محاضرات العقائد - المحاضرة 37
تعقيب:
هناك آياتان فقط ربما يكتنفهما الغموض، ولكنا سنجد أن عدم فهم المعنى الصحيح للآيتين أدّى إلى استنتاجات خاطئة عنهما.
الآية الأولى: قوله تعالى: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون).(1)
فما معنى إرادة الله اغواء الناس؟
الذي يبدو لأول وهلة هو أن السبب عدم تأثير نصائح نوح النبي (عليه السلام) في قومه هو إرادة الله (الغواية) لهم. ولذلك فإنهم كانوا مجبرين على أن يسلكوا على طبق إرادة الله ولكن هذا الاستنتاج يتوقف على تفسير كلمة (الغي) بالضلال والانحراف، بينما أن من معاني هذه الكلمة في اللغة العربية الخيبة. والعقاب أيضاً . قال ابن منظور (أغويت الناس أي خيبتهم).(2)
فإن كان الإغواء في هذه الآية بهذا المعنى، كان مفاد الآية –على لسان نوح- أنه إذا كان الله يريد الخيبة لكم، فلا أثر لنصائحي فيكم ومن الواضح أن لا مانع من وقوعها في حيّز الإرادة الإلهية، أما الأفعال نفسها فلا.
لقد ورد في آية أخرى ما يصلح لقبول هذا المعنى، حيث قال عزّ من قائل: (وقد خاب من دسّاها).(3) أي خاب من أفسد نفسه، فمجيء اليأس عقيب الافساد الاختياري في النظام الكوني على طبق إرادة الله تعالى لا يدل مطلقاً على إرادة الله تعالى لنفس الاختيار الذي أدى إلى هذه الخيبة.
وأن كان الاغواء في الآية بمعنى العقاب كما في قوله تعالى: (فسوف يلقون غياً)(4). فالمسألة واضحة، لأن الله كما أراد الثواب وقرّره للأفعال الصالحة، إرادة العقاب وقرّره للأفعال السيئة... ولكن إرادة النتيجة غير إرادة الفعل.
الآية الثانية: قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنما يصعّد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون).(5)
قد يتمسك بقوله تعالى: (ومن يرد أن يضلّه) لاثبات أن الاضلال يكون من الله تعالى لكن الاستدلال بقطعة من الآية من دون مكملها غير صحيح. ذلك أن الآية تقول في نهايتها: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) أي هذا شأن الذين لا يؤمنون، يجعل الله صدورهم ضيقة حرجة وهذا ما يبعدهم عن طريق الخير والهداية ويلوّث اذيالهم بالمفاسد والانحرافات.
فضلال هؤلاء منوط باختيارهم. وكذلك المؤمنون فإنهم لما سلكوا طريق الخير والهداية، وعملوا لذلك، امدهم الله بالتوفيق والتأييد كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).(6)
لقد وجدنا القرآن الكريم خالياً عن أية دلالة لكون الأفعال الاختيارية للبشر مشمولة بأنفسها للإرادة الإلهية بحيث لا يكون لاختيار الإنسان وإرادته أي أثر فيها، بل كان في كثير منها نسبة السعي والعمل والإرادة إلى الإنسان نفسه، وأن الله تعالى يريد نتيجة عمله.
وأما إرادة الله الاغواء والاضلال في الآيتين المتقدميتين فمعناها أن الإنسان إذا سلك طريق الفساد والضلال والانحراف بعد أن كان مخيراً (وهديناه النجدين)(7). فإن الله يريد له العاقبة السيئة والخيبة والعقاب، وتكون المسؤولية على عاتق الإنسان فقط.
ـــــــــــ
الهامش
(1)- سورة هود، الآية 34
(2)- لسان العرب ج15/140-مادة (غوي)
(3)- سورة الشمس، الآية 10
(4)- سورة مريم، الآية 59
(5)- سورة الأنعام، الآية 125
(6)- سورة العنكبوت، الآية 69
(7)- سورة البلد، الآية 10