محاضرات التربية الإسلامية - المحاضرة 32
بسم الله الرحمن الرحيم
نتابع حديثنا عن السمات النفسية وما يرتبط بها من العمليات التربوية حيث قدمنا في محاضراتنا السابقة جملةً من المفردات التي وردت في قوائم تصنيف السلوك البشري إلى سلوك إيجابي وسلوك يقابله سلبي، وما ينبغي أن يختط حيال السلوك السلبي من عمليات تربوية تستهدف تعديل السلوك وربط ذلك بنحو إيجابي مطلوب عبادياً ونفسياً وانتهينا من ذلك إلى سمة النشاط ويقابله الكسل حيث تفرع الحديث عن هذا الجانب إلى جملة ظواهر حدثناكم عنها تتصل بالظاهرة السلبية وهي الكسل وصلته بالفراغ ثم صلة الفراغ بجملة من الظواهر التي يمارسها المنحرفون من أمثلة القمار والغناء ونحو ذلك حيث حدثناكم عن القمار مفصلاً وأوضحنا مدى جذوره النفسية المريضة على المستوى الأرضي والإسلامي، وبدأنا حديثنا عن الغناء أيضاً إلا أننا لم نستكمل حديثنا عن الغناء ونحاول الآن أن نستكمله إنشاء الله تعالى.
لقد سبق أن قلنا أن الغناء يمثل استجابة انفعالية حادة تخرج الشخصية عن وضعها أو حالتها الطبيعية وقارنا بين هذه الاستجابة وبين استجابات أخرى تجسّد جميعاً الحالات الانفعالية التي يحظرها المشرع الإسلامي إما على مستوى التحريم أو على مستوى الكراهية، وانتهينا من ذلك إلى أن الغناء يجسد من خلال التنظيم الصوتي الخاص تلكم الاستجابة الانفعالية الحادة، ولكننا لم نحدثكم عن تحديد هذه التنظيمات الصوتية المسببة للانفعالات المشار إليها، نقول ذلك لأن التشريع الإسلامي نفسه ترك لنا تحديد ما هو غناء وتمييز ذلك عن سواه، موكلاً ذلك إلى الشخصية ذاتها وإلى البيئة التي يمارس خلالها أمثلة هذه الممارسات التي تفصل ما هو غناء عن ما هو غير غناء من حيث التنظيم الصوتي للكلمات.
فمثلاً نجد أن المشرع الإسلامي يشير في بعض النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) إلى أن الشخصية ينبغي أن لا تقرأ القرآن الكريم بألحان غير العربية، وفي النطاق التاريخي نقرأ أن ألحاناً شتى قد اقتحمت البلاد الإسلامية بعد الفتح، حيث تشرح النصوص المؤرخة لهذا الدور من الممارسات وهو أمر لا حاجة لنا إلى الوقوف عنده، وذلك بسبب واضح هو أن الصوت كما قلنا شأنه شأن الرائحة واللون والطعم لا يمكن أن يوصف بالكلمة بل يميز من خلال التجربة التي يحياها الشخص ذاته، من هنا فإن المعاصرين لصدور هذه النصوص يفهمون جيداً ما هو المقصود من قولهم (عليهم السلام): (لا تقرأوا القرآن بألحان غير العرب)، من هنا فإن الأمر موكول إلى العرف الاجتماعي لتحديد الغناء عن سواه من حيث طبيعة التنظيم الصوتي لذلك.
وأما النموذج الآخر الذي قدمت نصوص التشريع الإسلامي في منعها للتنظيم الصوتي الصرف أي غير المقترن بجهاز نطق الحروف المتمثل في النصوص المانعة من استخدام الناي وسواه من أدوات العزف، حيث جاءت مصطلحات كالمعزف والمزمار والعود ترشيداً للمنع المذكور، من جانب ثالث نجد أن نصوص التشريع الإسلامي تقدم بعض التشكيلات الصوتية متدللة بها ليس على إباحتها فحسب بل تدلل على أنها أمر مندوب إليه، وهذا كمصطلح الترتيل في القراءة، ومصطلح الترتيل في الأذان،ومصطلح ؟؟؟ في إقامة الصلاة، إن نصوص التشريع الإسلامي حينما تقدم لنا نماذج من التنظيم الصوتي المباح أو المندوب كالحدر والترتيل من جانب ثم تقدم لنا نماذج من التنظيم الصوتي الممنوع كأصوات المعازف أو المزامير أو العيدان، وحينما تشير من جانب ثالث إلى تنظيمات صوتية أجنبية عن المألوف في قراءتنا للقرآن والدعاء والصلاة وو.. الخ، نقول حينما تقدم نصوص التشريع أمثلة هذه النماذج عندها يمكننا أن نستخلص ما هو محظور وما هو مباح وما هو مندوب إليه في ضوء مقارنة بعضها مع الآخر، وفي ضوء معرفتنا بطرائق الاستجابة المرضية لهذا المثير الصوتي أو ذاك، وافتراقه عن المثير الصوتي الذي يولد استجابة سوية عند الشخصية.
ونحن في الواقع بما أن دراساتنا دراسات نفسية وتربوية يجدر بنا أن نشدد في ناحية مهمة جداً وهي أن نبحث عن الزجر النفسي لظاهرة الغناء التي حرمها المشرع الإسلامي، وفي هذا الميدان يمكننا أن نعثر على بعض هذه الجذور التي تنتسب دون أدنى شك إلى المرض على نحو ما سنوضحه الآن، فنبدأ أولاً بذلك بالاستماع إلى جملة من أحاديث المعصومين (عليهم السلام) فقد أورد عنهم أكثر من نص يشير إلى ظاهرة الغناء وعلاقة هذه الظاهرة بسلوك عدواني وانحرافي كالقسوة والنفاق وسواهما.
إذن لنقرأ بعض النصوص أولاً:
ورد عن الإمام الصادق والباقر والرضا (عليهم السلام) في تفسيرهم للآية الكريمة: (ومن الناس من يشر لهو الحديث ليضل عن سبيل الله.. الخ) لقد فسّر المعصومون الثلاثة (عليهم السلام) ذلك قائلين: ومنه الغناء، فاللهو والغناء ينمي النزعة العدوانية عند الشخصية متمثلة في ظاهرة القسوة، حيث أشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صلتها باللهو عبر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاثة يقسين القلب: استماع اللهو..).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع).
وعنه أيضاً (عليه السلام) يقول: (ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب).
لاحظوا أن هذه النصوص الثلاثة تفصح عن جملة من الحقائق النفسية مثلما تفصح عن جملة من الحقائق الموضوعية، فأما الحقائق الموضوعية فتتمثل في أن كلاً من ممارسة الغناء والاستماع إليه وفي أن كلاً من ممارسة التصوّت الموسيقي من خلال أدواته المعروفة كالمعزف والمزمار والعود والاستماع إلى ذلك أولئك جميعاً تستتلي الوقوع في براثن الانحراف النفسي والفكري متجسداً في ظاهرتي القسوة والنفاق، إننا نشدد على ضرورة أن نلفت نظركم إلى أن المعصومين (عليهم السلام) إنما ينطقون عن الله سبحانه وتعالى، ولذلك عندما يقدمون تقريراً عيادياً من أن الغناء أو العزف بالمزمار ونحو ذلك إنما يقسي القلب وينبت النفاق، فإنهم يصدرون عن الله سبحانه وتعالى في تقريرهم لهذه الحقائق، لذلك يجب أن نتقيد بها كل التقيد وأن نرفض كل الرفض أية اتجاهات أرضية تزعم أن الغناء مثلاً أو الموسيقى لها أثرها الإيجابي في السلوك.
ولحسن الحظ أن معجم علم النفس المرضي ومنه الأمراض السيكوباثية يشير بوضوح إلى خطورة القسوة عند الشخصية وما تفرزه القسوة من أنماط عدوانية في السلوك، ولا أظننا بحاجة إلى التعقيب على الشخصية القاسية التي انتزعت منها الرحمة وتعاملت مع الآخرين ومع ذاتها أيضاً تعاملاً عدوانياً في شتى مجالات التعامل.
وأما ظاهرة النفاق فإنها بدورها تجسد واحداً من السمات التي تميز الشخصية اللااجتماعية أي السيكوباثية عن سواها بما قرره بعض الباحثين الأرضيين، كذلك لسنا بحاجة إلى أن نعقّب على الشخصية المنافقة بعد أن لاحظتم في محاضراتنا كيف أن الإمام علياً (عليه السلام) قد أرجع أصول النفاق إلى عشرين ظاهرة نفسية مرضية تجسد كل الجذور النفسية للعرض المذكور.
وأما بالنسبة إلى الموسيقى والغناء في بعض التصورات الأرضية فإنه لحسن الحظ أيضاً أشارت دراسات معاصرة إلى الأثر السلبي الذي تتركه الموسيقى والأثر السلبي الذي يتركه الغناء في استتباعه جملة من الأعراض الجسمية والنفسية أيضاً سبق أن أشرنا إليها في محاضرة متقدمة.
المهم إذا كان الأمر كذلك حينئذ يتعين علينا أن نقف عند ظاهرةٍ تقترن في تصور الكثير بالإمتاع النفسي في حين أن هذا يقتاد الشخصية كما لاحظتم إلى الانحراف وسر ذلك يعود في جملة ما تنطوي عليه الظاهرة من أسباب إلى طبيعة الاستجابة العصبية الشاذة التي تلف كلاً من الممارس للغناء والمستمتع إليه، فقد سبق أن قلنا أن التنظيم العصبي للشخصية حينما يتجاوز نمطه العادي في عملية توريد المثير الصوتي وتصديره يقتاد بالضرورة إلى خلخلة النظام العصبي نفسه وما يجره إلى خلخلة التوازن النفسي والعكس هو الصحيح أيضاً، أي أن الاستجابة النفسية غير العادية تقتاد إلى استجابة عصبية غير عادية أيضاً فيما يتبادلان التأثير بينهما كما هو واضح تماماً.
ثم إنه من الواضح أيضاً أن خلخلة التركيب العصبي تظل ذات صلة بالظواهر الانحرافية التي طالما يشير الطب العقلي إليها، فيما يفرزها عدم التوازن الداخلي للشخصية، وأما التركيب النفسي ذاته في افتقاده لسمة التلائم فيكفي أنه ناجم عن طبيعة الاستجابة الشاذة التي تقترن بذكريات وخبرات جنسية وعدوانية وانحرافية عامة تتواشج في تلميع الشخصية وفي التمحور حول ذاتها وفي التأكيد على إشباعها، وهذا أمر لا نستطيع أن نفصّل الحديث عنه أكثر مما قلناه بل إن المستمتع للغناء أساساً يستطيع أن يميز ما قلناه بوضوح عندما يعود إلى خبراته ذات يوم وهو يستمع إلى غناء ونحوه ويتذكر أو يستحضر في خاطره الأسلوب التلميحي الذي صدر عنه عبر استجابته الشاذة للغناء وما واكب ذلك من استحضار ذكريات جنسية ونحوها..
على أية حال إننا جميعاً ندرك بوضوح أن عمليات تأجيل للشهوات إذا لم يقدر لها الاستماع عبر عملية التدريب من جانب ثم التصعيد بها والتحويل لهذه الطاقات إلى ممارسات إيجابية كتفكرنا مثلاً بعظمة السماء أو انشغالنا بذكر الله وتمجيده، بل حتى مطلق الممارسات العادية كالانشغال بعدم فردي أو الانشغال بعمل مثمر نستطيع من خلاله في الواقع أن نتصاعد بطاقاتنا ونستبدل ذلك بهذه الممارسات ؟؟؟ إليها. نقول إن الكف والتأجيل لبواعثنا الشهوانية ما لم يقترن بتدريبنا من جانب وبتصعيدها كما قلنا من جانب آخر فحينئذ من السهل جداً أن تقع أية شخصية فريسة لأي مثير يتحرش بدوافعها غير الخاضعة للكف والتصعيد العباديين، فإذا كانت الشخصية مثلاً تحمل مخزوناً من الخبرات المنحرفة فإنها سوف تستجيب للمثير الصوتي وهو الغناء مقترنةً بالضرورة بتلكم الخبرات المنحرفة كما لو التقى مثلاً بلقاء جنسي غير مشروع، أو انتقام مصحوب بلذة، أو مطلق الاستمتاع بلذائذ الحياة المتنوعة غير الخاضعة للمعيار الأخلاقي، بل يمكننا أن نتجاوز ذلك إلى صعيد عدم الإشباع، فالشخصية التي تمارس تأجيلاً لشهواتها ولكن دون أن تشفع ذلك بتدريب متواصل ودون أن تشفع ذلك بتصعيد، أي بتسامي أي باستبدال عمل بآخر، تظل في الواقع تعاني نقصاً في إشباعها مما يضطرنا من جديد وهي لا تملك رصيداً عبادياً ضخماً، حينئذ يضطرها هذا إلى أن تسد النقص في الإشباع بممارسات تخيلية كحلم اليقظة مثلاً، وهو حلم ينجم عن سلوك مرضي سبق أن حدثناكم عنه عبر أحاديثنا أو عبر محاضراتنا عن العمليات التربوية المتصلة بتنظيم الدوافع الحيوية ومنها الدافع إلى النوم من حيث ارتباط الأحلام بالنوم وتقسيم الأحلام إلى أحلام عادية وإلى أحلام مجازية يصطلح عليها بحلم اليقظة وهي أن يسد الشخص ما يحتاج إليه في عالم الواقع يسدّه باللجوء إلى عالم من الخيال حتى يزيح التوترات الناجمة من عدم إشباعه لدوافعه.
المهم أن الأمر ذاته من الممكن أن يسحبه على الممارس لظاهرة الغناء والمستمع إلى الغناء فمثل هذه الممارسات ستقترن بخبرات مورس الكف أو التأجيل خلالها لكن دون أن يقترن ذلك بوعي عبادي بل ظلت الشخصية تعاني نقصاً في إشباعها لذلك يجيء المثير الصوتي المتمثل في الغناء مقترناً بخبراتها المشار إليها معوضاً بها عبر التخيل تماماً كما هو شأن الحالم اليقظ، وعلى أية حال فإن الغناء ممارسة واستماعاً حينما يحظره المشرع الإسلامي فلأنه ممارسة ذات جذر مرضي بالشكل الذي حدثناكم عنه.
بهذا ننتهي من الحديث عن العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيال سمات الشخصية وهي سمات حدثناكم عنها في محاضرات سابقة بدأناها بالحديث عن السمات العقلية أو التربية العقلية والسمات المعرفية أو التربية المعرفية وواصلنا ذلك بالحديث عن السمات العامة للشخصية حيث ؟؟؟ من هذه السمات العامة لنتجه بعد ذلك إلى سمات ذاتية حيث أن الحديث عن هذه السمات الذاتية سوف يقترن بنفس الأسلوب الذي حدثناكم عنه بالنسبة إلى السمات العامة أي السمة التي يدرجها المشرع الإسلامي ضمن سمة إيجابية مقابلة بسمة سلبية حيث لاحظنا في هذا المجال جملة من السمات العامة أو السمات المزاجية كالصبر ويقابلها الجزع والتوؤدة ويقابلها العجلة والوقار ويقابله الخفة والعافية وتقابله البلوى والنشاط ويقابله الكسل.. هذه السمات أطلقنا عليها مصطلح السمات العامة، ونتجه الآن إلى سمات أخرى نطلق عليها مصطلح السمات الذاتية وهي سمات نبدأ الآن فنقدم حديثاً تمهيدياً عنها فنقول:
المقصود بالسمات الذاتية هي طبيعة النظرة التي تنسجها الشخصية لذاتها إيجاباً وسلباً، ومع أن علماء النفس يطلقون على إحدى العمليات النفسية اسم نظرية الذات وهي النظرية التي تقوّم بها الشخصية ذاتها إيجاباً وسلباً إلا أن ما في هذا الحقل يقتصر على جانب من نظرية الذات وهو الجانب المتصل بتصور الشخصية بقيمتها من حيث أحاسيسها الطبيعية أو الشاذة وانعكاس ذلك على سلوكها الاجتماعي ومن ثم ما يتطلّب هذا من توجيهات تربوية بتعديل سلوك الشخصية الشاذ وتحويله إلى سلوك سوي.
هنا يلاحظ أن غالبية المدارس النفسية تشدد على مرحلة الطفولة ؟؟؟ أساليبها على تقويم الشخصية بذاتها إيجاباً أو سلباً، علماً بأن بعض المدارس النفسية تقرر سلفاً بأن أحاسيس الضعف والقصور التي تواكب الطفولة إنما تخضع لطابع عرقي تفرزه الطفولة ذاتها ما دام الطفل بطبيعة تكوينه عاجزاً أمام الكبار مما يسحب آثاره على طبيعة الأحاسيس السلبية التي تظل ملازمة لحياته في ما يعوضها بسلوك استعلائي بالسيطرة والفوقية.
وأياً كان الأمر فقد سبق أن حدثناكم في القسم الأول من محاضراتنا عن نظرية الذات بما فيها هذا الاتجاه الذي فصلنا الحديث عنه وقلنا أنه يقرر سلفاً غلبة أحاسيس الضعف في ما لا حاجة الآن إلى أن نعيد الكلام في ذلك بقدر ما نعتزم أن نشير إلى السمات الإيجابية وما يقابلها من السمات السلبية المتصلة بنظرة الشخص عن ذاته وانعكاسات ذلك في مجموعة من الأساليب التي حررها المعصومون (عليهم السلام) في قوائم السلوك التي عرضناها لكم في بدء دراساتنا هذه.
المهم بالعودة إلى قائمة السلوك التي قدمها الإمام علي (عليه السلام) وعرض فيها سمات الإيمان وسمات الكفر وسمات النفاق حيث وصل (عليه السلام) بين سمات الإيمان والجذور النفسية السوية لهذا الطابع، وبين سمات الكفر والنفاق والجذور النفسية للطابع الشاذ، نقول ففي عرضه (عليه السلام) لقائمة النفاق ألمح إلى ظاهرة الحفيظة، وفرع عليها أربع سمات نفسية ذات طابع مرضي هي: الكبر، الفخر، الحمية، العصبية.
لاحظوا أن هذه السمات الأربع تتصل بهذا الجانب من نظرية الذات التي نعتزم دراستها، حيث تحوم هذه السمات على نظرة الشخص لذاته فيما يمكن تلخيصها بأنها سمة استعلائية بشكل عام، مقابل السمة السوية التي تتعامل واقعياً مع الذات، دون أن تحملها نظرات متورمة هي الكبر الفخر الحمية العصبية، طبيعياً ينبغي أن نلفت انتباه الطالب إلى أهمية هذا التصنيف العيادي للمعصومين (عليهم السلام) بما ينطوي عليه من فرز دقيق لأساليب متنوعة من النظرة الاستعلائية عند الشخص نحو ذاته، حيث حصرها الإمام (عليه السلام) في أربع مفردات لاحظتموها.
وأما الإمام الصادق (عليه السلام) في القائمة التي تنتظمها خمس وسبعون مفردة فقد قدم بدوره (عليه السلام) أربع مفردات من السلوك الإيجابي وما يقابلها من السمات السلبية، وأضاف إليها سمات تعبدية أيضاً، تظل في واقعها أيضاً إفراز للجذر النفسي الصرف وليست مجرّد سمات تعبدية بل سمات تعبدية ذات جذر نفسي صرف، وهذه المفردات الأربع التي تضمنها تصنيف الإمام الصادق (عليه السلام) هي: الاستسلام ويقابله الاستكبار، والتسليم ويقابله التجبر، والخضوع ويقابله التطاول، والتواضع ويقابل الكبر.
وأما المفردتان العباديتان اللتان أضيفتا إليهما فهما: الخشوع ويقابله العجب، والدعاء ويقابله الاستنكار.
ويهمنا من هذا جميعاً أن نكرر:
أولاً: أن التصور الإسلامي مع أنه يفرز بين ما هو نفسي صرف وبين ما هو تعبدي أو شعائري إلا أنه يرجع كل سمة - إيجاباً كانت أو سلباً - إلى أصل نفسي تتفق عليه الاتجاهات النفسية جميعاً، وهذا ما يهب التصور الإسلامي قيمة كبيرة من العيادية للسلوك ورؤيته إلى أن السلوك النفسي لا ينفصل عن السلوك العبادي.
ثانياً: تتحدد أهمية هذا التصنيف من حيث كونه يفرز بنحو دقيق تفصيلات السلوك المتنوّع مثل الاستسلام وافتراقه عن التسليم، وافتراق كل من الاستسلام والتسليم عن الخضوع، وافتراق كل من الاستسلام والتسليم والخضوع عن التواضع. مع أنها جميعاً تصب في رافد واحد، لأن الاستسلام والتسليم والخضوع والتواضع كلها تنازلات عن الذات واتجاه نحو الانصياع للآخر ولكنها تظل مستويات متمايزة تماماً بالنحو الذي سنفصل الحديث عنه إنشاء الله.
والأمر نفسه فيما يتصل بتصنيف الإمام علي (عليه السلام) من حيث استماعه الفارق بين سمات سلبية ينتظمها جذر نفسي واحد هو الاستعلاء ولكنه يصنف ذلك إلى كبر و؟؟؟ وحمية وعصبية، ولكي تتضح للقارئ أهمية مثل هذه الفوارق بين أنماط من السلوك ينتظمها جذر واحد سوي أو مرضي، يجدر بنا أن نعرض لها ولو بنحو من الأنحاء ونقف أولاً من السمات التي عرضها الإمام علي (عليه السلام) لنقول في هذا المجال:
أولاً: الظاهرة التي طرحها (عليه السلام) هي ظاهرة الكبر، إذن الكبر هو ما سنحدثكم عنه الآن:
إن الكبر يعني استعلائك على الآخرين كما لو امتنعت مثلاً من المبادرة بالسلام أو التحية إليهم، منطلقاً في هذا السلوك من إحساسك بأنك متفوق بشكل أو بآخر عليهم، أو حتى مع انعدام مثل هذا التفوق ولكنك تتعمّد أن تستعلي عليهم ؟؟؟ لذاتك، وأما الفخر فيعني استعلاءك عليهم أيضاً ولكن من خلال سلوك لفظي تبدر إليه كما لو نسبت لنفسك مجداً علمياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً إلا أن الاستعلاء هنا لا يأخذ طابعاً عملياً كالامتناع مثلاً عن السلام بقدر ما يأخذ طابعاً فكرياً.
ثالثاً: الحمية، وتعني الرفض أو الإباء أو الأنفة الأخلاقية التي لا مسوغ لها بقدر ما تعبر عن لصوق وتأكيد للذات، كما لو أبيت أن تنصاع لنداء الحق الذي لا يتساوق مع مصالحك مثلاً، أما الفارق بينه وبين كل من الكبر والفخر فمن الوضوح بمكان من حيث نمط الاستجابة الصادرة عنه، فالفخر هو امتداح للذات لا أكثر، وأما الكبر فهو إحساس بعظمة ؟؟؟ أو معوضة، وأما الحمية فهي عدم الانصياع لما هو مضاد للذات.
رابعاً: العصبية، وتعني تشبثك بذات فردية أو اجتماعية، وإكساب هذه الذات الفردية أو الاجتماعية شيئاً أكثر من الواقع الذي تتحمله كما لو تعصبت مثلاً لصديق أو لنسب لا يتطلبان مثل هذا التشدد عليهما، بحيث تدافع عن صديقك حقاً وباطلاً بحيث ترى معائب قومك حسنات مثلاً كالتعصب القومي، ومن الواضح أن هذا النمط من السلوك يفترق عن كل من الكبر والفخر والحمية بصفته إضفاء لشيء أكثر مما يتحمله الواقع، في حين أن التكبر من الممكن مثلاً أن يواكبه واقع اجتماعي شاذ كما لو كنت أكثر علماً من غيرك حسب مصطلحات الأرض، والفخر أيضاً قد يواكبه نفس الواقع الشاذ كما لو كنت تنتسب إلى عائلة معروفة مثلاً وهكذا..
المهم إن السمات الأربع المتقدمة يظل الفارق بين كل منها من الوضوح بمكان في ضوء ما حدثناكم عنه، ولكنه يتطلب في الواقع بصيرة عيادية في معرفة إفرازات كل منها وافتراقها عن الآخر، وهي سمات تنتظمها في الآن ذاتها سمة رئيسة هي الحفيظة التي أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى أنها دعامة تتفرع عليها السمات الأربع المذكورة. ومثل هذا التقسيم إلى دعامة وتفريعاتها نلاحظه في التصنيفات المعاصرة والتي تصنف السلوك إلى ما هو رئيسي ومركزي وتفريعي.. الخ، المهم إن هذه الأنماط الأربعة تمثل نظرة استعلائية بشكل عام أو لنقل نمطاً من المرض على أن يحفظ الشخص أو ؟؟ يدافع عن ذاته بأحد أشكال الدفاع أو المحافظة تبعاً للأشكال الأربعة المتقدمة.
فالمتكبر مثلاً يدافع عملية دفاع عن ذاته من خلال توهم أحاسيسه بأنه ذو تفوق، أو أن يستهدف بأن يبرز عنصر التفوق حتى لو كان فاقداً له، والمفتخر يمثل عملية دفاع أيضاً عن العلم أو النسب أو الإنجاز الاجتماعي الذي يملكه، والحمية أيضاً دفاع عن الذات من خلال الأنفة التي يمارسها خلال الموقف، والتعصب أيضاً دفاع عن القوم أو الجهة أو المؤسسة التي تنتسب إليها ذاته المريضة وهكذا..
إذن الحفيظة التي أدرج الإمام علي (عليه السلام) أربع سمات ضمنها تظل هي سمة رئيسة أو مركزية تتفرع عليها مجموعة من السمات التي تقدم الحديث عنها، وللمرة الجديدة نكرر أهمية مثل هذا التصنيف الإسلامي لأحد جوانب نظرية الذات التي ؟؟؟ علماء النفس وإخضاعها لنمط من العمليات النفسية تشكل آلية دفاع ؟؟؟ المريض حفاظاً على تأكيد ذاتيته.
والمعروف أن أحد علماء النفس انتبه إلى هذه الملاحظة العيادية للإمام (عليه السلام) وأخضع سلوك البشر لجملة من آليات الدفاع مع ملاحظة أن الطابع التفسيري الذي لا يتوافق لدى هذا الباحث مع التصور الإسلامي ولكن على أية حال هو امتداد على ملاحظات عيادية جاء متأخراً بالقياس إلى التصور الإسلامي لهذه الظاهرة ولسواها من الظواهر التي تقدّم ونقدّم الحديث عنها.
والآن إذا اتجهنا إلى التصنيف الآخر للإمام الصادق (عليه السلام) حيث عرض بدوره أربع سمات هي: الاستسلام ويقابله الاستكبار، التسليم ويقابله التجبر، الخضوع ويقابله التطاول، التواضع ويقابله الكبر. نقول: عندما نلاحظ هذا نجد أن بعض هذه السمات تتوافق مع التصنيف الذي قدمه الإمام علي (عليه السلام) وفي مقدمتها الكبر ومقابلها التواضع، ومن الممكن أن يجيء كل من الاستسلام والتسليم والخضوع إقراراً بالواقع وعدم تحميله ما هو خارج عن الذات، أي يتسق مع ملاحظات الإمام علي (عليه السلام) نحو أن يظل التجبر مثلاً مرادفاً للحمية، والتطاول مرادفاً للفخر، والاستكبار مرادفاً للتعصب، إلا أن ملاحظة الفوارق بين هذين التصنيفين لا يمكن أن يتغافل عنها.
وأياً كان الأمر يجدر بنا أن نتابع الآن السمات الأربع النفسية التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) مضافاً إلى السمتين العباديتين فيكون الطرح على هذا المستوى، الاستسلام يقابله الاستكبار، التسليم يقابله التجبر، الخضوع يقابله التطاول، التواضع يقابله الكبر، الدعاء يقابله الاستنكار، الخشوع يقابله العجب.
إن هذه المفردات الواردة في القائمة الإسلامية ضمن سمات العقل أو الجهل أو الصحة أو المرض، تتماثل في صعيدها النفسي الصرف من حيث خضوعها لطابع واحد من العمليات النفسية وهو تقبل الذات وتقبل الواقع، حيث قلنا أنهما من المعايير التي أجمع علماء النفس عليها من حيث كونها محكاً للسلوك السوي وما يقابله من السلوك المرضي، وحين نقف مع المفردة الأولى (الاستسلام ويقابلها الاستكبار) نجدها تحدد بوضوح مفهوم الانقياد للواقع والتعامل بنحو طبيعي حيال المنبهات المختلفة التي يواجهها الشخص حيث تشكل سمة السوية، وبعكس ذلك فإن التمرد على الواقع يعد شذوذا واستجابة غير طبيعية، ويمكننا أن نحدد بدقة دلالة الاستسلام وما يقابلها من استكبار في السلوك الذي يقر بما هو واقع وما يقابله من السلوك الذي يتهرب من الواقع.
ومن الواضح أن علم النفس المرضي طالما يربط بين أمثلة هذا السلوك المستكبر وبين جذوره الممتدة إلى الطفولة أو مطلق الخبرات الفاسدة التي يواجهها الشخص في حياته متمثلة في تلكم الخبرات المحسسة للشخص بأنه تافه ووضيع وقاصر، مما يدفعه فيما بعد هذا الإحساس بقصوره إلى أن يعوضه بسلوك مضاد هو الاستكبار تعبيراً عن محاولته لإضفاء قيمة ما على ذاته. وهذا الإحساس بالقصور يتخذ أشكالاً شتى من التعبير بعضها يتمثل في الاستكبار أي عدم الخضوع للواقع، وبعضها يتمثل في التجبر على نحو ما أومأت إليه القائمة الإسلامية في مقابلتها بين التسليم والتجبر، فالتجبر يمثل سلوكاً تسلطياً على الغير، كما هو شأن كثير من الرؤساء السياسيين حيث يعبرون بهذا التسلط عن الإحساس بالضعة التي يعوضونها وهم مرضى بعملية التجبّر على الآخرين حتى يخففوا من وطأة ما يحسونه من الهوان والضعة والدونية والحطة. وقد يأخذ الإحساس بالقصور مظهراً ثالثاً هو التطاول مقابلاً للخضوع الذي لاحظناه من القائمة المذكورة والفارق بين الاستسلام والخضوع مقابل الاستكبار والتطاول، هو أن التطاول ممارسة لأفعال أو حركات أو ألفاظ يتجاوز بها الشخص الموقف الذي يجابهه، في حين أن الاستكبار هو مجرد أحاسيس متورمة عن الذات وإمكاناتها غير الحقيقية، ويجيء التكبر سمة رابعة مفصحة عن الإحساس بضعف الشخصية على النحو الذي لاحظناه في القائمة.
وأما سمتا الخشوع والعجب وسمة الدعاء والاستنكار فإنهما سمتان عباديتان تقابلهما سمات مرضيتان تتصلان بنظرة الشخص عن ذاته حيال الوظيفة العبادية الملقاة عليه، فالدعاء ويقابله الاستكبار يعد مظهراً من نظرة الإنسان لذاته من خلال إحساسه بأنه يفتقر إلى الله تعالى، وأما الاستنكار من ذاته فهو في حقيقته عائد إلى نفس السمة المرضية المرتبطة بخبرات الشخص وانعكاساتها على سلوكه من حيث الإحساس بهوان ذاته أو العكس من ذلك، فإذا كانت نظرته إلى ذاته سليمة غير متورمة فإنه يمارس الدعاء الذي يعني إقرار الشخص بكونه ذا قدرات محدودة ينبغي أن لا يتجاوزها، ومن ثم ينبغي أن يعترف بأنه مفتقر إلى الله تعالى الذي منحه فاعلية الوجود، أما إذا كانت متورم الذات فحينئذٍ سيتجاهل وجود المبدع وسيمارس عمليات وهمية عن إمكاناته التي لا فاعلية ذاتية لها بقدر ما يتوهم الشخص المريض فاعليتها، وهذا من نحو من يتجاهل أن قواه الجسمية والعقلية بل إن وجوده أساساً لا دخل لإرادته في صياغته وحينئذ حين يخيل إليه أن ذاته مصوغة بشكل إمكاناته دون تدخل من الخارج وهو الله سبحانه وتعالى يصبح مؤشراً لضخامة العرض المرضي الذي يصدر عنه.
على أية حال إن هذه السمات التي قدمها الإمامان علي والصادق (عليهما السلام) تمثل طبيعة النظرة الإيجابية أو السلبية التي تصوغها الشخصية عن ذاتها ويمكننا أن نلخصها في سمة عامة إيجابية هي التقويم الحقيقي للذات يقابله التقويم الاستعلائي للذات، ونظراً لأهمية الجذر المرضي لأمثلة هذا السلوك الاستعلائي من جانب، وانعكاسات ذلك في أشكال من السلوك اليومي الذي يغفل عن هذا من جانب آخر حينئذٍ يجدر بنا أن نتناول صورتين كبيرتين هما التكبر والتعصب بصفتهما أشد السمات مفارقة للسلوك، أو بسمتها أشد انتشاراً من غيرهما من جانب آخر، حيث أن دأبنا في هذه الدراسات هو تبيين الجذر المرضي لما هو نفسي وصلة ذلك بما هو عبادي، أي إن السلوك السلبي عبادياً إنما هو ؟؟؟ سلوك سلبي نفسياً وهو أمر طالما كررناه في محاضراتنا، ولسوف نحدثكم عن ذلك في محاضرتنا اللاحقة إنشاء الله ونستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..