محاضرات التربية الإسلامية - المحاضرة 34
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثنا في محاضرات سابقة عن السمات الذاتية للشخصية والعمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيالها حتى يتعدل سلوك الشخصية أو حتى تتعدل السمة من كونها سمة سلبية إلى كونها سمة إيجابية، وقد استعرضنا جملة من السمات التي طرحها المعصومون (عليهم السلام) في قوائم من السلوك يقارنون بها بين كل سمة إيجابية وما يقابلها من السمة السلبية وذلك كالاستسلام وما يقابله من الاستكبار والتسليم وما يقابله من التجبر والخضوع وما يقابله من التطاول والتواضع وما يقابله من الكبر والخشوع وما يقابله من العجب والدعاء وما يقابله من الاستنكار، وهكذا..
بعد ذلك تحدثنا عن ظاهرتين مهمتين تنعكس على كثير من السلوك اليومي المألوف وهما سمة التكبر والتعصب، وتعرفنا على ذلك مفصلاً وأوضحنا الجذور المرضية لهذين النمطين من السلوك وصلة ذلك بالتصور العبادي لهذا الجانب، وانتهينا من الحديث عن التعصب واستشهدنا أيضاً بجملة من النصوص التي تتعرض لهذا الجانب وحيث أوضحنا طبيعة هذه المفردة من السلوك من خلال التصورين الإسلامي والأرضي ووعدناكم أن نتحدث بعد ذلك عن التصور الإسلامي لمعالجة هذه الظاهرة، أو بالأحرى بالتوصيات التربوية التي قدّمها التصور الإسلامي في علاج هذه الظاهرة وهو أمر نبدأ فنحدثكم عنه الآن.
يمكن الذهاب إلى أن التصور الإسلامي للظاهرة المتقدمة وهي ظاهرة التعصب والعلاج الناجع لمحو هذه المفردة من سمات الشخصية، إن الوقوف للتصور الإسلامي لهذا الجانب كفيل من خلال توصياته المتنوّعة بمسح الأورام التي تواكب السلوك المتعصّب بالنحو الذي حدثناكم عنه في ملاحظات سابقة حيث أن هذه التوصيات تتكفل بمسح الأمراض المشار إليها ونقل الشخصية من صعيد المرض إلى السوية وذلك عندما تدلنا هذه التوصيات أولاً إلى الأصل السلالي الواحد ومن ثم حين تضع في أذهاننا ثانياً مبدأ التقوى معياراً للفضل بين شخص وآخر وحين تردم هذه التوصيات الإسلامية مشاعر الفضل ذاتها عبر مطالبتها بأن تتحسس الشخصية بكونها قاصرة بالقياس إلى الآخرين وليست متفوقة عليهم. إن هذه التوصيات بمستوياتها العلاجية الثلاثة، أو هذه العمليات التربوية الثلاثة كفيلة لو دققنا النظر فيها كفيلة بتعديل سلوك الشخصية المتعصب ونقل ذلك إلى السلوك المضاد تماماً.
ويمكن الذهاب إلى أن المبدأ الثالث الذي عرضناه الآن وهو أن التوصيات الإسلامية تردم مشاعر الفضل التي يتحسسها الإنسان عبر مطالبة هذا الإنسان بأن يتحسس كونه قاصراً بالقياس إلى الآخرين، نقول هذا المعيار الأخير وهو تحسس القصور بدلاً من الفضل يجسّد علاجاً تربوياً متفرداً لمحو كل الآثار الذاتية وتورماتها حيث تجرب الشخصية على أن ترى الآخرين أفضل منها وهو نفسه ينسحب أيضاً على الأثر الذي تنتسب الذات أي الأصل السلالي.
وحصيلة القول في هذا الميدان أن تجربة واحدة تكفي لتحسس الشخصية بمفارقات التعصب السلالي كما أشرنا إلى ذلك في نهاية محاضرتنا السابقة بنحو عابر وقلنا أن تجربة عدم السجود لآدم (عليه السلام) اقتادت أن يتشبّث الشيطان بسلوك مرضي باحث عن الأصل، أي اقتراب الشخصية إلى تلك المعادلة المتورمة أو لنقل إلى ذلك المقياس المريض الذي تقدم به إبليس وهو أفضلية النار التي ينتسب أصله إليها على أفضلية الطين الذي ينتسب إليه آدم (عليه السلام).
إن؟؟؟ حينما منعت مع الأصل السلالي فلأن هذا التعامل نابع من الجذور المرضية التي أوضحناها في محاضرتنا السابقة ولأنه يقتاد من حيث البعد الاجتماعي إلى مفارقات متنوّعة لا نظن أنها تحتاج إلى التعقيب، لكن إن المشرع الإسلامي وهو يرسم الحظر أو المنع المذكور يتقدّم إلينا بتعامل من نمط آخر مع الأصل السلالي للإنسان، والآن لنقرأ الآية الكريمة الآتية حيث يقول سبحانه وتعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). هذه الآية الكريمة، وإليكم نصاً للإمام السجاد وهو علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) حيث يقول: (العصبية التي يؤثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خير من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم).
يهمنا من هذين النصين القرآني والحديثي تحديد الدلالة الصحية والدلالة المرضية من خلال التعامل مع الأصل السلالي للإنسان، إن كلاً من الآية والحديث يوضحان ظاهرة التعارف وظاهرة الحب، وواضح أن التعارف يشكل تجسيداً لعملية التوافق الاجتماعي، وهذا التوافق سبق أن أوضحنا طبيعة سمته التي تتحدد السوية من خلالها فالشخصية السوية وهذا ما تجمع عليه الاتجاهات العلمانية جميعاً هي التي تحقق توافقها مع الذات وتوافقها مع الخارج، وعملية التوافق الاجتماعي تجسد هذا التوافق الأخير أي توافق الشخصية مع الخارج.
ومن بين أيضاً أن التشريع طالما يلحّ على التآصر النسبي في شتى خطوطه المتقاربة الأقرب فالأقرب، حتى أن ظاهرة الأرحام أو ظاهرة القرابة بنحو عام تحتل في ميدان الصلة والإنفاق والتوارث ونحوها عناية خاصة من نصوص التشريع حتى أن النصوص الكتابية والحديثية من ؟؟؟ بنحو يلفت النظر حقاً، أي تلك التوصيات التي تؤكد ضرورة صلة الرحم، وهذا من نحو ما نجده مثلاً في التوصية القائلة: إن الإنسان ليزيد عمره ثلاثين عاماً مثلاً إذا وصل عمره وينقص عنه ثلاثين عاماً إذا قطع رحمه وو.. إلى آخره من التوصيات التي تؤكد على ضرورة صلة الرحم، ولو بسلام وذلك في ميدان الإنفاق وفي ميدان التزاور وفي ميدان قضاء الحاجة، وفي أي ميدان يتصل بالمساعدة حيث أن مقولة الأقربون أولى تجسد هذا الجانب بوضوح.
كل هذه التوصيات المتصلة بالقرابة وهي في الواقع تتحدث أيضاً عن السلالة أو عن الأصل، ولكن ثمة فارق كبير بين السلالة أو الأصل بمعناه التعصبي والسلالة والأصل بمعناها التي أشار إليها الإمام زين العابدين (عليه السلام) حينما قال: (ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه)، فأنت حين تحب قومك وأسرتك وأقاربك وو.. الخ شيء، وأن تفضلهم حتى لو كانوا أشراراً على الآخرين شيء آخر والثاني هو المبغوض والأول هو المطلوب.
على أية حال نحن إذا تابعنا حديثنا عن هذا الجانب نستطيع أن نتقدم خطوة جديدة فنقول: إن العناية مثلاً بالجار وتحمّل المساحة العددية للجار تأخذ نصيبها من العناية أيضاً، ثم نبتعد خطوة فنجد ظاهرة الصداقة محكومة بالصداقة وهكذا.. وهذا يفصح عن شيء واضح كل الوضوح هو أن المشرع الإسلامي يأخذ البعد القرابي بالدرجة الأولى ثم الجار ثم الصداقة .. الخ، وكل ذلك مؤشر إلى أهمية الإحساس بالقرابة ولكن بالمعنى الذي قلناه.
وهذه جميعاً تفصح عن أن خلق المحبة ؟؟؟ عليه مشدداً على ضرورة العناية به بدءاً من العلاقة الأسرية في مستويات ترتيباتها مروراً بالأقارب والجيران والأصدقاء وانتهاءاً إلى العلاقة في أشكالها المتباعدة. وكل هذا يعني أن التآصر بين الآدميين يتضخم حجمه بقدر تضخم الحجم البيئي في عناصره المتلاحمة، فالنسب مثلاً يشكل واحداً من العناصر والجوار يشكل عنصراً آخر والصداقة تشكل عنصراً ثالثاً وهكذا.. وبقدر تلاحم هذه العناصر أو ابتعادها يتضاءل أو يتضخم حجم التآصر، وعندما يطالبنا المشرع بمراعاة هذا التآصر فلأنه مفصح عن حرصه على تعميق الدلالة الإنسانية بين الآدميين، من هنا يجيء الحب الذي أشار إليه الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) حينما قال: (ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه) نقول يجيء الحب مؤشراً للدلالة المذكورة، أي أن مراعاة التآصر سواء أكان نسبياً أو قيمياً كالصداقة، إنما ينطلق من دلالة الحب الذي يشكل سمة الشخصية السوية، إن الحب هو المعطى الوحيد في دلالة الإنسان عبر التصور الإسلامي لمهمة الكائن الآدمي في علاقته بالآخرين، أي أن علاقة الفرد بالآخرين أو افتقاره إليهم تتحدد في أنه يحبهم ويمد يد المساعدة إليهم وخارجاً عن هذا الحب فإن الشخصية الإسلامية لا تحس بالحاجة إلى الآخرين، بل تتعامل مع حاجتها مع السماء وتتجه نحوها فيما لا يزيدها الآخرون ألفة باجتماعهم ولا يحسسها بالوحدة عند افتراقهم عند الشخصية بالنحو الذي حدثناكم في محاضراتنا السابقة.
نخلص من ذلك كله إلى أن الحب في دلالته الإنسانية هو المسوغ لتشكيل ذلك النمط من العلاقة النسبية أو القيمية التي حددها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في غمرة حديثه عن التعصب وتمييز السمة السوية عن السمة المرضية منه، بيد أنه من المؤسف أن يغيب الحب في دلالته الإسلامية التي حددها الإمام (عليه السلام) فيما تحول من خلال الإفرازات المرضية إلى تعصب ومركب نقص يتوسم بالسلالة أو بالجنس أو باللون أو أو.. الخ، من هنا تتسع دائرة التعصب حتى لتشمل كل أنماط الحب المرضي أي تتجاوز دائرة التعصب العرقي إلى مطلق التعصب الذي تفرزه الشخصية في استجابتها حيال هذا المثير أو ذاك. فمثلاً الانتساب لناد ثقافي أو سياسي أو رياضي مثلاً أو الانتساب ؟؟؟ أو حتى الانتساب إلى الإمكانات الشخصية في مهاراتها العلمية أو الفنية مثلاً، كل أولئك حينما تتحدد استجاباتنا حيالها من خلال الإفراز المرضي حينئذ تكون مؤشراً إلى وقوعنا في التعصب الذي يخلع ربقة الإيمان من أعناقنا على حد تعبير المعصوم (عليه السلام) حينما قال أن التعصب يخلع ربقة الإيمان عن الشخصية.
على أية حال قبل أن ننتهي من الحديث عن ظاهرة التعصب وننتقل إلى المفردة الأخيرة المرتبطة بالسمات العامة الذاتية، يجدر بنا أن نلخّص من جديد الإشارة إلى التوصيات التربوية الثلاث المتمثلة في:
أولاً: لفت نظر الشخصية إلى الأصل السلالي الواحد، أي رجوع الشخصيات جميعاً إلى آدم (عليه السلام).
ثانياً: التقوى التي تردم كل تفاضل.
ثالثاً: حينما ترى الشخصية أنها متحسسة بالقصور بالقياس إلى الآخرين حينئذ فإن أي تعصب بذاتها أو بقومها سوف يتلاشى دون أدنى شك.
فبالنسبة إلى التوصية الأولى وهي تأمل كل واحد منا من حيث رجوعه إلى آدم (عليه السلام) أي رجوعنا جميعاً إلى الأصل الواحد حينئذٍ فأي معيار للتفاضل حينئذٍ سوف يتلاشى لدى الشخصية بشكل تلقائي، وفي هذا الميدان يمكن أن نستشهد بنموذجين شرعيين أحدهما نموذج قولي والآخر نموذج فعلي. ففي مجلس لأحد المعصومين (عليهم السلام) ذكر أحد الجالسين شخصاً ونعته بأنه نبطي حينئذ عرض الإمام (عليه السلام) ولفت نظره إلى أننا جميعاً ننتسب إلى أصل واحد. وفي الميدان الفعلي نجد أن الإمام الرضا (عليه السلام) وهو أمر مشهور جداً كان يجمع خدمته من السودان وغيرهم من سلالات متنوعة على مائدة واحدة و؟؟؟ وحينما انتقد على ذلك أجاب بأننا من أصل واحد.
هاتان الحادثتان القولية والفعلية في مؤشراتهما الشرعية دليل واضح على ما ينبغي أن نتربّى عليه عملياً وفعلياً بالنسبة إلى الإحساس السلالي وضرورة تلاشيه من ذاكرتنا أساساً، أما فيما يتصل بالتوصية الثانية وهي أن نضع التقوى معياراً فأمر لا نعتقد أننا بحاجة إلى إفاضة الحديث عنه ما دمنا جميعاً نعرف أن تقوى الإنسان هي التي تفرزه عن سواه من حيث تثمين قيمته أمام الله تعالى ولا شيء سواه لذلك لا نطيل الحديث عن ذلك ولعلنا نتحدث عنه في مناسبة لاحقة إنشاء الله.
وأما التوصية الثالثة وهي توصية مهمة جداً ونعني بها التوصية التي تطالبنا بأن نرى الآخرين أفضل منا ولعلكم تتذكرون النص التربوي لأحد المعصومين (عليهم السلام) الذي طالب بأن يرى كل واحد منا عند مقارنته مع الآخر إذا كان أكبر منه سناً قال هذا سبقني بالفضل لأن سنه أكبر وإذا رأى أصغر منه سناً قال سبقته بالمعصية لأن الشخص أكبر من ذلك الآخر سناً، بل إن التوصيات القائلة بعدم التزكية تعد مؤشراً واضحاً مهما عظم شأنها لا تستطيع أن تفضل ذاتها على الذوات الأخرى، لأن مقياس التزكية أساساً هو عند الله سبحانه وتعالى.
على أية حال نكتفي بهذا القدر من الحديث عن السمات الذاتية التي حدثناكم عن جملة من مفرداتها وننهي الحديث عن المفردات المشار إليها بمفردة جديدة هي مفردة الصمت ويقابلها الهذر حيث نختم بهذه المفردة الحديث عن السمات الذاتية لنحدثكم بعد ذلك عن سمات تتسم بأهمية كبيرة هي السمات الاجتماعية، أي السمات المفصحة عن نمط تعاملنا مع الآخرين وهو تعامل يتحدد من خلال التصور الإسلامي بأهمية ضخمة سنقف عندها مفصلاً إنشاء الله، لكن بعد أن نحدثكم عن هذه المفردة وهي مفردة الصمت ويقابلها الهذر، وهاتان المفردتان وردتا في القائمة التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) ذات الخمس وسبعين مفردة من مفردات السلوك حيث يمكن أن نعقب على هاتين السمتين بالكلام الآتي.
إن صلة هاتين السمتين بنظرة الشخصية عن ذاتها تظل من الوثاقة بمكان كبير، فالكلام بصفته ممارسة لفظية لا يعدو كونه إما تعبيراً عن حاجة موضوعية ؟؟ الموقف كما لو أراد أحدنا مثلاً أن ؟؟؟ إحدى الحقائق العبادية، وإما أن يكون تعبيراً زائداً عن الحاجة فحينئذٍ تعد أمثلة هذه الممارسة تعبيراً شاذاً عن أحاسيس الشخصية، كما لو أرادت الشخصية مثلاً أن تلفت انتباه الآخرين إليها، مما يفصح مثل هذا اللفت للنظر عن قمة التورّم الذاتي، أي إن الشخصية تتحسس بنوعٍ من عدم الجدارة في ذاتها وتتوزعها مشاعر النقص والهوان وما إليهما بحيث تتوسل بممارسة الكلام لكي تخفف عن أحاسيسها بالضعف وتعوض ذلك بما يحقق تأكيداً لذاتها واستجلاب النظر حيالها، وهذا كما لو تصدرت إحدى الشخصيات المجلس مثلاً أو انفردت بحديثها مع الآخرين أو استعرضت إمكاناتها الثقافية وسوى ذلك.
ويلاحظ أن كلا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام السجاد (عليه السلام) ألمحا في بعض توصياتهما التربوية إلى أمثلة هذه المرضية وأشارا إلى جملة من النزعات المرضية التي تطبع الشخص في أمثلة هذا السلوك، فقد ألمح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عبر عرضه للسمات المذكورة ونشير إلى واحدة منها وهي حب الكلام، وكذلك الإمام السجاد (عليه السلام) في معرض حديثه عن الجذر التاريخي للسمات المرضية الثلاث وهي الكبر والحرص والحسد حيث فرّع منها ما يلي:
قال (عليه السلام): (فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو وحب الثروة..).
إن هاتين التوصيتين العياديتين اللتين تتحدثان عن جملة من الحاجات غير المشروعة أشارتا إلى حب الكلام وكذلك إلى حب العلو فيما يرتبطان بموضوع حديثنا وهو الصمت وما يقابله من سمة الكلام، فحب الكلام يقابل الصمت من حيث كون الأول سمة سلبية والآخر سمة إيجابية، كما أن حب العلو وقد حدثناكم عنه يعني ما يصطلح عليه في علم النفس المرضي للدافع إلى الفوقية فيما تجيء ممارسة الكلام واحدةً من إفرازات ذلك الدافع، أي الدافع إلى الفوقية كما هو واضح.
إن عالم النفس الأرضي وعالم التربية الأرضي قد لا يهتدي إلى أهمية ممارسة الصمت كظاهرة وانعكاسات ذلك في ميدان السلوك السوي بقدر ما يعنى باهتمامات من نحو التفاؤل، الانبساط، الثقة، الشجاعة.. الخ، مع أن الأمثلة المذكورة لا تكفي وحدها في تحقيق سمة السوية، ما لم تستثمر بالتدريب على مجموعة من الممارسات اليومية التي شدد المشرع الإسلامي فيها ومن ذلك ظاهرة التدريب على الصمت. إن التدريب على الصمت في الظاهرة لها أهميتها التربوية الكبيرة، فالشخص من الممكن أن يجرد ذاته على الثقة بها، ومن الممكن أن يزيح مخاوفه المرضي بعلاج سلوكي هو اقتحام المجالات التي اقترنت بمخاوفه، ومن الممكن مثلاً أن يتدرب على تأكيد ذاته وإثباتها من خلال توصيات علماء النفس والتربية بأن يقتحم المجالات الاجتماعية وإثبات هويته من خلال أهم الوسائل وهو الكلام، بيد أن المريض يقع في الآن ذاته في إحدى حبائل الذات والتمحور حولها، أي أنه في غمرة محاولته بأن يتخلص من إحدى السمات المرضية كالخوف وكالإحساس بالنقص فإذا به يقع في سمة سلبية أخرى هي التمركز حول الذات في غمرة عرضه للكلام المجسد لنمط من الذاتية الملفتة لنظر الآخرين لهذه الذات المريضة.
إنه في غمرة اهتمامه بالكلام المصطنع، أي الزائد عن الحاجة سيقع دون أدنى شك في دائرة ذاته محاولاً إبراز شجاعته وثقافته ومهاراته بعامة بل يصل إلى درجة الإحساس بالحاجة إلى السيطرة والفوقية وهما على صلة بالنزعة العدوانية وبالنزعة الأنانية كما هو واضح.
إذن لا مناص من مراعاة جوانب الاستواء في كل أشكالها لدى الشخصية ومنها ممارسة الصمت التي تعد أبرز علاج سلوكي لتدريب الشخصية على أن تتنازل عن ذاتها، وهو أمر لا يتنافر مع التدريب على مواجهة الآخرين وإثبات الجدارة الذاتية، لأن إثبات الجدارة لا تتحقق بمطلق المواجهة الجريئة التي يطالب بها الأرضيون بقدر ما تفرضها سياقات خاصة والمهم هو أن التوصيات العيادية في الإسلام حينما تشدد في ظاهرة الصمت بنحو لا ؟؟؟ إليه إلا إذا كانت الضرورة تفرض ذلك، وهذا مثل تبليغ رسالة السماء وتوضيح الحقائق المختلفة ومساعدة الآخرين بما تتطلبه من ممارسة للكلام أو لغيرها من الممارسات وخارجاً عن ذلك فإن ممارسة الصمت تظل موضع تشدد التوصيات الإسلامية ومنها مثلاً ما تلاحظونه من التوصيات الآتية:
(الصمت باب من أبواب الحكمة)، (الصمت يكسب المحبة)، (أمسك لسانك فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك)، (النطق راحة للروح والسكوت راحة للعقل)، (بكثرة الصمت تكون الهيبة)، (من كثر كلامه كثر خطأه).
إن هذه التوصيات تعد وثائق بالغة الأهمية من حيث التدريب على اكتساب سمات الاستواء عند الشخصية فهي تعرض لجملة من الحاجات التي تحقق التوازن في حالة إشباعها من نحو الحاجة إلى الحب والحاجة إلى التقدير وسواهما، لقد قررت إحدى التوصيات التي سبقت بأن النطق هو راحة للروح والصمت هو راحة للعقل، فإذا تأملتم هذه التوصية العيادية سوف تدركون بأن إشارتها إلى أن النطق راحة للروح يتمثل في الواقع في أكثر من ظاهرة وهذا ما يمكن عرضه الآن حيث نجد أن منها ما يجسد الحقيقة الآتية وهو الكلام يعد وسيلة علاجية هي التفريج عن الأعماق، وهذا التفريج عن الأعماق قد يكتسب حيناً طابعاً إيجابياً وقد يكتسب حيناً طابعاً سلبياً فمثلاً لو افترضنا أن أحدكم يحمل مخزوناً علمياً أو مهارة علمية فإن محاولة إبراز هذا المخزون أو المهارة سيحقّق إمتاعاً نفسياً لحامله وهو تأكيد ذاته، لكن إن هذا التأكيد لا قيمة له في نظر الإسلام لأنه يحوم على مجرد إبراز الذات، أي أنه تعبير مرضي عن الشخصية وليس تعبيراً موضوعياً تفرضه المهمة العبادية الملقاة على الإنسان.
فمع أن مثل هذا التعبير بالكلام على المهارة المذكورة يحقق إمتاعاً نفسياً ولكن هذا الإمتاع سيواكبه من جانب آخر فقدان للإمتاع أيضاً، أي سيتم هذا الإمتاع على حساب توتر من نمط آخر يصيب الشخصية، فالباحث عن تأكيد ذاته لا يقرّ له قرار حتى يحقق ما يستحدثه من الكلام الذي توفّر عليه وهو إبراز إمكاناته أو اقتران ذلك بالتقدير من قبل الآخرين، وهو أمر من الصعب أن يتحقق في مطلق مواقف الشخصية بل هو يشبه البحث عن المال أو الموقع الاجتماعي الذي لا يكاد يتحقق إلا ويتطلع الشخص إلى مزيد من الإشباع، بحيث تظل الشخصية متوترة بدلاً من أن تحقق توازناً في داخلها، علماً بأن مقداراً من الإمتاع الذي يلمسه الشخص أو بالأحرى علماً بأن قدراً من الإمتاع قد يلمسه الشخص في موقف محدد، وما ألمحت التوصية الإسلامية في ذهابها إلى أن النطق راحة للروح ولكنه إمتاع ضئيل القيمة بالقياس إلى الإمتاع العقلي، فالإمتاع العقلي يظل أشدّ فاعلية من إمتاع الروح ما دمنا قد أوضحنا في القسم الأول من محاضراتنا بأن الإمتاع الموضوعي أشد فاعلية من الإمتاع الذاتي وأن التدريب عليه يستتلي النفور تدريجاً عن الإمتاع الذاتي، هذا إلى أننا من الممكن أن نفسّر المقولة المتقدمة الموصية بأن النطق راحة للروح يمكن أن تفسرها في ضوء معطيات أخرى سبق أن أشرنا إليها عابراً أيضاً، ففي إحدى التوصيات الإسلامية المرتبطة بوجود مخزون فكري لدى الشخصية حيث تحرص هذه الشخصية على أن توصل هذه المفهومات إلى الآخرين حينئذٍ فإن التوصية تضع حتى لو استطاع الشخص أن يفرغ ذلك في ؟؟؟ أو هواء طلق حتى يستطيع من خلال ذلك أن يفرّج عن مكبوت داخلي يريد له أن ينسحب إلى الخارج، مع ملاحظة أن مثل هذا الشخص عندما يفرغ كلامه حتى في الهواء الطلق فهذا لا يعني أنه يستهدف جلب نظر الآخرين إليه حتى يكتسب تقديراً اجتماعياً، وإنما يستهدف تأكيد حقيقة من الحقائق يحرص على أن يوصلها إلى الآخرين ولكن مع فقدان الآخرين تظل هذه الحقيقة التي يحرص على إبرازها حديثة في دائرة ذاته، ولذلك يفرغها خارجاً عن الذات تجسيداً لإمتاع روحي صرف.
على أية حال حينما نتجه إلى سائر التوصيات التي تلوناها عليكم نلحظ بعداً جديداً من مبادئ الصحة النفسية، أو من مبادئ التربية الصحية التي يحققها الصمت في هذا الميدان، لقد قالت التوصية الأخيرة (من كثر كلامه كثر خطأه ومن كثر خطأه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه..).
إن هذه التوصية تدلّنا على مدى الدقة التي انطوت عليها ملاحظة الإمام المعصوم (عليه السلام) العيادية لهذا الجانب، فلقد وصلت التوصية بين كثرة الكلام وبين موت القلب ؟؟؟ أي بين الكلام وبين النزعة العدوانية والانحرافية اللتين يجسدهما موت القلب، فالقلب الميت في تصور علماء النفس والتربية إما أن يتجسد في فقدانه بحس المسؤولية وهو سمة الشخصية المنحرفة اجتماعياً أي السيكوباثية أو بروز النزعة العدوانية فيه وهو أمر لا يحتاج إلى التعقيب.
أما التوصية الثالثة فتشير إلى أن الصمت يفسد المحبة، ومن الواضح أن علم النفس الأرضي وعلم التربية الأرضي يقر بأن الشخصية السوية هي التي تحب وتحَب، وحينئذ ما دام الصبر يستجرها إلى أن تنتزع المحبة من الآخرين فحينئذٍ تتحقق لدى الشخصية ؟؟؟ سمات الاستواء في السلوك طالما ندرك بأن الكلام بما يستتليه من عرض للعضلات وبما يواكبه من جدال أو تجريح من شأنه أن يترك لدى الحاضرين استجابات غير ودية، كما لو تنكر من عدوانه اللفظي أو تتبرم من استعراض عضلاته أو تحسده الشخصية على ذلك، وهذا جميعاً تستتلي العداوة بدلاً من المحبة التي استهدفها صاحب الكلام إذا كان هدفه هو أن يستجلب نظر الآخرين إليه حينئذ فإن الكلام في النتيجة سيحقق هدفاً مضاداً لهدفه الأولي تماماً وهذا ما أشرنا إليه عندما قلنا أن الكلام قد يستجرّ الشخصية إلى أن تنفر من الآخرين كما لو ؟؟؟ مثلاً أو كما لو جرحته من خلال العدوان اللفظي الذي تستجرّه المجادلات أو المناقشات.
المهم لو اتجهنا إلى التوصية الرابعة فنجد أنها تتحدث عن الهيبة لدى شخصية الصامت ومن الواضح أن التقدير الاجتماعي الذي يشكل أحد الدوافع البشرية للتركيبة البشرية ؟؟؟ في جانبها السوي الذي تحدثنا مفصلاً عنه وليس في جانبه الذي تتحدث به التوصيات الأرضية، نقول هذا التقدير المتمثل في النظرة الإيجابية للذات سيحققه الصامت نظراً لعدم اقتران الصمت بما يثير السخرية أو الكراهية وبذلك تحقق الشخصية توازنها الداخلي في هذا الموقف.
على أية حال يظل الصمت بالنحو الذي ألمحنا إليه موفراً للشخصية توازناً داخلياً تنأى به عن كل المنبهات التي تستجر التوتر بما يتسبب عن ممارسة ؟؟؟ الكلام أي أن الصمت يجسد سمة سوية للشخص وبعكسه يظل الكلام سمة مرضية إذا كان ذلك بنحو زائد عن الحاجة، وإلا إذا انتقلنا إلى سياق آخر نجد أن التوصيات الإسلامية تطالبنا بالكلام وليس بالصمت في سياق توصيل مبادئ الله سبحانه وتعالى إلى الآخرين، وفي هذا الميدان نجد توصية مهمة للمعصوم (عليه السلام) يقول بما مؤداه أننا بالكلام وليس بالصمت نحقق مهمة الخلافة في الأرض ونحقق المهمة العبادية التي أوكلت السماء ذلك إلينا بل إن مهمة الأنبياء والرسل ومهمة كل البشر هي إيصال مبادئ الله سبحانه وتعالى للآخرين، ولا يتم ذلك إلا من خلال الكلام بطبيعة الحال.
بيد أن المقصود من التوصيات الإسلامية المطالبة بعدم الكلام والمؤثرة للصمت هو أن لا يكون الكلام تعبيراً عن حاجة ذاتية بل تعبيراً عن حاجة موضوعية وإلا إذا كان تعبيراً عن حاجة ذاتية فإنها تستجرّه إلى مفارقات كثيرة بل تستجرّه إلى المعصية وهذا ما توفّرت عليه الأحاديث الشرعية أيضاً حينما قالت إن بالكلام أو باللسان تتعرض الشخصية إلى انحرافات خطيرة تفضي بها إلى عمليات القتل وسواها من المعاصي التي تتسبب بواسطة الكلام دون سواه أو بواسطة الكلام الذي يفضي إلى الإقبال وإلى الوقوع في مفارقات عدوانية ونحو ذلك..
على أية حال يظل الحديث عن الصمت والكلام حديثاً نسبياً بالنحو الذي أوضحناه وإلا فإن الصمت خارجاً عن السياق الذي تحدثنا عنه كما أن الكلام خارجاً عن السياق الذي تكلمنا عنه يظل محكوماً بطبيعة التوصيات التي أشرنا إليها، وذلك من خلال ذهابنا إلى أن الصمت بالنحو الذي ألمحت التوصيات الإسلامية إليه يفرض للشخصية توازناً داخلياً، وبعكسه يظل الكلام سمة مرضية إذا كان ذلك تعبيراً عن حاجة ذاتية، أما إذا كان تعبيراً عن حاجة موضوعية حينئذٍ يتحول الكلام إلى عكس الحالة السابقة، أي يكتسب ليس مشروعيته فحسب بل يكتسب ضرورته بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
والآن بغض النظر عما ذكرناه ننتهي من حديثنا عن الصمت وما يقابله من الكلام إلى أن الكلام في حالة إذا كان تعبيراً عن حاجة ذاتية يظل تعبيراً عن نزوع مرضي لدى الشخصية، وفي هذا السياق نتجه إلى ممارسة أخرى تعد أكثر من سواها فاعلية في جذرها المرضي، ألا وهي الجدال حيث تتطلب هذه الظاهرة حديثاً مفصلاً لجملة من الأسباب أولها هو أن الجدال هو أحد أشكال الكلام المتصاعد بالنزعة الذاتية لدى الشخص لأنه تعبير عن التواءات متشابكة في أعماق الشخصية هذا أولاً، ولأنه ثانياً هذا النمط من الجدال يظل منتشراً بشكل واسع في أوساطنا الاجتماعية مما يتطلب كما قلنا حقلاً خاصاً نفصّل فيه الكلام أولاً من حيث الجذر المرضي لهذه الظاهرة وثانياً من حيث العلاج التربوي الذي ينبغي أن يسلك حيالها للتخلص منها وهو أمر سنتحدث عنه إنشاء الله في محاضرة لاحقة، كما أننا إنشاء الله تعالى نتبع ذلك بحديث نختتم به محاضراتنا عن السمات الذاتية ونتجه إلى الحديث عن السمات الاجتماعية.
أما الظاهرة التي سيختم بها الحديث عن السمات الذاتية فهي ظاهرة الكذب ويقابلها الصدق حيث أن الحديث عن هذه الظاهرة سوف يكتسب خطورته من جميع الأنماط التي حدثناكم عنها سابقاً وذلك لسبب واضح هو التقرير العيادي الذي يقدمه الإسلامي بالنسبة إلى الكذب وما يقابله من الصدق، وهو تقرير يذهب إلى أن الشخصية المؤمنة من الممكن أن تمارس أية معصية إلا أنها لا تكذب البتة، وهذا يعني أن الكذب كما ورد في توصية أخرى هو مفتاح لجميع الذنوب أو الشرور، وهذا يعني أن هذه الظاهرة تظل مكتسبة خطورة لا تضارعها أية خطورة أخرى بخاصة وهذا موضع التشدد أن مجتمعاتنا تألف الكذب بنحو لا تكاد تخلو منه شخصية ما إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، وسنفصل الحديث في محاضرات لاحقة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..