدر ما نستهدف الإشارة من جديد إلى خطورة هذه المرحلة وهذه الخطورة يمكننا في الواقع أن نتبينها بوضوح، ليس في نمط التوصيات التي تشير إلى أهميتها فحسب كما ذكرنا قبل قليل، بل في نمط التعامل مع الأطفال في شتى المجالات المرتبطة بسلوكهم، حيث يمكننا أن نستخلص من النصوص الإسلامية عبر تعاملها مع أطفال هذه المرحلة نستكشف خطورةً - أو بالأحرى - نستكشف خطورة ما تنطوي عليه من الإرهاص في السلوك اللاحق للشخصية، وفقاً لنمط التنشئة التي تتطبع الشخصية عليها.
وإليكم - على سبيل المثال - طائفة من النصوص التي تعزّز ما ذهبنا إليه، أي التوصيات التي تلحّ على ظاهرة تأديب الشخصية في هذه المرحلة، وهي تستخدم كلمة تأديب وهذه الكلمة تتناول شتى مجالات التربية والتعلم، بما تنطوي عليه هاتان المفردتان - أي التعلم والتربية - من دلالة في لغة البحوث الأرضية، فهي تشمل الجانب التعليمي والثقافي بعامة مثلما تشمل الجانب الأخلاقي وسائر أنماط التنشئة الاجتماعية، وإليكم النصوص المتصلة أولاً بالجانب التعليمي أو الثقافي بعامة:
قال المعصوم (عليه السلام): (من حق الولد على والده ثلاثة: يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوّجه إذا بلغ).
وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (يعلمه كتاب الله ويطهره ويعلمه السباحة).
لاحظوا أن هذين النصين يشيران إلى الجانب التعليمي الصرف المتصل بعملية الكتابة، وإلى الجانب الثقافي بعامة، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تدريب الطفل على تعلم كتاب الله سبحانه وتعالى يعني التدريب على تلقي ما فيه من قيم الثقافة الإسلامية بطبيعة الحال، والمهم أن المشرّع الإسلامي يلفت انتباهنا إلى أهمية التعلم المعرفي بعامة في مرحلة الطفولة، وأن هذا التعلم يسحب أثره على الشخصية لاحقاً فيما يتعذر تعلمه بخاصة في المراحل المتأخرة من حياة الراشدين.
وإليكم الآن أيضاً النصوص الآتية عن المعصومين (عليهم السلام) عبر إشارتها إلى هذا المعنى الأخير الذي قلناه، أي صعوبة التعلّم في المراحل المتأخرة من حياة الراشد، وإن لم يكن ممتنعاً بل يقترن بالصعوبة، لنقرأ النصوص الواردة في هذا الميدان، يقول أحد النصوص عن المعصوم (عليه السلام): (قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته) وثمة حديث آخر: (بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم المرجئة إليه)، وحديث آخر: (علموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به تعالى..) إلى آخر هذه النصوص التي تتناول الجانب المعرفي بشطريه التعليم والثقافة، مشيرة - هذه النصوص - إلى أهمية التنشئة في الطفولة بحيث شبهتها النصوص بالأرض الخالية تتقبل ما ألقي فيها، وسوف نرى في نصوص لاحقة أن التنشئة سيتضاءل أثرها على الشخصية بعد مرحلة المراهقة أو خلالها فصاعداً، بل لاحظنا في نص متقدم أن التنشئة لو لم تعطي ثمارها في المرحلة الثانية من العمر، فلا خير فيها مما يفصح ذلك بوضوح عن أن مرحلة الطفولة المتأخرة تظل في سائر الميادين ومنها ميدان التعليم والثقافة ذات خطورة بالغة من حيث أثرها على الشخصية لاحقاً.
طبيعياً إن البحث الأرضي يتفق مع التصور الإسلامي في هذه الخصوصية، أي خصوصية التعلم المعرفي، ولذلك نجد أن الطفل ترشّحه جميع الثقافات العلمانية للدخول إلى الابتدائية في المرحلة الطفلية الثانية، بيد أن الفارق يبدأ بين التصور الإسلامي والتصور الأرضي بالنسبة إلى الشطر الآخر من التعلّم، ألا وهو تعلم السلوك بشكلٍ عام، مما سنظل نواصل حديثنا عنه حتى نلقي مزيداً من الإضاءة على هذا الجانب.
المهم نقول إذا تجاوزنا حقل المهارة الإدراكية، أي التعلم المعرفي إلى المهارة الحركية أي الجسمية، نلحظ التشدد ذاته في التوصيات المتصلة بهذا الجانب، فقد لاحظتم في نص متقدم أن المشرّع الإسلامي يوصي وليّ الطفل بتعليمه السباحة إلى جانب تعليمه الكتابة، وفي نص آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (علّموا أولادكم السباحة والرماية) ففي هذا النص تأشيرة إلى مهارة حركية أخرى هي الرماية، ومن البيّن أن كلاً من السباحة والرماية يوظفهما المشرّع الإسلامي لممارسات فردية واجتماعية هادفة يستثمرهما الصبي لاحقاً في اكتشاف نفسه وفي الدفاع عن الأمة الإسلامية، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه التدريب من نفع صحي ونفسي في هذا الصدد، وبهذه المناسبة نود أن نشير إلى جانب مهم جداً يفترق فيه كل من التصورين الإسلامي والأرضي عن الآخر بدرجة كبيرة ينبغي لفت الانتباه إليها.
لاحظوا بالنسبة إلى السباحة والرماية كيف أن المشرع الإسلامي قد انتخب هاتين المفردتين دون أن ينتخب سواهما من المفردات التي قد تنتمي إلى ما يسمى بظاهرة اللعب في الألعاب الرياضية المختلفة مثلاً، ومن المؤسف جداً أن نجد أن التربية الأرضية تعنى بجانب اللعب عناية تنسحب على جميع مراحل الطفولة والمراهقة، بعكس المشرّع الإسلامي الذي حدد اللعب فقط بالنسبة إلى السنة السابعة، بينما نرى الاتجاهات الأرضية تركّز على اللعب وتزعم أن له فوائد مهمة في ميدان تعلّم السلوك السوي، مما لا يتسق أبداً مع التصور الإسلامي لهذه الظاهرة.
إن اللعب في الواقع لا يتسق إلا مع مرحلة عدم نضوج الطفل، وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يشير إلى هذا الجانب وهو في مرحلة طفولته حيث شوهد وهو يقف مع أطفال يمارسون اللعب ويطالبونه بالمشاركة حيث كانت الإجابة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) (ما لهذا خلقنا)، أي أن اللعب ليس هو ظاهرة سلوكية مرغوب فيها إسلامياً، بقدر ما يمثل اللعب مرحلة غير ناضجة من حياة الطفل.
على أية حال سوف نلقي مزيداً من الإنارة على هذا الجانب عندما يحين الموعد عن التصور الإسلامي للعب ومنها الألعاب المختلفة التي نشاهدها في حياتنا المعاصرة بما تتنافى ليس من حيث ممارساتها العامة بل حتى من حيث نمط الممارسات التي تفضي إليها أمثلة هذه الألعاب، حيث تجسد انتكاسات نفسية تدمغ هؤلاء بما هو معيب وعار على علماء النفس الذين يشيعون أمثلة هذه التربية، ولكن لحسن الحظ أيضاً أن بعض علماء التربية الكبار الغربيين قد انتبهوا إلى هذا الجانب، وأوضحوا كيف أن الرياضة في العصر الحديث قد أفضت إلى نتائج عكسية مما كانت تستهدفها سابقاً.
على أية حال لندع هذا الجانب ونعود إلى ما حدثناكم عنه، عن أهمية هذه المرحلة في تدريب الشخصية على المهارة العقلية ومن ثم المهارة الحركية، ونتجاوز ذلك إلى سائر الميادين حيث يمكننا أن نلاحظ تشدد التوصيات الإسلامية في مرحلة الطفولة المتأخرة بحيث تتناول سائر أنماط التعامل الفردي والاجتماعي وانعكاس ذلك على الشخصية اللاحق، ومنها على سبيل المثال عملية التدريب على الصلاة؛ إننا لو عدنا إلى الوثيقة التربوية التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) حيث استشهدنا بها في محاضرة سابقة للاحظنا كيف أنها كانت تطالبنا في المرحلة المبكرة من الطفولة بمجرّد تدريب الطفل على الصلاة عند بلوغ الطفل السادسة والسابعة، ولكنها طالبت بعملية الضرب أيضاً في حالة تهاون الصبي في ممارسة الصلاة عند بلوغه السنة التاسعة أي مرحلة الطفولة المتأخرة التي نتحدث عنها.
ومن الأجدر أن نقرأ هذا النص ثانية، حيث يقول النص: (فإذا تم له ست سنين صلى وعلّم الركوع والسجود حتى يتم له سبع سنين، فإذا تم له سبع سنين قيل له اغسل وجهك وكفيك فإذا غسلهما قيل له صلّ ثم يترك حتى يتم له تسع سنين، فإذا تمت له علّم الوضوء وضرب عليه وعلّم الصلاة وضرب عليها) فالنص هنا كما تلاحظون يطالب بعملية الضرب في التدريب على الوضوء، وفي التدريب على الصلاة، ولسوف نحدثكم بطبيعة الحال عن العقاب البدني في مرحلة الطفولة لاحقاً، بيد أننا نعتزم الإشارة الآن إلى أن ممارسة الطفل تفصح عن شيء مهم جداً هو الأهمية التي يخلعها المشرع الإسلامي على عملية التعلّم في هذه المرحلة، وانعكاسات ذلك على سلوك الشخصية، ويمكننا بالإضافة إلى ما تقدم أن نلاحظ نصوصاً عيادية أخرى للمعصومين (عليهم السلام) في تناولها لهذه المرحلة من الطفولة ومنها ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) حيث يقول أحد الرواة:
(سألت الرضا (عليه السلام)، أو سئل وأنا أسمع، عن الرجل يجبر ولده وهو لا يصلّي اليوم واليومين، قال (عليه السلام): كم أتى على الغلام؟
قلت: ثماني سنين.
قال (عليه السلام): سبحان الله يترك الصلاة!.
قلت: نعم، يصيبه الوجع.
قال (عليه السلام): يصلي على نحو ما يقدر).
هذا نص وإليكم نصاً آخر، وهذا النص عن المعصوم (عليه السلام) يقول: (كان علي بن الحسين (عليه السلام) - أي الإمام السجاد - يأمر الصبيان يجمعون بين المغرب والعشاء ويقول: هو خير من أن يناموا عنها).
ففي هذين النصين فضلاً عن الوثيقة التربوية للإمام الصادق (عليه السلام)، نلاحظ جملة من الحقائق نلفت انتباهكم اليها:
أولاً: إن التمييز في عملية الإدراك عند أطفال هذه المرحلة يشكل طابعاً ملحوظاً في هذا الميدان.
ثانياً: أن الإلزام أو الجبر يشكل بدوره طابعاً في عملية التدريب، مع ملاحظة أن الإلزام لا يأخذ حدوده الحاسمة بقدر ما يكون على نحو يشبه الإلزام، لأن الإلزام هو في الواقع لا يتم إلا بعد بلوغ الطفل سن الرشد، أي عندما تترتب على سلوكه آثار العقاب والثواب.
ثالثاً: العقاب البدني يجسّد واحدة من طرائق التنشئة في هذه المرحلة.
إذاً التمييز أولاً والإلزام ثانياً والعقاب البدني ثالثاً، هذه الحقائق تفصح بوضوح عن أن التدريب في مرحلة الطفولة المتأخرة يكتسب خطورة بالغة الأهمية، بل إنه يسحب أثره على سلوك الشخصية لاحقاً، فلو لم تكن المرحلة ذات أثر في التطبيع على السلوك الراشد لما أقرّ الإمام (عليه السلام) عملية جبر بعض الأطفال في الثامنة من العمر على أن يمارسوا الصلاة، مع أن الصلاة لا تصبح ملزمة إلا عند سن البلوغ! ولما أوصى (عليه السلام) بضربهم في التاسعة من العمر حتى يحملهم على إتقان الصلاة، ولما أمرهم علي بن الحسين (عليه السلام) على الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء خشية أن يهمل الصلاة الأخيرة أي العشاء، بل ووصل الأمر إلى أن الإمام الرضا (عليه السلام) لم يعفي الأطفال حتى في حالة المرض من الصلاة بقوله (بقدر ما يطيقون في ممارسته منها).
إذاً هذا النحو من التشدد على أطفال المرحلة المتأخرة يفصح عن خطورة هذه المرحلة وانعكاساتها على مستقبل الشخصية دون أدنى شك.
على أية حال المهم أن التشدد في مرحلة الطفولة المتأخرة إنما يقترن بطبيعة النمو العقلي ووصوله إلى درجة التمييز التي أشرنا إليها عند الأطفال، إن هذه الظاهرة - ظاهرة التمييز - التي سبق أن أشرنا إليها، أي التمييز مع ظاهرة الإلزام ومع ظاهرة العقاب، نقول بالنسبة إلى ظاهرة التمييز ينبغي هنا أن نشير إلى أنه طابع يسم أطفال هذه المرحلة بنحوٍ واضح تماماً، بحيث يكتسب هذا التمييز أهمية خاصة ولكن لا يكتسب درجة الثبات التامة بطبيعة الحال الذي يكتسبه الراشد، أي أن التمييز هنا هو تمييزٌ متوسط المدى يظلّ متساوقاً مع عملية التنشئة ذاتها، من حيث التزاوج أو التراوح بين الإلزام والتراخي، أي لدرجة الوسط كما قلنا، فالوسط أو درجة الوسط لا تحمل إهمال المرحلة الأولى من الطفولة، ولا إلزام المرحلة الراشدة، بل هو الأمر المتراوح بينهما مع ملاحظة أن طبيعة الظواهر التي يتم تعامل الطفل معها ستسحب أثرها دون أدنى شك على نمط التدريب من حيث قوته أو تراخيه، وصلة ذلك بدرجة المهارة العقلية التي تفرضها طبيعة النمو في هذه المرحلة، ويمكنكم ملاحظة ذلك حينما تجدون أن المشرّع الإسلامي يرسم آثاراً متنوعة يركّبها على التمييز الذي يسم المرحلة في حقل التعامل الفردي والاجتماعي للطفل، حيث يراوح بين الإلزام والتراخي في هذين النمطين الآتيين من التعامل على سبيل المثال وهما التعامل الاقتصادي والتعامل الجنسي.
ففي الحقل الأول - أي التعامل المالي - يواجهنا مثل هذا النص الذي يقول: (الغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع) هذا نص.
وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال أو أنه نهى (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده، فإنه إن لم يجد سرق.
واضح أن هذين النصين يمنع أولهما من عملية البيع والشراء مع الأطفال، بينما يتحفّظ النص الآخر من ذلك، ويظلّ هذا التحفظ في الواقع نابعاً من إمكان التعامل مع الطفل في حالة إتقانه لحرفته مثلاً، ولكن في حالة عدم إتقانه للحرفة فإنه قد يلجأ إلى ممارسات غير مشروعة كالسرقة بالنحو الذي أشار إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن الواضح أن عدم الثبات في التمييز هو الكامن وراء هذا التحفظ، ولكن لو نترك هذين النصين المتحفظين ونتجه إلى تعامل مالي آخر وهو الوصية بالمال مثلاً، حينئذٍ لا نجد التحفظ المشار إليه بل نجد أن المشرع الإسلامي يسمح للأطفال بممارسة هذا النمط من التعامل المالي، وإليكم الآن النص الآتي وسواه من النصوص التي تجمع في ميدان الفقه على نفاذ الوصية عند الأطفال البالغين عشرة أعوم، يقول الإمام المعصوم (عليه السلام): (إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته) بل إذا كان الطفل في السابعة من العمر وأوصى باليسير من الأموال جازت وصيته أيضاً!، يقول المعصوم (عليه السلام): (إذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيته) لاحظوا أن هذا النمط من الخطورة المالية يتدخل في الواقع في تحديد حجم التميز أو التمييز لدى الأطفال، فالتجارة مثلاً تتسم بخطورة مالية تتطلب تمييزاً عالياً في حساب الربح والتجارة، وهذا ما يفتقده بعض الراشدين فضلاً عن الأطفال، ولذلك قد اتجه المنع إلى النمط المذكور من التجارة، أي ما لاحظناه من النصين الذين يتحفظان في تعامل الطفل مع المال.
ولكن الكسب العادي أو مطلق التعامل المالي اليسير فتخف خطورته دون أدنى شك فيما لا يتم التحفظ حياله بما في ذلك الوصية الكبيرة مثلاً، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسألة - مسألة الوصية - بإيصال الحق إلى أصحابه في غمار انتفاء العرف، المهم إن ما نعتزم لفت الانتباه عليه هو ظاهرة التمييز في مرحلة الطفولة المتأخرة، وإنه - أي التمييز - لا يأخذ سمة الثبات في هذه المرحلة إلا بقدر ما يسمح لعملية التدريب أو التمرين التربوي بالمرور من خلاله في درجة عالية من العناية، نظراً لخطورة ما يمكن أن ترهص به هذه المرحلة من سلوكٍ لاحق للشخصية.
لكن خارجاً عن ذلك كله فإن النماء العقلي في هذه المرحلة يأخذ طابع الوسط، ونؤكد على هذا الجانب وهو طابع الوسط من حيث قدرة الطفل على التمييز للظواهر، فهذا التمييز لا هو تمييز تام على ما نجده عند الراشدين ولا هو تمييز قاصر على ما نجده عند الأطفال في مرحلتهم الأولى، بل هو تمييز يجمع إلى جانب عدم المسؤولية إلزاماً بالتدريب على تحمل المسؤولية، وذلك كله تمهيداً للمرحلة الراشدة.
والنصوص المتصلة بالتعامل المالي التي حدثناكم عنها قبل قليل تفصح عن درجة التمييز الذي يسم أطفال المرحلة، حيث تم التعامل معهم بتفاوت تفرضه طبيعة الممارسات التي يتطلب بعضها مهارة عالية كالتجارة فلا تتوفر إلا عند الراشدين، وما تطلبها بعضها من مهارة عالية يتسم بها غير الراشدين ممن تنتظمهم مرحلة الطفولة التي نحن في صدد الحديث عنها.
والآن ننتهي إلى أن درجة التمييز التي تسم أطفال المرحلة الثانية، هذا التمييز يضطرد معه أيضاً نمط التدريب الذي يفرضه المشرع الإسلامي، أي الطريقة التي يتم بها ضبط السلوك والتحكم فيه، من خلال التدريب المذكور، فضلاً عن الاضطراد تعامل في شتى المجالات مع درجة التمييز المذكور، وفضلاً عن انعكاس أولئك جميعاً على سلوك الشخصية اللاحق تبعاً لنمط التربية أو التنشئة التي ستتاح للطفل، ويمكننا ملاحظة هذه الحقائق جميعاً بوضوح في الطريقة التي يتعامل بها المشرّع الإسلامي مع أطفال المرحلة المتأخرة وذلك في عملية التربية الجنسية.
لاحظوا في ميدان التربية الجنسية أن المشرّع الإسلامي يشدد بنحو بالغ في المنع من أي تعامل جنسي حتى في نطاق الظل، أو الرائحة التي تنم عن الجنس، فمثلاً المشرّع الإسلامي يمنع الأطفال من ممارسة التقبيل لهم مثلاً، حتى لو كانوا مع بداية المرحلة التي يتجاوزون بها السابعة من العمر، يقول الإمام المعصوم (عليه السلام): (الغلام لا يقبّل المرأة إذا جاز سبع سنين) لاحظوا جيداً الطفل إذا جاوز سبع سنين لا يقبّل المرأة، طبيعياً هذا يعني أن الطابع الجنسي يستيقظ بشكل خاص عند الطفل البالغ سبعة، ولاحظوا أيضاً أن المشرع الإسلامي يمنع حتى مجرّد التجاوز في المضاجع فيما بين الصبية أو الصبيات، أو بينها، يقول الإمام المعصوم (عليه السلام): (الصبي والصبي والصبي والصبية والصبية والصبية يفرّق بينهما في المضاجع لعشر سنين)، بل نجد في رواية أخرى تقول: (يفرّق بين الصبيان في المضاجع لست سنين) أي مع بداية المرحلة، ترى ماذا نستنتج من ذلك؟ هذا مع ملاحظة أن التقبيل والتجاور كما تلاحظون يمثّلان منبهات حادة بيد أن المشرّع الإسلامي يتجاوز هذه المنبهات الحادة، ويلفت نظرنا حتى إلى نطاق المنبهات الجنسية العادية، كالإطلاع مثلاً بشكل أو بآخر على الممارسة بين الأبوين، بل حتى استشفاف ذلك من خلال نفسهما عبر المعاملة، أو عبر الممارسة الجنسية.
لنقرأ هذا النص الذي يقول (عليه السلام): (لو أن رجلاً مس امرأته وفي البيت صبي مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما ونفسهما ما أفلح أبداً).
إن ما يعنينا من هذه النصوص جميعاً جملة من الحقائق:
1- انعكاس التنشئة الطفلية لهذه المرحلة على شخصيته لاحقاً.
2- ظهور الدافع الجنسي وخطورته في هذه المرحلة.
3- تميز الدافع الجنسي عن الدوافع الأخرى من حيث ظهوره.
4- اضطراد هذا الدفاع مع النماء العقلي للطفل، أي التمييز الذي نحدثكم عنه.
وسنرى في نصوص لاحقة أن العقاب البدني يشكل وسيلة ملحوظة في ضبط السلوك الجنسي للطفل والتحكم فيه.
تلك إذاً تفصح جميعاً عن أن التمييز فيما يتصل بالدافع الجنسي يبلغ درجته العالية إذا قورن بالدافع إلى المال مثلاً، من حيث درجة التقبّل أو التحفظ أو المنع فيما يراوح المشرّع بينها تبعاً لأنماط التعامل المالي، بينما لا نجد هذا التراوح في أنماط التعامل الجنسي حيث يشمل الحظر كل أنماطه سواء أكانت مثيرات حادة أم خافتة، وسواء أكانت في بداية المرحلة أي عند السابعة مثلاً أو امتدادتها أي عند نهاية المرحلة، إنها جميعاً تعد مؤشراً إلى أن التمييز في هذه المرحلة يضطرد مع الدافع المذكور وإن هذه المرحلة ذات أثر بالغ الخطورة من حيث انعكاسها على شخصية الطفل لاحقاً. ويتضح هذا بجلاء إذا أتيح لنا أن نقرن هذه الحقائق التي سبقت الإشارة إليها بقضية العقاب البدني الذي أشرنا إليه قبل قليل وقلنا إن المشرع الإسلامي فرض العقاب البدني في هذه المرحلة ومن ذلك العقاب المتصل بالتعامل الجنسي.
وفي هذا الصدد نتابع حديثنا فنقول: إن ممارسة العقاب بنحوٍ عام مما يطبع هذه المرحلة حتى ليبدو وكأنه - أي العقاب - لا يكاد ينفصل البتة عن عنصرٍ يسم هذه المرحلة وهو عنصر التعلّم بحيث لا يكاد ينفصل أحدهما عن الآخر، وكما قلنا تظل العقوبة الجنسية تبرز بنحوها الذي يتساوق وشدة التوصيات المحذرة من التعامل الجنسي المذكور، والآن لنقرأ على سبيل المثال النص الآتي:
(يقول أحد الرواة: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في آخر ما لقيته عن غلام لم يبلغ الحلم وقع على امرأة؟.
قال (عليه السلام): يضرب الغلام دون الحد.
قلت: جارية لم تبلغ؟.
قال (عليه السلام): تضرب الجارية دون الحد).
انظروا إنه من الواضح أن الضرب دون الحد يعني أن التمييز عند الصبي هو دون درجته عند الراشدين، حيث أن الراشدين يشملهم الحد الكامل، أي العقاب المتمثّل في ضرب الشخص مئة جلدة عقاباً على ممارسته الجنسية، ولكن لاحظوا كيف قال الإمام (عليه السلام) ، يضرب دون الحد، أي يضرب سياطاً أقل، وهذا يعني أن الممارسة الجنسية تحمل خطورة الإرهاص المفضي إلى تطبيع الشخصية بسمات الانحراف، نظراً لأن الجلد عقاب صارم إذا قيس بمجرد الضرب العادي مثلاً.
ويعني أخيراً أن العقاب بنحو عام يشكّل وسيلة تربوية ذات خطورة من حيث مساهمتها في تعديل السلوك وضبطه.
من هنا يتعين علينا أن نتجه إلى الوسيلة المذكورة - أي إلى العقاب - وملاحظة الموقع التربوي لها في هذه المرحلة من الطفولة المتأخرة، وفي هذا الصدد نقول:
إن ظاهرة العقاب البدني تحتل مشكلة تربوية في أبحاث علماء النفس والتربية الحديث، وكلكم تعلمون أن العلمانيين أو الأرضيين قد انشطروا حيال العقاب البدني فريقين، فريق يؤثر العقاب ويرى أنه مفيد في العملية التربوية في حين يراه فريق آخر على الضد من ذلك تماماً، وقد عزز كل من الفريقين وجهة نظره بدراسات أجريت في هذا الصدد، ونحن في الواقع لا يعنينا هذا التردد لدى الأرضيين ما دام المشرّع الإسلامي قد حسم الموقف بوضوح وأقرّ العقاب البدني ليس في صعيد الانحراف الجنسي فحسب بل في صعيد غالبية الانحرافات التي لسنا الآن في صدد الحديث عنها، إن ما نود التشدّد عليه هنا هو العقاب البدني في عملية التدريب على التعلم بخاصة متمثلاً في عملية الضرب المألوف لدى التربويين في مرحلة الدراسة الابتدائية، ولقد مرّت بنا توصيات المشرع الإسلامي بممارسة الضرب حيال الأطفال الذين يترددون أو يمتنعون من عمليات الوضوء والصلاة. والآن حينما نتابع هذه التوصيات نجد أن مشروعية الضرب تصل في تصور المشرع الإسلامي إلى الدرجة التي يطالب فيها المشرع بممارسة الضرب حتى بالنسبة إلى الطفل اليتيم، مع أن المشرع يلحّ كل الإلحاح بمراعاة مشاعر اليتيم، ويتوعد بالعقاب الشديد لكل من يلحق به أدنى أذى.
إذاً مطالبة المشرع الإسلامي بممارسة الضرب حتى بالنسبة إلى الطفل اليتيم في عملية تنشئته، إنما تفصح عن أهمية هذه الوسيلة التربوية في المرحلة التي نتحدث عنها وتفصح من ثم عن أهمية الطفولة المتأخرة من حيث انعكاساتها على السلوك اللاحق للشخصية. والآن لنقرأ النصوص الإسلامية في هذا الميدان:
يقول الإمام المعصوم (عليه السلام): (أدّب اليتيم مما تؤدب منه ولدك واضربه مما تضرب منه ولدك).
ويقول الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): (تستحب غرامة الغلام في صغره ليكون حليماً في كبره).
وقد ربط هذا النص الأخير بين ظاهرة التأديب البدني وانعكاسه على السلوك اللاحق للشخصية حيث قرر بوضوح أن العقاب يساهم في ضبط سلوك الشخصية وجعل ذلك سلوكاً سوياً في المرحلة الراشدة ولنقرأ الفقرة من جديد (ليكون حليماً في كبره) حيث يمثّل الحلم قمة الاستواء لدى الشخصية.
طبيعياً ينبغي أن لا ننظر إلى عملية الضرب إلا من الزاوية التي أشرنا إليها وهي التمييز مقترنة مع نمط التدريب الذي يتراوح بين الإلزام والتراخي، لذلك نجد الإمام الرضا (عليه السلام) يشير إلى العقاب البدني بقوله: (يستحب) أي أن الضرب أشمل فائدة من غيره، هذا إلى أننا لا نعدم وجود بعض النصوص الناهية عن الضرب مما يمكن تفسيرها طبقاً لما انتهينا إليه من أن الضرب هو أشد فائدة من عدمه وأن السياق هو الذي يحدد مشروعية وعدم مشروعية الضرب بالنحو الذي أوضحناه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..