محاضرات فقه المجتمع - المحاضرة 43
هذا فيما يتعلق بلزوم الحماية والدفاع عن الأرحام والأقارب بالنفس وأما حمايتهم بالمال فقد تقدم منا وجوب النفقة على الزوجة وعلى العمودين من الآباء والأبناء على التفاصيل التي تقدمت لكن إذا دار الأمر بين أن ينقذ الإنسان نفسه بماله أو ينقذ أهله وأرحامه بماله ففي المسألة قولان ففي الشرائع ممزوجاً مع الجواهر نفقة النفس مقدمة على نفقة الزوجة عند التعارض بلا خلاف ولا إشكال لأهمية النفس عند الشارع وكذلك الحال فيما إذا دار الأمر بين النفقة على النفس والنفقةعلى الأرحام والأقارب أيضاً من باب أهمية النفس على غيرها.
هذا هو القول الأول، وهناك قول آخر ذهب إليه سماحة السيد الشيرازي دام ظله في الفقه هو الجواز في تقديم النفقة على الزوجة وعلى الأرحام على النفس، فقال بجواز أن يقدم الإنسان زوجته وأقاربه على نفسه وقال بعدم الدليل على لزوم تقديم النفس على غيرها بل مقتضى أن النفس مطلقاً محترمة عند الشارع فإن للإنسان أن يأكل ويترك غيره يموت وله أن يعطيه الآخر ويموت هو خصوصاً إذا كان ذلك لغرض عقلاني أو لغرض شرعي من الدفاع المحبوب شرعاً وعقلاً ويؤيده أنه لو دار الأمر بين أن يجوع هو أو يجوع غيره كان من الإيثار تقديم غيره كما في قضية صورة هل أتى التي نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام حيث أثروا الفقير واليتيم والمسكين على أنفسهم ثلاثة أيام وعليه أنه إذا انطبق في تقديم غير النفس على النفس عنوان الإيثار والمجاهدة في سبيل الله وما أشبه ذلك يتأكد الفضل والاستحباب لذا ورد أن المقتول في سبيل أهله شهيد ويؤيد ذلك ما رواه الدعائم عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه نهم ان يشبع الرجل ويجوع أهله) وما رواه البحار عن محمد بن علي بن الحسين في بحث العلة أن جوع النبي (صلى الله عليه وآله) انه هو أبو المؤمنين لقوله عز وجل النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم فمن كان أبو المؤمنين علم بأن في الدنيا مؤمنين جائعين ولا يحل للأب أن يشبع ويجوع ولده فجوع رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفسه لأنه علم بأولاده جائعين هذا مضافاً إلى الروايات العامة الدالة على ذلك ففي رواية الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت من الذي أجبر على نفقته قال الوالدان والولد والزوجة والوارث الصغير) وإطلاقها يشمل في صورة تعارض نفقة النفس أو نفقة الأولاد وغير ذلك من الروايات المستفيضة وقد ذكر بعضها سماحة السيد الشيرازي في الفقه وهذه الروايات وإن لم تدل على كل المقصود بزيادة ونقيصة بالإضافة إلى ضعف سند بعضها إلا أن في انطباق عنوان الإيثار والمجاهدة في سبيل الله والسيرة القطيعة من المعصومين في سورة هل أتى كفاية في وجوب حماية الأهل والأقارب والأرحام وتقديمهم من ناحية النفس والنفقة وهناك تفاصيل أخرى لا يسعفنا المجال في التعرض إليها فنرجئها إلى المفصلات.
-
المبحث الثالث: وهو في المحرمات الاجتماعية والأخلاقية تجاه الأرحام وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في عقوق الوالدين والإشكال في حرمة عقوق الوالدين فقد قال سبحانه وتعالى ((وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) وفي آية أخرى ((قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ)). إلى غير ذلك من الآيات المباركة هذا مضافاً إلى دلالة الروايات المتواترة على ذلك ففي الصحيح عنهم (عليه السلام) عدّ حقوق الوالدين من الكبائر فكل ما كان عقوقاً كان محرماً كما أنه يحرم مخالفة الوالدين بما يوجب أذاهما في غير الواجب العيني كان في الأصل واجباً عينياً أو كان كفائياً فتعين فصار عينياً لعدم قيام من فيه الكفاية وفي موارد الواجبات على الولد لا يجوز طاعتهما إذا استلزمت طاعتهما معصية الخالق عز وجل لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا فرق بين الوالدين بين الكبيرين والصغيرين في السن كما أن الظاهر أنه لا فرق بين المسلم والكافر على ما بيناه تفصيلاً فيما تقدم.
المسألة الثانية: في قطيعة الرحم ولا إشكال في أن قطيعة الرحم من الكبائر وكل واحد من الرحم والقاطع موضوعان عرفيان يؤخذان من الفهم العرفي فالتصرفات التي يأتيها الإنسان تجاه أرحامه وأقاربه من ناحية الصلة أو من ناحية القطيعة يفهمها ويحددها العرف فرب عمل يؤديه الإنسان تجاه الأرحام ويعد من القطيعة كموارد النزاعات أو الخلافات وما أشبه ذلك قال سبحانه وتعالى: ((وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) ومعنى اتقوا الله الذي تساءلون به أن تعصوه واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقال تعالى ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)) وقال سبحانه ((وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)) إلى غير ذلك من الآيات والروايات وفيها دلالة في أن قطع الرحم يوجب العقوبات في الدنيا قبل الآخرة كما بينا ذلك تفصيلاً.
المسألة الثالثة: في حرمة اتخاذ الخدن من المحارم، قال سبحانه وتعالى: ((فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ)) وفي آية أخرى ((مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ)) والخدن هو الصديق كما يتعارف عند الفسقة أن يتخذ خدناً من النساء يلاطفها ويلامسها ويغازلها بدون عقد أو المرأة تتخذ خدناً من الرجال بدون عقد وذلك حرام شرعاً وإن لم يباشر أحدهما الآخر بالزنا والقبلة واللمس لإطلاق الآيات المباركة مضافاً إلى أن اتخاذ الأخدان ملازم عرفاً للخلوة بين الأجنبيين وهو محرم شرعاً هذا بالنسبة إلى الأجنبي مع الأجنبية وتشتد الحرمة إذا تخذ الخدن من المحارم بأن تتخذ المرأة خدناً من محارمها أو يتخذ الرجل خدناً من محارمه فإن الحرمة في هذه الصورة تكون مضاعفة:
المسألة الرابعة: لا يجوز للآباء إهانة الأولاد ولا تحقيرهم أو إذلالهم حتى وإن كان في موارد التربية لحرمة تحقير المؤمن وإذلاله أو إهانته أو الاستخفاف به وقد دلت على ذلك الروايات ولا يختلف الحال بين الأولاد الكبار أو الصغار هذا مضافاً إلى ما للإهانة والتحقير والإذلال من الآثار النفسية والتربوية الكبيرة على مستقبل الأولاد فإنه لا يجوز للوالدين أن يستندا إلى وجوب تربية الأولاد فيقوما بإيذائهم أو تحقيرهم وإذلالهم وامثال ذلك فإن موارد الاستثناء كالضرب للتأديب تلك من الضرورات فتقدر بقدرها فلا يجوز مطلقاً سب الأولاد وتحقيرهم وإذلالهم فإن اطلاقات الأدلة بذلك تدل على أن هذا العمل من الكبائر فمن الروايات ما عن المعلى بن خنيس عن الإمام الصادق قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال الله عز وجل من استذل عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة) وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) سمعته يقول أن الله عز وجل ليأذن بحرب مني من إذا عبدي المؤمن وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب ولا يخفى أن اطلاق هذه الروايات يشمل الأولاد وغيرهم كما يشمل الأطفال وغيرهم أيضاً إلا في الموارد التي استثناها الشارع أو لم يكن يعد من الإهانة والإذلال عرفاً كالأطفال الصغار الذين لا يميزون.
المسألة الخامسة: في جواز الأكل في بيوت الأرحام والأقارب واستثنائه من حرمة أكل مال الغير من دون طيب نفس فإن الأصل الأصيل في الشريعة عدم جواز أكل مال الغير من دون إذنه ورضاه وقد صرحت الآيات والروايات بذلك فمن الآيات ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أموالَكُمْ بينَكُمْ بالباطِل) والأكل لمال الغير بدون رضاه أكل بالباطل وقال سبحانه وتعالى ((وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً)) وقال سبحانه: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)) والظاهر أن اليتيم من باب المثال والمصداق لأنه أضعف المصاديق والأفراد كما هو واضح وان الواضح أن حرمة كل مال الغير ليس من قبيل أكل الحرام الذاتي كشرب الخمر أو أكل لحم الخنزير كما هو واضح، ولا يفرق في تلك بين أن يكون مسلماً أو كافراً محترم المال وذلك من الضروريات عند المسلمين كافة وقد دلت الروايات عليه أيضاً فعن العمري عن مولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف (فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه) وفي صحيح الشحام عن الصادق (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتنمنه عليها فإنه لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة نفس منه) وفي صحيح الحذّاء قال أبو جعفر (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اقتطع مال مسلم بغير حقه لم يزل الله معرضاً عنه ماقتاً لأعماله التي يعملها من البر والخير لا يثبتها في حسناته حتى يرد المال الذي أخذه إلى صاحبه) ومن الواضح أن حرمة أكل مال الناس لا فرق فيها بين الأكل بصورة الغصب أو الابتزاز أو السرقة أو الأكل إكراهاً منه أو اجبارا أو ما أشبه ذلك ويشمل ذلك حتى الأكل بسبب القوانين الجائرة باللجوء إلى محاكم الضلال وما أشبه ذلك أو بسبب إغفال الحاكم أو إغفال الشاهد أو ما أشبه ذلك فإن كل ذلك حرام ويصدق عليه أنه أكل المال بالباطل وقد قال سبحانه وتعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) إلى غير ذلك من الآيات والروايات.
هذا من ناحية الأصل والضابطة العامة لكن يستثنى من حرمة أكل أموال الناس ما أباحه الشارع إذ لا يعد ذلك من الأكل بالباطل وإنما هو أكل بإجازة الشارع الحكيم الذي هو المالك الحقيقي للملوكات جميعاً ومن هذه المستثنيات الأكل من البيوت الخاصة المذكورة في الآية الكريمة من بيوت الأهل والأقارب والصديق حيث قال سبحانه وتعالى ((لَيْسَ عَلَى الأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً)) ومن الواضح أن هذه الموارد في الجملة تعد من طبقات الأرحام في العمودين أو من ينتسب إليهم ولا يخفى أن الآية لم تذكر الزوجين والظاهر أنهما داخلان في قوله سبحانه وتعالى (بيوتكم) لأن الزوجين بيت كل واحد منهما بيت الآخر أيضاً وإن كان للزوج زوجتان مثلاً أما عدم ذكر الأبناء في الآية فالظاهر أنه يدخل في البيوت أيضاً بقوله (صلى الله عليه وآله) أنت ومالك لأبيك فإن ذلك يعد من البديهيات لأن الولد كالنفس ولو فرض الإشكال في ذلك فلا إشكال في أن الملاك القطعي موجود بالنسبة إلى بيت الابن لأن الآية استثنت بيت الصديق والابن أولى من الصديق كما لا يخفى ولا يخفى الاشكال أيضاً في أن المذكورين بوطي الشبهة ملحق بالحلال أيضاً وهل يشمل ذلك الأخوة بالرضاعة بلحاظ أن الرضاع لحمة كلحمة النسب أولا.
في المسألة احتمالان والظاهر أن الحكم شامل أيضاً لمثل الأجداد والجدات لأنهم أقرب من الصديق قطعاً فتشملهم أيضاً بالأولوية أما الأعمام والإخوان للإنسان أو أعمام الآباء للإنسان وكذلك أخوالهم وكذلك أولاد الأخ وأولاد الأخت ففي شمول الآية لهم تأمل وقد فصل ذلك الفقهاء في كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه. وفق المستثنيات من حرمة الأكل إذا أخذ مال الغير بنحو المقاصة فإن الإنسان إذا أخذ الغير ماله ولم يؤده اما عصياناً أو بسبب موته أو ما أشبه ذلك ولم يتمكن من مراجعة الحاكم الشرعي أو مراجعة الورثة جاز له الأخذ بقدر حقه وكذلك إذا كان الإنسان له حق على الأقارب والأرحام أو على الزوجة مثلاً فالأصل في ذلك جواز المقاصة كما بينا ذلك في باب نفقة الزوجة في قصة هند زوجة أبي سفيان حيث أجاز لها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أن تأخذ من ماله بدون إذنه لأنه كان شحيحاً عليها.
المسألة الثامنة: في حرمة أن يتخذ الإنسان الأبوين والأرحام إذا كانوا من الكفارأولياء فيتولاهم فقد حرم الله تعالى أن يتخذ المسلم الكفار أولياء قال سبحانه وتعالى ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقواالله إن كنتم مؤمنين ) وقال سبحانه ( لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيءإلا أن تتقوا منهم تقاة وييحذركم الله نفسه والى الله المصير ) وفي آية أخرى ( يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ)) إلى غير ذلك من الآيات الواردة والمقصود من الولاية اتخاذهم بطانة وإخلاء يوليهم النصرة والتعاون وما أشبه ذلك واتخاذ الكفار أولياء وتوليهم وإلقاء المودة إليهم بل والاستغفار لهم كما في قصة إبراهيم (عليه السلام) هذه من المحرمات قال سبحانه وتعالى: ((وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)) فالولاية للكفار بأي نحو من الأنحاء من المحرمات ولو كانت للآباء والأجداد والأبناء والأرحام هذا بالنسبة إلى أعداء الله والذين ينصبون العداء والمحاربة للمؤمنين والمسلمين وأما الكفار والمشركون الذين لا ينصبون العداء للمؤمنين والمسلمين فيجوز الإحسان إليهم والبر بهم قال سبحانه وتعالى: ((لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) وفي التواريخ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحسن إلى جملة من الكفار ومنح لأهل بدر أن يسقوا من الحوض الذي صنعه المسلمون بينما جاء الكفار لقتالهم وكذلك أحسن الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الذين جاؤوا لقتله فسقاهم الماء وقبله أحسن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الذين حاربوا وخرجوا عليه وكانوا من أشد النصب والعداء وأباح لهم الماء فإن ذلك كان لمصلحة أهم وهو ضرب المثل وجعل القدرة الحسنة وكسب كثير من الجاهلين والمشتبهين أو الذين غرر بهم من الكفار وجذبهم إلى الدين وإلى الإسلام وفي جملة من الروايات الترحم بالنسبة إلى الأبوين الكافرين اللذين ماتا وهما على الكفر فيتحصل من مجموع ما بينا أن المحرم هو المودة والتولي واتخاذ الآباء والأخوة والأبناء بطانة إذا كانوا من الكفار أن نتخذهم أولياء مثل المودة والتولي واتخاذ المؤمنين أولياء وأما الإحسان والبر وما أشبه ذلك فجائز هذا في صورة ما إذا لم يكونوا من المحاربين وأما إذا كانوا من المحاربين فلا يجوز أيضاً قال سبحانه ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)) فالبطانة هو الذي يجعله الإنسان موضع سره يبوح إليه بما يخفي من سائر الناس مثل بطانة الثوب الملاصقة لجلد الإنسان والظاهر أنه حرام شرعاً سواءً كان بطانة كافر أو مخالف أو منافق ونحو ذلك وكان من الأرحام أو غيرهم.
- في حرمة التبري من النسب
المسألة التاسعة: يحرم التبري من النسب لقول الصادق (عليه السلام) في صحيح أبي بصير كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق والمراد بالكفر في الرواية هو الكفر العملي لا الكفر العقيدي فإن اطلاق الكفر وقع في التشديد على الأعمال المحرمة في كثير من الروايات كما أن الظاهر أن قوله (عليه السلام) وإن دق المراد به النسب البعيد ولا فرق في حرمة التبري من النسب أن يترتب عليه منكر كالإرث والمحرمية ونحوهما كالتبري من الآباء والأخوة والأخوات أو لا كالتبري من ابناء العم أو أبناء الخال وما أشبه ذلك لاطلاق الدليل.
المسألة العاشرة: من جملة حقوق الوالدين أن لا يعمل شيئاً ينتهي إلى سبهما أو إلى لعنهما فعن درست عن أبي الحسن (عليه السلام) قال سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما حق الوالد على ولده، (قال لا يسميه باسمه ولا يمشي بين يديه ولا يجلس قبله ولا يستسب له).
وقوله (صلى الله عليه وآله) لا يستسب له أي لا يعمل عملاً يوجب سبه فيقول الناس لعن الله أباه مثلاً، فإن هذا اللعن حتى وإن كان لا يصل إليه أثره في الآخرة لأن الحساب في الآخرة طبق موازين (لا تزر وازرة وزر أخرى ) إلا أن ذلك في الدنيا لعن الآباء وسب الآباء في الدنيا نوع إهانة كما أن عكسه نوع احترام وعن محمد بن مروان قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) ( ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين يصلي عنهما ويتصدق عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك فيزيده الله ببره وصلاته خيراً كثيراً ) وعن إبراهيم بن شعيب قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ( إن أبي قد كبر جداً وضعف فنحن نحمله إذا أراد الحاجة فقال (عليه السلام) إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل ولقمه بيدك فإنه جنة لك غداً ) وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال أن العبد ليكون باراً بهما في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقاً وأنه ليكون عاقاً لهما في حياتهما غير بار لهما فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه الله باراً ) .
وعن حنان بن سديرعن أبيه ( قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) هل يجزي الولد أباه قال ليس له جزاء إلا بخصلتين يكون الوالد مملوكاً فيشتر يه ابنه فيعتقه ويكون عليه دين فيقضيه عنه ) .
ومن الواضح أن هذه الروايات في اطلاقهما الاحترام ولو بعد الموت ولو في صورة الدعاء أو منع السب واللعن وما أشبه ذلك كما أن من مصاديق الاستغفار والدعاء أن يعمل الولد أعمالاً صالحة وبارة بالآخرين فيدعون له ولوالديه وهذا أيضاً تشمله الروايات.
المسألة الحادية عشرة: يحرم التفريق بين المؤمنين وبين الأخوة والأخوات وبين الآباء والأبناء وبين الأعمام وأبنائهم وأبناء العم وأبناء الخال ونحو ذلك فإن التفريق لا يكون إلا بالهجر ونحوه ومن الواضح أن هجر المؤمن محرم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في رواية ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) ألا انبئكم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله صال المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة بل إن كل ما أمر به الله سبحانه وتعالى أن يوصل يكون التفريق فيه من المحرمات قال سبحانه ((الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)) وهذا أعم من الرحم كالزوجين مثلاً حيث أمر الله سبحانه وتعالى أن يوصل بعضهم بعضاً ويعاشر بعضهم بعضاً بالمعروف.
كما أن المؤمنين هكذا أيضاً ففي كل مورد أمر الله به بالوصل يحرم قطيعته أو يحرم العمل على القطيعة بينهما كما في كل مورد أمر الله بالقطع كالتولي للكفار كما بيناه يحرم وصلته ومنه يعرف أيضاً أن الجلوس في أمثال هذه المجالس أو الاتصالات الهاتفية أو كتابة الرسائل أو المحادثات الخاصة التي توجب التفريق بين الأحبة وتعقد لهذا الغرض أيضاً تكون من المحرمات قال سبحانه وتعالى: ((وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) وقال سبحانه وتعالى ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)) وفي الصحيح سأل العقرقوفي عن الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل وقد نزل عليكم في الكتاب فقال إنما عنى بهذا الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة فقم من عنده ولا تقاعده كائناً من كان.
ومنه يفهم أن أمثال هذه المجالس مجالس منكر والوقيعة بين الناس كمجالس القمار والخمار والزنا واللواط فإنه ينبغي الاجتناب عن هذه المجالس لأن العمل حرام وهي أعمال توجب الاستهزاء بالله وبرسوله وأحكامه كما أن مجلس الغيبة والنميمة والبهتان وإن كان الجالس لا يسمع لصمم أو غيره فإن المشاركة في مثل هذه المجالس والحضور فيها يكون محرماً فكيف بالمجالس التي ربما تعقد أو تقام فيها أعمال للتفريق بين الأقارب والأرحام وبين الأحبة ومن الواضح أنه ليس المراد الجلوس بظاهر لفظه بل حتى أن يصاحب الإنسان مثل ذلك الإنسان في الطريق أيضاً ومثل ما إذا خابره بالهاتف أو على الاذاعة أو التلفريون أو ما أشبه ذلك من الأفلام والبرامج التي توجب الوقيعة والتفريق بين الأحبة فضلاً عن المجالس الأسرية التي يقام فيها مثل ذلك العمل.
المسألة الثانية عشرة: يحرم تمني موت الأقرباء والأرحام فإن الظاهر من الأدلة الحرمة كما يحرم تمني موت بعض البنات للنصوص بل والأولاد للملاك وهكذا الأقارب وسائر المؤمنين والمؤمنات فهل مثل ذلك تمني مرضهم أو فقرهم وما أشبه ذلك ؟ فيه احتمالان
فعن الصادق (عليه السلام) ( أنه قال له عمر بن يزيد أن لي بنات قال لعلك تتمنى موتهن أما أنك إن تمنيت موتهن فمتن لم تؤجر يوم القيامة ولقيت ربك حين تلقاه وأنت عاص ) .
وحيث أن التمني شامل للقلب واللسان وما أشبه ذلك فالظاهر الحرمة مطلقاً نعم ربما يقال أن المنصرف منه هو التمني اللفظي ونحوه كالتمني بالكتابة أو الإشارة.
أما مجرد التمني القلبي بدون أن يظهر على اللسان أو على الجوارح فهو من التجري أما إذا كان التمني في مورده فليس بمحرم بل ربما يستحب أو يجب ومنه قول علي (عليه السلام) لبعضهم ثكلتك أمك وقول الحسين (عليه السلام) للحر في قصة مشهورة وذلك على أن ذلك من التمني لا السب لأن ذلك خارج بالتخصص لاستحقاقه ذلك التمني كما ورد في القرآن الكريم اللعنة على الظالمين والكافرين وتمني هلاكهم أيضاً ودخول الفقر عليهم كما ورد في الأدعية الواردة على الظالمين ونحو ذلك أما تمني موت الأقارب بغير استحقاق فهذا من المحرمات على ما بيناه.
المسألة الثالثة عشرة: لا يجوز دخول الأرحام بعضهم على بعض في أوقات الخلوة الخاصة التي نص عليها الشارع في الكتاب العزيز إلا بعد الاستئذان قال تعالى ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) وقد دلت الآية الشريفة على ثلاثة أوقات لا يجوز الدخول فيها على الناس إلا بعد الاستئذان الأول من قبل صلاة الفجر وذلك لأن الإنسان ربما يبيت عرياناً أو على حال لا يحب أن يراه غيره في تلك الحال.
والثاني: حين تضعون ثيابكم من الظهيرة ويريد منه هو وقت القائلة الذي يذهب فيه الإنسان إلى الراحة الثالث من بعد صلاة العشاء الآخرة حين يأوي الرجل إلى امرأته ويخلو بها فأمر الله سبحانه بالاستئذان في هذه الأوقات التي يختص الناس فيها ويخلون إلى أنفسهم أو إلى أزواجهم وقد سمت الآية هذه الأوقات الثلاثة عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته وقد قال السدي كما في مجمع البيان كان أناس من الصحابة يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الأوقات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يأمروا الغلمان والمملوكين أن يستأذنوا في هذه الساعات الثلاث والعورة سوءة الإنسان وذلك كناية وأصلها العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة ولعل هذه الجهة سميت النساء عورة وكيف كان فإن وجه الاستدلال بالآية الشريفة أنها قسمت الأولاد الذين يمكن أن يدخلوا على الكبار والأرحام إلى ثلاثة.
الأولاد البالغون وهؤلاء ينبغي عليهم الاستئذان على كل حال في الأوقات التي هي من العورات أو التي ليست بالعورات يجب على الولد البالغ كبيراً كان أو صغيراً أخ كان أو عم كان أو خال كان وما أشبه ذلك أن يستأذنوا حين الدخول في كل حال ووقت.
الثاني: الطفل غير المميز وهو الطفل الصغير الذي لم يبلغ الحلم بعد ولم يبلغ مرحلة التمييز كالأطفال لهم سنوات قليلة من العمر كثلاث سنوات أو أربع سنوات فإن هؤلاء يجوز الدخول على كل حال لأنهم لا يمييزون العورة من غير العورة ولا عورة بالنسبة إليهم وقد نصت الآية في وجوب الاستئذان في تلك الأوقات الخاصة لأنها من العورات.
الثالث: إذا كان الطفل المميز الذي لم يبلغ الحلم أي لم يصل إلى مرتبة الحلم بعد إلا انه يميز العورة من اللاعورة كالولد إذا كان له من العمر اثنا عشرة سنة أو عشر سنين والبنت إذا كان عمرها سبع سنوات أو ثمان سنوات ومن الواضح أن الطفل المميز يميز العورة من غيرها فتشمله الآية الشريفة ولذا يجب عليه الاستئذان في الأوقات الثلاثة التي نصت عليها الآية الشريفة وهنا بعض البيان الذي يتطلب الإشارة وهو أن التكليف في قوله تعالى ليستأذنكم أهل هو متوجه إلى الأطفال ؟ باعتبار أنهم هم الذين يدخلون على الآباء ونحو ذلك فيجب عليهم الاستئذان أم أن هذا التكليف متوجه إلى الآباء ؟ في المسألة احتمالان
الاحتمال الأول أن نقول إن التكليف هنا متوجه إلى الأطفال فيجب عليهم الاستئذان في الأوقات الثلاثة وإذا كانوا لا يعرفون ذلك فإنه يجب على الآباء أن يأمروهم بذلك لكن تكون الآية الشريفة في هذه الصورة بالقياس إلى الحديث الشريف الذي رواه الفريقان رفع القلم عن الصبي يحتلم تكون هذه الآية مخصصة لتلك الرواية فإن تلك الرواية تقول الطفل غير مكلف وإن كان مميزاً أما هذه الآية الشريفة تكلف الأطفال غير المميزين فتكون الآية مخصصة لتلك الرواية.
الاحتمال الثاني أن نقول إن هذا التكليف غير موجه إلى الأطفال وإنما هو موجه إلى الآباء أو إلى الكبار بغض النظر عن كونهم من الآباء أو غيرهم لأن الطفل غير مكلف كما هو متفق عليه فحينئذٍ ينبغي على الآباء أن يستروا عوارتهم بشكل بحيث إذا أراد الطفل أن يدخل عليهم لا يتمكن من الدخول إلا بالاستئذان ويؤيد هذا القرينة في أول الآية الشريفة حيث أن التكليف موجه إلى المؤمنين حيث يقول سبحانه وتعالى ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)) فالخطاب موجه إلى الكبار ـ إلى المكلفين ـ والأطفال حينئذٍ غير مكلفين لكن ينبغي على الكبار أن يأمروا الأطفال بالاستئذان أو يكونوا بحالة بحيث لا يتمكنوا من الدخول عليهم إلا بالاستئذان.
وبهذا يمكن الجمع بين الآية الشريفة وبين تلك الرواية التي تقول رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وبناءً على هذا فإنه يحرم على الإنسان الكبير البالغ إن كان من الأرحام أو كان من الغرباء الدخول على الناس من دون استئذان إلا في الزوج والزوجة وذلك للاستثناء الخاص وأما الأطفال فإذا كان غير مميز فإنه يجوز له الدخول مطلقاً من غير استئذان أما الطفل المميز فإنه يجوز له في كل الأوقات إلا الأوقات الثلاثة التي ذكرتها الآية فإنه لا يجوز الدخول إلا بعد الاستئذان والظاهر أن الاستئذان في الأوقات الثلاثة من باب المتعارف وإلا الاعتبار بالعورة فمن ينام في الصباح أو في العصر يكون حكمه كذلك إذا كان يصنع ثيابه ويستوجب الدخول عليه كشف سوأته ونحو ذلك حيث أن الميزان هو العورية كما تقدم فلا حد للالتزام فيه بل الميزان هو العورة سواء كان المنام عصراً أو كان ضحى وما أشبه ذلك كما لا فرق في الأطفال بين أطفال الآباء أو أطفال الجار أو أطفال الأرحام نعم هناك حديث يقول بلزوم استئذان الولد من الأب إذا أراد الدخول عليه دون العكس فعن الصادق (عليه السلام) يستأذن الرجل إذا دخل على أبيه ولا يستأذن الأب على الابن ويستأذن الرجل على ابنته وأخته إذا كانتا متزوجين والظاهر أن هذا الحديث يمكن تخصيصه بالآية الشريفة فإن دخول الأب على الابن إذا كان يستوجب العورية على الابن بحيث يرى منه ما لا يجب أن يراه أحد وإن كان الأب أو كانت الأم فإنه في هذه الصورة لا يجوز الدخول إلا بعد الاستئذان فالآية الشريفة تخصص هذا الحديث خصوصاً إذا استوجب الدخول هتك الولد وما أشبه ذلك نعم الإمام (عليه السلام) قد ذكر الابن في المورد الغالب إذ لعله في الغالب لا يوجب هتك العورة وما أشبه ذلك بقرينة دخول الرجل على ابنته واخته لا يجوز إلا بعد الاستئذان.