محاضرات العقائد - المحاضرة 11 - دليل النظام
3- دليل النظام:
ويتألف هذا الدليل من المقدمتين التاليتين.
(1) - العالم يسوده النظام المتقن.
(2) - وكلّ ما يسوده النظام المتقن فهو من صنع منظّم قدير.
إذن العالم من صنع منظم قدير.
أما دليلنا على سيادة النظام المتقن للعالم فيشهد له الاستقراء والوجدان إذ ما من موجود في هذا الكون، وما من جزءٍ من أجزاء العالم، وما من ذرّةٍ في هذه الموجودات إلاّ وهو خاضع لنظام دقيق كامل يربط بين مختلف الأجزاء، هذا الترابط يمكن مشاهدته في المجرّات والسدم والمجموعة الشمسية والكواكب المختلفة، كما يمكن مشاهدته في أصغر جزء من المادة وهو الذرّة بما فيها البروتون والإلكترون والنيوترون.
وكما يسود النظام في الأحياء، كذلك الأمر في المادّة المجردة عن الحياة... هذا النظام يرينا دقته المتناهية في الإنسان والحيوان والنبات، في البحار والأنهار، في السباع المفترسة والحشرات الضعيفة، في الشمس والقمر، في الليل والنهار... وبصورة موجزة في كل جزء من أجزاء الخليقة.
وأما دليلنا على أن كلّ ما يسوده النظام المتقن فهو من صنع منظّم قدير، فهو أن النظام نقيض الفوضى، فهو يعني الإنسجام والترابط، وهذان لا يمكن أن يحصلا من تلقاء نفسيهما (لبطلان الصدفة) بل منبعثان من إرادة وشعور وقدرة. وكلّما كان الترابط أوثق، والانسجام أشمل، والنظام أدقّ دلّ على صدوره من إرادة مطلقة غير محدودة، وقدرة عظيمة تفوق كل القدرات والقوى في الوجود...
إذن فكل ما يسوده النظام الدقيق فهو من صنع منظّم عظيم ذي إرادة مطلقة وقدرة عظيمة لا يحدّها شيء.
وهنا يثور سؤال:
لماذا لا نسند النظام المتقن إلى فعل الطبيعة؟
والجواب على هذا السؤال بسيط جداً، لأن نظرة تأملّية في الطبيعة ترينا أنها إمّا المادة نفسها، أو حالة ثانوية للمادة، وإذا كانت المادة فاقدة للوعي والشعور والإدراك يعرض لها العدم والتغير، ويطرأ عليها الفقر والحاجة، وتؤثر فيها المؤثرات المختلفة، فالطبيعة (وهي حالة ثانوية للمادة) فاقدة للشعور، ولا يمكن إسناد النظام المتقن إلى علّة فاقدة الشعور.
أما إذا كان المقصود من الطبيعة إثبات قدرة عظيمة واعية مدركة لا تؤثر فيها المؤثرات ويستند إليها النظام المتقن السائد في جميع الموجودات، فذلك إثبات للخالق بأسلوب يحمل في طيّاته الروح الإنهزاميّة التي تخشى من تسميته بالله، فتعبّر عنه بالطبيعة.
ولزيادة الإيضاح نقتبس نصّاً من العلاّمة الحجّة السيد هبة الدين الشهرستاني.
الله وبرهان الطبيعة(1).
إذا كان لله في كل جسم آية توحيد، وبرهان علم وحكمة، فالطبيعة أنطق الآيات دلالة على الخالق الحكيم.
الطبيعة اسم للحالة الذاتية في كل شيء ومبدأ فعله الذاتي الصادر منه لا بغرض، ولا بقصد عوض، كالشمس في إشراقها، والنار في إحراقها. فالمصدر الذاتي لفعل جامد بدون تصور الغاية وبدون تدخل العلم في البداية هم طبع الشيء وطبيعته.
فأفعالك الطبيعية تبدأ من ذاتك وتنسب إليها من دون أن يؤثر في إنشائها علمك واختيارك، كجوعك وعطشك، وموتك وحياتك، بخلاف أفعالك التي يؤثر في صدورها منك علمك وقصدك كالمشي والسباحة والكتابة والصعود على السطح، ففعل مثل سقوط الجسم من جبل فعل طبيعي، ومصدره الذاتي الوحيد الطبيعة لا تعلم الغاية منها والغرض.
أما الفعل المشتمل على مزيّة القصد والشعور فقصدي، ومصدره العلم بالشيء عن قصد فيه، وتصور للغاية منه، فهل خالق الكون خالقه وخالق كل حي فيه عن علم وقصد، أو عن مجرد اقتضاء الذوات بدون لحاظ الغايات؟
وجهان، بل قولان.
ذهب بعض الطبيعيين إلى انحصار العالم كله في الأجسام وقواها والطبايع التي هي فيها غير منفكة عنها، وهي الكل في الكل، ولا مؤثر في الوجود غيرها.
لكنما الجمهور يذهبون إلى أن الخليقة فعل ما فوق الطبيعة، فعلُ عالمٍ بما خلق، قاصدٍ منه الغاية والغرض.
وحجّتنا على الطبيعيّين من الطبيعة أن العلّة في التغيرات العالمية إن كانت وحدها الطبيعة، وكانت ذات علم بالأثر وشعور بالغرض فهي التي يسميها المتديّن (الله) باختلاف اسمي ونزاع لفظي. وإذا كانت فاقدة الشعور بما صدر، غير قاصدة الأثر كالشمس في الإشراق والنار في الإحراق لزمها:-
1- أن لا يختلف أثرها، وهي مختلفة الآثار، وأن لا يتخلف عنها أثرها ولا يشذّ، وشوّاذ الطبيعة ثابتات.
2- يلزمها أن لا تخلق الأعضاء لوظائفها الخاصة بها كما ينبغي، وقد خلقتها كذلك.
3- يلزمها أن لا تخلق مخلوقات عالمة وقاصدة، وقد خلقت من الأحياء العالمة القاصدة مالا يحصر.
نماذج من النظام السائد في الكون.
وهنا لا بأس بذكر بعض النماذج التي يتجلّى فيها النظام المتقن الذي يسود الكون، لتدعم بها المقدمة الأولى في دليل النظام(2).
1- خواص الماء: يمتاز الماء بأربع خواص هامة تعمل على صيانة الحياة في المحيطات والبحيرات والأنهار، وخاصة حيثما يكون الشتاء قارساً وطويلاً.
أولاً: يمتصّ كميات كبيرة من الأوكسجين عندما درجة حرارته منخفضة، وهذا يساعد على تنفّس الأسماك من الأوكسجين الذائب في الماء.
ثانياً: تبلغ كثافة الماء أقصاها في درجة أربعة مئوية، ومهما انخفضت درجة الحرارة بعد ذلك فإن كثافة الماء تبقى ثابتة ثم تبدأ بالتناقص، هذا الأمر يمنع من انجماد الأنهار والبحيرات.
ثالثاً: الثلج أقل كثافة من الماء ممّا يجعل الجليد المتكون في البحيرات والأنهار يطفو على سطح الماء لخّفته النسبيّة فيهيئ بذلك فرصة لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في الماء في المناطق الباردة.
رابعاً: عندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الأحياء التي تعيش في البحار(4).
هذا النظام الدقيق الخاص بالماء قد يغفل عنه الكثيرون، ولكنه يشير إلى حقيقة حيّة أشار إليها القرآن الكريم (وجَعَلنا مِن الماءِ كُل شَيءٍ حَيٍ) ().
2- النسغ الصاعد والنازل: لو أخذنا مقطعاً عرضياً لساق أحد النباتات - مهما كان دقيقاً وبسيطاً - وفحصناه تحت المجهر (الميكرسكوب) لوجدناه يتكون من أنابيب مجوّفة عديدة، قسم منها ينقل الماء والأملاح من التربة إلى الأوراق، والقسم الآخر يحمل الغذاء المصنوع في الورق إلى سائر أجزاء النبات هذه الأنابيب يمكن أن نشاهدها في ساق شجرة الجوز، وساق نبتة صغيرة على حدّ سواء وقد سماها علماء النبات بـ (النسغ الصاعد) (والنسغ النازل)، وهي تقوم بعملها بصورة دقيقة ومنتظمة بحيث لم يُعهد منها أن أخطأت في عملها وسار الماء ومعه الأملاح في الأنابيب الخاصة بالنسغ النازل ولا العكس.
فهذا مظهر متواضع من النظام السائد في النباتات.
ولكي ندرك أهمية الماء في نمو النباتات نقول: كان العلماء حتى القرن السادس عشر الميلادي يعتقدون أن التربة هي السبب في نمو الأشجار والنباتات، لكن ثبت خلاف ذلك في تجارب الكيميائي الفنلندي (فان هلمونت) في القرن السابع عشر.
لقد زرع فان هلمونت شجرت الصفصاف في أصيص وجعلها تنمو مدة خمسة أعوام، فكبرت شجرة الصفصاف، واشتد عودها وزاد وزنها على 150 رطلاً أي 67 كيلو غراماً، ومع ذلك كان كل ما فقدته التربة التي نمت فيها ما بين 30و55 غراماً فقط، فاستنتج هذا العالم أن النباتات تتغذى من الماء الذي كان يضاف باستمرار، وبدونه يموت أي نبات مهما بلغت جودة التربة التي تنمو فيها(5).
والزراعة المائية طريقة مبتكرة تثبت صحة هذه التجارب.
أما التعليل العلمي لما تقدّم في تجارب (فان هلمونت) فيذكره اسحق ازيموف بهذه الصورة ((فالتربة تتكون غالبيتها من سيليكات الألومنيوم، والمركبات الأخرى التي لا تقوم بأي دور، ووظيفة التربة ميكانيكية صرفة في الجزء الأعظم، فهي تكون أساساً صلداً، ومع ذلك فهي منفذ يمكن للنبات أن يمد جذوره فيها، وفيه يمكن حفظ الماء اللازم للنبات، أما الماء فضروري لا لمجرد أنه كماء يكّون جزءاً أساسياً من النسيج النباتي، كما هي الحال في أنسجة جميع صور الحياة، ولكن لأنه يذيب كميات صغيرة من المواد غير العضوية، التي يحتاج إليها النبات، والتي لا يستطيع امتصاصها إلا على صورة محلول.
وصدق الله العلي العظيم حيث يقول:
(الذي جَعَلَ لكُم الأرْض مهداً وسلك لكم فيها سُبُلاً وأَنْزلَ مِن السماءِ ماءً فأَخْرَجنا بِه أزواجاً من نباتٍ شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأوِلي النهى).
3- لسان المزمار: في مؤخّرة الفم يوجد طريقان:
أحدهما البلعوم المتّصل بالمرئ، وهو خاص لنقل الطعام إلى المعدة، والآخر الحنجرة وهي تتّصل بالقصبات الهوائية وعملها نقل الهواء الحامل للأوكسجين إلى الرئتين.
ومن العجائب التي أثبتها علم التشريح، أن القصبات الهوائية تقع في الأمام، ويقع البلعوم خلفها، وإذ كان دخول ذرة صغيرة من الطعام إلى القصبات الهوائية مهلكاً ومؤدياً إلى الوفاة في بعض الأحيان احتاج الفم إلى شرطي للمرور لينّظم السير بين الطعام الذي يريد الذهاب إلى المرئ ثم المعدة، والهواء الذي يريد اجتياز القصابات الهوائية إلى الرئتين.
وشرطي المرور هذا هو لسان المزمار، يعمل عمله بانتظام ودقّة بالغين، لا يغفل عن عمله لحظة واحدة، دائبٌ عليه ليلاً ونهاراً، في اليقظة والمنام.
فما إن تُمضغ اللقمة جيّداً وتترطب بالغدد اللعابية حتى تنزلق إلى جانب البلعوم، وبحركة خاطفة ينطبق لسان المزمار على الحنجرة فلا يدع منفذاً لسراية الطعام إلى القصبات الهوائية، وحتى لو كانت ذرّة الطعام قوّية وذكية بحيث استطاعت أن تتغلّب على شرطي المرور وتقهره، فإن العضلات المحيطة بالقصبات الهوائية تبدأ عملها الأوتوماتيكي وذلك بالضغط المتوالي حتى تخرج ذرّة الطعام، وفي هذه الحالة يعرض السعال للإنسان.
قال تعالى:
(سَنُريِهمْ آياتنا في الآفاقِ وفي أَنْفُسهمْ حتى يتبين لهم أنه الحقُ) (6).
ـــــــــــــــ
الهامش
(1)- المعارف العالية ص 62.
(2)- لقد صنفت كتب كثيرة في هذا المجال أشير إلى بعض ما ببالي منها:$الله يتجلى في عصر العلم: تعريب الدمرداش عبد المجيد سرحان. $أثر العلوم التجريبية في الإيمان بالله: تأليف كاميل فلامريون، تعريب الشيخ محمد مهدي الصفي. $مع الله في السماء: للدكتور أحمد زكي. $الله والعلم الحديث: تأليف عبد الرزاق نوفل. $أفريدكار جهان: تأليف الشيخ ناصر مكارم. $الجواهر في تفسير القرآن: تأليف الدكتور حنفي أحمد. $التفسير العلمي للآيات الكونية: تأليف الدكتور حنفي أحمد.
(3)- هذه الخصائص أوضحها فرانك أللن أستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا راجع (الله يتجلى في عصر العلم)ص 9.
(4)- سورة الأنبياء، الآية 30.
(5)- الحياة والطاقة ص 437 تأليف اسحق أزيموف، ترجمة الدكتور سعيد رمضان هدارة.
(6)- سورة فصلت، الآية 53.