محاضرات العقائد - المحاضرة 38 - المشيئة
المشيئة:
لا يفرق بعض الفلاسفة وعلماء الكلام بين المشيئة والإرادة، وتؤيد بعض عبارات اللغة هذا المذهب بينما يرى الأستاذ الجعفري أن الإرادة ذات مراتب قوية وضعيفة، في حين أن الثانية خالية من المراتب وهي المرحلة الأخيرة التي تلي الإرادة (1) لكن في رواية عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنه قال: (لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى، قلت ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل ، قلت: ما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه، فذلك الذي لا مرد له). أصول الكافي ج1/150.
ويعلق العلامة الطباطبائي على هذه الرواية بقوله:
(فالمشيئة والإرادة هما معنى الذي لابدّ في الفعل الاختياري من تحققه في نفس الفاعل منّا بعد العلم وقبل الفعل وهذا المعنى من حيث ارتباطه بالفاعل يسمى (مشيئة) ومن حيث ارتباطه بالفعل يسمى (إرادة). والتقدير تعيين مقدار الفعل من حيث تعلق المشيئة به، والقضاء هو الحكم الأخير الذي لا واسطة بينه وبين الفعل).
وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) : (أن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء. ويأمر وهو لا يشاء. أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى). أصول الكافي ج1/151.
ويعلق العلامة الطباطبائي على ذلك بقوله:
أن الله نهى آدم عن الأكل وشاء ذلك، وأمر إبراهيم بالذبح ولم يشأ، أراد بالأمر والنهي التشريعيين منهما، وبالمشيئة وعدمها التكوينيين منهما.
وعلى أي حال فقد وردت مشيئة الله مع مشتقاتها المختلفة في القرآن الكريم في ما يقارب 200 موضعاً، ويمكن تقسيمها إلى عدة طوائف.
الطائفة الأولى: الآيات التي تستند وجود بعض الظواهر في العالم إلى مشيئة الله، كقوله تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم).(2)
لقد ورد في القرآن حوالي 54 آية بهذا المضمون، والبعض منها بعيد الصلة عن أفعال الإنسان، وأما ما ورد فيها الإشارة إلى أفعال الإنسان فليست قاصرة الدلالة على الجبر فحسب، بل هي إلى الاختيار أقرب، كقوله تعالى: (لو يشاء الله ليهدى الناس جميعاً).(3) فدخول حرف (لو) على تعلق مشيئة الله لهداية الناس أجمعين ينفي حصول الهداية بصورة جبرية، بل تكون الهداية بعد اختيار واختيار.
الطائفة الثانية: الآيات المفنّدة لمزاعم المفسدين حيث كانوا يربطون كفرهم وإلحادهم بمشيئة الله. كقوله تعالى: (سيقول الذين اشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) ثم يرد الله زعمهم (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم اجمعين).(4)
هذه الآيات تصلح لاثبات الاختيار، ولا دلالة لها على الجبر، لأن الله يردّ مزاعمهم بأني لم اجبركم على الهداية، إذ لو كنت أجبركم على الهداية ، إذ لو كنت أجبركم لم يكن لكم فضل في سلوك طريق الإيمان.
الطائفة الثالثة: الآيات التي تذكر هيمنة الله تعالى على الكون، كقوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله)(5) ولا دلالة لأمثال هذه الآية على الجبر، لأنه لا يوجد من ينكر خضوع الظواهر المكونية بأسرها بما فيها المنافع والأضرار لمشيئة الله، وليس الإنسان إلا موجوداً ضعيفاً في هذه المجموعة.
الطائفة الرابعة: الآيات التي تعلّق تحقّق الأفعال على مشيئة الله، كقوله تعالى: (قال: ستجداني -إن شاء الله- صابراً)(6). وقوله تعالى: (ستجدني –إن شاء الله- من الصالحين).(7) وقوله: (لتدخلّن المسجد الحرام -إن شاء الله - آمنين محلقين رؤوسكم).(8)
هذه الآيات لا تشير إلى جبرية أفعال الإنسان، بل تدل على أن إرادة الإنسان ليست هي العلة التامة في وقوع الأفعال، إذ قد تصطدم هذه الإرادة بحواجز سميكة لا تستطيع اختراقها, فإن تعلّقت مشيئة الله بوقوع ذلك الفعل من الإنسان أزيلت جميع الموانع من طريقه, و حيث يجهل الإنسان ما تخبئه له الأقدار فإن عليه أن يستعين في أفعاله دوماً بجاعل القدر و خالقه, وعلى الضوء هذا نفهم المراد من قوله تعالى (ولا تقولن لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غداً , إلا إن يشاء الله)(9) .
ــــــــــــــ
الهامش
(1)- الشيخ محمد تقي الجعفري، جبر واختيار ص 214
(2)- سورة البقرة، الآية 20
(3)- سورة الرعد، الآية 31
(4)- سورة الأنعام، الآية 148-149
(5)- سورة يونس، الآية 49
(6)- سورة الكهف، الآية 69
(7)- سورة القصص، الآية 27
(8)- سورة الفتح، الآية 27
(9)- سورة الكهف، الآية 23