محاضرات فقه المجتمع - المحاضرة 50 - الواجب الثاني من الواجبات الاجتماعية هو الإصلاح الاجتماعي
الواجب الثاني من الواجبات الاجتماعي هو الإصلاح الاجتماعي
وما يصطلح عليه بالآمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المهتدون) وقال عز من قائل ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) وقال تعالى (الذين أن مكنا هم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) إلى غير ذلك من الآيات التي ذكرها الله عز وجل، فالآمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إجماعاً من المسلمين بقسميه مضافا إلى الكتاب والسنة والعقل أيضاً .
والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه والمنكر من ينكر بهما قال عز وجل ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) وقال تعالى ( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) وقال ( وقلن قولا معروفاً) ولهذا قيل للاقتصاد في الجود لما كان ذلك مستحسنا في العقول وفي الشرع أيضاً وكذا ورد ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف إلاّّ من أمر بصدقة أو معروف أي بالاقتصاد والاحسان وقوله تعالى ( فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) وقوله عز وجل ( قول معروف ومغفرة غير من صدقة ) أي رد بالجميل ودعاء خير من صدقة والعرف المعروف من الاحسان أيضاً وكيف كان ففي قوله سبحانه وتعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ) فان الأمة هنا قد تكون مشتقة من الأم الذي هو القصد وفي اللغة تستعمل على مصاديق عدة منها الجماعة ومنها اتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد ومنها القدوة لأنه تأتم به الجماعة ، ومنها الدين والملة كما في قوله سبحانه وتعالى ( أنا وجدنا آباءنا على أمة ) .
لكن في الآية الشريفة المقصود منها هو جماعة يدعون إلى الخير أي إلى الدين ويأمرون بالطاعة وينهون عن المعصية وكل ما أمر الله ورسوله به فهو معروف وما نهى الله ورسوله عنه فهو منكر ويعرف المعروف من حسنه عقلا أو شرعا كما يعرف المنكر مما ينكره العقل والشرع وفي الآية دلالة صريحة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظم موقعهما ومحلهما من الدين لأنه عز وجل علق الفلاح بهما .
وأكثر المتكلمين على إنها من فروض الكفايات لكن جمعا من فقنائنا ومنهم الشيخ الطوسي قال انهما من فروض الأعيان وليس من فروض الكفاية كما أكدت الروايات الشريفة على لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآثار الطبيعية والوضعية التي تترتب على تركهما ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر فإن لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء ) ( وجاء رجل من خثعم فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اخبرني ما اصل الإسلام قال الإيمان بالله قال ثم ماذا قال صلة الرحم قال ثم ماذا ؟ قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال الرجل فأي الأعمال أبغض على الله عز وجل قال الشرك بالله قال ثم ماذا قال قطيعة الرحم قال ثم ماذا ؟ قال النهي عن المعروف والأمر بالمنكر ) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ( من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت بين الأحياء ) وعن الإمام الباقر (عليه السلام)
( يكون في آخر الزمان قوم لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلاّّ إذا آمنوا الضرر يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير يتبعون زلات العلماء وفساد علمهم يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلفهم بنفس ولا مال ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض هناك يتم غضب الله عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الفجار والصغار في دار الكبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصلوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم فإن اتعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم إنما السبيل على الذي يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب اليم هنالك فجاهدو هم بابدانكم وابغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا ولا بآغين مالا ولا مريدين بالظلم ظفراً حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته ) وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ( أوحى الله تعالى إلى شعيب (عليه السلام) أبي معذب من قومك مائة ألف أربعين ألف من شراؤهم وستين ألف من خيارهم قال يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار فأوحي الله إليه انهم داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي ) وعن الباقر (عليه السلام) ( من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل اجر الثقلين الجن والأنس مثل أعمالهم إلاّّ الإمام (عليه السلام) وقال الصادق (عليه السلام) ما أقر قوم بالمنكر بين أظهرهم لا ينكرونه إلاّّ أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على ذلك .
وأما العقل فلا أشكال في انه يحسن الأمر بالحسن ويقبح الأمر بالقبيح كما انه لا أشكال في انه يوجبه إذا أوجب ترك المعروف وفعل المنكراختلال النظام وكفى به دليلا في الجملة لأنه لا يراد بالدليل العقلي شمول الدليل لكل الصغريات والمصاديق بل يكفي في صدق الدليل العقلي وجوده في الجملة فحين عدم وصول العقل إلى حكمة بعض الواجبات والمحرمات ولأجل عدم وصوله لا يأمر ولا ينهى لا يخدش في كون أصل الدليل عقليا على تفصيلات ذكروها في الحكمة .
ثم أن المعروف له أطلاقات أربع فقط يطلق على الواجب الشرعي فقط وعلى الواجب والمستحب أيضاً وعلى الواجب والمستحب والمباح وعلى الثلاثة بإضافة المكروه أيضاً لأنها كلها معروف ليس بمنكر والمنكر بمعنى الحرام وهو يطلق باطلاقين فقط الحرام فقط والحرام والمكروه .
ولا يخفى عليك أن الآية الشريفة وان ذكرت الأمة إلاّّ انه يراد بالنظر إلى مجموع المسلمين وإلا فليس اللازم على الكفاية قيام الأمة بالأمر والنهي بل يكفي قيام واحد إذا تم المطلوب والغرض الشرعي من الائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر وكذلك لا أشكال في عدم كفاية الأمة فقط فيها إذا لم يتم المطلوب بالمهمة بان كان المعروف والمنكر بحيث لا يحصل الأول ولا يترك الثاني إلاّّ بقيام جميع الأمة فانه يستفاد من الآية بالمناط وهذا ما يجري في المهمات الكبرى للأمم والشعوب كالتعليم والتربية والتهذيب وما أشبه ذلك، فالمعروف والمنكر يختلف من ناحية الأمر له وبه ، فإذا كان من الأمور الكبيرة المهمة التي لا تتحقق إلاّّ بقيام المجموع فانه يجب على الجميع حينئذ وأما إذا كان في الأمور الصغيرة التي يمكن لإنسان واحد أن يقوم بها ويهتم بها فانه يكفي والظاهر أن الآية ذكرت الأمة منه باب الغالب وإلا فقد يكفي الواحد وقد لا يكفي إلاّّ جميع الناس .
ولا يقال أن قوله سبحانه وتعالى (ولتكن منكم أمة ) فإن منكم تدل على البعضية فإن (من) هنا نشوية وليست بعضية كقو له تعالى ( وهو الذي خلقكم من تراب ) أي أن نشوءكم من التراب .
وكيف كان فانه ينبغي على كل مجتمع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإذا كانت المهمات كبيرة كما قلنا في التعليم والتربية فيجب على الجميع القيام بهذا حتى يتحقق لنا مجتمع متقدم ومتطور يهتدي بهدى الدين أما إذا كانت المنكرات وما أشبه من الأمور القليلة والبسيطة فيكفى القيام بها من قبل جمع من المؤمنين وهنا مسائل :
المسألة الأولى: للأمر بالمعروف مراتب :
المرتبة الأولى الإنكار بالقلب ولا أشكال في أن هذا من الواجبات الدينية ويجب على كل أحد أن يكون محباً للمعروف ومنكراً للمنكر بقلبه بل لعل ذلك من شرائط الإيمان لأنه الظاهر المعلوم من استفادة المتشرعة من الأدلة وجوب الالتزام بالأحكام الشرعية ووجوب الالتزام بالمنهيات الشرعية أيضاً ولذا قال سبحانه وتعالى ( فقد صفت قلوبكما ) وقال : (فانه آثم قلبه) وفي الحديث ( ومنهم المنكر للمنكر بقلبه ) إلى غير ذلك من الأدلة فلا يكفي للإنسان المسلم أن لا يشرب الخمر ويلتزم بقلبه بحليتها أو يصلي الصلاة ويصوم الصيام ويلتزم بقلبه بعدم وجوبها إذ أن صدق التسليم والإيمان يتم بمطابقة العمل مع الجوانح ومع القلب .
الرتبة الثانية : أن يكون باليد وهذا واجب على نحو الوجوب الكفائي لمن أصر على فعل المنكر ولم ينته عنه ومن المقطوع أن الشارع لم يرد أن يضرب كل مكلف فاعل المنكر سواء كان قبل انتهائه إذا صار بصدد الانتهاء أو بعد انتهائه فإما بعد الانتهاء فقد حصل المطلوب ولا موقع للإنكار حينئذ حيث سقط موضوعه أما قبل انتهائه وهو في طريق الانتهاء فلا موضوع للإنكار أيضاً عرفا لأنه في طريق الحصول إلاّّ ترى انه لو غصب زيد من عمرو ثم رآه فاخذ يعد النقود واحدة واحدة ليعطيها إليه رأى العرف انه لا موضوع للنهي عن المنكر حينئذ ولا يبعد أن لا يراد من التعبير باليد أو الأمر باليد اليد الجارحة فقط بمعنى الضرب بل ربما يشمل اليد الكنائية أيضاً وهي القوة الأعم من اليد ووسائل الردع الأخرى كالتثقيف والتربية فإن هذه لا يبعد أن تكون من مصاديقها ويدل على ذلك السيرة المستمرة من الأنبياء والأئمة الذين هم أسوة ومن العلماء والصالحين أيضاً على مرور الأزمان والأجيال فانهم كانوا ينهون عن المنكر بمختلف وسائل القوة الشاملة للقوة المادية والجارحية كالجهاد والقوة المعنوية كالتوعية والتعليم والتربية على تفصيلات لا يسعنا المجال لبحثها هنا .
المرتبة الثالثة : أن يكون بالسان والظاهر من سوق الأدلة من الفقهاء أن هذا القسم من المراتب اختلفت فيه الكلمة فبعض الفقهاء ذهب إلى وجوب الكفاية فيه وهو المنسوب إلى جمع منهم السيد والحلبي والقاضي والحلي والمحقق الطوسي في التجريد و الخراساني و الاردبيلي وغيرهم كما في الجواهر والفقه وآخرون ذهبوا إلى وجوب العين فيه واختاره المحقق ونسبه الشارح إلى الشيخ وابن حمزة بل وعن الشيخ حكايته عن قوم من أصحابنا .
والفرق بين القولين يظهر قبل آتيان التارك للمعروف وقبل انقلاع العاصي عن المنكر فمثلاً قال لزيد التارك الصلاة صل فإن صار في صدد الصلاة فهل يجب أن يأمره عمرو وبكر وخالد به أم لا ؟ فإن القائل بالوجوب العيني يقول بالوجوب عليهم والقائل بالوجوب الكفائي يقول بعدم الوجوب ، ولكن الظاهر أن الوجوب الكفائي هو الأقرب إلى الأدلة بل في رواية مسعدة ابن صدقة ( سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب هو على الأمة جميعاً فقال لا فقيل له ولم ؟ قال إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضعفة الذين لا يهتدون سبيلاً والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل ولتكن منكم أمة إلى آخر الآية فهذا خاص غير عام كما في قول الله عز وجل ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ولم يقل على أمة موسى وعلى كل الأمم وهم يومئذ امم مختلفة و الأمة واحدة فصاعدا كما قال عز وجل أن إبراهيم كان أمة قانتا لله ) والحديث وان كان يحتمل أن يكون المراد فيه عدم الوجوب إلاّّ على القوي المطاع لا على عدم الوجوب على الجميع فلا يدل على المطلوب لكن الظاهر منه بقرينة السياق انه صدد نفي وجوب العين لا انه في صدد نفي الوجوب على الجميع ، ولعل تخصيص الإمام بالقوي المطاع من جهة أن الأمر والنهي وضعا للتأثير والتأثر وإنما يحتمل هذا في القوي المطاع .
وربما يستدل أيضاً على عدم الوجوب العيني بالسيرة المستمرة بين المسلمين في جميع الإعصار بقيام بعض كما هو المشاهد في إرسال السلطان بعض الشرطة للأمر والنهي ولو كان واجباً عينياً لم يسقط ذلك بذهاب الشرطة .
ثم: على القول بالكفاية فالظاهر من السيرة كفاية الآتيان على النحو المتعارف فلا تجب المبادرة فلو كان في الجيران منكر مثلاً كفى قيام بعض بالأمر والنهي على النحو المتعارف كأن يذهب أحدهم إلى دكان صاحب المنكر ليعلمه بذلك ويأمره وينهاه أو يذهب إلى داره أو ما أشبه ذلك وبناء على كون المتعارف هو المطلوب فلا مقام للكلام هل يجب القطع بقيام الغير بالآمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يكفي الظن المتاخم للعلم أو يكفي مطلق الظن إذ أن الظاهر من الأدلة والسيرة انه قد يعد الترك باحتمال قيام الغير تهاونا وهذا لا يجوز أما إذا لم يكن تهاونا فذاك جائز وان كان برجاء قيام الغير أو احتماله احتمالا عقلائيا كما لا يخفى.
المسألة الثانية: هل الأمر بالمندوب واجب أم مستحب بعد معلومية أن الأمر بالواجب واجب وكذلك هل النهي عن المكروه واجب أم مستحب بعد أن علمنا أن النهي عن الحرام واجب احتمالان في المسألة .
الاحتمال الأول هو استحباب الأمر المندوب والنهي عن المكروه بل عن المفاتيح الإجماع عليه .
والاحتمال الثاني الوجوب كما في الجواهر واستدل للمشهور بأنه لا يمكن زيادة الفرع عن الأصل وبالسيرة المستمرة وبالإجماع لكن ربما يناقش في ذلك إذ لا مانع من زيادة الفرع على الأصل لأن هذا ليس من قبيل العقليات حيث في زيادة الفرع على الأصل يستلزم أن الجزء اعظم من الكل وإنما هذا من قبيل الاعتبارات الشرعية وفي الشرع يمكن أن يكون الشيء مستحباً لكن فروعه واجبة بالدليل الشرعي ولذا قالوا بوجوب الوفاء بالعقد الجائز مع أن اصل العقد جائز وليس بواجب وكذا في وجوب الوفاء بالشروط ضمن العقود الجائزة على تفصيل ذكره الفقهاء في باب العقود.
وربما يستدل على أن الأمر بالمستحبات من الواجبات أيضاً بإطلاق مادل على وجوب الأمر بالمعروف بعد معلومية إن المستحب معروف وكذلك مادل على النهي عن المنكر مع تحقق المنكرية في جملة من المكروهات كالبصاق في المسجد ونحوه ويتم الدليل حينئذ في غيره بعدم القول بالفصل ويمكن أن يستدل أيضاً بما دل على وجوب إقامة الدين في قوله سبحانه وتعالى
( أن أقيموا الدين ) والمعلوم من إقامة الدين بالأمر بالمستحبات فإن اغلب المظاهر الدينية هي المستحبات كزيارة الرسول والأئمة (عليه السلام) وبناء المساجد والحسينيات وإقامة المأتم والاحتفالات وصلوات الجماعة والمؤسسات الخيرية وما أشبه ذلك مما إذا لم تكن لم يكن للدين مظاهر فالمظاهر كلها من المستحبات وإذا لم تكن لم يكن الدين قائما فاقامة الدين إنما هي بإقامة هذه الأمور المستحبة وذلك مالا يمكن إلاّّ بالأمر والنهي ولذلك نرى أن أهل العلم والوعظ يأمرون بهذه الأمور كأمرهم بالواجبات ويساهمون فيها ويشجعون التجار وأهل المال على الإدامة عليها ودعمها وإسنادها والحاصل أن الأمر والنهي بقدر ما يتعارف عند المتشرعة كما تقدم وبهذه الأدلة ترفع اليد عن أصالة عدم وجوب الأمر بالمندوب كما ربما يتوهمه البعض وكما أن الأمر بالمندوب دعوة إلى الخير فيشمله قوله سبحانه وتعالى يدعون إلى الخير وحيث أن قوله تعالى ولتكن منكم أمة فكانت الدعوة إلى الخير واجبة .
هذا ولكن الأنصاف أن عدم فهم الفقهاء الوجوب من الأدلة كما يصرحون بان الأمر بالواجب واجب وان المندوب مندوب مما يبعد احتمال الوجوب خصوصا وان الفقهاء من أجود الناس فهما للأدلة وانطباقاتها على مواردها ولذا مما يترجح لدينا القول بالتفصيل وهو ما إذا كان الأمر بالمستحبات مما يتوقف عليه إقامة الدين وحفظ شريعة سيد المرسلين صلوات الله عليه فانه يكون واجباً ولو في الجملة وأما إذا لم يكن ذلك مما لم يقم عليه الدين بحيث أن الأمر به وعدم الأمر به مما لا يضر بالدين ولا يخل به في هذه الصورة يكون من المستحبات .
ولا يخفى أن اللازم أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفيقاً في قدر الأمر بالمندوب والنهي عن المكروه فإن مبنى الدين على الرفق فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الدين رفيق فاوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا نبتاً أبقى ) وفي الحديث ( لو وضع الرفق على شيء زانه ولو وضع الخرق على شيء شانه ) وعدم الرفق بالناس له ثلاث درجات عدم الرفق بسبب فعل المنكر كما يفعله الظالمون من هتك الحرمات والمحرمات لأجل مصالحهم وملذاتهم وعدم الرفق بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فانه نوع من عدم الرفق ويدل على هذا قوله (عليه السلام) فرغبوا الناس في دينكم ) فانه شامل للسكوت على الأمر والنهي ترغيباً في الدين وعدم الرفق بسبب أمرهم بالفضائل وينبغي أن يراعي الآمر والناهي المصلحة الأهم لدى الأمر والنهي في مسألة الرفق وعدمه فإن الرفق في الغالب هو الذي يترجح على غيره وهو المشاهد في الأشخاص الهينين اللينين فانه أسرع تأثيرا في الناس وهم الذين يلتف حولهم أكثر وحينئذ يتمكنون من نشر الإسلام والفضيلة بطريقة افضل فيكون النهي عن المنكر وأمر بالمعروف اقرب إلى التحقق والنجاح فإن مخالفة الرفق حالة استثنائية لا أصيلة لا يرجع إليها إلاّّ بالأدلة الخاصة أو للحالات الاستثنائية ومع ذلك فإن الضرورات فيها تقدر بقدرها .
المسألة الثالثة: يشترط في الأمر المعروف والنهي عن المنكر علم الأمر والناهي بأن ما يأمر به معروف وما ينهى عنه منكر وإلا لم يجز الأمر والنهي ويدل عليه من الكتاب قوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) وقوله عز وجل ( آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) وفي السنة خبر مسعدة الذي تقدم ومن الإجماع ما ذكره غير واحد بل لم يعلم فيه خلاف بل عن المنتهى نفي الخلاف فيه ومن العقل تقبيح العقل الأمر والنهي بدون علم الآمر والناهي إنما يأمر به معروف وما ينهى عنه منكر بالإضافة إلى انه لو لم يعلم المعروف والمنكر لم يعلم تحقق موضوع الوجوب حتى يأمر وينهى ومع عدم العلم بتحقق الموضوع لا يتحقق الحكم كما لا يخفى .
نعم : الظاهر انه إذا أمر وكان في الواقع معروفا كان من الأمر بالمعروف وكان تجريا لو دار أمر الموضوع بين الجائز والحرام كما لو أمر بصلاة الجمعة وهو لا يعلم إنها في حال الغيبة واجبة أم لا أو نهى عن صلاة الجمعة وهو لا يعلم إنها في حال الغيبة محرمة أم جائزة إلاّّ فيما اذا علم حسن الموضوع لكنه لا يعلم انه واجب أو مستحب أو علم بقبح الموضوع لكن لا يعلم انه محرم أو مكروه فإن هذه الصورة يكفي صدق المعروف عقلاً ، فإننا ذكرنا بأن المعروف ما حسنه العقل والشرع فإذا حسنه العقل أو قبحه العقل يكفي في جواز الأمر والنهي .
المسألة الرابعة: يشترط في الأمر والنهي التأثير في الجملة حتى يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتأثير على أقسام الأول تدريجي يؤثر بتجمع الأمر والنهي وأما دفعي فيحصل التأثير بمرة واحدة .
الثاني: أن يكون من إنسان واحدا وأفراد أو جماعة كما لو أمره عشرة ائتمر وأنتهى.
والثالث: مباشري أو تسبيي فقد يأمر زيد فينفعه وقد يأمره فينتفع به غيره
الرابع: حالي أو استقبالي فقد يأمر الآن ولكنه ينتفع به بعد عشر سنوات أو اقل أو أكثر
الخامس انقلاعي بأن ينقلع فاعل المنكر أو تحديدي تخفيفي بأن يحدد المنكر ولا يوسع دائرته ولا يخفي أن كل هذه أقسام للتأثير وكلها داخلة في عموم الأدلة والانكار فيها أما يكون قلبي وأما يدي وأما قلبي ، أما لساني والقلبي واجب مطلقا حتى إذا علم بعدم التأثير ولا يخفى أن تسمية هذا امراً ونهيا إنما هو بضرب من المجاز وأما اليدي فيشترط في وجوبه التأثير وكذا اللساني وبالنسبة إلى العلم بالتأثير وعدمه المسألة لها احتمالات من ناحية الوجوب .
الأول : أن يجب مطلقا حتى مع العلم بعدم التأثير
الثاني عدم الوجوب إلاّّ في صورة العلم بالتأثير
الثالث عدم الوجوب إلاّّ في صورة العلم والظن بالتأثير
الرابع: الوجوب إلاّّ في صورة العلم بعدم التأثير وهذا الاحتمال أقرب سائر الاحتمالات لما تقدم من إطلاق الأدلة وخرج منها العلم صورة عدم التأثير فيبقى الباقي تحت أدلة الوجوب .
ويشترط في وجوب الأمر والنهي إصرار الفاعل للمنكر والتارك للمعروف فلو علمنا انه ائتهى أو ائتمر لم يجب في الجملة كما هو واضح
نعم اشترط بعض الفقهاء التوبة عند الإنقلاع فقالوا أن التارك للمعروف والفاعل للمنكر إذا رجع إلى الطاعة وكان رجوعه عن توبة منه يسقط وجوب الأمر والنهي وإلا لو انه انتهى ورجع إلى الطاعة لكنه لم يتب من فعله لم يسقط وجوب الأمر والنهي لان اللازم إقلاع جذور المنكر الذي شرع لأجله النهي عن المنكر وهذا لا يتحقق إلاّّ بالتوبة خصوصة وان التوبة من الواجبات فتركها يجب أن يؤمر بها على تفصيل ذكره الفقهاء في محله ، ويقابل هذا القول قول بالعدم إذ يكفي الانتهاء والائتمار وان لم يتب واقعا لأن المدار في الأمر والنهي عدم وقوع العصيان خارجا وما دام لم يقع منه منكر في العمل إذن يسقط وجوب النهي عنه، لأنه النهي عنه يصبح بلا موضوع .
المسألة الخامسة: الظاهر اشتراط الأمر والنهي بعدم الضرر في الجملة بل ادعي عليه عدم الخلاف وفي المسألة احتمالات
الأول: وجوب الأمر والنهي في صورة عدم الضرر مطلقا
الثاني: الوجوب وان ترتب الضرر
الثالث: التفصيل بين الضرر اليسير والضرر الكثير فيجوز في الأول ولا يجوز في الثاني
الرابع: التفصيل بين ما كان اصل الإسلام أو كيان الإسلام في خطر فالوجوب وان كان هناك ضرر ، وإلا فلا وجوب .
واستدل الأولون: بالكتاب والسنة والعقل والإجماع أيضاً لأنه كما قيل المشهور في كتب الفقهاء بلا خلاف معتد به أما الكتاب فكقوله تعالى ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) وقوله سبحانه ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقوله سبحانه ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) فإن ما يوجب الضرر خارج عن وسع الإنسان عرفا ، وأما السنة فروايات منها قول الإمام الرضا (عليه السلام) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك ولم يخف على نفسه ) الدالة على انه في صورة الضرر أو خوف الضرر لا يجب وكقول الصادق (عليه السلام) (على من أمكنه ذلك ولم يخف على نفسه ولا على أصحابه ) وهذه الرواية توسع الدائرة حتى في صورة الخوف على الأصحاب فضلاً عن الأهل والأولاد إلى غيرها من النصوص الخاصة إضافة إلى النصوص العامة نحو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) التي تدل على نفي الضرر في الإسلام وهي قاعدة قانونية تتقدم على العناوين الأولية كما ثبت في محله من الأصول.
وأما القائلون بوجوب الأمر والنهي ولو في صورة الضرر فاستدلوا أيضاً بالكتاب والسنة والعقل أما العقل فلأنه يقبح تركهما مع خوف الضرر والا لزم ضرر اشد وهو استبداد الظالمين والفاسقين في الأرض والعقل يرجح الضرر الأقل على الضرر الأكثر كما لا يخفى وأما الكتاب فقوله تعالى ( وجاهدوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) حيث ورد في تفسيره أن عدم الجهاد تهلكة والأمر والنهي نوع من الجهاد وكمطلقات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد عدم تسليم تقيدها بما ذكر من المقيدات وأما السنة فروايات منها قول الباقر (عليه السلام) لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلاّّ إذا أمنوا الضرر يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير إلى غير ذلك من الروايات الدالة على ذم التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب الضرر أو خوفه ويؤيد الوجوب هذا حتى مع صورة الضرر أعمال الأنبياء والأئمة وأصحابهم الذين كانوا يلاقون بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنواع الأذى والقتل والسجن والتشريد ونحو ذلك .
وأما الاحتمال الثالث: فاستدل للوجوب مع الضرر اليسير بان بناء الأمر والنهي على ذلك فاللازم تخصيص الأدلة الدالة على عدم الضرر بالأمر والنهي وعليه يحمل ما دل على الوجوب وان كان هناك ضرر بقرينة كلمة الرخص والمعاذير كما يحمل مادل على عدم الوجوب مع الضرر على الضرر الكثير بل هو الظاهر منه عند الإطلاق عرفا فإن هاتين الطائفتين إذا عرضتا على العرف يرى أن الروايات المسقطة للوجوب تريد الضرر على الضرر اليسير للقرائن الداخلية والخارجية وربما للانصراف العرفي .
وأما الاحتمال الرابع : وهو ما إذا كان أصل الإسلام في ضرر أو في خطر فانه يجب الأمر بالمعروف ولو استلزم ذلك الضرر والمقصود من أصل الإسلام كالتوحيد والنبوة والإمامة أو كيان الإسلام وحرمة الإسلام كما إذا لم أريد كشف الحجاب عن النساء المؤمنات أو تعميم الخمر والميسر في المجتمع المسلم فاللازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان استلزم ذلك ضرراً كثيراً للعمل الذي قام الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم في أمثال هذه الحالات لتأسيس الدين و الذود عنه والدفاع عن المسلمين والظاهر أن مقتضى الجمع بين الأدلة هو هذا الاحتمال
فانه لم يبق الإسلام إلى هذا اليوم إلاّّ بالتضحيات فكيف يمكن القول بعدم الوجوب في صورة وجود الخطر على كيان الإسلام أو اصله ولعل سيرة علمائنا الأبرار تدل على الوجوب فضلا عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بل الالتزام بدليل لا ضرر في مثل هذه الموارد تناقض لأن الالتزام بنفي الضرر وقوع في الضرر الأكبر وهذا مالا مسرح للالتزام به فضلاً عن التناقض العقلي فيه فإن دليل لا ضرر يرفع الضرر ولا يرفع الأعمال التي توقع الإنسان في الضرر الأكبر كما لا يخفى والبحث طويل هنا لا يسعنا تفصيله .
المسألة السادسة: في كيفية الإنكار القلبي احتمالات متعددة
الأول: أن يكون المراد به الاعتقاد بان يعقد قلبه بان هذا منكر لا ينبغي فعله ولا يخفى أن العلم غير الاعتقاد إذ ربما يعلم الإنسان شيئاً لكنه يعقد قلبه على خلاف ما علم والعلم انعكاس والاعتقاد عمل قلبي فاللازم أن يعتقد الإنسان بأن شرب الخمر مثلاً الذي ارتكبه صديقه أو جاره منكر فيعقد قلبه على الإنكار .
الثاني: أن يراد به البعض بأن يبغض الإنسان المنكر فيبغض مرتكبه أيضاً كما ورد في الأحاديث الحب في الله والبغض في الله فيكون هذا من مصاديق البغض في الله .
الثالث: بمعنى عدم الرضا لما ورد من الله سبحانه وتعالى قال عقروا الناقة لأن بعضهم عقر وبعضهم رضي بهذا الفعل ولما ورد ولعن الله أمة رضيت بذلك والفرق بين هذا الاحتمال والاحتمال الذي سبقه أن عدم الرضا سلبي والبغض إيجابي ولا يكون البغض إلاّّ بعد عدم الرضا فيمكن أن يتحقق عدم الرضا بدون البغض كما لا يخفى.
الرابع أن يكون المعنى الابتهال إلى الله تعالى في عدم الرضا بالمنكر والبراءة من فعله وفاعله .
الخامس: أن يكون المراد به إظهار الكراهة بالوجه لقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) امرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نلاقي أهل المعاصي بوجوه مكفهرة وكيف كان فالظاهر أن الواجب من الإنكار القلبي هو العلم ثم عدم الرضا ثم البغض وعقد القلب وتغير الوجه فإن هذه كلها من الواجبات لأنها من مصاديق الإنكار كما لا يخفى
المسألة السابعة: بالإنكار باليد لو استلزم النهي الضرب غير الجارح فلا أشكال في جوازه للاطلاقات والأدلة الخاصة الدالة على النهي عن المنكر يداً كما تقدم بالإضافة إلى الأسوة ولا ضمان في مثله للاسوداد والاحمرار في الجلد وما أشبه ولعل من هذا الباب تأديب الطلاب والأولاد ولذا جرت السيرة بذلك بلا نكير والظاهر انه غير خاص بالولي ومن يفوض الولي الأمر إليه لأصالة الإطلاقات ولم يعلم خروج ما نحن فيه عن الإطلاق ومثل الطلاب تلاميذ التجار والصناع والزراع وهل ينسحب الحكم إلى الضرب لا للنهي عن المنكر بل للتعليم وما أشبه احتمالات في المسألة
من أصالة عدم الجواز لغير الولي فالولي يجوز له لأن أمر الطفل موكول إليه ومن أهم شؤون الولاية هو التربية الحسنة ولذا ورد أن يحسن اسمه وادبه وان يزوجه ومن انه دعوة إلى الخير ومن سنِّ الحسنة والتعاون على البر فيجوز ولعل هذا هو الأقرب ولذلك جرت السيرة على هذا من غير نكير فيمكن ادعاء انه من ابتلاء اليتامى المأمور به في الآية الكريمة التي تقدم البحث عنها فيما تقدم من مباحث فإن الابتلاء هنا بمعنى الاختبار والتعليم والتنضيج وأما لو استلزم النهي الضرب الجارح أو القتل فهل يجوز أو لا يجوز، أقوال في المسألة.
القول الأول: الجواز مطلقاً وهو المنسوب السيد والشيخ والعلامة والشهيد علق ما حكي عنهم
القول الثاني: عدم الجواز إلاّّ بأذن الإمام كما ذهب إليه الشيخ في بعض كتبه والمحقق الزكي والمحقق الحلي بل عن المسالك انه الأشهر بل عن البرهان انه المشهور وربما نسب إلى الظاهر من شيوخنا الأمامية
والقول الثالث هو التفصيل بين الجرح فيجوز وبين القتل فلا يجوز إلاّّ بأذن الإمام كما عن الشهيد الثاني.
واستدل القول الثاني باطلاقات الأدلة وبالأسوة بعد أن فعله موسى (عليه السلام) فقضى عليه كما في القرآن بعد القول باستصحاب الشرائع السابقة وبعدم الفرق بين نهي المسلم والكافر لوحدة الأدلة فيها فلا يقال بأن عمل موسى ليس حجة علينا ولا أن المقتول كان قبطيا ولا أن ذلك كان ولاية وذلك لا صالة الأسوة في كل ما لم يكن دليل على خلافه كما يستدل له أيضاً لما روي عن الطبري وعبد الرحمن بن أبي ليلى قال أني سمعت علياً (عليه السلام) يوم لقيا أهل الشام يقول من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم ومن أنكره بلسانه فقد أوجر وهو افضل من صاحبه ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فقد أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين ولقول الباقر (عليه السلام) فهنالك فجاهدوهم بأبدانكم إلى غير ذلك من الأدلة
وأما القول الثاني فاستدل بالاطلاقات المنصرفة عن القتل والجرح وقال إن الأسوة في مثل موسى (عليه السلام) غير معلومة لأن ذلك مثل خطابات الحدود والجهاد وقتال البغاة وما أشبه فلا دلالة فيه على الإطلاق حتى في صورة القتل والجرح وأما الروايات التي استدل بها فهي من ناحية السند ضعيفة أو هي ظاهرة في باب الجهاد ولذلك فإن الأصل عدم الجواز لإطلاق أدلة عدم جواز القتل والجرح.
وأما أدلة القائلين بالتفصيل فاستدلوا بان انصراف الإطلاقات لا وجه له بل هي تشمل الجرح كشمولها الضرب بل الغالب التلازم بين الضرب وبين الجرح وأما القتل فهو منصرف عنها قطعاً ولو بمعونة فهم أن القصد من إنكار المنكر هو ازالته مع بقاء المرتكب لا انتفاؤه بنفي الموضوع لكن الظاهر أن الأنصاف عدم فهم القتل من الإطلاقات أما الجراح الخفيفة المستلزمة عرفا للنهي عن المنكر فذلك مما لابد منه القول بوجوبه فيه وتخصيص عملهم (عليه السلام) بوجود الولاية لا بوجه له فقول الشهيد اقرب إلى الإنصاف كما تبعه في ذلك سماحة السيد الشيرازي دام ظله في الفقه لكن تخصيصه مالم يبلغ الجرح الكثير كقطع اليد والرجم وفقد العين أو ما شبه إلاّّ بإجازة الحاكم الشرعي فيه وجه وفي القتل أيضاً لما ذكره الفقهاء في باب ولاية الفقيه .
نعم إنما يجب الأمر إلى هو الجرح كوجوبه إلى حد الضرب فيمن كان عالما بموازين الأمور حازما خصوصا في مثل هذه الأزمنة التي يكون فيها فساد النهي أكثر إذا كان النهي غير حازم وغير عالم والمسألة بحاجة إلى تأمل لا يسعنا المجال للتفصيلات فيها
المسألة الثامنة: يجب على الإنسان العمل بأمره بالمعروف والنهي عن المنكر في ضمن دوائر خمسة.
الأولى: إرشاد كافة الناس و أمرهم ونهيهم إذا كان ممكنا من ذلك لقوله سبحانه وتعالى ( وما أرسلناك إلاّّ كافة للناس ) بضميمة قوله سبحانه ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) بالإضافة إلى اطلا قات الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضلا عن المسؤولية الإنسانية التي تتعلق بذمة كلى إنسان تجاه الإنسان الآخر بأن يرشده الى مواقع الصواب ويدله على مواقع الخطأ ولعل القول هنا بلزوم العمل المؤسسي القائم بمهمة الوعي والتربية والترشيد فهو افضل وأكثر جدوى كالمؤسسات الإعلامية والثقافية والتربوية والخبرية والخيرية ونحو ذلك مما تمسك بزمام المجتمع وشؤونه وتسوقه إلى الخير وتدله على المعروف وتنزهه عن المنكر والمفاسد كما هو الشأن في المجتمعات القوية التي تصون حرمتها وكرامتها .
الدائرة الثانية إرشاد من يتمكن من إرشاده وهديه في دائرته الاجتماعية الخاصة أو العامة لقوله سبحانه ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ومضافا إلى سائر الأدلة وهذا يشمل الصديق والزميل والجيران ونحو ذلك .
الدائرة الثالثة: إرشاد القوم والقبيلة لقوله تعالى ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ولقوله عز وجل ( وإنه لذكر لك ولقومك ) ولقوله عز وجل ((وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إلى غير ذلك من الآيات .
الدائرة الرابعة: إرشاد الأهل لقوله سبحانه ((قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)) وهذه المرتبة آكد في الوجوب من إرشاد سائر الناس عقلاً وشرعاً وتشمل الأهل الخاصين كالزوجة والأولاد وغيرهم كالأرحام والاقارب أما عقلا فلأن الإنسان اولى بعائلته لأنه القيم عليهم وأما شرعا فللروايات الخاصة التي منها ما رواه عبد الأعلى عن الصادق (عليه السلام) قال لما نزلت هذه الآية ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) قال رجل من المسلمين عجزت عن نفسي وكلفت أهلي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك ) وخبر أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قلت كيف اقيهم قال (عليه السلام) تأمرهم بما أمر الله وتنهاهم عما نهى الله فإن اطاعوك فقد وقيتهم وان عصوك كنت قد قضيت ما عليك ) إلى غير ذلك من الروايات .
الدائرة الخامسة: حفظ النفس قال تعالى ((عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) وقال لا تكلف إلاّّ نفسك وقال (قوا أنفسكم) إلى غير ذلك من الأدلة الخاصة فإن هذه تدخل في دائرة مسؤولية الإنسان ويجب عليه أن يقوم بمهمة الأمر والنهي فيها .
التاسعة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل إرشاد الناس قد يكون باللفظ والتقطيب واليد وقد يكون بالأعمال الايجابية مثل أن يصلح الإنسان نفسه ليراه الناس فيقتدوا به وعليه ورد قوله (عليه السلام) ( كونوا دعاة لنا بغير السنتكم ) وهذا أيضاً واجب لأنه داخل في عمومات الإرشاد والأمر والنهي فمثلاً إذا كانت الصلاة أمام الملأ توجب إقتداء الناس بالمصلي يجب عليه أن يصلي أمام الناس وهكذا كما انه يجب أن يكون الأمر والنهي بالكيفية الملائمة لكل زمان ومكان فإن كان فتح المدرسة وتأسيس النادي وتكوين المكتبة وتأليف الكتاب وغيرها يوجب اطاعة الناس لله سبحانه وتعالى واجتنابهم عن معاصيه وجب ذلك أيضاً كما إذا كان تصنيع البلاد وتكثير الزراعة وتكثير المراعي فيها يوجب غنى المسلمين عن الكفار وحفظ كرامة المسلمين الموجب لا نطباق قوله (عليه السلام)( استغن عمن شئت تكن نظيره ) والذي يسبب بالأخير إلى انقلاع المسلمين عن فعل المنكرات واقدامهم على فعل الخيرات فإن الظاهر أن هذا تشمله أدلة الأمر والنهي والظاهر أن في زماننا هذا يجب الأمر بالتصنيع والتنسيق والتنظيم وقوة الإدارة والتدبير والقيام بالأعمال الجماعية والمؤسسية في مختلف المجالات كما ذكرنا فيما تقدم فإن الآية الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقول ( ولتكن منكم أمة ) والأمة هي الجماعة كما ذكرنا فلذا يشمل هذا - أي الجماعة ـ كل عمل مؤسسي وجماعي يؤدي إلى رفعة المسلمين ويدعوهم إلى الخير ويناهم عن المنكر
المسألة العاشرة: ينبغي على أهل العلم والثقافة والمعرفة إتمام الحجة على غيرهم لأنه مضافا إلى كونه من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هذه مسؤولية إنسانية عظيمة على أهل العلم والمعرفة أن يبينوها ويرشدوا الجاهلين ويدلوا الضالين فاللازم على العلماء إلاّّ يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم وان ينشروا الدين حتى ينطبق قوله سبحانه وتعالى (قل لله الحجة البالغة ) إذ بدون ذلك لا يتم الاجتماع وهذا سر وجوب التبليغ على الأنبياء مهما كلف الأمر إذ إتمام الحجة لا دليل على انه مشروط بشروط الأمر بالمعروف بل دليل الأسوة وأطلا قات الأدلة يدلان على عدم الاشتراط وذلك مقدم على الأمثل فيجب على أهل الفكر والثقافة والعلم البيان وان كان لا ينفع هذا البيان في جيل أولا ينفع في مصر أو في زمان وإنما ينبغي عليهم أن يبينوا خدمة للحقيقة وخدمة لأجيال الإنسانية وخدمة للحق والفكر والمعرفة مضافا إلى خدمة التاريخ ولتنبيه الضمير ولصنع الأسوة الحسنة فضلاً عن الاحتجاج بذلك عند الله تعالى يوم القيامة هذا وهناك تفاصيل أخرى
نتركها إلى مضانها وبهذا البيان نكتفي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونرجئ التفصيلات إلى المفصلات كما نرجئ البحث في كتاب الجهاد والخمس والزكاة والصدقات إلى مضانها في السنوات القادمة إن شاء الله