محاضرات التربية الإسلامية - المحاضرة 33
بسم الله الرحمن الرحيم
في محاضرتنا السابقة بدأنا الحديث عن السمات الذاتية التي تسم الشخصية وما يتطلب ذلك من عمليات تربوية لتعديل سلوك الشخصية أي تعديل السمات السلبية وتحويل ذلك إلى سمات إيجابية في ضوء التصور الإسلامي لهذا الجانب، وقد بدأنا في الحديث عن هذا الجانب بجملة من القوائم التي قدمها الإمامان علي والصادق (عليهما السلام) بالنسبة لمفردات السلوك، أي كل سمة إيجابية وما يقابلها من السمة السلبية حيث استشهدنا بجملة من السمات من ذلك مثلاً ما لاحظناه من السمات التي أدرجها الإمام علي (عليه السلام) ضمن قائمة النفاق متمثلة في المفردات الأربع الآتية وهي: الكبر والفخر والحمية والعصبية، حيث أدرجها ضمن سمة مركزية رئيسة وهي الحمية وقد حدثناكم عن ذلك مفصلاً.
ومن ثم اتجهنا إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وتحدثنا عن مفردات أخرى عرضها الإمام (عليه السلام) في قائمة مفصلة، وهذه المفردات هي: الاستسلام ويقابله الاستكبار، والتسليم ويقابله التجبر، والخضوع ويقابله التطاول، والتواضع ويقابله الكبر.
كما عرفنا بعد ذلك مفردتين أخريين هما الخشوع ويقابله العجب والدعاء ويقابله الاستنكار، حيث يمثل هذان النمطان من السمات سلوكاً عبادياً صرفاً مقابل السمات الأربع التي عرضناها قبل قليل.
المهم وقفنا عند هذا الجانب من حيث بدأنا ذلك بالإشارة إلى أن هذه السمات هي في الواقع سمات تتصل بنظرية الذات أي طبيعة النظرة التي نسجها الشخصية لذاتها إيجاباً أو سلباً وأوضحنا صلة مثل هذه السمة الذاتية النفسية للسمات العبادية وما بينهما من علاقات سحب ما هو نفسي على ما هو عبادي، أي تنسحب السمة السلبية التي اتخذتها الشخصية حيال ذاتها تنسحب على الموقف العبادي أيضاً، كل ذلك حدثناكم عنه سابقاً، أما الآن فنحاول أن نبحث عن الأسباب أو بالأحرى عن الجذر المرضي لأمثلة هذه السمات، ونذكركم بأن هذه السمات التي تحدثنا عنها وهي سمات عشر ست قدمها الإمام علي (عليه السلام) وأربع قدمها الإمام الصادق (عليه السلام)، هذه جميعاً تحوم على نظرة الشخصية لذاتها وانعكاس هذه النظرة على سلوكها المتمثل في مفردات تكاد تتماثل فيما بينها من جانب، ولكنها تتفاوت أيضاً من جانب آخر والنقاط المشتركة في هذا الجانب تتمثل في النظرة الاستعلائية للشخص، وأما المفردات المتفرقة فهي الاستسلام ويقابله الاستكبار والتسليم ويقابله التجبر والخضوع ويقابله التطاول والتواضع ويقابله الكبر، وسائر هذه السمات التي حدثناكم عنها سابقاً.
أما الآن فنتحدث تفصيلاً عن الجذر المرضي لهذه السمات فنقول:
إن كلاً من السمات التي قدمها الإمام علي (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) تمثل كما لاحظتم طبيعة النظرة الإيجابية أو السلبية التي تصوغها الشخصية عن الذات حيث يمكن تلخيصها في سمة عامة هي التقويم الحقيقي للذات ويقابله التقويم الاستعلائي لها، ونظراً لأهمية الجذر المرضي لأمثلة السلوك الاستعلائي من جانب وانعكاساته في أشكال من السلوك اليومي الذي قد يغفل عن ملاحظته هذا الشخص أو ذاك من جانب آخر بحيث نجد وهذا مما يؤسف له ؟؟؟ أن الإسلاميين أنفسهم يصدرون عن أمثلة هذا السلوك الاستعلائي المناهض تماماً للتصور الإسلامي وبذلك يجدر بنا أن نقف مفصلاً عند هذه الظواهر حتى يستطيع الطالب أن يفيد منها في تعديله لسلوكه. وسنخصص الحديث عن ظاهرتين فحسب تاركين للطالب أن يستخلص من خلال هذين الحديثين المرتبطين بسمتين خاصتين سائر السمات المتصلة بهذا الجانب.
إن السمتين اللتين نتحدث عنهما الآن هما التكبر والتعصب بصفتها أشد السمات ؟؟؟ في السلوك، وبصفتهما أشد انتشاراً من غيرهما من جانب آخر وبصفتهما منعكسين أيضاً حتى على الشخصيات الإسلامية الملتزمة مع الأسف الشديد من جانب آخر. ولذلك حينما نواجه في الواقع خلال ما نعايشه يومياً نماذج مختلفة من البشر عند تعاملنا الاجتماعي واليومي ولابد أن يلاحظ كل منا أنماطاً مختلفة من هؤلاء الناس تختلف أساليب تعاملهم وفقاً لمفهوماتهم، وهذه الموضوع مناقشة سلوك التكبر المرضي النابع عن ذل وهوان يعبر عن ؟؟؟ يعرض من خلال نموذجين: الأول النموذج السياسي المتمثل في تحرك العملاء من موقع الذل بحكم شعورهم والآخر اعتيادي يتمثل برغبات المريض في السيطرة والعلو على الآخرين.
إن الدين الإسلامي يقرر بأن المتكبر لا يتكبر إلا لذلة يجدها في نفسه، وقد أوضح الإمام الصادق (عليه السلام) جذور التكبر بنحو جلي تماماً حينما قرر (عليه السلام) بأن المتكبر لا يتكبر إلا لذلة يجدها في نفسه. إن المعنيين بشؤون الصحة والمرض النفسيين والتربويين بشكل عام يدركون تماماً دلالة ما قرره الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الميدان، ولعلنا جميعاً على إحاطة تامة بأن الأطباء النفسيين طالما يربطون بين أمثلة هذا السلوك وبين جذوره التي يتحسسها المريض بوضوح بقدر ما يتحسسها يومياً دون أن ندرك دلالتها في سلوكه المتكبر، بيد أن الإمام الصادق (عليه السلام) أوضح هذا الجانب بجلاء حينما أكد أن المريض واع ويدرك لحقيقة ذاته لا أنه يتحسس ذلك بغموض، طبيعياً قد يكون المريض واعياً بأن ذاته واطئة أو منحطة فيسلك حينئذ سلوكاً تعويضياً هو التكبر والتعالي، مخففاً بذلك شيئاً من إحساسه المؤلم بواقع ذاته المريض. ومع ذلك فإننا نستطيع أن نقول أيضاً أن الإحساس هنا يظل إحساساً لا واعياً عند بعض الشخصيات وبذلك يكون الإمام الصادق (عليه السلام) قد حدثنا عن ظاهرة التكبر بنمطي جذرها، الجذر اللاواعي الذي لا يعيه الشخص والجذر الواعي الذي يعيه الشخص بالنحو الذي أوضحناه.
ونعني بالنمط الأول أن من الأشخاص من لا يدرك الأسباب التي تجعله مضطراً إلى أن يتكبّر ويتعالى بحيث إذا لم يمارس مثل هذا السلوك يظل متوتراً ومتأزماً لا يهدأ له قرار، ومعنى هذا أن المريض في حالتيه الأولى والثانية يدرك بأنه تافه وذليل وحقير، كل ما في الأمر أنه في الحالة الأخيرة لا يجد الأسباب التي تضطره إلى أن يتكبر ويتعالى، بينما هو في الحالة الأولى يدرك ذلك تماماً.
والآن لنتقدم بنموذج من السلوك الاعتيادي حتى نتعرف حقيقة التكبر وإفرازاته المختلفة في ميدان السلوك الاجتماعي والفردي وهو سلوك متسم بالرغبة في السيطرة على الآخرين:
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إن شراركم من أحب أن يوقع عقله، إن؟؟؟؟ أو عاجز أو ؟؟؟).
لاحظوا هذا النص يحذرنا من أحد الدوافع التي اعتاد علماء النفس أن يدرجوها تحت اسم الدافع إلى السيطرة والفوقية، وقد قلنا أن علماء النفس الأرضيين أنفسهم قد أشاروا إلى جذور الدافع المشار إليه الذي يحمل في تصور بعضه بعداً فطرياً اكتسابياً، متمثلاً في إحساس الشخص وهو طفل بأنه عاجز وضعيف أمام الكبار مما يدفعه إلى أن يعوض ذلك بمحاولات السيطرة والتحكم والفوقية على الآخرين، وإن هذا الإحساس بقدر ما يتضخم حجمه ؟؟؟ خبرات والتجارب؟؟ يتضخم حجم المرض وتضخم عملية التعويض بحيث تنعكس في محاولات مختلفة وفي ضربات حادة للسيطرة والعلو على الآخرين.
إن هذا التكييف النفسي للحاجة غير المشروعة للسيطرة والعلو قد أشارت النصوص الإسلامية إليه كما حذرتنا منه دنيوياً وأخروياً، نظراً لما ينطوي عليه حب العلو والرئاسة من إفساد نفسي ومن مفارقات اجتماعية بالغة المدى.
إن النصوص الإسلامية وكذلك توصيات الأرض كما مر عليه طالما نبهتنا إلى وجود صلة بين الأمراض النفسية وبين من يريدون علواً في الأرض أو رئاسة على قوم دون أن تقترن الرئاسة بهدف موضوعي خالص، طبيعياً إن الرئاسة سواء أكانت في نطاق محدود أو كبير حينما تكتسب طابعاً المرض أو الصحة بقدر ما تنطلق من الذاتية أو الموضوعية، وإذا ؟؟؟ الذات كانت مؤشراً إلى الصحة ومثالها مع المؤشرات الصحية هو سلوك يوسف (عليه السلام) عندما طلب من الملك أن يجعله أميناً على خزائن الأرض، ؟؟؟ أن يصبح خازناً أو وزيراً للمالية أو مسؤولاً عن كل ما يتصل باقتصاد البلد لم ينبع من حبه لتسلم المنصب حتى يكتسب بذلك تقديراً اجتماعياً، أو يشبع حاجته إلى السيطرة كما هو الشأن لدى سائر البشر، بل نبع ذلك من حبه للخدمة العامة و؟؟؟ مهمته الخلافية في الأرض، بحيث لو عرف مثلاً بأن شخصاً سواه يمتلك كفاءة لإدارة هذا المنصب لتخلى عنه لأنه ببساطة لا يعنى بزخرف الحياة الدنيا بقدر ما يعنى بتحقير المهمة التي أوكلتها السماء إليه ألا وهو ممارسة العمل العبادي.
إذن معيار الصحة والمرض يظل مرتبطاً بالشخصية من حيث الدافع الموضوعي للرئاسة أو الدافع الذاتي لذلك، والآن حين نتجه في ضوء هذا المعيار إلى التوصيات الإسلامية المحذرة من الرئاسة والسيطرة والعلو والفوقية لابد حينئذٍ أن نحملها على البواعث الذاتية للشخص وهو طابع يسم معظم البشر الذين ركبوا ذواتهم إلا النادر ممن عصى عن الله سبحانه وتعالى، إذن لنتجه إلى قراءة هذه التوصيات المحذرة من التكبر أو من الرئاسة والعلو ونحو ذلك.
قال أهل البيت (عليهم السلام) في جملة من تحذيراتهم وتوصياتهم التربوية: (من أراد الرئاسة هلك). (لا يؤمر أحد على عشرة فما فوقهم إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يداه وإن كان محسناً)، (؟؟؟؟ المسلم من الرئاسة)، (إن شراركم من أحب أن ؟؟؟؟ إنه لابد من كذاب أو عاجز الرأي).
هذه النصوص تتحدث بوضوح عن الرئاسة أو العلو من حيث الجذور المرضية لهذه الرغبة غير المشروعة كما تتحدث عن الضرر الدنيوي والأخروي لطالب العلو وطالب الرئاسة، ويكفي أن النص الأخير الذي أشار إلى عجز الرأي وذلك في قوله (عليه السلام): (أو عاجز الرأي) هذا النص وحده يشير إلى الجذر المرضي متمثلاً في الإحساس بالضعة والعجز وعدم الكفاءة، إن الإحساس بالضعف والنقص والذل والضعة وعدم الكفاءة يظل وراء كل سلوك متكبر متعال، باحث عن السيطرة والتفوق على الآخرين، فعديم الثقة بنفسه هو الباحث عن السيطرة لكن دون أن يعي ذلك كما قلنا.
يخيل للمرء أنه حينما يصبح ذا منصب اجتماعي أن كفاءته الحقيقية هي التي تدفعه إلى الحنين والرغبة نحو تسلم رئاسة على جماعة أو جمهور أو مؤسسة، لكنه لا يعي أن الباحث الحقيقي لهذه الرغبة غير المشروعة هو إحساسه غير الواعي به لضعف شخصيته، إنه هو الذي يدفعه إلى ذلك ما دام الإحساس بالعظمة يرتد في أساسه إلى الإحساس بالضعة في حقيقة الأمر.
إن الإنسان قد يمرّ بتجارب مؤلمة في ؟؟ من حياته ويتحسسه ؟؟؟ لأنه فاشل وعادي بالقياس إلى الآخرين، ثم تطوى الأيام وإلى ؟؟ التجارب المؤلمة تحفر في أعماق هذه الشخصية جراحاً عميقة لا يعي من أنشأها وعندها يحس بالحاجة إلى التعويض عنها بسلوك يزيح آثار تلك التجارب المؤلمة، ؟؟ تبعاً لذلك أحاسيس وهمية لكل ما هو ذي شأن وخطورة وأهمية بخاصة أن تجاربه المؤلمة التي حسسها بضعفه حينئذ قد اقترنت بإدراكه بأنه دون سواه قد تلقى ضربات مؤلمة في هذا المجال، وهذا مما ينمي الإحساس لديه بأنه قد لحقه الحيف أو الظلم مثلاً وعندها ينعكس هذا الإحساس في إحساس خفي بالرغبة في أن يسيطر ويعلو ويسمو على الآخرين.
إذن الرغبة غير المشروعة في طلب الرئاسة تظل كما ألمح أهل البيت (عليهم السلام) إلى ذلك مرتبطة بجذر مرضي عند الشخصية قد يعي المريض ذلك وقد لا يعيه، وقد يلتبس الأمر عليه عندما يقترن ذلك بتقديم خدمة حقيقية للآخرين حيث يخيل إليه في هذه الجهة أنه بهذه الخدمة قد مارس عمله بنحو مشروع إلا أنه يغيب عن ذهنه أن الإمام (عليه السلام) قد ألفت الانتباه إلى أن طلب الرئاسة وطلب العلو حتى لو كان الشخص محسناً خلال ذلك فإنه يتحمل مسؤولية سلوك ممتزج برائحة الذات، لقد أكد المعصوم (عليه السلام) بالنص المتقدم قائلاً عن أمثلة هؤلاء الأشخاص: (وجيء به يوم القيامة مغلولة يداه وإن كانت محسنة)، هنا نقول قد تجدون شخصية أنفقت على سبيل المثال أموالاً كبيرة على الفقراء، أو المجاهدين في سوح القتال أو لأي تحرك خيّر، وقد يكون هذا الإنفاق نابع من باعث إسلامي صرف، لكن مجرد أن يمزج هذا الشخص مثل هذا الباعث بباعث آخر هو كسب التقدير الاجتماعي من الآخرين كاف لأن يحبط ثوابه الذي كان يبتغيه من وراء الإنفاق، وهذا حقيقة ندركها جميعاً ببساطة طالما أن المعصومين (عليهم السلام) أنفسهم قد أشاروا إلى هذا الجانب بقول أحدهم بما مؤداه لو أن شخصاً عمل عملاً صالحاً لأجل الله ثم خلط هذا العمل الصالح أو أشرك الآخرين في هذا العمل الصالح فإنه يعد مشركاً، بمعنى أنك على سبيل المثال إذا ألفت كتاباً علمياً مثلاً أو أنفقت مالاً في سبيل الله مثلاً ولكنك في نفس الوقت مزجت بين هذه النية الصادقة وبين التقدير الاجتماعي الذي تطلبه من الآخرين، كما لو قلت أنني سأؤلف هذا الكتاب وسيقترن هذا الكتاب بإعجاب الناس، هذه المفارقة. وكذلك لو أنفقت المال وقلت أن فلاناً وفلاناً سيطلعون على هذا الإنفاق وسيقدرون شخصيتي في هذا المجال. إن مجرد إشراك هؤلاء الآخرين في العمل الإنفاقي أو العلمي الذي انطلقت منه أساساً لوجه الله لكنك أشركت مع رضا الله رضا أشخاص آخرين حينئذ يفسد هذا العمل ويحبط.
وسر هذا أن الموضوعية وهي العمل من أجل الله تعالى قد امتزجت بالذاتية، أي عبر بحثنا عن تقدير اجتماعي زائف وليس عن قيمة موضوعية قبال الله تعالى، والآن حين ننتقل؟؟؟ أو السيطرة على هذه المجموعة أو تلك سنجد أن الأمر أو السيطرة على هذه المجموعة أو تلك محكومة بنفس الطوابع، ونعني بها مزج ما هو موضوعي بما هو ذاتي، أو مزج ما هو من أجل الله تعالى بما هو من أجل الآخرين، ولكن وفق طريقة أخرى نبدأ الآن بتحديدها من خلال تقديم بعض النماذج:
مثلاً قد تحب أن تصبح رئيساً لدائرة رسمية أو أهلية مثلاً أو تصبح رئيساً لأحد أقسام الدائرة المشار إليها، وقد تحب أن تصبح رئيساً لمؤسسة ثقافية أو سياسية سواء أكانت هذه المؤسسات ذات عدد كبير تقع تحت سيطرتك ورئاستك أم كانت ذات عدد ضئيل لا يتجاوز عدد أصابع اليد مثلاً، المهم في الحالتين تجد نفسك بحاجة إلى أن تصدر الأوامر أو توجيهات إلى هذا العامل المحدد أو غير المحدد بحيث تصبح هذه الحاجة إحساساً بالانشراح بالنشوة لهذا النمط من السيطرة والتأمر على الآخرين، إن مجرد هذا الإحساس كاف بأن يطبع شخصيتك بطابع المرض كما قلنا سابقاً، طبيعياً إذا كان الباعث لهذه السيطرة على الآخرين هو مجرد إشباع الحاجة المذكورة ؟؟؟ من ذلك دون أدنى شك، لكن ما نود التشدد فيه هو أن لا نمزج ما هو موضوعي بما هو ذاتي البتة، أي سنفترض بأنك مقتنع حقاً بأن هذه القضية مثلاً بحاجة إلى من يتدارسها ويرشد الآخرين إلى معالمها الصحيحة، فوجدت أنك ذو كفاءة وأهمية لها ثم وجدت أن آخرين مثلاً يمتلكون قدراً أكثر منك من حيث الأهمية والكفاءة ومستعدون لممارسة ؟؟؟ والمسؤولية حينئذ ستواجه نوعاً من الصراع في حالة كونك تحمل نزعة خيرة في العمل الإصلاحي بطبيعة الحال ؟؟؟ من الصراع بين الموضوع ؟؟؟؟ بين التقوى والفجور بين الخير والشر، فأنت قد تنصع لذلك ولرغبة الرئاسة والسيطرة والعلو والتأمر فتتقدم الى المنصب او على الأقل تحن اليه وتود أنه ؟؟؟ بتسلم مثل هذا المنصب.
إن مجرد حنينك إلى أن تصبح رئيساً لمجموعة مع النظر بعين الاعتبار أنك تستهدف الإصلاح أيضاً ؟؟؟؟ مع الشيطان ومع الشهوة، أما إذا بذلت المساعي ؟؟ لهذا الموسم فحينئذ تتفاقم درجة تعاملك مع الشيطان ومع الشهوة ومع الذات، وأما إذا صارعت الآخرين ومارست سلوكاً معوجاً للظفر بهذا المنصب فهذا ما ؟؟؟ من التفاخر الخطير للتعامل مع الذات والشهوة والشيطان، وهذا ما نجده منسحباً على كثير من الأشخاص بما فيهم من يمارس سلوكاً إسلامياً ملتزماً في غالبية ممارساته إلا أنه حين يصل إلى هذا الجانب يجد أن الذاتية تنسحب على سلوكه فيتعامل مع هذه المسؤولية تعاملاً ذاتياً صرفاً والأمثلة على ذلك كثيرة، هنا نماذج منها ونتقدم بنموذج واحد فحسب تشديداً لأهمية هذا الجانب.
مثلاً نجد ان كثيراً ممن نتعامل وإياهم في المجالات الثقافية نجد أن أحدنا مثلاً وهو لا يمتلك أهلية لأن يتسلم مثلاً قسماً علمياً في إحدى الدوائر، ويعرف تماماً أن ثمة فرداً آخر هو أعلى منه من حيث المستوى العلمي ويستطيع أن يتسلم هذه المسؤولية حينئذ ماذا سنواجه من السلوك عند هذه الشخصية؟
هذه الشخصية ستمتنع تماماً من أن تشير إلى وجود شخص آخر أعلى منها كفاءة، مع أن التوصيات الإسلامية توضح بما لا يفصح إلى غموض أن أي شخص إذا تولى أمراً وهو يعرف أن في البلد شخصا آخر أكثر منه كفاءة حينئذ يتحمل مسؤولية عقابية وخيمة، وهذا نموذج واضح تحياه مجتمعاتنا وشخصياتنا مع الأسف الشديد.
على أية حال هذا الجانب المتمثل في تعيين الجذر المرضي لمن يعنى بحب الرئاسة أو العلو قد بيناه الآن وأما من حيث المعيار العبادي أو بالأحرى من حيث ترتب آثار العقاب في اليوم الآخر فيكفي أن نتذكر من جديد تحذير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن أمثلة هؤلاء الأشخاص يأتون وهم مغلولوا الأيدي وإن كانوا محسنين، إن هذا التحليل ينبغي أن لا نمر عليه عابراً دون أن ننفعل بمضمونه النوعي، وذلك بأن نتصور أنفسنا ونحن في اليوم الآخر ونحن أمام الله تعالى يتفرج علينا الملايين وإذا بنا مغلولي الأيدي يحسب الناس أننا كنا متحمسين في الحياة الدنيا لقضية مشروعة مثلاً أو ؟؟؟ وإذا بنا نبدو كذابين نبحث عن الترف وتسلم المنصب لننتزع به تقديراً أجوف من أناس هم أنفسهم يسخرون منا في اليوم الآخر.
إذن لنتصور أنفسنا من جديد ولنعد تخيلنا للموقف مرتين أو ثلاثاً ونقارن بين الحياة العابرة التي نحياها الآن والتي نحن ونتطلع فيها إلى تسلم منصب تافه وبين الموقف في اليوم الآخر وقد افتضحنا على رؤوس الأشهاد، فعندما نعيد إلى ذاكرتنا صور الموقف عندها سننتبه إلى دائرة مرضنا النفسي الذي يسمنا وستنفعنا الذكرى ونبذل من لحظة انتباهنا لهذا الجانب محاولات حثيثة حتى نتخلص من أوهام هذا المرض.
على أية حال نكتفي بهذا القدر من الحديث بهذا الجانب ونحيل ذلك إلى تفصيلات كثيرة تحدثنا فيها عن هذه الجهة يجدر به أن يعود إلى الكتاب المقرر دراسياً وهو (دراسات في علم النفس الإسلامي) حيث سيرى تفصيلات متنوعة تتصل بهذا الجانب، ولكننا نكتفي بما قدمناه ونتجه إلى المفردة السلوكية الأخرى التي وعدناكم بها وهي ظاهرة التعصب.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من تعصب أو تعصِّب له خلع الإيمان من عنقه) من هذا النص ندرك خطورة التعصب كما أن الإمام علياً (عليه السلام) حينما جعل هذا الجانب شعبة من دعائم النفاق على نحو ما لحظتم ذلك في صدر محاضرتنا، قد ألمح إلى هذه الخطورة، ونحن لا ينبغي أن نقف عند كل من النصين الذين قدمهما الإمام علي (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) وفقة التذوق لتفسير منطقي أو صورة منطقية بل ينبغي أن نتأمل إلى ظاهرة نفسية تتسم بالخطورة، ففيما يتصل بالتقسيم الذي حدده الإمام علي (عليه السلام) نلحظ أن النفاق وهو أحد أقسام الكفر يمثل عصية فكرية لموقف نفسي ينتسب إلى دائرة المرض، هنا يحسن بنا أن نذكر المتلقي بما سبق أن أوضحناه مفصلاً من أن المواقف الفكرية المنطوية كالأفكار غير الإسلامية تنبع أساساً من العصاب وفي دراستنا لدعائم الكفر والنفاق وشعبهما لاحظنا القوائم التي قدمت في هذا المجال، وفي مقدمتها القائمة التي قدمها الإمام علي (عليه السلام) حيث رتب عشرين مفردة جذراً للكفر وعشرين مفردة جذراً للنفاق وعشرين مفردة جذراً للإيمان، وفي حينه أوضحنا الفارق بين الكفر والنفاق مفصلا، حيث تحدد الفارق في أن أصول العصاب الأول أي الكفر يقوم على الترجرج من التعامل النفسي مع الظواهر في حين أن العصاب الآخر من حيث أصوله والنفاق يقوم على الترجرج في التعامل النفعي مع ؟؟؟، ويهمنا أن نشير الآن إلى أن التعامل النفعي هو المميز للنفاق ومما يعني منذ البداية أن التعصب سوف يكتسب دلالة غير موضوعية، أي استجابة متحيزة أي استجابة شاذة لا تتسق مع طبيعة ما ينبغي أن نحمله من موضوعية التعامل في مختلف أنماط السلوك الذي نصدر عنه.
إن سمة النفاق أساساً تحمل مضاعفات نفسية مركبة وليست مجرد وليدة لخبرة مفردة أو بسيطة كلا، إن الشخصية التي تتحدث بلسانين أو تتحدث بلسان وتتحاور مع شيطانها بلسان آخر، إنما تنطلق من ظواهر كالحرص والطمع والتقدير الاجتماعي الزائف وكلها ظواهر مرضية، إلا أن عملية التقبل للمتاجرة ذاتها تحمل بدورها عرضاً مرضياً آخر بل إن بعض الباحثين المعاصرين حمّل الشخصية المذكورة جملة من الأعراض التي تتراكب بعضها على بعض من نحو العقل والغيرة و؟؟ الخ.
إذن نستخلص من هذا أن النفاق ومنه التعصب يظل إفصاحاً عن أعراض مركبة لا أنه عرض بسيط وهذا ما يفسر خطورة التقسيم الذي لاحظناه عند الإمام علي (عليه السلام) حينما جعل التعصب شأناً من ؟؟؟ هي الكبر والفخر والحمية، وفيما جعلها جميعاً مندرجة ضمن دائرة النفاق، وأما الصورة الفنية التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) ونعني بذلك قوله: (من تعصب أو تعصِّب له خلعت ربقة الإيمان من عنقه) فإنها لا تقف عند حدود الاستعارة أو الرمز أو التعبير الفني الصرف بل تنطوي على خطورة ما يحمله التعصب من إفراز مرضي وما يحمله من مفارقات فكرية تصل إلى درجة أن الشخص يخلع إيمانه أساساً، أي ينسلخ من دائرة الإسلام ذاته، وحيال هذه الخطورة يمكننا أن ندرك سر تشدد التوصيات الإسلامية بالنسبة إلى التعصب ومن ثم يمكننا أن ندرك دلالاتها المرضية الخطيرة ما دمنا قد ورطنا بين الجذر المرضي لكل ما ؟؟ من التشريع ويشدد في المنع منها، وبين طبيعة هذا المرض الذي يكتسب دلالة شرعية.
والآن نكرر الإشارة ونقدم جديداً فنقول إن وقوفنا على ظاهرة التعصب بل ؟؟؟ موقف التشريع الإسلامي حياله، حيث لاحظنا طبيعة التشدد على المنع وثانياً لاحظنا انتساب هذا السلوك إلى المرض النفسي ولكن الآن إذا تابعنا النصوص الإسلامية سنكتشف المزيد من خصائص ظاهرة التعصب، إذن لنقف عند التوصيات الجديدة:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)، ترى ماذا نستخلص هنا أن نستكشفه من النص المتقدم؟ لقد شدد النص بنحو آكد على ظاهرة التعصب حينما حدد حجم الظاهرة للدرجة التي يسمها بأن الحبة منها كحبة الخردل كافية لترتيب آثار الجزاء الأخروي على من يمارسها، ولكننا خارجاً عن خطورتها التي تحددت تماماً الآن يعنينا أن نشدد إلى طبيعتها وتحديد الطبيعة أو تحديد الأنماط والمستويات التي تفرز لنا دلالة هذا السلوك، ؟؟ نستخلص من النص المتقدم أكثر من دلالة تحددها الشطر القائل (بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) إن الإشارة إلى أعراب الجاهلية تعني بوضوح من الوجهة التاريخية من التعصب الذي يغلف أعماق الجاهليين، على أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أوضح هذه الحقيقة في أحد النصوص حينما قال (عليه السلام): (إن الله يعذب الستة بالستة: العرب بالعصبية، ؟؟؟؟؟) وإذن تحددت دلالة العصبية بوضوح متمثلة في الانتساب السلالي وهو واحد من الأمثلة التي قدمناها في أول محاضراتنا، ويهمنا الآن أن نحدد الجذر المرضي لهذه الظاهرة ولسواها من الظواهر التي تستقطب مفهوم التعصب.
إن التعصب من خلال الصلة والجنس والعرق والدم ونحو ذلك على تفاوت أو تماثل هذه الأصول ؟؟؟ منتسباً إلى جذر مرضي متشابك الأعراض على نحو ما حددناه وعلى ما حدده أيضاً بعض الباحثين الأرضيين في حقل متقدم من محاضراتنا التي أدرجنا فيها جانباً من هذه الملاحظات، ويهمنا الآن أن نشير إلى أبرز الأعراض في هذه الظاهرة، وإلا موقع الأنماط الأخرى منها، ولعل أشد السمات المرضية بروزاً في ظاهرة الأصل تتمثل في الإحساس بالفوقية، والإحساس بالفوقية كما حدثناكم قبل قليل يظل متصلاً بشكل أو بآخر بأحد أنماط العصاب أو أحد أنماط الذهان الذي يواكبه الشعور بالعظمى أو ما يضادها الشعور بالاضطهاد. وإذا أخذنا بوجهة النظر الأرضية الذاهبة إلى أن العصاب يقود نحو الذهان وأن الفارق بينهما في الدرجة لا في النوع لأمكننا أن ندرك خطورة أمثلة هذا الإحساس.
ومع أننا مقتنعين بأن الإحساس بالفوقية هو رغبة عصابية صرفة ولكنها في الحالات الحادة تتاخم ظاهرة الذهان دون أدنى شك، وحتى مع افتراضنا عدم المتاخمة للذهان فإن تحسس الشخصية بالفوقية يظل إفصاحاً عن شخصية متورمة متهرئة تمتد بجذورها إلى خبرات معلنة مثقلة بأحاسيس النقص فيما تستاقها لا شعورياً إلى أن تعوض عنها بما يضادها وهو الإحساس بالفوقية كما قررنا. كما أن إحباطات الحياة حتى في المرحلة الراشدة التي يحياها الإنسان في الواقع تساهم في تعزيز هذا الإحساس، وتدفع الشخصية المريضة إلى أن تقتبس أحد الانتماءات الاجتماعية الجاهزة التي لا تكلفها أية ؟؟؟ متمثلة في البحث عن أصلها ودمها وعرقها وسلالتها وعشيرتها و.. الخ، لكننا خارجاً عن الجذر المرضي المذكور لا يمكننا أن نعزل هذه الظاهرة عن سمتها المرضية بعد أن تمثل إحساساً بالفوقية يستوي في ذلك أن يكون نابعاً من تجربة أرضية أو من تجربة ؟؟؟
وبعامة يمكننا أن نلخص ما تقدم فنقول إن السمة المرضية لظاهرة التعصب تظل أمراً لا يختلف فيه اثنان والباحثون النفسيون عادة يشددون في ظاهرة الحركات القومية التي ألفها العصر الحديث ويشيرون بوضوح إلى أن العصاب الكامن وراء الشخصيات التي تتبنى الاتجاه القومي أياً كان هذا الاتجاه، على أننا إذا تجاوزنا ظاهرة العصاب والمرض واتجهنا إلى الدلالة الاجتماعية التاريخية لحركات التعصب القومي أمكننا أن نلحظ بوضوح ما تألفه الحياة العربية المعاصرة من معايشة هذا الاتجاه المرضي فيما اقتادها إلى الوقوع في مفارقات دينية أبسطها هذا الانحراف حتى عن الخط الإسلامي والجنوح نحو التيارات المضادة عند مواجهة المواقف الحاسمة التي تفصل بين الإسلاميين والقوميين.
إنه لمن المؤسف حقاً أن يغيب عن ذاكرة هذه الأنماط وضوح النص الإسلامي القائل بعدم الفرق بين العربي والعجم إلا بالتقوى، وأن تغيب عن ذاكرتهم تجربة الميلاد البشري في انتسابه إلى الأصل الواحد وهو؟؟ وأن تغيب عن ذاكرتهم صورة الدم الخالص وتغيب عن ذاكرتهم أن الأبحاث الحديثة قد انتهت إلى أن البعد الوراثي البيئي يظل في شروطه العامة يظل خاضعاً للخصائص الفردية لا السلالية.
أقول من المؤسف حقاً أن تغيب كل هذه الحقائق عن ذاكرة هؤلاء المرضى الذين تقتادهم عقدة النفس إلى التعويض عنها بمشاعر الفوقية الوهمية.
على أية حال إن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة تشير من خلال توصياته المتنوعة بنسف هذه الأوهام ونقل الشخصية من صعيد المرض إلى السوية حينما يجلها أولاً إلى الأصل السلالي الواحد، وحينما يضع ثانياً التقوى وهي السلوك السوي معياراً للفرد وحينما يردم من جهة ثالثة مشاعر الأفضل أو مشاعر الفضل ذاتها عبر مطالبتها بأن تتحسس الشخصية بقصورها حيال الآخرين.
والمعيار الأخير ونعني به تحسس القصور بدلاً من الفضل يجسد علاجاً متفرداً لمحو كل الآثار الذاتية و؟؟؟ بما تجاوز الشخصية على أن ترى الآخرين أفضل منها وهو مكسب يساعد أيضاً على الحسم الذي تكتسبه الشخصية.
على أية حال بأن هذا الموضوع يتطلب ؟؟؟ أكثر لذلك سنؤجل الحديث عنه ونستكمل ذلك إنشاء الله في محاضرة لاحقة ونكتفي بهذا القدر من الحديث ونعود إليكم إنشاء الله في محاضرتنا القادمة بشيء من التفصيل حيال هذه الظاهرة وحيال الظواهر الأخرى التي سنفصل الحديث عنها أيضاً في محاضراتنا اللاحقة إنشاء الله ونكتفي بهذا ونستودعكم الله..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..