محاضرات التربية الإسلامية - المحاضرة 22 - الدافع الى الحياة
الدافع الى الحياة
في محاضرة سابقة بدأنا الحديث عن حاجات نفسية بدأناها بالحديث عن الحاجات الأمنية، وقلنا إن الحاجات الأمنية تتجسد في ثلاث هي: الأمن إلى الحياة والأمن النفسي والأمن الحيوي أو البيولوجي أو الجسمي، وقلنا أن الحديث عن الأمن الحيوي يؤجل عندما نتحدث عن العمليات التربوية التي ترتبط بتنظيم الحاجات الحيوية، وقلنا أننا نكتفي بالحديث عن الحاجات الأمنية بدافعين هما: الدافع أو الأمن إلى الحياة والدافع أو الأمن النفسي، وقد حدثناكم في محاضرة سابقة عن الأمن النفسي بشكل مفصل، ونبدأ الآن فنحدثكم عن الأمن الحياتي، أو الحاجة إلى الحياة، ونحدثكم عن ذلك تحت عنوان (الحاجة أو الدافع إلى الحياة) وهذا ما نحدثكم عنه الآن بشيء من التفصيل.
من الحقائق التي لا يتناقش فيها اثنان أن الدافع إلى الحياة يظل أشد الدوافع إلحاحاً في تركيبة الشخصية، ومع أن بعض علماء الأقوام يحاول نفي فطرية هذا الدافع عن بعض الرهوط أو الأفراد، إلا أن نفيه في الواقع يعد تعبيراً عن إثباته عند أولئك الرهوط أو الأفراد،ولعل ظاهرة التضحية بالعمر أو الانتحار يعدان مظهراً يرتكن الباحثون إليه بعامة في التدليل على عدم فطرية الدافع المذكور، ولكنه من الواضح بالنسبة إلى الانتحار أن الإقدام عليه هو في الواقع مظهر آخر من الحرص على الحياة، فالمنتحر - وهذا ما تكشفه الوثائق وتجارب الحياة اليومية - إنما يقدم على العملية المذكورة نظراً لبلوغه مرحلة اليأس أو الإحباط التام بالنسبة إلى إشباع حاجاته، مما يفصح عن أن حرصه على الحياة وإلحاحية هذا الدافع لديه هو الذي يقتاده إلى الانتحار، وبكلمة أكثر وضوحاً أن الانتحار هو الوجه الآخر من الحاجة إلى الحياة. وأما بالنسبة إلى التضحية بالعمر من أجل القيم فيعد بدوره تعبيراً عن الدافع إلى الحياة، ولكن من خلال إشباع اللذة العقلية عند الشخصية وليس إشباع اللذة العامة عند شخصية المنتحر، حيث قلنا إن اللذة العقلية هي في الواقع أشد فاعلية من الدوافع الحيوية مع أن هذه الدوافع أشد إلحاحاً، إنما يعنينا من هذا كله أن نحدد حجم هذا الدافع إلى الحياة بعامة سواء أكان ذلك في نطاق ما هو مألوف من السلوك أو ما هو شاذ وسواء أكان الشذوذ مرضياً كما هي ظاهرة الانتحار، أم سوياً كما هو الإقدام على الموت من أجل القيم!. يعنينا من هذا أن نعالج الظاهرة في ضوء التصور الأرضي والإسلامي لها وملاحظة الفارق الكبير بين كل من التصورين في حقل التربية أو في حقل الصحة النفسية. ولنتقدم أولاً إلى التصور الأرضي فنقول:
إن الشخصية الأرضية أو العلمانية أو الشخصية التي تنعزل عن السماء ولا تفقه شيئاً عن الله سبحانه وتعالى وعن وظيفة الإنسان التي خلق الله تعالى الإنسان من أجلها، أمثلة هذه الشخصية في الواقع لا تملك إلا مساحة محددة هي هذه الأرض؛ ولا تملك إلا زماناً محدداً هو هذا العمر، وكلاهما - أي الزمان والمكان - يشكلان معنى الحياة في ذهن هذه الشخصية العلمانية، طبيعياً ما دام التركيب الآدمي قائم على مبدأ البحث عن اللذة فإن الحياة بنمطيها المشار إليهما، أي الحياة بما هي زمان وبما هي مكان نقول إن الحياة تظل هي المجال الوحيد الذي تتحرك فيه الشخصية العلمانية لتحقيق إشباعها، من هنا لا مناص لها من أن تتشبث بالحياة الدنيا لكي تحقق فرص الإشباع مهما أمكن بحسب الظروف التي تفرض عليها حجماً معيناً من الإشباع.
وفي حالة التصعيد، أي في حالة كون هذه الشخصية تبدأ فتضحي بالعمر مثلاً من أجل قيم خاصة فإن البديل الذي تملكه هذه الشخصية هو الإنسان الآخر، أي الآخرين الذين تعمل من أجلهم وتضحي بالحياة من أجل هؤلاء الآخرين، حيث تحقق بتأجيلها اللذة العاجلة في الحياة إشباعاً لتحقيق اللذة المتمثلة في إسعاد الشخص الآخر أو الإنسان الآخر. ولكن خارجاً عن هذا التصعيد أو الانتصار للقيم العقلية، فإن الشخصية الأرضية إما أن تختار مبدأ الخنوع كأن تستسلم لأي مصدر يحقق إشباعها كما هو حال الخنوع السياسي مثلاً، أو تتجه إلى العدوان متمثلاً في سيطرتها السياسية مثلاً.
إذن ثمة خيارات ثلاثة تواجه شخصية الأرض في تحقيق دلالة الحياة ومعناها عند هذه الشخصية، الاتجاه الخانع والاتجاه العدواني والاتجاه الإنساني، ومن البين أن الاتجاه الإنساني عندما يلغي دافع الحياة من ذهنه، فإنه يلغيه كما قلنا من أجل الإنسان الآخر، وهذا يعني أن الإنسان الآخر بدوره يظل سجيناً في نفس الدائرة أي دائرة الحياة في زمانها ومكانها المحددين وهي دائرة لا مناص من إشباعها بالضرورة، وإلا لانتفى معنى الحياة من ذهن الشخصية. وهذا ما يمكن أن يحدث في الاتجاهات العابثة والمتمردة التي تحياها الحياة المعاصرة في مختلف بقاع الأرض، حيث يجيء الانتحار تتويجاً بالإحساس بعبث الحياة ولا معقوليتها، أي يجيء التضحية بالعمر هنا ليس من أجل الإنسان الآخر بل تعبيراً عن الرفض للحياة ما دامت لم تحقق إشباعاً عقلياً لدى هذا الرهط أو الأفراد، وخارجاً عن هذه الدلالة الفلسفية أو العقلية فإن رفض الحياة يجيء عند البعض إما احتجاجاً لعدم الإشباع لحاجات المنتحر كأن تسوء صحته إلى درجة لا تطاق أو يفقد عزيزاً أثيراً لديه أو أو..الخ، ومن الواضح أن الخيارات الثلاثة الانتحار أو الخنوع أو العدوان تشكل خيارات مريضة لا تقرّها الاتجاهات العيادية في علم النفس والتربية ما دامت لا تتحمل الإحباط ونتائجه، وما دامت عاجزة عن التكيف السليم مع الحياة.
من هنا فإن الخيار الوحيد الذي تملكه شخصية الأرض في حالات الاستواء هو أنها تضحي بذاتها من أجل الآخرين، أي تقدم على الموت حيث يشكل هذا الخيار قمة التأجيل للذة بطبيعة الحال وهو الاتجاه الإنساني قبالة الاتجاهات المتمردة أو الخانعة أو العدوانية التي أشرنا إليها.
إلا أن الاتجاه الإنسان في الواقع يفقد دلالته ما دام دائراً في حلقة ترتد إلى الإنسان نفسه، أي الفرد الباحث عن الإشباع المحدود في الحياة الدنيا، وبكلمة أكثر تفصيلاً إن الشخصية الأرضية حينما تضحي بالعمر من أجل الآخرين فإنها لم تصنع شيئاً إلا من أجل تحقيق الإشباع للإنسان الآخر، إلا أن هذا الإنسان الآخر إما أن يدور في حلقة مفرغة كأن يضحي بنفسه من أجل الآخرين دون أن يحقق لهم إشباعاً وإما أن يحقق لهم إشباعاً فعلياً، ولكن السؤال يظل قائماً حينئذٍ هل إن الإشباع الفعلي من الممكن تحقيقه في ضوء إحباطات الحياة وضغوطها التي نشاهدها؟!!.
إن تجربة الأرضيين أنفسهم منذ ميلاد الأرض وحتى لحظاتنا المعاصرة التي نحياها تدلنا بوضوح أن تحقيق الإشباع وفق المبادئ التي تضحي الشخصية بعمرها من أجل الانتصار لها، أمر لم يتحقق بنحوه السليم طوال التاريخ كله، نعم قد يحدث شيء من التوازن الاجتماعي في هذا المجتمع أو ذاك ولكن يظل هذا التوازن نسبياً وعابراً وسرعان ما تعود الحياة إلى ما نشاهده في لحظاتنا المعاصرة من تمزق وتوتر وو.. الخ.
وهذا كله يعني أن الإنسان الآخر الذي يضحّى بالعمر من أجله إما أن يدور في حلقة مفرغة كل واحد يضحي بحياته من أجل الآخر، الآخر يضحي بحياته أيضاً دون أن يتحقق الإشباع، وإما أن يتجه الآخر إلى خيارات أخرى هي الخيارات الثلاثة: الخنوع أو العدوان أو التمرد.
إذن كل الاتجاهات الأرضية بما فيها الاتجاه الإنساني تظل عبر بحثها عن تحقيق الدافع إلى الحياة، إما أن تحقق إشباعاً قائماً على الخنوع والقنوع أو إشباعاً قائماً على العدوان والسيطرة أو إشباعاً قائماً على قيمة عقلية متمردة يائسة كالانتحار، أو إشباعاً قائماً على قيمة عقلية جيدة ولكن لا جدوى فيها ما دامت تدور في دائرة مفرغة ألا وهي التضحية بالعمر من أجل الآخر، وهذا كله ناجم بطبيعة الحال من طبيعة الحاجة أو الدافع إلى الحياة في مساحتها المحددة من المكان وسنواتها المحددة من الزمان، فيما لا تملك شخصية الأرض سواها مما يضطرها بطبيعة تركيبتها القائمة على البحث عن اللذة إلى إشباع مريض هو الخنوع أو العدوان أو فقدانها للحياة أساساً وهو الانتحار والتضحية دون أن تحقق إشباعاً للإنسان الآخر.
إذن يمكن الذهاب إلى أن عزلة الأرضيين عن السماء تقف وراء اختيارها للبدائل المريضة المشار إليها، فهي بحكم كونها - أي الشخصية الدنيوية - لا تفقه شيئاً سوى هذه الحياة العابرة تضطر إلى الوقوع في أحد البدائل أو الخيارات المشار إليها، لكننا الآن حينما نتجه إلى التصور الإسلامي لظاهرة الحاجة إلى الحياة فإن المشكلة تحسم أساساً حينما نجد التصور الإسلامي يضع المساحة الأخروية وليس الدنيوية في اعتباره قبل كل شيء، جاعلاً منها الهدف الرئيس في هذا الميدان، وأما المساحة الدنيوية، أي الحياة فلا تشكل عند التصور الإسلامي إلا مجرد وسيلة أو جسر تتوكأ الشخصية على ذلك لكي تعبر منها إلى حياة أخرى.
من هنا تفتقد هذه الوسيلة أي الحياة الدنيا قيمتها التي يتشبث بها الأرضيون، فالأرضيون يكرسون كل جهودهم من أجل الوصول إلى غاية هي إشباع حاجاتهم، أو ما تسميهم لغة الأرض بـ(السعادة)، إذا هدف الأرضيين هو إسعاد الإنسان في هذه الأرض. طبيعياً حينئذٍ أن تكون أعلى قيم الأرض وهو التضحية بالعمر من أجل سعادة الآخرين في هذه الحياة المحددة، وما يكون ما عداها إما خنوعاً من أجل إشباع أو عدواناً من أجله أو انتحاراً بسبب عدم تحقيق الإشباع، وكلها ممارسات مرضية بإقرار علم النفس العيادي ذاته، ما عدا التضحية بالعمر ولكن التضحية بالعمر كما قلنا ما دامت تقتاد بالضرورة الآخر إلى أحد الاتجاهات الثلاثة المشار إليها، أو الدائرة المفرغة فحينئذٍ تظل عملاً بلا دلالة وهو قمة انتكاسة العلمانيين كما هو واضح.
بينما نجد أن الشخصية الإسلامية ما دامت الحياة لديها مجرد وسيلة أو جسر إلى حياة أخرى فإنها غير مضطرة إلى الخيارات المشار إليها، فلا تضطر إلى الخنوع من أجل إشباع حاجاتها ما دامت تملك حياة أخرى سوى هذه الحياة وهي الآخرة، كما لا تضطر إلى العدوان لنفس السبب ولأنها محظور عليها أن تعلوا في الأرض وتفسد أي محروم عليها أي بحث عن السيطرة والاستعلاء والفوقية أي بما أنها لا تبغي علواً ولا فساداً في الأرض فحينئذٍ سوف لن تسلك السبيل إلى العدوان كما هو طابع الأرضيين، وللسبب ذاته أيضاً لا تقدم الشخصية الإسلامية على الانتحار ما دامت الحياة لا تشكل هدفاً لديها في غمرة بحثها عن الإشباع الأخروي، وأما التضحية بالعمر أو الموت فمحكومة بالطابع ذاته مادام الموت فراقاً مؤقتاً تتبعه حياة جديدة في الدار الآخرة، بل إن الشخصية الإسلامية تستبشر بالموت أو بالشهادة من أجل الله ليقينها تماماً بفوز الآخرة.
طبيعياً يثار السؤال الآتي: كيف يمكن حل التضارب القائم بين الدافع إلى الحياة مما يستتبعه من مختلف المتع التي توفرها السماء للآدميين بما فيها متعة الحياة ذاتها حيث نلحظ حرص المشرع الإسلامي على توفير هذه الحياة حرة كريمة آمنة وفيما نلحظ النصوص المطالبة على لسان الآدميين بتحقيق اليسر والرخاء والسرور بدلاً من العسر والشدة والمرض..؟!!.
مما لا شك فيه أن الرغبة إلى الحياة في نطاق عام تشكل دافعاً ملحاً كل الإلحاح فطر الآدميون على ذلك، لكن المشرع حينما حدد طرائق خاصة لإشباع هذا الدافع في ضوء المبادئ المرسومة للبشرية، حينئذٍ يظل هذا الأمر أمراً لا يضاد الرغبة المذكورة كما هو واضح، فالمشرع الإسلامي يطالب الشخصية بأن لا تلحق الأذى بنفسها مثلاً، ويطالبها بأن تصارع شدائد الحياة من مرض و.. الخ. بل حتى أدنى الأذى من نحو مطالبتها بعدم ممارسة الصلوات المندوبة في حالة إحساس الشخصية بالملل، بل نجد أنها تعفيها من كل ممارسة لا تطيقها حتى لو كانت فرضاً تجسيداً لمبدأ (لا حرج). لكن في الآن ذاته أي في الآن الذي تدلنا التوصيات الإسلامية على أن المشرع حريص كل الحرص على توفير المتع للإنسان نجد في الآن ذاته الإسلام يرسم لنا طرائق الإشباع وفق مبادئه الخاصة التي قد تحقق فعلاً أشد المتع إشباعاً في نطاق ظروف خاصة تتهيأ لهذه الشخصية أو تلك، وقد لا تتهيأ الإشباع في نطاق ظروف أخرى.
من هنا تجيء مبادئ تأجيل اللذة معياراً عاماً يرسمه المشرع لكل الآدميين حتى يطفئ في أعماقهم في حالات الإحباط أي إشباع عابر تنشده الشخصية، مثلما يرسم المشرع الدافع إلى الحياة محكوماً بالطابع ذاته، أي طابع تأجيل اللذة، حينما يرسمها متاعاً عابراً أو وسيلة لحياة أخرى.
إذن من الممكن أن تحقق الشخصية الإسلامية إشباعاً لدافع الحياة مثلما يمكن أن لا يتحقق هذا الإشباع، لكنها تظل في الحالة الأولى والثانية مشدودة إلى إشباع أخروي يعوضها عن الحياة في حالة زهدها بالحياة أو في حالة مواجهتها للشدائد، يترتب على ذلك أن أي إشباع تنشده الشخصية الإسلامية خارجاً عن نطاق المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى في هذا الميدان بمثابة بحث زائد عن الحاجة ولا يشكل دافعاً لا مناص من إشباعه كما هو شأن التصور الأرضي. من هنا ندرك أهمية المبدأ الذي رسمه أهل البيت (عليهم السلام) حينما أوضحوا أن (حب الدنيا رأس كل خطيئة) فالباحث عن متعة الحياة، أي الذي يحب الدنيا من أجل الدنيا كما هو شأن الأرضيين يضطر إلى ممارسة أي سلوك يحقق لديه الإشباع على نحو ما فصلنا الحديث عنه في الخيارات الثلاثة أو الأربعة التي أشرنا إليها، وأما الشخصية الإسلامية فإنها في حالة انعدامها للوعي الإسلامي ستقع بطبيعة الحال في نفس المفارقة أو نفس الممارسة المريضة أو نفس الخطيئة التي تتوعد السماء بها، أما في حالة تملكها للوعي الإسلامي بالحقيقة المذكورة فإن الحياة تنطفئ في أعماقها تماماً وعندها تنطفئ أيضاً الممارسات المريضة كالخطيئة بدورها.
والكلمة الأخيرة هي: إن الحياة في التصور الإسلامي ترتبط بحقيقة واحدة فحسب لعلها تشكل أقوى دوافع البشرية أو الحاجات حينما ترتبط بالمهمة الخلافية في الأرض، أي حينما تدرك الشخصية الإسلامية دلالة وجودها في الحياة، من هنا فإن الإمام علياً (عليه السلام) ألفت انتباهنا على أهمية الحاجة إلى الحياة حينما قال: (الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن اعانها ودار غنى لمن تزود منها ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله..) فالعافية والغنى والتجارة وسواها بالنحو الذي ورد في الحديث المذكور تظل حاجات ودوافع لا يمكن تحقيق إشباعها إلا في نطاق ممارسة هذه الحياة، ما دامت تقتاد ليس إلى الإشباع المؤقت في نطاق الوعي بحقيقة الحياة فحسب بل إلى الإشباع الدائم في نطاق الحياة الآخرة، وهو إشباع لا حدود له.
بهذا ينتهي حديثنا عن التنظيم لأحد الدوافع الملحة النفسية ألا وهو الدافع إلى الحياة حيث لاحظنا كيف أن التوجيهات التربوية الإسلامية قد تحدثت عن هذا الدافع وطرق تنظيمه وإشباعه بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
المسالمة والعدوان
أما الآن فنتقدم إلى الحديث عن عنوان جديد هو (المسالمة والعدوان). وهذا العنوان قد يرتبط بالدافع كمصطلح يقرره البحث الأرضي ويقول إن هذا المصطلح يعني أن الشخصية ترث دافعاً في هذا المجال أو قد لا يرتبط، وهو الصحيح بطبيعة الحال، بهذا الدافع بقدر ما يمكن أن نصطلح عليه بتسمية أخرى هي الميل أو الحاجة غير المشروعة بالنسبة إلى العدوان أو الميل أو الحاجة المشروعة إلى المسالمة، ونظراً لإحاطة هذا الموضوع بشيء من الغموض نحاول الآن أن نلقي الإنارة عليه بشيء من التوضيح فنقول:
لعلّ النشاط الذي يعنى به علم النفس الأرضي وعلم التربية فيما يتصل بالحاجة إلى المسالمة أو الحاجة المضادة لها العدوان، لعل هذا النشاط يستأثر بأهمية لا توازنها أهمية النشاط المتصل بالحاجات أو الدوافع الأخرى ما دامت غالبية أنماط السلوك تتصل من قريب أو بعيد بهذا الدافع أو الحاجة أو الميل. إن الحقد مثلاً والحسد والغيرة وو.. الخ، تعد مظاهر داخلية للميل أو الحاجة إلى العدوان، ونحن نقول الحاجة دون أن نعني بذلك كونها مشروعة بطبيعة الحال. كما أن الحرب والتنافس والكلام الجارح تعد مظاهر خارجية للحاجة أو الميل المذكور، يستوي في ذلك أن يكون المظهر حركياً أو لفظياً، حتى أنه ليمكننا أن نصنف كل أو غالبية أنماط السلوك بما فيه من أمزجة وسمات ومفردات كلّ من هاتين الظاهرتين - الأمزجة والسمات - مفردات ذلك من كذب وخيانة وخديعة وشتم وو.. الخ، يمكننا جميعاً أن نصنفها ضمن ما اصطلحنا عليه بالعدوان وما يقابلها ضمن ما اصطلح عليه بالمسالمة.
من هنا نجد أن كثيراً من الباحثين يسلكون هذا التصنيف الثنائي للدوافع أو الحاجات، أو على الأقل يدرجون سائر الدوافع والحاجات المختلفة ضمن هذا التصنيف الثنائي العام، والحق أن مثل هذا التصنيف الثنائي للحاجات يظل على صلة كبيرة بواقع التركيبة الآدمية وهو أمر يتوفر المشرع الإسلامي على فرز خطوطه لكن ضمن صياغة خاصة تتميز بطبيعة الحال عن التصور الإسلامي في التصنيف المذكور.
إن بحوث الأرض حينما تتوفر على دراسة هذا الجانب، أي المسالمة والعدوان، تنطلق من تصورات مختلفة فيما يتصل بفطرية هذا الدافع أو اكتسابيته وبإمكان تعديله مثلما تتفاوت في تحديد أسبابه وعلاجه.
فثمة اتجاه يرى أن الكائن الآدمي مسالم بطبيعة تركيبه كل ما في الأمر أن البيئة بما تكتنفها من ثقافة منحرفة هي التي تنمي نزعة العدوان لدى الكائن، وثمة اتجاه يرى أن الكائن الآدمي صفحة بيضاء من الممكن أن تحولها التنشئة إلى مسالم أو عدواني، وثمة اتجاه ثالث يرى أن الإحباط هو السر في إنماء النزعة العدوانية، فما دامت حاجات الإنسان لم تشبع بشكل يحقق توازنه الداخلي فإنه مضطر إلى أن يستجيب إلى الظواهر استجابة عدوانية ما دامت تقف حائلاً دون الإشباع. يواكب هذا الاتجاه اتجاه لا يجعل الأمر مقتصراً على الإحباط أو عدمه أو درجته وصلة ذلك بالعدوان بل يجد أساساً أن عجز الإنسان عن إشباع حاجاته ومفروضية الإحباط يضطره إلى العدوان بصفته استجابة حتمية للإحباط. على أن أشد الاتجاهات مفارقة هو الاتجاه الذاهب إلى أن العدوان يمثل حاجة أو دافعاً فطرياً يرثه الكائن الآدمي بالفعل.
وفي نطاق هذا الاتجاه هناك من يجعله واحدة من دوافع متنوعة تتصل بشتى أنماط السلوك ومن يجعله شطراً واحداً من دافعين رئيسين يطبعان سلوك الإنسان، الشرط الأول هو غريزة الموت فيما يظل العدوان مظهر هذه الغريزة وهذا كله فيما يتصل بالتصورات الأرضية لظاهرة العدوان.
أما التصور الإسلامي للظاهرة فإنه من الوضوح بمكان ما دمنا قد أوضحنا في محاضرة سابقة أن الكائن يرث بالقوة مبادئ الشهوة ومبادئ العقل، وأن عملية التأجيل التي يمارسها في بحثه عن اللذة هي التي تترجم القوة إلى فعل إيجابي هو المسالمة وعدم التأجيل يترجمها إلى فعل سلبي هو العدوان. وأوضحنا كذلك في حينه أن هذا المبدأ الثابت في تركيبة الإنسان من الممكن في ظل الظروف أو الشروط الخاصة أن يطرأ عليه التغيير بحيث تصبح النزعة العدوانية ذات طابع فطرية ترثها الشخصية بالفعل لأسباب سبق شرحها مفصلاً، ولعل النصوص التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) عن الأفراد أو الرهوط الذين يرثون أصولاً غادرة مثلاً حيث منع الإمام (عليه السلام) التزويج منهم لعل هذه النصوص التي سبق أن وقفتم عندها عند حديثنا عن الوراثة تلقي الإنارة كافية على الظاهرة المشار إليها، إلا أن ذلك كله يظل استثناءاً للقاعدة وليس مبدءاً عاماً يسم البشر بأجمعهم كما هو تصور بعض الاتجاهات الأرضية المخطئة، إنه يمثل وراثة طارئة وليس وراثة ثابتة، إنه يمارس أنفاراً أو رهوطاً بأعيانهم إضافة إلى جملة أسباب على ان يتطبّعوا بتلك السمة المشار إليها.
خارجاً عن ذلك فإن القاعدة تظل متسمة بوراثة نقية عن أي شائبة من عدوان، إلا ما نعتزم التشدد فيه في هذا الصدد هو أن العدوان يظل أشد مظاهر الشهوة بروزاً بالقياس إلى المظاهر الأخرى، ولعلّ هذا البروز هو الذي دفع أحد الباحثين الأرضيين بأن يجعل العدوان أحد شطري السلوك على نحو لا مناص من صدور البشرية عنه، متمثلاً في سلوك فردي هو مرض الشخصية وفي سلوك جمعي هو الحرب، كما دفعه إلى أن يصنفه إلى عدوان مباشر باليد أو اللسان أو بأية حركة وإلى عدوان غير مباشر كالدعابة وفلتات اللسان وو.. الخ. بل دفعه إلى أن يصور العدوان متجهاً حيناً نحو الخارج وهو العدوان المألوف وحيناً نحو داخل الشخصية ذاتها فيما يطلق على ذلك مصطلح (الماسوسية) وهي التلذذ بتعذيب الذات قبالة العدوان نحو الخارج فيما يطلق عليه مصطلح (السادية) وهي تلذذ الشخصية المريضة بتعذيب الآخرين، إن ما لا مناقشة فيه أن يظل العدوان أبرز مظاهر السلوك الشهوي إنه يقف وراء غالبية أنماط أو مفردات السلوك ولكنه لا يمثل إرثاً فطرياً من جانب كما لا يرتبط بالمفاهيم التي انطلق الباحث الأرضي المذكور منها في تفسيره للسلوك من جانب آخر، لكن خارجاً عن ذلك كله فإن العدوان يظل كما قلنا أشد الأنماط من السلوك الشهوي بروزاً من جانب، ويقف وراء غالبية أنماط أو مفردات السلوك الشهوي من جانب آخر، ويمكننا أن نتعرف على الحقيقتين المذكورتين إذا أدركنا أولاً أن إيذاء الآخرين هو المظهر الأشد بروزاً لكل سلوك شهوي، فالممارسات الشهوية الفردية الصرف كالشراهة في الطعام أو المال أو الجنس أو اللهو.. الخ، إنما تعكس آثارها على ذات الشخصية الفردية دون أن تمتد إلى إيذاء الآخرين، ولكن الممارسات الفردية الشهوية المرتبطة بالآخرين فإن انعكاسها عليهم يظل من الوضوح بمكان كبير، كالقتل والتجريح والسب والإهانة بل الحقد على الآخرين بعامة والحسد من الآخرين بعامة تظل كما تلاحظون أشد بروزاً من الأنماط الأخرى المتصلة بالبحث عن التفوق أو حب الاستطلاع أو أو.. الخ، ثانياً إن غالبية مفردات السلوك تظل وراء النزعة العدوانية بنحو واضح فالاعتداء باليد أو السلاح أو الاعتداء باللفظ كالغيبة والاستماع إليها والافتراء والشتم والإهانة والمزاح وبالحركة كالسخرية باليد والشفاه والعيون والمحاكاة بعامة، وبالممارسات الخارجية كالغش والخديعة والإجرام والسرقة وو. الخ، كل أولئك تظل مشكلة غالبية السلوك اليومي الذي تمارسه الشخصية الأرضية غير الملتزمة حيث تتضائل أمامها من حيث الكم الممارسات الأخرى غير المتسمة بالعدوان.
من هنا يمكننا أن ندرك سر التوصيات الإسلامية الحائمة على هذا المظهر من السلوك بصفته أشد أشكال الذات بروزاً وأضخم مفردات السلوك رقماً، بل يمكننا أن ندرك صلة الشخصية بالآخرين فيما يشدد المشرع الإسلامي عليها من خلال ما أسميناه بمبدأ الحب وقضاء الحوائج، حيث يمثلان الدلالة الوحيدة المشروع في التصور الإسلامي لصلة الشخصية بالآخرين، وإلا فإن الآخرين كما لاحظنا ملغون من حساب الشخصية التي تتعامل مع السماء.
إن مبدأ حب الآخرين وقضاء حوائجهم يمثلان الطرف المضاد تماماً لطرف العدوان، فيما يعني أن غالبية مفردات السلوك الاجتماعي الذي يرسمه المشرع الإسلامي للشخصية في تعاملها مع الآخرين، يعني أن غالبية هذه المفردات قائمة على التدريب على نبذ العدوان، أي أن العملية التربوية تقوم في هذا المجال على تدريب الشخصية على نبذ العدوان لأن الحب يعني بوضوح المسالمة بدلاً من العدوان، كما أن الشخصية حينما تعنى بقضاء حوائج الآخرين فهذا يعني بوضوح أن الشخصية تحب الآخرين فتقضي حاجاتهم، أي أن الشخصية هنا مسالمة حيال الآخرين وليست معادية لهم.
إذن كل أنماط السلوك الاجتماعي أو غالبية السلوك يقوم على طرفي المسالمة أو العدوان فيما ننتهي من ذلك إلى أهمية العمليات التربوية التي تضطلع بتنظيم هذا الدافع، أي الدافع إلى المسالمة بدلاً من الدافع إلى العدوان.
من هنا فإن المشرع الإسلامي يظل في توصياته ملحاً على مستويات شتى من التنظيم لهذا الدافع متمثلاً في معالجته لكل مفردة من مفردات السلوك بغية إزاحة النزعة العدوانية من الأعماق وإبدال ذلك بالنزعة المسالمة، أي إشباع الحب في الآخرين وإشباع أو قضاء حاجاتهم، إن الفارق بين التصورين الإسلامي لنزعتي المسالمة والعدوان وبين بعض تصورات العلمانيين، أن العلمانيين في بعض رهوطها حينما تجعل العدوان وكأنها فطري إنما تقلل إن لم تسمح فرص التوازن الداخلي والخارجي للإنسان وللمجتمعات، والغريب أن هذه الاتجاهات تطالب بالحب وتجعله معياراً للشخصية السوية قبالة الشخصية العصابية من نحو مقولة أحدهم في تحديد الشخصية السوية أنها هي التي تُحب وتحَب، لكن هذا البحث في الآن ذاته يقرر مفروضية العصاب الفردي والجمعي أي الأمراض والحروب ما دام العدوان يشكل نزعة فطرية لا مناص من صدود الإنسان عنها.
والغريب أيضاً أن نجد من يطالب مثلاً بالرد على العدوان لأنه يساهم في خفض التوتر من الأعماق بينما نجد أن المشرع الإسلامي يطالب بالعفو والتسامح لإزالة البقايا من الأعماق، وكم هو الفارق بين اتجاه أرضي يوحي بأن الإزاحة العدوانية غير ممكنة أو على الأقل يمكن تخفيفها فحسب، أو تحويل ذلك من خلال ما يسمى بعمليات التسامي أو الإعلاء إلى نشاطات مقبولة اجتماعياً أو أن ممارستها أحياناً يخفض من توترات الفرد، نقول كم هو الفارق بين هذا الاتجاه الذي يساهم في تدمير الإنسان وتوتيره وبين الاتجاه الإسلامي الذي يطالب بالحب ويجعله أساساً ثابتاً في علاقة الإنسان مع الآخرين، كإشاعته مثلاً لمبادئ عامة في الحب كقوله: (المؤمنون أخوة) أو (إنهم كأعضاء الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضاءه) ومثل مطالبته بقضاء حوائج البعض البعض الآخر، ومثل مطالبته بالتزاور بينهم والتودد إلى الآخرين ومداراتهم والإصلاح بين المتنازعين فيما بينهم والصفح عن المسيء منهم وو.. الخ.
خلاصة القول التصور الإسلامي بدافعية العدوان والمسالمة يحسم الموقف حينما يخضعهما - العدوان والمسالمة - لمجرد ميراث بالقوة بحيث أن التدريب على المسالمة كفيل بمسح أية شائبة عدوانية تفرضها التنشئة المنحرفة بل ليتحول الأمر في نهاية المطاف كما أشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن المداومة على فعل الخير ومنه تدريب الشخصية على الحب يستتبع كراهية الشر ومنه كذلك النزعة العدوانية بحيث تصير الشخصية مسالمة محبة تنفر من العدوان لا أنه تصدر عن العدوان كما تصور بعض الاتجاهات الأرضية ذلك.
وفي هذا الميدان سوف نتقدم إلى المشرع الإسلامي لنرى جملة من مبادئ التعلّم للحب وتمرين ذلك وفق طرائق خاصة تساهم في إنماء النزعة المسالمة وإشاعتها على الصعيدين الخاص والعام كالإعلام اللفظي مثلاً أو ما يسميه بعض المعنيين بالعلاج السلوكي الحديث بحرية التعبير عن الذات حيث جاء في أحد النصوص أن رجلاً قال للإمام الباقر (عليه السلام) إني لأحب هذا الرجل، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): (فأعلمه فإنه أبقى للمودة وخير في الألفة).
كذلك نجد مثلاً في توصية للإمام علي (عليه السلام) تقول: (قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه) فهذه الملاحظة العيادية تعد وثيقة في غاية الأهمية بالنسبة إلى تعلم الحب وتحقيق التوافق أو التكيف الاجتماعي الذي يعد من أبرز سمات الشخصية السوية.
أما طرائق الإقبال على الآخرين فإن التوصيات الإسلامية ترسم أشكالا متنوعة إلى درجات ملحوظة حتى تتناول أبسط الحركات التي يفرضها اللقاء اليومي كالمطالبة بإشاعة السلام ورده والمصافحة والمعانقة والمكاتبة والزيارة وعيادة المريض وتشييع الجنازة والتزاور والإجابة إلى الطعام والدعوة إليه وحسن البشر وقضاء الحاجة وتكريم الزائر وتوديعه وعدم مقاطعة حديثه وعدم معاتبته وو.. الخ.
إن أمثلة هذه التوصيات لها أهميتها المدهشة في التدريب الجاد على اكتساب الحب وإنمائه وإشاعته فالمطالبة مثلاً على إشاعة السلام تدريب على تصدير الحب والدعوة إلى تقبله من الطرف الآخر وتذويب لأية حساسية محتملة بين الطرفين والرد عليه إلزاماً هو تدريب على تقبله والرد بالأحسن تدريب على تعلم المكافأة والمطالبة بتساوي صيغ السلام مثلاً عن الفقير والغني تدريب على إذابة الفروق بين الأطراف الاجتماعية، وهكذا بالنسبة إلى سائر أنماط العلاقات الاجتماعية فيما نتحدث عن ذلك في محاضرات لاحقة عندما نحدثكم عن سمات الشخصية الإسلامية.
أما الآن فنكتفي بالحديث فيما تقدم ونؤجل الحديث عن تنظيم الدوافع الحيوية إلى محاضرة لاحقة إنشاء الله..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..