محاضرات التربية الإسلامية - المحاضرة 31
بسم الله الرحمن الرحيم
لا نزال نحدثكم في محاضراتنا عن سمات الشخصية وما تتطلبه من عمليات تربوية حتى يتعدّل سلوكها نحو الاستواء المطلوب، وكان حديثنا طوال المحاضرة السابقة وما قبلها منصباً على السمات العامة للشخصية حيث تحدثنا عن جملة من المفردات أو من قوائم السلوك التي صنفها المعصومون (عليهم السلام) وكانت كل مفردة تقابلها مفردة أخرى، أي كل مفردة من السلوك الإيجابي، أو كل مفردة من السمات الإيجابية تقابلها مفردة من السمات السلبية، وهكذا حتى انتهينا إلى سمة جديدة، وهي ما نحدثكم بها الآن ونعني بها سمة النشاط وما يقابلها من سمة الكسل وهو أمر يتطلب شيئاً من إلقاء الإنارة عليه وهو ما نبدأ به الآن فنقول:
النشاط والكسل
النشاط ويقابله الكسل، إن سمة النشاط تظل سمة تتميز بها الشخصية السوية بحيث تنشط الشخصية السوية في ممارسة وظيفتها الملقاة عليها بنحوٍ كما يجب، ويمكننا أن نتعرف على الجذر النفسي لكل من النشاط وما يقابله من الكسل إذا عرفنا أن الكسل ناجم في أحد أسبابه عن الإحساس بالضعف والقصور، أي الإحساس بعدم جدارة الشخصية، وعلى العكس فإن النشاط يفصح عن الإحساس بالثقة وبالكفاءة بحيث يدفع صاحبه إلى ممارسة وظيفته بثقةٍ وتفاؤل وأمل بما تحتجزه أية مركبات شعورية أو لا شعورية عن متابعة نشاطه، من هنا فإن علماء النفس والتربية يضعون هذا المعيار، أي النشاط وما يقابله من الكسل واحداً من مجموعة من السمات التي تنتظم أقيسته واختباراته، لمعرفة الشخصية المضطربة وتمييزها عن الشخصية السوية. والمشرع الإسلامي حينما يضع هذه السمة ضمن القائمة التي تتضمن جنود العقل والجهل، أو سمات الصحة والمرض، ونعني بها القائمة المعروفة التي طالما استشهدنا بها، والتي وضعناها عموداً لدراستنا، نقول المشرع الإسلامي حين يضع هذه السمة ضمن قائمة السلوك فإنه يكسبها كلاً من طابعي السمة النفسية والعبادية اتساقاً مع سائر السمات التي حدثناكم عنها حينما قلنا أن هذه السمات يكتسب بعضها طابعاً نفسياً صرفاً إلا أنه في الآن ذاته يكتسب طابعاً عبادياً.
وقد وردت التوصيات الإسلامية مشيرةً إلى أن الكسل إضرار للدين والدنيا، من نحو قول المعصوم (عليه السلام): (إياك والكسر والضجر فإنهما يمنعان حظك من الدنيا والآخرة)، مشيراً إلى الطابعين النفسي والعبادي كما هو واضح، وفي توصية أخرى يقول المعصوم (عليه السلام): (للكسلان ثلاث علامات يتوانى حتى يفرط ويفرط حتى يضيع ويضيع حتى يأثم) ففي هذه التوصية وصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الكسل الذي يبدأ ويتوانى حتى يؤدي إلى تضييع كل الفرص ومنها فرص العبادة التي يفضي تضييعها إلى الوقوع في الإثم، ولعلّ التوصية هذه أشد وضوحاً مما سبقتها من حيث وصل الطابع النفسي والعبادي بالنسبة إلى الكسل حيث قال المعصوم (عليه السلام): (من كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل). إن هذه التوصية نموذج واضح للتصور الإسلامي حيال وصله بين ما هو نفسي وما هو عبادي.
طبيعي عندما نواصل حديثنا عن هذا الجانب نود أن نشير أن ما نريد أن نقول ثمة وصل بين ما هو نفسي وما هو عبادي فإن الهدف من هذا الوصل ينشطر إلى نمطين أحدهما الوصل الذي يعني أن للجذر العبادي جذراً نفسياً وهذا يختلف عن قولنا أن كلاً من السمة النفسية والعبادية لا تنفصل أحدها عن الآخر، فمثلاً عندما نقول أن الرجل الذي يمارس عملية شك في سلوكه في الحياة إنما ينسحب شكه على سلوكه حيال الله سبحانه وتعالى أيضاً. وبذلك يقرر بأن للشك العبادي جذر نفسي هو الشك النفسي، وهذا يختلف عن قولنا بالنسبة إلى ما نحن الآن بصدده ألا وهو الكسل مثلاً. فعندما نقول أن الكسلان يجسد سمة مهزوزة في سلوك الشخصية من الزاوية النفسية، فإن المشرع الإسلامي يرتب عليها أثراً عبادياً أيضاً وذلك من خلال المثال الذي لاحظتموه قبل قليل عندما قال المعصوم (عليه السلام): (من كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل).
على أية حال نريد الآن أن نوضح بأن التوصية المشيرة إلى أن انسحاب ما هو دنيوي أو نفسي على ما هو عبادي يظل من الوثاقة بمكان كبير بمعنى أن ينسحب سلوكنا النفسي وهو الكسل عن ممارسة نشاطنا الاعتيادي سوف ينسحب على ممارساتنا الاعتيادية أيضاً.
وفي هذا المجال يجدر بنا أن نتابع جملة ظواهر تتصل بالكسل وما يترتب على ذلك من سلوك ينبغي أن نتأمل حياله حتى نستطيع تعديل السلوك من خلال العملية التربوية المطلوبة، وهنا نختار عنواناً يرتبط بالكسل ألا وهو (الفراغ)؛ حيث نجد أن مصطلح الفراغ يجسد مفردة من السلوك تظل على صلة بالكسل حيث يمكننا أن ندرج إلى جانب الكسل ظاهرة الفراغ بمعنى عدم صدور الشخصية عن ممارسة نشاط ما، ألا وهو انصياعها أو استسلامها للفراغ أياً كان نمط هذا الفراغ، وفي هذا الميدان نود الإشارة إلى أن الاتجاهات النفسية والتربوية تعد العمل أو الهدف المحدد الذي تتحرك الشخصية حياله واحداً من معايير الصحة النفسية التي تميز من هو سوي عن من هو شاذ، بل إن أحد علماء النفس المعاصرين يحصر الطابع السوي في سلوكين هما: الحب والعمل. وثمة عالم نفسي تربوي آخر يحصره في توفر هدف استمراري يمارسه الشخص من خلال العمل على تحقيقه، أي ينبغي للشخصية أن تضع دائماً هدفاً استمرارياً تمارس من خلال هذا الهدف عملها على تحقيق الهدف المذكور، وهذا يعني أن العمل ومقابله الفراغ هو المحدد للشخصية السوية عن سواها.
ويمكننا تقريب هذه الحقيقة وهو أمر قد انتبهت البحوث الأرضية عليه من خلال ملاحظتنا لمختلف الاضطرابات النفسية التي نجد لها مجالاً للتحرك، عندما يواجه شخص فراغاً مثلاً حينئذٍ يضطر إلى أن يسد الفراغ المذكور بنظر أفكاره والتسيير في متاهات مختلفة، وبكلمة أكثر وضوحاً إن الرجل السوي لا يجد لديه مجالاً لأن يجتر مشكلاته بل إنه لمشغول عن ذلك بالعمل الذي يحتجزه عن أي تفكير لا جدوى فيه يستحكم إلى متاهات تخيلية لا نهاية لها.
ويلاحظ أن بعض علماء النفس السلوكيين يعالجون مرضاهم بإيجاد عمل لهم حتى لو كان ذهنياً أو حتى لو كان عادياً لا قيمة اجتماعية له حتى تشغل الشخصية به وتكفّ عن ملاحظة سلوكها المضطرب الذي يتفاقم بقدر ما تجترّه وتحوم عليه وتحيا دقائقه وتفصيلاته.
والآن حين ننقل هذه الظاهرة إلى الصعيد العبادي نجد أن التوصيات الإسلامية لا تكتفي بمجرد تحذيرنا من الفراغ بل تصل بين الفراغ وبين الهدف العبادي الذي أوكل إلينا، فتؤكد مثلاً في توصيات متنوعة للمعصومين (عليهم السلام) من نحو قوله (عليه السلام): (إن الله ليبغض العبد الفارغ) ومن نحو قوله (عليه السلام): (إن المؤمن لمشغول عن اللعب) ففي هاتين التوصيتين نهي عن الفراغ من جانب وتأشير إلى نوع العمل من جانب آخر، ولكن في الحالتين ثمة توصية بضرورة العمل وتحذير من الفراغ، وهذا يعني أن سمة الشخصية السوية هي العمل وتقابلها السمة المرضية وهي الفراغ.
طبيعياً الفراغ نفسه ليس سمة بل عدم انشغال الشخصية بعمل ما هو الذي يقتادها إلى أن تقع في السلوك غير السوي، ولكن استكمال جانب السوية لدى الشخص، أي لكي تستكمل الشخصية جوانب سلوكها السوي وتصبح شبه كاملة بالنسبة إلى المعايير النسبية لا يأخذ محدداته النهائية في التصور الإسلامي إلا إذا كان العمل بدوره مرتبطاً بهدف، ولكن هذا الهدف هو ذو قيمة، وهو أمر ألمحت إليه بعض الاتجاهات النفسية التي تنتسب إلى مدرسة علم النفس الإنساني، فالعمل مجرداً عن القيمة لا يفصح عن الشخصية السوية بقدر ما يجرها إلى الوقوع في مفارقات مرضية أخرى إذا كان العمل لا قيمة له من الزاوية الفكرية أو العبادية.
إذن تحديد العمل من حيث نوعه مع أن كلاً من التصور الإسلامي والأرضي يتوافقان على ضرورة فرزه، أي فرز ما هو سوي عما هو مرضي، كالعمل مثلاً لاستجرار الرزق أو العمل العلمي أو العمل الإصلاحي.. الخ، لكن نجد أن التصور الإسلامي يتجاوز هذا لكي يصله بالمفهوم العبادي للعمل، سواء أكان العمل أو الانشغال بشيء حركياً أو لفظياً أو ذهنياً، فالقمار مثلاً يعد عملاً حركياً ولكنه موسوم بطابع المرض، بما تقرّه الاتجاهات النفسية والتربوية بطابعه المرضي المذكور، حتى أنها تدرج الشخصية المقامرة ضمن الأمراض الانحرافية، أي الشخصية السيكوباثية، وأما نموذج العمل اللفظي فمن أمثلته مثلاً الغناء، ولكن بعض الاتجاهات النفسية لم تنتبه إلى سمته المرضية على العكس من اتجاهات أخرى في الطب العقلي الحديث توفرت لديها قناعة تامة من خلال التجريب بأن الغناء والموسيقى وما يواكبهما تسهم بشكل ملحوظ في إبراز أعراض جسمية مثل ضغط الدم وعوارض نفسية مثل الوهن العصبي وسواه..
بينما قدم المشرع الإسلامي ملاحظات عيادية مختلفة حيال الظاهرة المذكورة من حيث السمات المرضية التي تواكب ممارسة الغناء، وأما نموذج العمل العلمي فإن للإسلام تصوره العبادي الذي يصل من خلاله بين الوظيفة الخلافية وبين أية ممارسة ذهنية لا تصب في الرافد المذكور وهو أمر لا تتوفر عليه الاتجاهات الأرضية بطبيعة الحال ما دامت منعزلة عن إدراك المفهوم العبادي للسلوك.
ونظراً لأهمية النماذج الثلاث التي أشرنا إليها، أي السلوك الحركي واللفظي والذهني، من حيث ارتباطه بنموذج العمل الذي ينبغي أن نمارسه، يجدر بنا أن نعرض لنماذج من هذه الممارسات العملية التي تنتسب إلى ما هو مرضي حتى يستطيع الطالب أن يميز في تعديل سلوكه بين العمل المرْضي والعمل المرَضي، ولنتحدث بشيء من التفصيل عن النماذج التي استشهدنا بها متمثلة أولاً في المقامرة، ونحن نتحدث عن هذا الجانب لأن للمقامرة أشكالاً متنوعة التي نجد وكأن في بعضها عدم الاهتمام بكونه سلوكاً مرضياً أو سلوكاً ينهى التصور الإسلامي عن ممارسته ولذلك سنخص هذا الجانب بشيء من الحديث فنقول:
إن علماء النفس والتربية عندما يقدمون قوائم بأمراض الشخصية نجدهم يدرجون المقامرة في دائرة الانحراف؛ ومن الواضح أن الانحراف كما كررنا يجسد طابع الشخصية اللاجتماعية، أي السيكوباثية وهي شخصية سبق أن كررنا الحديث عنها في محاضرات متقدمة، شخصية لا تحمل أية مسؤولية اجتماعية أو لا تفقه أية مسؤولية اجتماعية في سلوكها، والمهم أن المرض النفسي في حجمه المشار إليه هو الذي يسم الشخصية اللامسؤولة أو اللاجتماعية بحسب ما يصطلح عليها بعض علماء الاجتماع والتربية.
نقول إذا تجاوزنا ما يقره البحث الأرضي واتجهنا إلى التفسير الإسلامي نجد المشرع الإسلامي يشدد في ظاهرة المقامرة ويتوعد عليها بنحو بالغ، ففي الآية الكريمة: (يسألونك عن الخمر والميسر) تجمع النصوص المفسرة على أن الميسر تندرج ضمنه كل أنواع المقامرة، وهذا ما يمكن ملاحظته في النصوص الآتية المشيرة إلى هذا المعنى، حيث يقول أحد المعصومين (عليه السلام): (كل قمار ميسر) وفي نص آخر منسوب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا رسول الله ما الميسر؟ قال: كل ما تقوم ؟؟ حتى الكعاب والجوز) فهذا النص يحدثنا بوضوح أن الميسر تبدأ في دائرة كل أنواع القمار بما فيها اللعب بالجوز ومن ثم فإنها جميعاً مشمولة بالمنع المذكور وما يصاحب هذا المنع من التوعد بالعقاب في اليوم الآخر.
على أن الأمر لا يقف عند الممارسة للقمار فحسب بل يتجاوزه حتى إلى من يشاهد ويتفرج على هذه الممارسة حيث سئل أحد المعصومين (عليه السلام) عن هذا الجانب فيما سأله السائل قائلاً بأنه لا ؟؟؟؟ ما يسمعه من لعب ولكنه ينظر فحسب؛ فأجابه (عليه السلام) بالنص الآتي: (ما لك ولمجلس لا ينظر الله سبحانه وتعالى إلى أهله؟!!).
أكثر من هذا نجد أن التوصيات الإسلامية تشير إلى أنه حتى مجرد سلامك وتحيتك لممارس القمار يظل محكوماً بالمنع أيضاً حيث يقول المعصوم (عليه السلام) عن الممارسة المذكورة: (اللعب بها شرك، والسلام على اللاعب بها معصية وكبيرة موبقة).
إذن ممارسة القمار ومشاهدته بل وحتى السلام على ذويه يعد نمطاً من السلوك الذي تتوعد السماء عليه وتشدد في إنكاره كل التشدد، ومن البين أن السماء عندما تحظر ممارسة القمار وتتوعد عليها بهذا النمط من التوعد فإن ذلك يعني من الوجهة النفسية أن الممارسة لابد أن تنطوي على مفارقات ضخمة، وأن لها صلتها الوثيقة بأمراض الشخصية على نحو ما أشار إليه الطب العقلي والنفسي، وعلى ما نلحظه ونألفه عند المقامرين والمشاهدين والمتعاطفين مع المقامرين من سمات أنماط سلوكية واضحة الانتساب إلى الانحراف وإلى مطلق المرض النفسي.
هنا ينبغي أن لا تفوتنا الإشارة إلى أننا سنشدد في الحديث عن المقامرة على طابعها النفسي وصلة ذلك بالاضطراب الوظيفي للشخصية، وليس في صلتها بالاضطراب العضوي، مع ملاحظة أن وجود الصلة بين الممارسة المذكورة وبين جذرها الأرضي يظل موضع تأكيد لشطر كبير من الباحثين، وهذا مما يعد بوضوح إلى انحرافية الممارسة المذكورة وشذوذ أصحابها.
على أية حال حين نعود إلى السمات النفسية للمقامر والمشاهد أيضاً، بل وحتى المتعاطف مع الممارسة حينئذ نستخلص جملة من الحقائق ليس من الصعب أن يتلمسها كل من أتيح له التأمل في السبب الذي يدفع هذه الشخصية أو تلك إلى المقامرة، ثم ما يصاحب الممارسة من سلوك مرضي وما تستتبعه من ركائز تفرز آثارها المنطوية على الصعيد النفسي والاجتماعي.
وفي البدء لابد أن نشير بعامة إلى أن التشريع الإسلامي يدلنا على مرمى المفارقة في الممارسة المذكورة، إنها ممارسة عبثية وتنتسب إلى اللعب فحسب وهو أمر محظور منه دون أدنى شك، وهذا حينما نلاحظه من خلال التوصية الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (من خاننا فكان منفقه لغير الله كان لاغياً) وقد استشهد الإمام الباقر (عليه السلام) بهذا النص جواباً على سؤال أحدهم عن بعض الأنماط من القمار وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً عن النمط المذكور فأجاب: (إن المؤمن لمشغول عن اللعب)، وفي نص ثالث أجاب الإمام الباقر (عليه السلام) أحدهم حين سأله عن أنماط أخرى من المقامرة محاوراً السائل بقوله (عليه السلام): (إذا ميز الله الحق من الباطل مع أيهما يكون قال مع الباطل، فما لك وللباطل؟!!).
إن التلميح للغو واللعب والباطل عبر النصوص الثلاث المتقدمة يدلنا بوضوح إلى أن ممارسة القمار تعد نمطاً من السلوك غير الهادف وإنه ذو جذر مرضي دون أدنى شك.
ويمكننا أن نستدلّ على مرضية هذا الجذر ونحوه من الممارسات، يمكننا أن نستعير بعض الأمثلة الأرضية لملاحظة هذا الجانب، فمثلاً هناك أحد علماء النفس المحدثين يصل بين المقامرة وبين الإحساس بالذنب وما يستتبعه هذا الإحساس من الميل إلى العقاب الذاتي، حتى أن الباحث المذكور في تناوله لأحد الأطفال الرياضيين الذي ألح على المقامرة كان يفسر إلحاحه على المقامرة مع أنها كانت خاسرة في الحالات جميعاً، على أنها عقاب ذاتي على تحسس الشخصية بالذنب فيما لم تكن تهدأ إلا بإنزال العقاب عليها. ومع أننا بصفتنا باحثين إسلاميين لا نقر هذا البحث على تفسيره للظاهرة من خلال الإحساس بالذنب، لكننا نقره على استخلاصه الطابع العصابي للظاهرة، وليس نمط تفسيرها، فالباحث المذكور يرد الظاهرة إلى جذرها الجنسي المكبوت، أما التصور الإسلامي فلا يقرّ مثل هذا التفسير الذي سبق أن حدثناكم عنه مفصلاً ولكننا نستتلي فحسب بما أنه يشير إلى الطابع العصابي لشخصية المقامر لاندراج هذه الشخصية ضمن دائرة الانحراف الذي يلفها.
من هنا فإننا لو عدنا إلى معيار الصحة النفسية لوجدنا أن كلاً من المحورين الآتيين أي وأد الذات والاتجاه نحو الآخر، هما اللذان يجسدان الصحة النفسية، أي أن كل واحد منا حينما يسحق ذاته من جانب وحينما يتجه إلى الآخرين من جانب آخر، أي عندما يتخلى عن الأنانية من جانب وعندما يمكنه مؤثراً الآخرين من جانب آخر، أي عندما ينسى نفسه ويتجه إلى مساعدة الآخرين، نقول إن هذين المحورين من السلوك يظلان مؤشراً واضحاً إلى الصحة النفسية.
والآن إذا حاولنا أن نربط بين هذا وبين الممارسة المذكورة، أي ممارسة القمار حينئذٍ نجد أن المقامر عندما يمارس ظاهرة القمار يحكمه أولاً مبدأ الاتجاه نحو الذات، أي على العكس تماماً من المبدأ الصحي القائل بنبذ المصلحة الفردية، وبكلمة أكثر تعبيراً نقول: إن المقامرة يحكم أولاً بمبدأ الاتجاه نحو الذات بدلاً من الاتجاه نحو وأدها وسحقها، فهو - المقامرة - يتمركز حول نفسه باحثاً عن المزيد من الربح المادي، أي الربح النفسي الذي يهدف إليه وعادة يصاحب هذا الباحث من الصفقة الرابحة صراع وتوتر يلغيان كل إمكانية تماسك الشخصية ما دام الخسارة من جانب وتحقيق المزيد من الربح من جانب آخر يمثلان احتمالات الموقف المقرر، وأما المصدر الآخر الذي يحكم المقامر فهو نبذ الآخرين بدلاً من الاتجاه نحوهم، فهو يسعى لتحقيق الصفقة الرابحة له وأن يحجبها عن الآخرين، لاحظ أن مشاهدة الآخر ومحاولة إيذاءه تنطوي على نزعة سادية تعرفها جيداً لغة علم النفس المرضي، فهي على الرغم تماماً من النزعة التي تحاول السماء بل حتى التصورات الأرضية أن تدرب الشخصية عليها ألا وهي حب الآخرين، وقد ذكرنا أكثر من مرة أن أحد الباحثين المحدثين يؤكد دائماً هذا المبدأ القائل يجب أن تحِب وتُحَب، أو يقول إن الشخصية السوية هي التي تحِب وتحَب، والنزعة المقامرة تجسد عملية مضادة تماماً للمبدأ المذكور، فالمقامر لا يمكنه أن يحقق الحب نحو الآخر، بل على العكس إنه يحمل نزعة عدوانية حيالهم، إنه يحاول تهشيم الآخر حتى يحقق الربح المادي أو الربح النفسي.. الخ، كما أنه لا يمكن أن يحَب من قبل الآخرين لأن الآخرين هم طرف في المقامرة، يحاول هذا الطرف تهشيم الطرف الآخر أيضاً وهكذا.. وتظل النتيجة أن كلاً من الأطراف المقامر تتنازعها مشاعر الكراهية والأنانية مصحوبة بالصراع والتوتر وما يستتبعهما من تضخيم البعد العصابي عند الشخصية.
من هنا يمكننا أن ندرك الأسرار الكامنة وراء منع التشريع لظاهرة القمار والتوعد عليها بأشد العقاب، ومن المؤسف حقاً بأننا نجد بعض مجتمعاتنا التي يحكمها قصور في الوعي العبادي لا تعي مفارقات هذه النزعة حتى أنها لتمارس بعض أنواع المقامرة تحت ستار انتفاء البعد المالي منها متناسية أن البعد النفسي هو المتحكم أولاً وأخيراً في الظاهرة، أي النزعة التي تلغي الآخر وتتمحور حول الذات وتريد أن تحرز النتيجة لصالحها. وأما البعد المالي فلا يعدو كونه عنصراً مساهماً في تضخيم النزعة النفسية بصفة أن دافعية المال تشكل عنصر إثارة يضؤل حجمها إذا قيس بحجم الإثارة النفسية ولو كان العنصر المالي وحده هو المتحكم في الظاهرة لانتفت دلالة النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) عبر إشارته عن أن المؤمن لمشغول عن اللعب وإن كل ممارسة خالية من ذكر الله تشكل لغواً وباطلاً، حيث نهى التشريع عن ذلك.
وإذن البعد النفسي وما يستتبعه من نشاط منحرف تتمثل في إنماء مشاعر الأنانية والكراهية من جانب، وفي إنماء عنصر الصراع والتوتر من جانب ثاني وفي إشغال الشخصية بعامة عن ذكر الله ومطلق النشاط المثمر من جانب ثالث، هذا جميعاً يفسر لنا البعد النفسي من الظاهرة وهو بعد بالغ الخطورة إذا قيس بظاهرة البعد المادي من الظاهرة.
وإذن للمرة الجديدة ينبغي أن لا نقلل من خطورة المقامرة في حالة انتفاء المراهنة المالية عليها، وأن لا ننساق مع المقولات التي يرددها البعض من أنهم لا يعتزمون سوى سد الفراغ وتحقيق التسلية، إنهم يجهلون تماماً أن الفراغ في التصور الإسلامي بل وحتى في التصور الأرضي لا يمكن أن يملأ إلا بنشاط مثمر وهادف إذا كانت الشخصية جادة في السعي إلى تحقيق صياغة سوية لها، كما أنهم يجهلون تماماً إلى أن التسلية والمتعة لا يمكن أن يحقق فاعليتهما الحقة إذا كان ذلك يتم على حساب تنمية مشاعر الكراهية والأنانية وعلى حساب تغذية عنصر الصراع والتوتر لدى الشخصية، لذلك يمكننا أن نفسر هذا من خلال قوله تعالى بالنسبة إلى الخمر والميسر: (وإثمهما أكبر من نفعهما) فإذا كان تحقيق المتعة يجسد نسبة خاصة فإن هذه النسبة النافعة تغيب في خضم النسبة الضخمة التي يحققها الخسارة النفسية للشخصية المقامرة، ذلك أن الصراع والتوتر الذان يصاحبان المتعة يتركان آثاراً مؤلمة ليس على المدى البعيد فحسب بل عبر المدى المزامن للمتعة أيضاً.
على أية حال نكتفي بهذا الحديث عن المقامرة ولكننا قبل أن ننهي الحديث نود أيضاً أن نكرر بأنه من المؤسف حقاً أن نجد بعض مجتمعاتنا تنزع إلى ممارسة بعض أنواع المقامرة غير المشتملة على عنصر المراهنة المالية تحت ستار:
أولاً: انتفاء العنصر المالي، حيث حوله التشريع واعتبره محرماً وسحتاً.
ثانياً: تحقيق المتعة والتسلية البريئين. لكن قلنا إن المتعة المشار إليها تظل ضئيلة الحجم بالقياس إلى ما تسببه من فساد نفسي، ولعل التصورات الأرضية أيضاً تشير إلى هذا الجانب حينما تقول بأن المتعة أو اللذة أو التسلية بنحوها المطلق ينبغي أن تظل موضع رفض، لأن المفروض أساساً أن تمارس الشخصية تأجيلاً لكثير من أمتعتها، مثلاً إن السرقة تحقق إشباعاً مالياً للشخصية ولكن ممارسة الكف أو التأجيل حيال هذه المتعة التي تحقق إشباعاً مالياً للشخصية يحقق إشباعاً أشد لها متمثلاً في الأمن والتوازن اللذين تفتقدهما الشخصية في حالة إيداعها السجن مثلاً أو قطع يدها نتيجة السرقة المذكورة، بل حتى لو لم تعاقب على ذلك فإن نفس إلهامية الخير والشر التي أودعها الله تعالى في التركيبة البشرية في قوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) مجرد كون الشخصية تلهم معنى الفجور حينئذٍ فلابد أن يتم تأنيب الضمير حيال أية انحرافات تصدر عن الشخصية حتى لو كانت هذه الشخصية لا تتحسس بالمسؤولية الاجتماعية كالشخصية السيكوباثية حتى في هذا الميدان فإن الشخصية في الواقع بطبيعة تركيبها التي أشار الله سبحانه وتعالى تظل تستنكر في لا شعورها أية انحرافات كالسرقة وسواها..
على أية حال نكتفي بالحديث عن المقامرة بهذا القدر وإذا كان الطالب يستهدف المزيد من الحديث عن هذا الجانب عليه أن يتوفر على قراءة كتاب (دراسات في علم النفس الإسلامي) ليتابع تفصيلات هذا الموقف.
الغناء
نتجه الآن إلى الظاهرة الثانية وهي الظاهرة الانحرافية المتمثلة في الغناء؛ وفي هذا الصدد نقول: الغناء يظل بالنسبة إلى التصور الإسلامي واحداً من الممارسات المحرمة وإذا حاولنا التعرف الآن على الجذر النفسي للظاهرة المذكورة، أمكننا أن نذهب إلى أن الاستجابة العصبية الشاذة هي التي تسم كلاً من المغني والمستمع إلى المغني أيضاً، والاستجابة الشاذة نابعة من طبيعة التركيبة الصوتية لظاهرة الغناء، ولعلكم تتساءلون عن السبب الكامن لهذا التركيب الصوتي أو ذاك، وصلة هذا بالاستجابة المريضة عند الشخصية. وهذا يقتادنا إلى أن نذكركم أولاً بأن تنظيم الصوت وفق وحدات خاصة هو الذي يسم ظاهرة الغناء، ويميز الغناء عن سواه من الأصوات التي تألفها أسماعنا من هنا أو هناك، لذلك نجد مثلاً أن الشعر والغناء يقترنان عادة في هذه الممارسة المسماة بالغناء، فالشعر مثلاً هو تنظيم صوتي خاص يتألف من وحدات لا يخلو تنظيمها من أحد شكلين، قد يتمايز أحدهما عن الآخر إذا أخذنا بنظر الاعتبار بعض الفوارق بين الشعر العربي أو بين بعض أنماط الشعر الأوروبي، لكننا بعيداً عن الشعر الأوروبي ودراستنا لا تسمح بعملية المقارنة نجد أن شكلي التنظيم الصوت في الشعر عامة يتمثلان في ما يسمى بالتفعيلة وفي ما يسمى بالمقطع، فالمقطع هو عينة مفردة واحدة وأما التفعيلة فتتركب من عدة مقاطع.
ولكي نوضح لك الفارق بينهما نختار كلمة (مسترشد) مثلاً ونقابلها برمز عرضي (مستفعل)، فاذا اخذنا مركب مسترشد نجده يساوي إلى مستفعل، وقسمناه إلى مجموعات جزئية حينئذ تكون الجزئيات ثلاثة تكون (مس) زائداً (تر) زائداً (شد) أي يقابلها بالرمز العروضي (مس) زائداً (تف) زائداً (عل)، وأما إذا اتجهنا إلى العبارة النثرية حينئذ بمقدورنا أن نقسمها إلى عدة مقاطع دون أن نخضعها بالضرورة إلى نظام التفعيلة بل نخضعها إلى مجرد النبض، فعبارة (مستوح) مثلاً إذا خففناه إلى نظام النظر حينئذٍ تكون جزئياته ثلاث وهي (مس) زائداً (تو) زائداً (ح)، يهمنا من هذا إلى أن نشير إلى أن كلاً من نظام التفعيلة والنبض، إنما يأخذان بشكل شعري إذا أتيح لهما أن يتكررا بوحدات صوتية منتظمة تتوالى وفق نسق هندسي واحد، بيد أن ما ينبغي لفت النظر إليه هو أن مجرد انتظام الصوت في وحدات خاصة تأخذ شكلاً شعرياً سوف لن تشمل ظاهرة الغناء، بل لا يشملها حتى مصطلح الشعر اساسا. لأن القرآن الكريم نفسه مليء بعصر شعري نألفها جميعاً.
لذلك فإن مجرد قراءتك الشعر وفق التنظيم العرضي المعروف لن تشمله ظاهرة الغناء أيضاً ولكن الظاهرة تقترن بكون أنها حينما ؟؟؟ نظام النبض، وإخضاع الوحدات لجزء من الصوت إلى تنظيم خاص تلعب فيه كل من المد بالصوت وتفخيم الصوت وتقصير الصوت دوراً كبيراً في تشكيل مصطلح الغناء، المهم نحن لا نريد الآن أن نتحدث عن السمات المتنوعة لمسألة الغناء وما يرتبط بالغناء من صوت يتصل بالأعصاب الموردة من مثير صوتي و؟؟؟ استجابة خاصة، كل ذلك في الواقع يشكل دراسات نفسية عميقة لا نعتقد أن الطالب الآن بمقدوره أن يتوفر عليها بمقدار ما نريد أن نشير إلى أن الاستجابة الصادرة عن الغناء تمثل في الواقع استجابة عصبية شاذة تتوافق تماماً مع الانفعالات الحادة التي يحظرها المشرع الإسلامي على مستوى الكراهة حيناً وعلى مستوى الحرمة حيناً آخر. فمثلاً يمكننا أن نقارن الاستجابة الصادرة الانفعالية الصادرة عن الغناء بالاستجابات التي تصدر عن شتى المثيرات التي يشملها التحريم أو الكراهة مثل شق الثوب على الميت مثلاً حيث يحظر ذلك إسلامياً، وذلك لأن ؟؟؟ عصبية شاذة مصدرها انفعال حاد كل الحدة لا يتوافق مع التوازن الداخلي للشخصية.
على أية حال بما أن الحديث عن الغناء يتطلب تفصيلاً أكثر وبما أنه يشكل ظاهرة نجد أن بعض المعنيين بالشأن الإسلامي قد لا يرتبون أثراً كبيراً على هذا الجانب لذلك يتعين علينا أن نفصل الحديث عن ظاهرة الغناء وهذا ما يتطلب منا حديثاً نؤجله إلى محاضرة لاحقة إنشاء الله، وبهذا نكتفي الآن ونستودعكم الله سبحانه وتعالى..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..