محاضرات التربية الإسلامية - المحاضرة 17 - الانتماء الاجتماعي
الانتماء الاجتماعي
انتهينا في المحاضرة السابقة من الحديث عن التصور الإسلامي والأرضي للسلوك وتصنيفه، أما الآن فنتقدم إلى صلب الموضوعات التربوية التي ينبغي أن نعنى بها عناية كبيرة، ألا وهي العمليات التربوية التي تضطلع بتنظيم سلوك الفرد؛ وقد قلنا أن الطبيعة البشرية تقوم على تركيبة خاصة من السلوك كما أن تركيبتها العامة الباحثة عن اللذة والممتنعة عن الألم، هذه التركيبة في الواقع تقوم على مجموعة من دوافع نفسية وحيوية وعقلية حدثناكم عنها في لقاءات متقدمة.
أما الآن فالحديث هو عن تنظيم هذه الدوافع والطريقة التي ينبغي أن تسلكها الشخصية الإسلامية لتمرين دوافعها المتنوعة، وقد قلنا أن هذه الدوافع ثلاثة أنماط: الدافع الحيوي والدافع النفسي والدافع العقلي.
وفي حينه ضربنا جملة من الأمثلة لكل من هذه الدوافع، فمن الدوافع الحيوية مثلاً الدافع أو الحاجة إلى الطعام الدافع أو الحاجة إلى الشراب الدافع أو الحاجة إلى النوم الدافع أو الحاجة إلى الجنس وهكذا كل ما يرتبط بالجوانب الحيوية من الشخصية، وأما الحاجات النفسية فقد ضربنا بعض الأمثلة ولعل الحاجة إلى التملك والحاجة إلى التقدير تمثل نموذجاً من هذه الحاجات البشرية، وأخيراً الحاجات العقلية ضربنا لكم مثلاً منها بالحاجة إلى استكشاف الحقائق وهكذا..
المهم أن هذه الأنماط الثلاث من الحاجات تظل خاضعة في التصورين الإسلامي والأرضي لتنظيم خاص حتى تستطيع الشخصية أن تستثمر هذه الحاجات وتنظمها بالشكل الذي يحقق الهدف أساساً من العملية التربوية ألا وهي إنماء القوى المودعة في الإنسان، بالنسبة إلى الإسلام تتمثل القوى التي تجسد إنماءً لما هو عبادي من السلوك، أي وفقاً لمبادئ السماء التي رسمتها لنا، وأما الإنماء بالنسبة إلى القوى الأرضية فتتمثل في ثقافات متنوعة نسبية بالشكل الذي عرضنا له في لقاءات سابقة.
المهم أن نحدثكم أولاً عن التصور الإسلامي لعملية التنظيم لهذه الدوافع وخلال ذلك نقوم بمقارنة بين هذا التصور وبين التصور الأرضي حتى نستطيع من خلال ذلك أن نقف على مفارقات البحث الأرضي أو على نقاط التلاقي.
على أية حال نبدأ الآن فنتحدث عن الدوافع وطرائق تنظيمها وفق التصور الإسلامي وهذا ما يحتاج أولاً إلى شيء من التمهيد.
أولاً كما سبقت الإشارة إن معنى الدافع هو أن الشخصية تتحسس فطرياً بالحاجة إلى أن تشبع جانباً متوتراً من شخصيتها القائمة على تركيبة عامة هي البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم، وقلنا في حينه أن البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم يشكل مبدءاً إنسانياً عاماً يفسر لنا سلوك الإنسان أساساً، فلو لم تكن ثمة دوافع مرتبطة بالبحث عن اللذة والبحث عن الألم لما أتيح للإنسان أن يتحرك البتة، لأن حركته أساساً تقوم على الحاجة إلى إشباع حاجة ما في تركيبتها فطرية، ومثال الطعام يظل من أوضح هذه الأمثلة بالنسبة إلى تحقيق مبدأ الإشباع والبحث عن اللذة، فنحن فطرياً نتحسس الحاجة إلى أن نأكل شيئاً ومن ثمة فإن هذه الحاجة إلى الأكل ترتبط بالمبدأ العام الذي يسم الكائنات جميعاً كما قلنا، وهو البحث عن اللذة واجتناب الألم، فعندما نحس بالحاجة إلى الطعام معناه نحس بحالة توتر عضلي للمعدة، وهذا يسبب ألماً بطبيعة الحال، فلكي نجتنب هذا الألم ونحقق المتعة أو اللذة حينئذ نتناول وجبة من الطعام نزيح من خلالها الألم المشار إليه. وهكذا بالنسبة إلى الدوافع النفسية والدوافع العقلية.
بيد أن الموضوع الذي ينبغي لفت الانتباه إليه ليس هو مجرد إدراكنا بأن للإنسان حاجاته الفطرية وأن للإنسان مبدءاً عاماً وهو البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم بقدر ما نريد أن نوضح كيفية تحقيق الإشباع لهذه الحاجات الفطرية عند الإنسان، أي الطرائق التي نسلكها في سبيل تحقيق الإشباع المنشود، أي تحقيق اللذة وتحقيق الاجتناب عن الألم، وبطبيعة الحال فإن الثقافات الأرضية المتفاوتة تنظر كل ثقافة إلى طريقة إشباع هذه الحاجات بشكلٍ يختلف عن الآخر، بيد أن التصور الإسلامي يمتلك بدوره تصوراً خاصاً هو ما ينبغي أن نعنى به الآن، ونبدأ ذلك بالحديث على النحو الآتي فنقول:
حينما نتحدث عن الأصول أو الدوافع أو الحاجات وطرائق تنظيمها من خلال التصور الإسلامي فإننا سنواجه بالضرورة منهجاً متميزاً عن المناهج العلمانية في طبيعة تصورها لطرائق التنظيم، فالتصور الإسلامي للدوافع قائم على إلغاء بعض الدوافع التي اعتاد علم النفس الأرضي تسميتها (دوافع) وإقرار البعض الآخر والتحفظ حيال البعض الثالث من هذه الدوافع.
وهذا يعني أن منهج التناول التربوي في تنظيم الدوافع سيقتصر على ما هو مشروع منها حسب التصور الإسلامي، مع ملاحظة أننا سنحدد أيضاً موقف المشرع الإسلامي من الدوافع الملغاة من حسابه، فمثلاً من اعتيد على تسميته دافعاً عند علماء النفس والتربية الأرضيين نزعات من نحو العدوان، السيطرة، التفوق، التقدير الاجتماعي، الانتماء الاجتماعي.. الخ.
هذه النزعات يتجه البحث الأرضي إلى تسميتها بدوافع أو حاجات، وينظر إلى هذه الدوافع وكأنها حاجات بشرية لا مناص من إشباعها بنحو أو بآخر وفقاً لطبيعة المناخ الثقافي الذي يغلف الباحث الأرضي ومجتمعه، طبيعياً هذا لا يعني أن كل الثقافات الأرضية تجعل من الدوافع المشار إليها دوافع مشروعة ولكن البعض منها يؤكد على دافع كالسيطرة مثلاً، والبعض الآخر على العدوان، والبعض الثالث يلغي هذين الدافعين ليتحدث عن التقدير والانتماء الاجتماعي.. الخ.
المهم تبعاً لما تقدم نجد أن البحث الأرضي يضطلع لمعالجة هذه الدوافع ويخضعها لتنظيم خاص بغية تحقيق التوازن للكائن الآدمي، أو بغية تحقيق العملية التربوية التي تهدف إلى إنماء قوى الإنسان وتنظيم هذه القوى للوصول بها إلى الكمال المطلوب، وهذا فيما يتصل بالحديث عن البحث الأرضي من حيث تصوره العام للدوافع البشرية.
أما الباحث الإسلامي فإن وجهة نظره عن الدوافع المذكورة تظل مختلفة أساساً عن وجهة النظر الأرضية، إنه لا يراها وكأنها حاجات لا مناص من إشباعها بل يراها مجرد ميول أو رغبات شاذة لا تعبر عن أصل وراثي أو أصل اكتسابي سليم، بقدر ما تعبر عن إشباع زائد عن الحاجة، وطبيعي فإن الفارق لكبير بين أن نقول أن هذه دوافع مركبة فطرية فينا وبين أن نقول أنها دوافع فرضتها البيئة، وحتى في ذهابنا إلى أنها دوافع فرضتها البيئة ينبغي أن نقرر أو نفرز بين دوافع تقررها البيئة وهي دوافع غير مشروعة وبين دوافع تقررها البيئة وهي الدوافع المشروعة.
ولعل أهم الدوافع التي يلتقي البحث الأرضي عندها ولا يكاد يختلف فيها اتجاه عن آخر والإسلام أيضاً يقر ذلك ولكن في نطاق محدود يفصل بين التصورين؛ أقول إذا ضربنا لحاجتين من هذه الحاجات أو دافعين من الدوافع المشار إليها، لنضرب مثلاً معبراً عن حاجتين مهمتين هما التقدير الاجتماعي والانتماء الاجتماعي، فعلماء النفس الأرضيين يجمعون على أن هاتين الحاجتين لابد من إشباعهما لأنهما في الصميم من تركيبة الإنسان وحاجاته الأساسية، فالإنسان كائن اجتماعي بالضرورة، إنه لم يستطع أن يتحرك إلا من خلال وسط اجتماعي يتفاعل أفراد وجماعات بعضها مع الآخر، وهذا التفاعل يفرض على الكائن الآدمي أن ينتمي إلى الآخرين، وأن يشبع حاجته من الانتماء المذكور، كأن ينشأ علاقات صداقة أو جوار أو حرفة أو فكر أو سياسة.. الخ، وهذا هو الدافع إلى الانتماء الاجتماعي. وأما الدافع للتقدير الاجتماعي فأمر تفرضه طبيعة الكائن الآدمي ذاته، من حيث كونه بحاجة إلى من يحسسه بآدميته وبكيانه وبشخصيته فإذا لم يظفر بتقدير الآخرين حينئذ لا يمكنه أن يمارس نشاطه الاعتيادي في الحياة، إنه يحتاج إلى الحب وإلى التشجيع وإلى تثمين إنجازاته التي يقدمها إلى مجتمعه.
هذا هو التصور الأرضي لكل من الانتماء والتقدير الاجتماعي، والحق أن المشرع الإسلامي ينظر أيضاً إلى مسوغات مثل هذين الدافعين، أي الانتماء والتقدير، ولكن هناك فارق بين التصورين الأرضي والإسلامي حيث أن التصور الأرضي ينطلق إلى مساحة واسعة بحيث لا يحدها حد بينما نجد أن المشرع الإسلامي يحدد ذلك في نطاق خاص يرتبط بالوظيفة العبادية للإنسان فحسب، فالمشرع الإسلامي كما سنرى لاحقاً يلغي من جانب الانتماء والتقدير الاجتماعي من الأساس ويطالب الشخصية بأن تنتمي إلى السماء فحسب وأن تظفر بتقدير من السماء فحسب لا من الآخرين، أما الآخرين يلغون من حساب الفرد تماماً إلا من حيث كون الفرد هو يحب الآخرين ويخلع تقديره عليهم، لا أنه يبحث عن رضى الآخرين له وتقديرهم له، والفارق كبير بين التصورين، من هنا فالباحث الإسلامي لا يفترض وجود حاجة اسمها الانتماء أو التقدير الاجتماعيين حتى يسوغها عنواناً يبحث من خلاله طرائق تنظيمه لهذه الدوافع، بل يقرر وجود حاجة اسمها الانتماء الإلهي والتقدير الإلهي، بدلاً من الانتماء الاجتماعي والتقدير الاجتماعي، وهكذا بالنسبة إلى سائر الحاجات والدوافع التي اعتاد عالم النفس الأرضي أن يعالجها في أبحاثه كدافع السيطرة والمقاتلة والتملك والاستطلاع وو.. الخ.
من هنا أيضاً يجد الباحث الإسلامي نفسه بحاجة إلى صياغة مفهومات جديدة عن الدوافع وتنظيمها بحيث يدرجها في عناوين تتسق مع طبيعة التصور الإسلامي للدوافع، وذلك بأن يكون الدافع مشروعاً أولاً حتى يعالج طريقة تنظيمه ثانياً، فالدوافع الحيوية على سبيل المثال تعد حاجات مشروعة كالحاجة إلى الطعام والنوم والجنس.. الخ. أما الحاجات النفسية التي اعتاد البحث الأرضي على عدها دوافع مشروعة كالدوافع التي أشرنا إليها لا يراها المشرع الإسلامي حاجات مشروعة على المستويات جميعاً، بل سيبحث عن الحاجات المشروعة وهي حاجات تكون مضادة تماماً كما قلنا للتصور الأرضي من نحو الحاجة إلى وأد الذات بدلاً من الحاجة إلى السيطرة، والحاجة إلى المسالمة بدلاً من الحاجة إلى العدوان والحاجة إلى التقدير الإلهي بدلاً من التقدير البشري وهكذا..
إذن الباحث الإسلامي سيختار منهجاً آخر في معالجته لقضية الدوافع وتنظيمها، وهذا المنهج يقرر أولاً وجود دوافع حيوية لا مناص لنا من إشباعها بالنحو الذي ترسمه لنا مبادئ التشريع الإسلامي وهو ما يأتلف بطبيعة الحال مع ابحاث الأرضيين، ولكن في طريقة التنظيم سنجد ثمة تفاوتاً دون أدنى شك، ويقرر التصور الإسلامي ثانياً وجود دوافع نفسية ولكنها متميزة تماماً عن أبحاث الأرض بحيث لا تلتقي بها إلا في نطاق محدد، وتبعاً لذلك سنبدأ بالحديث عن تناول الدوافع الثلاث أي الدوافع الحيوية والنفسية والعقلية ونبدأ ذلك بالحديث عن الدوافع النفسية ونقف في البداية عند أهم دافع اجتماعي، ألا وهو الدافع المسمى بـ(دافع الانتماء الاجتماعي) وهذا ما ندرجه ضمن عنوان هو (الانتماء الاجتماعي والانتماء الإلهي). وفي هذا الميدان نقرر ما يلي:
نطلق مصطلح الانتماء لله سبحانه وتعالى إسلامياً مقابلاً للانتماء الاجتماعي الذي يشكل لدى الباحثين التربويين الأرضيين أحد الدوافع الملحة لدى الكائن الآدمي، ومع أن المشرع الإسلامي لا يضاد عملية الانتماء الاجتماعي كما سنوضح ذلك، بل يطالب بتحقيق هذا في مجالات شتى، ولكنه لا يصوغ منها قضية أساسية من حيث كونها تشكل عنصر حماية للكائن الآدمي، فالبحث الأرضي في أفضل حالاته يرى أن الانتماء الاجتماعي وسيلة إلى غاية محددة هي إشباع الحاجات الحيوية والنفسية من نحو ما يحققه الانتساب مثلاً إلى الأندية والمجامع والنقابات وسواها من حل لمشكلات الفرد أو تصريف لطاقاته الخبيئة ومن نحو ما يحققه الانتماء إلى الآخرين مطلقاً من توازن للشخصية تفتقده تماماً عندما تعيش منعزلة عن البشر تلفها الوحشة ويلفها الفراغ والضجر وما إليها..
ومع أن بعض الأبحاث الأرضية أثبتت ضآلة مثل هذه الحاجة لدى أقوام متخلفين إلا أن الحق يذهب مع الاتجاه الذاهب إلى إلحاحية هذه الحاجة ما دام الكائن الأرضي يفتقد الحماية وهو منعزل عن السماء، وهذا على العكس من الاتجاه الإسلامي الذي يوفر قدراً من الحماية للآدميين بقدر وعيهم بحقيقة السماء ومعطياتها.
إن السماء تطالبنا أولاً بأن نمحص الأعمال العبادية أو الشعائرية الخاصة لله سبحانه وتعالى، كالصلاة والصوم والحج وما إلى ذلك، وتطالبنا ثانياً بأن لا نشرك الآخرين بعملنا، أي تطالبنا السماء بعدم الرياء في أعمالنا العبادية المذكورة، وتطالبنا ثالثاً بأن نمحض كل نشاطنا وليس نشاط الشعائر فحسب لله، بأن نحب في الله وننشأ علاقاتنا مع الآخرين من أجل الله، وليس من أجل توفر الحماية فحسب.
من هنا ندرك قيمة المقولة المأثورة عن علي (عليه السلام) من أن تجمع الآخرين حوله لا يزيده ألفة وتفرقهم عنه لا يزيده وحشة، إنه لا يبحث عن انتماء اجتماعي يوفر الحماية له، بل يبحث عن انتماء للسماء بنحو يلغي الآخرين من حسابه، إنهم لا يزيدونه ألفة من خلال انتمائه لهم ولا يسببون له وحشة من خلال الانسلاخ عنه، هذه المقولة تحسم الموقف الإسلامي بوضوح حيال ظاهرة الانتماء الاجتماعي إذ تلغيها أساساً وتبدل ذلك بانتماء آخر هو الانتماء إلى الله بحيث يتمحض السلوك بأكمله لله تعالى، سواء أكان السلوك عملاً عبادياً شعائرياً كالصلاة أو عاماً متصلاً بأوجه النشاط المعروفة من غذاء ونوم وتأمل وصداقة وتجارة ومساعدة وعمل ثقافي وأسفار وو.. الخ.
لكن ينبغي أن نؤشر إلى أن هذا المستوى من التفكير بالنسبة إلى الانتماء الاجتماعي يظل في الواقع متفاوتاً من شخصية إلى أخرى، أو بالأحرى أن طبيعة الوعي العبادي الذي تمتلكه الشخصية يفرض عليها أنماطاً متفاوتتة من الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي أو الانسلاخ عن الانتماء الاجتماعي والاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك نقول أن الانتماء إلى الله سبحانه وتعالى لا يشكل درجة واحدة عند البشر جميعاً بل يظل نسبياً، هذا من جانب ومن جانب آخر أيضاً نقرر بأن الانتماء إلى الله سبحانه وتعالى لا يعني الانسلاخ من الدائرة الاجتماعية، بل يعني الانسلاخ من الحماية التي يوفرها الانتماء إلى المجتمع بشكلٍ يجعل الشخصية تستند إلى ما هو بشري من الحماية وتغفل عن الحماية الأصيلة التي تأتي من الله سبحانه وتعالى.
وانطلاقاً من هذه الفوارق بين الانتمائين نجد المشرع الإسلامي يشدد الأهمية على ما يسميه البحث الأرضي بعملية التوافق الاجتماعي، فالتوافق الاجتماعي يعني أن التكيف مع البيئة التي نحياها من خلال الأطراف الاجتماعية التي تنتظم علاقاتنا بالبيئة، وهي عادة علاقات عامة وعلاقات خاصة، أما العلاقات العامة فيكفي أن نشير إلى إلحاح التشريع عليها من خلال مبدأ المؤمنون أخوة، وهذا المبدأ في الواقع من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى التحقيق، وأما العلاقات الخاصة فتتمثل فيما يسميه علماء الاجتماع بالجماعات الأولية، حيث تنتظمها علاقات مباشرة كالأسرة والصداقة وو.. الخ. وسنتحدث عن أمثلة هذه العلاقات العامة والخاصة بعد قليل إنشاء الله، إلا أننا قبل ذلك نود أن نشير إلى أن ثمة تصوراً مهماً جداً بالنسبة إلى التصور الإسلامي حيال الانتماء ألا وهو أن البشر أساساً لا يمكن أن يستغني أحدهم عن الآخر، فمنذ أن يولد الطفل يحتاج إلى رعاية أبويه مثلاً، وهكذا عندما يدخل مرحلة الدراسة الابتدائية يحتاج إلى من يثقفه ويعلمه ويؤدبه وهكذا بالنسبة إلى حاجاته الاقتصادية والاجتماعية ونحو ذلك، بحيث لا يمكننا أن نتصور وجود بشر لا يحتاج البشر الآخر وهو أمر أشارت النصوص القرآنية الكريمة إليه كما أشارت عشرات النصوص الحديثية إلى ذلك، وكل هذا يعني أن الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي تظل أمراً مشروعاً في التصور الإسلامي ولا يمكن إلغاء ذلك، بيد أن ما نود أن نشير إليه هو الفارقية في درجة الإحساس أو في درجة التفسير لمثل هذا الانتماء، فثمة فارق كبير بين أن نقول أن طبيعة الحياة تتطلب مساعدة كل إنسان للآخر وتوفير الحماية له لكي يشبع حاجاته سواء أكان في مستوى الطفولة أو في مستوى الرشد، لأن طبيعة الحياة تفرض التعاون فيما بين الأطراف بما يعني أن كل واحد هو بحاجة إلى الآخر، إلا أن تفسيرنا لهذه الحاجة ونمط هذا التفسير هو الذي سيضع فارقاً بين التصور الإسلامي للحاجة المشار إليها وبين التصور الأرضي لها.
والآن إذا عدنا على سبيل المثال إلى ظاهرة الصداقة مثلاً واستشهدنا بها - والصداقة تمثل واحدة من مفردات الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي - نجد أن الصداقة تمثل أحد أشكال الانتماء الاجتماعي ولكن المشرع الإسلامي وهو يشدد عليها بإلحاح يحددها في خطوط لا يجعل منها مجرد انتماء أرضي فحسب بل يفاعل بينها وبين الانتماء إلى الله، لاحظوا جيداً هناك فارق بين أن نقول أن الإنسان بحاجة إلى انتماء أرضي فحسب، وبين أن نقول أنه بحاجة إلى انتماء أرضي ولكنه يفاعل بين هذا الانتماء الأرضي وبين الانتماء إلى الله تعالى.
طبيعياً من الممكن أن يظل الإنسان متحسساً بحاجته إلى الآخرين، فالطفل مثلاً في كل حالاته هو بحاجة إلى مربيته، وكذلك الراشد في كل الحالات هو محتاج من يثقفه، إلى من يبيعه، إلى من يشتري منه، إلى من يتحدث معه.. الخ. كل هذا يشكل حاجة طبيعية جداً، ولكن ما نريد أن نؤكد عليه هو أن هذه الحاجة البشرية ينبغي أن لا نفصلها عن حاجة إلهية ينبغي أن يفعل الشخص بينها وبين الانتماء الاجتماعي حتى يكسبها معنىً خاصاً يختلف عن المعنى الذي يصوره الأرضيون لنا، ولنقرأ النص الآتي عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول:
(أكثروا من الأصدقاء في الدنيا فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فحوائج يقومون بها وأما في الآخرة فإن أهل جهنم قالوا فما لنا من شافعين ولا صديق حميم).
إن إشارة النص إلى أن الصداقة مرتبطة بحوائج الدنيا تعني نفس الدلالة الأرضية الذاهبة إلى أن الصداقة مظهر من مظاهر الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي، وأما الإمام علي (عليه السلام) فإنه يصنف الأصدقاء إلى نمطين يحدثنا عنهما على النحو الآتي:
(الأخوان صنفان: أخوان الثقة وأخوان المكاشفة، فأما إخوان الثقة فإنهم كالكف والجناح والأهل والمال، وأما أخوان المكاشفة فإنهم تصيب منهم لذتك فلا تقطع عن ذلك منهم ولا تطلب ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوه لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان).
إن هذا النص بدوره يحدثنا عن الصداقة في مظهرها المتصل بالحاجة إلى الانتماء الاجتماعي، وبخاصة النمط الثاني من الأصدقاء حيث طالب النص بمجاملة هذا النمط حتى يستمر تدفق إشباعه من خلال عبارة قوله (عليه السلام): (فإنك تصيب منهم لذتك).
إذن النصوص الإسلامية تطالبنا بأحد مظاهر الانتماء الاجتماعي معللة ذلك بأن إشباع الحاجات متوقف على الانتماء المذكور، وهذا التصور هو ذات التصور الأرضي لمفهوم الانتماء الاجتماعي، فإذا أضفنا إلى ذلك كله نصوص تشير إلى النهي عن بعض أشكال الانفراد كالنهي الوارد عن المبيت منفرداً أو السفر منفرداً حينئذ ندرك بوضوح أن الانتماء الاجتماعي أمر ضروري يوفر للكائن الآدمي بعض أشكال الحماية تماماً على النحو الذي يقرره البحث الأرضي، والمشرع الإسلامي حينما يمنعه من المبيت منفردا إنما يضع في الحسبان أن الفرد بحاجة إلى الحماية من المخاوف التي تفرزها الوحدة، وحينما يطالب بمجاملة الآخرين إنما يضع في الحسبان أيضاً توفير الحماية للفرد حتى تتحقق لذته منه، على حد تعبير الإمام علي (عليه السلام)، بل سنجد عند حديثنا في محاضراتنا اللاحقة أن العلاقات الاجتماعية إسلامياً تظل من الوفرة بحيث لا نجد أي تشدد في التصور الإسلامي أكثر من التشدد الذي نلاحظه في توثيق وتمتين العلاقات بين الأحبة وبين مطلق العلاقات الأولية أو العلاقات العامة التي تصل بين الأفراد أو الجماعات حيث لا نجد أي تصور في الأرض يمكن أن تلحظ أهميته وعنايته بالنحو الذي نلحظه عند المشرع الإسلامي من حيث حرصه البالغ جداً على جعل الأفراد يرتبط أحدهم بالآخر ارتباطاً وثيقاً لا انفصام له.
وهذا يعني أن الانتماء الاجتماعي في التصور الإسلامي يفرض ضرورته تماماً على الكائن الآدمي، بل أكثر من ذلك نجد أن الإمام الباقر (عليه السلام) وقد سمع أحد الأشخاص يقول: (اللهم أغننا عن خلقك) نهر الإمام الباقر (عليه السلام) عن ذلك وقال له قل: (اللهم اغننا عن شرار خلقك) أي أن الحاجة إلى الخلق والتعاون فيما بينهم يظل أمراً لا مناص منه، كل ما في الأمر الإمام أخبر هذا الشخص بأن لا يقول اللهم اغنني عن خلقك مطلقاً لأن الاستغناء عن الخلق لا يمكن أبداً، لأن البشر أساساً هم كائنات اجتماعية يحتاج كل واحد منهم إلى الآخر بنحو لا ضرورة للحديث عنه لبداهة هذه الحاجة الاجتماعية.
ولكن ذلك كله جميعاً ينبغي أن نضعه في إطار آخر هو العلاقة الاجتماعية مرتبطة بالعلاقة مع الله، وهذا هو المعيار الذي يفصم بين الاتجاهين الأرضي والإسلامي.
إذن نكرر في الحالات الجمعاء يظل الانتماء الاجتماعي حاجة يشدد المشرع الإسلامي عليها على نحو ما يقرره البحث التربوي النفسي الأرضي، إلا أن الفارق بين التصورين الإسلامي والأرضي بالإضافة إلى ما ذكرناه يبدأ من تحديد حجم الانتماء ونمط هذا الانتماء، أي من حيث تحديد الوعي الذي يغلف الفرد وتحديد الوسط الاجتماعي الذي نتحدث عن الانتماء له، ولعل الحديث عن مفهوم أو مصطلح الحماية ونمط المجتمع الفردي يتدخل في الواقع في إضفاء المشروعية أو عدمها بالنسبة إلى المفهوم الاجتماعي المتمثل في الانتماء وهذا ما ينبغي أن نحدثكم عنه مفصلاً.
من المسلمات الأساسية أن السماء هي المصدر الوحيد لحمايتنا يستوي في ذلك أن تكون الحماية نفسية أو أمنية أو مادية، فالنصوص الإسلامية متضافرة في تأكيدها على أن التواصل مع الله من خلال الذكر والمناجاة يحقق للفرد متعة لا يتذوق حلاوتها إلا من جرب ذلك، حتى أن هذه النصوص تشير بوضوح إلى أن الفرد يبدأ بالاستيحاش مع الناس بقدر تواصله مع الله سبحانه وتعالى، وهذا ما أومئ إليه الإمام علي (عليه السلام) في مقولته التي استشهدنا بها في هذه المحاضرة من أنه لا يزيد الإمام تجمع الناس حوله ألفة ولا التفرق عنه وحشة، بل على العكس يبدأ بالاستيحاش من الآخرين بدلاً من الألفة بهم. وهذا يعني أن الحماية النفسية التي تطالبنا النصوص بها من خلال تشددها في الصداقة والمجاملة والتزاور وما إليها من أشكال الانتماء الاجتماعي، إنما تخص نمطاً يتضائل حجم الوحي لديه بقدر ابتعاده عن السماء، أو على العكس من ذلك إنما تخص نمطاً يتعامل معه بقدر وعيه فمن الممكن جداً أن يحس الإنسان بحاجته إلى الآخر، ولكن من خلال كونه واعياً بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يطالبه بذلك وهو الذي أودع فيه هذه القابلية على التواصل، وذلك مثلاً كعاطفة الأبوّة والبنوّة والعاطفة الإنسانية بعامة.
كل ما في الأمر أن ربط ذلك من خلال النظر إلى الله تعالى يتطلب وعياً خاصاً يصل درجته العليا عند المعصومين (عليهم السلام) متمثلاً في المقولة التي أشرنا إليها عند الإمام علي (عليه السلام)، ويلي ذلك بطبيعة الحال مستوى الوعي الأقل درجة عند الأولياء وهكذا يتضاءل الوعي حتى يتحول في النهاية إلى وعي عادي عند البشر العاديين، بحيث يحس بالحاجة إلى الانتماء إلى الآخرين مستغنياً بذلك عن الانتماء إلى الله سبحانه وتعالى، والعياذ بالله.
على أية حال تظل في الواقع ظواهر الصداقة والمجاملة والتزاور لدى النمط الواعي من البشر جزءاً من وظيفة اجتماعية يمارسها الواعون لا لأنها تحقق لهم متعة نفسية فحسب بل لأن السماء تطالب بذلك تحقيقاً لحياة اجتماعية يستهدفها المشرع في هذا الصدد، وإلا فإن الإمام (عليه السلام) مثلاً حينما يتخلى عن أخيه أو أن أحد الأنبياء (عليه السلام) عندما يتخلى عن أبيه، أو أحد الأنبياء (عليه السلام) عندما يتخلى عن ابنه مع أن عاطفة البنوة والأخوة تظل بمكان كبير لدى التركيبة الآدمية، مع ذلك نجد أن التخلي عن هذه العاطفة تتم بسهولة لمجرد أن الله سبحانه وتعالى يخبر هذه الشخصيات بأن ينسلخوا عن عاطفتهم المذكورة ويشيدوا عاطفتهم حيال الله سبحانه وتعالى ولذلك نجد أن نوحاً (عليه السلام) يتخلى عن ابنه وأن إبراهيم (عليه السلام) يتخلى عن أبيه أو عمه، وأن بعض المعصومين (عليهم السلام) يتبرأون أيضاً من بعض ذويهم، بل إن النصوص القرآنية الكريمة والحديثية تشير إلى أن محبة الله والانتماء إلى الله والتواصل مع الله هو ينبغي أن يكون أحب إلى الشخص مع التواصل مع أبويه أو القريبين منه أو مطلق ذوي رحمه.. الخ.
المهم في ضوء هذه الحقائق نجد أن التشدد على ضرورة أن تكون الصداقة والتزاور ومطلق النشاط متمحضة لله فحسب كعيادتنا للمريض أو زيارتنا للأخ المؤمن حيث تطالبنا النصوص بأن نعيد هذا المريض لله سبحانه وتعالى ونزور هذا الأخ لله سبحانه وتعالى، ولو أمعنا النظر في الإثابات المترتبة على أمثلة هذه الظواهر لنجد أن من الأحاديث الواردة في الميدان المذكور مثلاً الحديث الوارد من أنه ينادى يوم القيامة لجماعة المجاورين لله تعالى وهم يمثلون أعلى موقع اجتماعي في المقام الأخروي وهو أنهم من جيران الله تعالى، وحينما تسألهم الملائكة عن ذلك يقولون: كنا نتزاور في الله ونتحاب في الله وو.. الخ.
إذن أن مطلق النشاط يجب أن يتمحض لله فحسب حيث أن زيارة الأخ أو عيادة المريض كما تلاحظون لا تحقق حماية للزائر أو العائد، بل تحقق حماية للأخ المزور وللمريض وبكلمة أخرى النصوص الإسلامية تطالبنا بأن نصبح سبباً لحماية الآخرين لا أن الآخرين هم الحماية لنا، طبيعياً من خلال هذا التشدد أو من خلال هذا التفسير لمعنى الحماية، سيكون كل من الطرفين في الواقع موضع حماية من الآخر، ولكن مع ذلك هنالك فارق كبير. ويمكننا إدراك هذه الظاهرة بنحو أشد وضوحاً عندما نعود إلى مفهوم الحب أو الصداقة بنحو عام، فعلاقة الفرد بالآخرين عبر التصور الإسلامي يمكن أن تتم من خلال عمليتين هما حبنا إياهم ثانياً قضاؤنا حوائجهم، وفي هذا المجال نجد أن المشرع الإسلامي يلغي الانتماء إلى الآخرين، أي أن الحاجة إليهم تنتفي، بل تتمحض في الواقع للحاجة إلى الله فحسب، ولكنه من جانب آخر يحدد حاجة الآخرين إلى الفرد ويضعه حامياً لهم بحيث يكون افتقاره إلى الآخرين هو منح الحماية لهم نفسياً ومادياً لا أنه مفتقر لأن يحنو تماماً كما لو ساعد الغني فقيراً من الفقراء فإن الفقير هو المحتاج إلى حماية هذا الغني وليس الغني هو المحتاج إلى حماية الفقير.
على أية حال ننتهي من الحديث عن الانتماء الاجتماعي وصلة ذلك بالانتماء الإلهي ونلخص ذلك في العبارات الآتية:
البشر أساساً يحتاج بعضهم البعض الآخر وهذا هو ما يمثل طبيعة المجتمع البشري الذي خلقه الله سبحانه وتعالى لممارسة العبادة، وهذا يعني أن الانتماء الاجتماعي لا مناص له لأن الحاجات البشرية أساساً ينبغي أن تقوم بالتعاون فيما بينهم، وإلا لا يستطيع الكائن البتة أن يوفر له حاجاته سواء في مرحلة الطفولة أو في مرحلة الرشد، بل إن الوحشة والعزلة تظل تلف الفرد بنحو لا يمكن أن يطاق إذا تصورنا أن الانتماء الاجتماعي ملغىً من الحساب، إلا أن ذلك يظل في الواقع مرتبطاً بنمط الوعي الذي يغلف الشخصية، فإذا كانت الشخصية من النمط الواعي الذي يصل الدرجة العليا كالمعصومين (عليهم السلام) حينئذ فإن تعاملهم من خلال الانتماء الاجتماعي يختلف عن تعامل البشر العادي وهكذا بالنسبة إلى زيادة أو نقصان الوعي عند الأفراد حيث يتفاوتون في نمط وعيهم حيال الله سبحانه وتعالى وحيال حاجته إليه. ومن ثم فإن التصور العادي أو المألوف ينبغي أن يتم على النحو الآتي وهو أن البشر ينبغي أن ينتموا اجتماعياً ويحققوا هذا الانتماء بأشكاله التي يطالبنا المشرع الإسلامي بها، ولكن على أن لا يفصلوا هذا الانتماء عن الله سبحانه وتعالى.
أخيراً ننهي حديثنا عن الانتماء الاجتماعي والانتماء الإلهي لنحدثكم لاحقاً عن التقدير الاجتماعي والإلهي فإلى ذلك الحين نستودعكم الله..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..