محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 6 - في أهداف الدولة
- الفصل الرابع في أهداف الدولة
ولا يخفى أن الأهداف التي تتوخاها الدولة تنقسم إلى أهداف وجودية بمعنى أنها الضرورات التي ينبغي أن تقوم لأجله الدولة وقد عرفنا مما تقدم بعضها.
والثاني منها الأهداف التنموية بمعنى تلك الأهداف التي ينبغي على الدولة حتى تتسم بالشرعية الكاملة بأن ترعاها إلى المجتمع الذي تحكمه وفي هذا الفصل نتعرض إليها في الجملة فقد قامت الأدلة الأربعة كتاباً وسنةً وإجماعاً وعقلاً بل وفروع الأدلة الأربعة كالسيرة وبناء العقلاء والمرتكزات المتشرعة وما أشبه ذلك على وجوب أن تهدف الدولة الشرعية الأمور ألاربعة وهي:
- أولاً: إرساء النظام في المجتمع وذلك لأن به تحفظ الأموال والحقوق والنفوس والأعراض والدين التي هي من أهم الملاكات الشرعية والعقلائية.
- الثاني: حفظ العدل وقد دل على وجوبه الأدلة الأربعة أما العقل فلاستقلاله بحسن ذلك وأما الشرع فلأنه قوام الرعية وجمال الولاة وقد ورد الأمر به في جملة من الآيات والروايات كما في قوله سبحانه وتعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وفي قوله سبحانه وتعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) وكذا في قوله عز وجل: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).
وأما الروايات فمتواترة منها ما ورد عن مولانا جعفر بن محمد الصادق قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعمر بن الخطاب: ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهن وإن تركتهن لم ينفعك شيء سواهن، قال وما هي يا أبا الحسن؟ قال (عليه السلام): إقامة الحدود على القريب والبعيد والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود قال عمر: لعمري لقد أوجزت وأبلغت وقد روى هذه الرواية الحر العاملي رضوان الله عليه في كتابه الوسائل وقد جسد الإمام (عليه السلام) في سيرته هذه التسوية بين الأفراد عملياً وذلك لما حد النجاشي فغضب اليماني فدخل طارق بن عبد الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيان في الجزاء حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث فأوغرت صدورنا وشتت أمورنا وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار فقال(عليه السلام): وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين يا أخا بني نهد وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة ما حرم الله فأقمنا عليه حداً كان كفارته إن الله تعالى قال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) إلى غير ذلك من النصوص والأمثلة العملية على ذلك.
- الثالث: توفير الرفاه للجميع بمقتضى كونه من أهم الغايات العقلائية التي ينبغي أن تتوخاها دول العقلاء بما اقتضى كون الدولة حامية لحقوق الناس ومتصرفة فيما لهم حق فيه من المال والثروة وفرص العمل.
- الرابع: التقديم بالمجتمع إلى الأمام وهذا هو مقتضى الارتكاز العقلائي في هدفية العقلاء في الأمور وفي الروايات الشريفة من لم يكن في زيادة فهو إلى نقصان ومن تساوى يوماه فهو مغبون فكيف أن نتوقف عن التقدم في المسألة ولا يخفى إن الشخصية الحقوقية للدولة قررها العقل والمنطق والدين ولعل قوله سبحانه وتعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ونحوه يشير إلى ذلك ومن هنا فإن من اللازم على الدولة تحري الغرض الصالح لحفظ مصالح الأمة والتقديم بها إلى الإمام وجعل القوة وسيلة للعدل والمساواة في موازينها العادلة والغرض الصالح يتجلى في ثلاثة أمور الأمر:
- الأمر الأول: كون الهدف مطابق للعقل والمنطق وفي الدولة الإسلامية أن يكون مطابقاً لموازين الإسلام وذلك بأن تكون الدولة مراعية لموازين العقلاء فتعمل بالحسن في كل الشؤون وتجتنب عن القبيح فيوجب عملها حفظ الأنفس والأعراض والأموال للكل فلا استبداد ولا اعتباط ولا ترفيع أو تخفيض لفرد أو لجماعة من دون موازين أو على حساب الآخرين ومن خرج عن القانون العقلي والشرعي في الدولة المتشرعة عوقب بقدر خروجه بحسب ما يقتضيه العقل والشرع فقط.
- الثاني: أن يتجه الهدف الصالح في الدولة لصالح الفرد وذلك في أمور:
1- لتأمين المأكل والمشرب والمسكن والملبس والمركب والدواء والزواج للأفراد إلى سائر حاجاتهم وحفظهم من الخوف والقلق.
2- وحفظ حقوقه بعدم تعدي الآخرين عليه سواء كان المتعدي في الخارج كالدولة الأجنبية أو في الداخل كالسراق ومن إليهم.
3- تهيئة وسائل الإنماء والتقدم بما يكفل النهوض به فقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في حكمة بعثة الأنبياء ليثيروا لهم دفائن العقول ويدل على ذلك كله بالإضافة إلى العقل جملة من الأدلة الشرعية فإن خلاف ذلك تضييع للموازين وقد ورد عنهم (عليهم السلام) لعن الله من ضيع من يعول وأنه خلاف الرعايا وقد ورد عنهم (عليهم السلام) كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وورد أيضاً من ساوى يوماه فهو مغبون إلى غير ذلك.
بالإضافة إلى ما ورد عن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) من قوله الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فإن الظاهر أن المراد من علو الإسلام هو العلو بطبعه فيشمل عدم ارتفاع حجة غيره عليه ولزوم ترفيع عليه ما يرتبط به وتقدم الإسلام والمجتمع الإسلامي على غيره وليس هذا من باب الجمع بين الأخبار والإنشاء حتى يقال أن الجمع بينهما محال أو خلاف الظاهر فلا يسار إليه إلا بالقرينة وإنما هذا من باب شمول الإطلاق لكل هذه الموارد والمصاديق مضافاً إلى الإشكال في أصل المبنى من عدم إمكان الجمع بين الإخبار والإنشاء على ما قرر في الأصول.
- الثالث: أن يتجه الهدف الصالح للدولة لصالح الجماعات أيضاً سواء كانت جماعات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو صحية أو غيرها والدليل في هذا المقام هو ما تقدم في الثاني نعم هناك فرق بين الإسلام وبين القوانين الوضعية في هذا الأمر فإن الأصل في الإسلام هو الحرية المستفادة من مثل الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم ولذا فلكل إنسان أن ينضم إلى الآخرين لبناء الحياة وتقدمها ولا يحد هذه الحرية إلا ما يوجب الضرر على الآخرين أو على النفس بما لا يجوز تحمله شرعاً أو على الشرع فيما حرم أو أوجب فليس للدولة في نظر الإسلام التدخل في شؤون الأفراد أو في شؤون الجماعات أو وضع الدساتير والقوانين لها وتقييدها بقيود إطلاقاً نعم إذا أخطأ فردها أو كل الجماعة حق للدولة إيقافها على المقرر الشرعي وذلك كالفرد حيث أنه حر لا يقيد وإذا ثبت خطأه أوقف عند حده بحسب الموازين الشرعية بينما القوانين الوضعية تقيد الجماعة بقيود كلها منافية للحرية ولذا كانت كل تلك القيود باطلة في نظر الشريعة ولعله سيتنازل القانون الوضعي عن هذه القيود كلما اكتشف أخطائها ومانعيتها لحرية البشر وحلولها دون تقدمه وكيف كان فالدولة ينبغي أن تراعي القانون وحقوق الإنسان والعدالة والرفاهية وحسن التدبير ورعاية النظام وتقديم الأمة ومن هذه المجموعة من المبادئ تتكون الدولة الصالحة وتحظى بالمشروعية عند العقلاء وعند الشريعة كما أنها ستكون بهذه المبادئ طريقاً لتقويم الأمة الرشيدة الصالحة المتقدمة في الحياة وهنا مسائل:
- المسألة الأولى: على الدولة أن تطبق نصوص القانون على الأمة ولا تحيد عنها إرضاءً لفئة أو الحاكم بلا فرق في ذلك بين الدولة الإسلامية وبين غيرها ففي الإسلام يجب على الدولة تطبيق القوانين الإسلامية على الجميع وإن لم يفهم الحاكم وجه القانون بل وإن زعم أن القانون غير كامل إذ اللازم أن لا يحيد الحاكم عن ذلك إلا إلى القانون الثانوي الشرعي فقد يكون دليل لا ضرر أو لا حرج أو قانون الأهم والمهم أو غير ذلك من القوانين الثانوية منطبقة على الموارد فيستثنى منه عن الحكم الأولي.
وأما في غير ذلك فلا مجال للتخلي عن تطبيق القانون ومنها ما إذا رأى الحاكم الإسلامي الذي بيده امر الصلاح في العفو أو ما أشبه ذلك في تطبيق الحدود والتعزيرات كما عفا رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) عن أهل مكة وعفا مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل البصرة وعفا عن السارق فقال له (عليه السلام) وهبتك لسورة البقرة إلى غير ذلك مما ذكره الفقهاء في باب القضاء والحدود والتعزيرات ثم إن في الدولة غير الإسلامية يجب على الدولة تنفيذ القانون أيضاً بمقتضى الحكم العقلي والعقلائي حتى إذا كان القانون لا ينصف المواطن ولا يقوم على أساس من العدالة ولا يرد الحقوق إلى أربابها وذلك دفعاً للهرج والمرج والظلم الأكبر والتعدي الأكثر وإن كان اللازم السعي لإسقاط القانون باستفتاء الشعب في تبديله إلى القانون الصالح الذي يراعي موازين العدالة وبإثارة الشعب إلى حد الهياج ليعدل المشرعون القانون وذلك لأن مراعاة القانون أهم من مراعاة الأفراد الذين يطبق عليهم قانون غير عادل حيث أن الفوضى التي تترتب على عدم مراعاة القانون أضر من ذهاب حق بعض المواطنين بل قد نجد في الإسلام مثل ذلك تقنيناً وتطبيقاً فيقال إن العدة مثلاً التي تأخذها المرأة بعد الطلاق أو بعد وفاة الزوج لأجل عدم اختلاط المياه لكن العدة تجري حتى بالنسبة إلى المرأة العقيم ضرباً للقاعدة وتوحيداً للقانون مع أن في عدتها ذهاباً لحقها إن لم نقل أن العدة لمصلحة احترام الزوج أيضاً وهي موجودة في العقيم طبعاً وفي التطبيق نرى أيضاً أنه إذا كان خوف سراية الوباء جاز منع الدولة لاستعمال بعض أنواع اللبن ومشتقاته مثلاً أو المنع من بعض الملابس أو استعمال بعض الأدوات وما أشبه ذلك وذلك لتقديم مصلحة حفظ الصحة العامة على مصلحة حق صاحب اللبن في ماله مثلاً وما أشبه ذلك.
لكن الكلام هل للدولة أن تراعي في مثل ذلك روح القانون أو تراعي صورة القانون في صورة التعارض بينهما قولان في المسألة:
- القول الأول: يرى لزوم مراعاة روح القانون لأن القانون وضع لروحه لا لصورته وهذا هو الذي يقصد به من جهة الهدف والغاية كما قال الفقهاء في العمل بالمركوز في ذهن الواقف إذا لم يمكن العمل بالوقف مصدراً أو مصرفاً.
الثاني: يرى مراعاة صورة القانون بحجة أنه لو ترك الأمر إلى الروح لاتسع المجال لكل مخالف للقانون أن يخالف القانون بأنه رجح روح القانون على صورة القانون وحيث أن هذا فساده أكثر من صلاحية العمل بروح القانون فيقدم هذا القول الثاني للعنوان الثانوي وكيف كان فإذا لم تعمل جهة من جهات الدولة بالقانون عوقبت على ذلك العقوبة القانونية في دولة القانون والعقوبة الشرعية في الحكم الإسلامي.
- المسألة الثانية: حقوق الإنسان هي مستقى القانون سواء في الإسلام بالاستقاء الحقيقي أو في الدول الديمقراطية بالاستقاء الصوري أو النسبي أما الدول الدكتاتورية فمستقى القانون فيها رأي الدكتاتور ولا يهمنا الكلام فعلاً حول ذلك وكيف كان فإن الإسلام جعل الإنسان محور العالم كما جعله الغاية من التشريع وكماله الغاية من التكوين كما ذكر في آيات وروايات مكررة قال سبحانه: )الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار).
وفي الحديث القدسي: الذي تضامن مضمونه مع طائفة من الروايات الصحيحة المعتبرة يقول الأشياء خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي ومعنى الجملة الثانية في الحديث هو تفسير لقوله سبحانه: (وإن إلى ربك المنتهى) لجهة القاعدة الفلسفية القائلة بأن كل ما بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات كما هو واضح وحيث أن القانون الإسلامي وضع لأجل الإنسان فالقاسم المشترك في كل القوانين الإسلامية السياسية والاقتصادية والعبادية والجزائية والشخصية والاجتماعية هو فائدة الإنسان إبقاءً وإنماءً ولذا كان الناس في نظر الإسلام سواسية كأسنان المشط وكان أكرمهم عند الله أتقاهم وكلهم راع وكلهم مسؤول عن رعيته والناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم ولذا كان الإسلام دين الحرية والكفاءة والتقدم ومن تساوى يوماه فهو مغبون إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن الإنسان هو الأصل ويجب على الدولة أن تراعي حقوقه في كل تشريعاتها وتطبيقاتها هذا هو الأصل الأصيل الذي يجب على الدولة الالتزام به ولا يجوز لها التخلي عنه.
- المسألة الثالثة: الظاهر أن في سياسة الدولة هناك أمور ثلاثة ينبغي أن تتوخاها في الهدف هي المساواة والعدل والإحسان قال سبحانه: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان( فالمساواة معناه التساوي وقد يكون التساوي عدلاً وقد لا يكون عدلاً بل قد يكون ظلماً وكذلك النسبة في العكس فبين المساواة والعدل هي العموم من وجه بحسب الاصطلاح المنطقي فإذا ساوى الأخوين في الإرث كان تساوياً وعدلاً وإذا ساوى الكبير والصغير في إعطاء قماش اللباس كان تساوياً لا عدلاً وإذا أعطاهما متفاوتاً كلاً بقدر حاجته كان عدلاً لا مساواة فالعدل إذاً على ما عرفوه هو إعطاء كل ذي حق حقه وإدانة كل ذي جرم بجرمه أما الإحسان فهو إعطاء المزيد من الحق بمقتضى الرحمة والعطف فيما لا يضر بحق آخر والعفو عن المجرم فيما لا يكون العفو سيئاً لبطلان حق والإحسان فوق القانون لأن القانون مجرد الحقوق والواجبات والإدانات أما الإحسان فهو المراعاة توقيف الحياة وتهدئة الجو وإيجاد السلامة والوئام والمحبة والدولة يلزم عليها مراعاة ذلك لتجعل من القانون واحة خضراء تحفها الرحمة والحنان على الإنسان وهذا ما يوجب تقوية الروابط بين الدولة وبين الأمة ويقدم الأمة إلى الإمام ويدفعها بالحماس والهمة والطموح والآمال العالية إذ العلاقة المتبادلة بالمحبة القائمة على المحبة والود توجب إجراء الثقة والحرية والرفاه وكل ذلك من مقومات التقدم بل الاطمئنان والسكينة ورفع القلق الاطمئنان والسكينة والاستقرار النفسي والفكري والاجتماعي من أهم مقومات بناء الحضارات ولهذا القانون يشرعه المشرعون نصوصاً لأجل رفاه الأمة كما ينفذه المنفذون أكثر من النصوص المرفهة ويمتنع القضاة عن الإدانات الثقيلة سواء كانت الإدانة حكم الإعدام أو السجن أو التعزير أو الغرامة وما أشبه ذلك.
والفرق بين العدل والإحسان من ناحية الحكم ، أن العدل واجب إطلاقاً بينما الإحسان وجوبه في الجملة إذ لا يحق للقائد أو القاضي أو الحاكم أو ما إليهما تطبيق القانون بحذافيره بل اللازم أن يتخلل التطبيق إحسان في الجملة وهذا هو الفارق بين وجوب العدل ووجوب الإحسان حيث قال تعالى يأمر بالعدل والإحسان أما حمل الأمر في العدل على الوجوب والإحسان على الاستحباب فهو خلاف الظاهر أولاً وخلاف بظاهري ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي الذي هو في سياقه فدلالة السياق تدل على أن الحكم هنا إلزامي فكما أن النهي تحريمي كذلك الأمر وجوبي إن قلت إلا أن حمل الإحسان على الوجوب في الجملة مخالف لظاهر الإطلاق في الآية الشريفة الدال على الوجوب مطلقة كما هو الحال في العدل قلت نحن وإن سلمنا الإطلاق من حيث المقتضي إلا أنه لا مجال للالتزام به من جهة وجود المانع وهو دلالة الوجدان بل والنص والفتوى على عدم وجوب كل إحسان في الخارج وعليه لا بد من التصرف في ظاهر الإطلاق أو ظاهر الوجوب وهو لا يخلو من أحد أمرين:
- الأول: أن نتصرف في ظاهر الأمر ونحمله على الاستحباب مطلقة رعاية للإطلاق أو نتصرف في الإطلاق ونحمله على الجملة لصالح بقاء ظهور الأمر في الوجوب والظاهر أن ما ذكرناه أولى لما نعلم من الخارج من عدم وجوب كل إحسان بالضرورة كما توجد بعض موارد الإحسان من الواجبات فتكون هذه قرينة على كون وجوب الإحسان في الجملة وليس هو مستحباً مطلقة ،هذا وربما يمكن أن يقال في تقريب وجوب الإحسان في الجملة أن خلاف الإحسان فضاضة والفضاضة محرمة لأنها توجب انفضاض الناس والتسبيب في انفضاض الناس عن الإسلام وعن الموازين الشرعية محرم لكونه نقضاً للغرض قال سبحانه وتعالى: (فبما رحمة من الله لكنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفوا عنهم واستغفر لهم) وقال سبحانه: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (وعليه فما يوجب انفضاض الناس حرام شرعاً لأنه مخالف لسياسة العفو المأمور بها وهو قبيح عقلاً لأنه نقض للغرض والظاهر أنه لا حاجة إلى تقييد الإحسان بأن لا يكون موجباً للتجري أو إضاعة حق الآخرين إذ لا يكون ذلك حينئذ إحساناً بل يكون موضوعاً من الإساءة والفرق بينهما في هذا المورد دقيق ولذا كان اللازم على الدولة تفهم الفرق لئلا تقع في الخطأ في التطبيق حتى يقع في إفراط القانون أو تفريط الإساءة بزعم الإحسان.
- المسألة الرابعة: رفاهية الناس واجبة على الدولة والمراد من الرفاهية أن يكون التشريع والتنفيذ والقضاء موجباً لرفاه الأمة بقدر الإمكان بمعنى أن تراعي الدولة في سياساتها حاجات الإنسان الجسدية والروحية والفكرية والاجتماعية بالقياس إلى قدراته البدنية فالقانون يلزم أن يكون بحيث يهيئ فرص العمل لكل عامل مثلاً ويجعل الأجر الكافي لكل عامل مع وضع ساعات العمل بقدر اليسر لا بقدر العسر كما تكون للعمال الإجازات والترخيصات وزيادة الأجور بزيادة التضخم كما تعطى العطلات للنساء العاملات في أيام الولادة وقبلها وبعدها بمدة معقولة وتسهل وسائل الزواج بإعطاء الزوج منحاً وسلفاً وتسهيل وسائل العلاج والدراسة والسياحة وما أشبه ذلك كالمدارس والمستشفيات والمستوصفات ودور العجزة والحدائق والمخيمات ودور الرياضة والنوادي وتلطف الهواء بالتشجير وتكثير المياه في المناطق الحارة وتوفير الماء والكهرباء في القرى والأرياف وعكس ذلك في المناطق الباردة ومد الجسور والطرق وتكثير وسائل المواصلات مع جعل القوانين المسهلة للمرور وجعل الدوائر المرفهة للموظفين والمراجعين وكون القضاء وإجراء الحدود في أجواء ملائمة كما فصله الفقهاء في كتاب القضاء ويدل على ذلك أمور:
- الأول: أن ذلك من الحقوق ويجب إعطاء الحقوق لأهلها فإن حقوق المسلمين لا تبطل ولا يطوى حق امرئ مسلم كما في الأدلة فإن الدولة موضوعة للمصالح العامة والخاصة واللازم عليها مراعاتها.
- الثاني: أن عدم إعطاء الدولة الرفاهية للمجتمع من جهة يعد من الإسراف إذا سبب تضييع الثروات والخيرات ومن جهة يعد من الإجحاف بحق الناس ويعد بخس لحقوقهم أيضاً وقد قال سبحانه وتعالى: (لا تبخسوا الناس أشيائهم) كما أن الإجحاف محرم والإسراف أيضاً محرم فالواجب على الدولة أن تحفظ الموازين حتى لا يجحف عامل ولا فلاح بصاحب العمل والأرض ولا العكس كما هو الملحوظ في بعض دول الشرق إجحافاً من العمال والفلاحين بسبب ديكتاتورية البرولتارية و في الغرب إجحاف من أصحاب الأعمال والأراضي من باب طغيان رأس المال.
- الثالث: أن عدم ترفيه الدولة للشعب يوجب التعدي والإجحاف بين الناس لأنه يسبب الحسد والبغضاء والمنافسة السلبية والصراع في المسألة.
- الرابع: العمومات والإطلاقات الدالة على لزوم مراعاة اليسر ورفع الحرج والضال ونحو ذلك إلى غير ذلك من الأدلة النقلية والعقلية وما ذلك.
فاللازم إذاً على الدولة الجمع بين حقي الحرية والرفاه في مثل العامل وصاحب العمل وما أشبه حيث أنه لا يصح لها إلا رفع الإجحاف من الطرفين وكذا من البائع والمبتاع وسائر أطراف المعاملة لا أن تضغط الدولة على حرية طرف لأجل التوفير على طرف آخر وهذا ما توضحه المسألة المتقدمة في مسألة العدل والإحسان.
- المسألة الخامسة: يجب على الدولة أن تراعي حسن التدبير في الشؤون العامة والخاصة ويحرم عليها التخلف عن أو التقصير فيه أما الوجوب فلأنه من باب حفظ الحقوق ورعايتها لأصحابها كما أنه مقتضى الوكالة والثقة التي منحها الناس لها أو من جهة الأمانة على الخلاف في مسألة توكيل الناس وتنصيب الناس للدولة انه من باب الوكالة أو من بابا التأمين أو التفويض وما أشبه.
وأما الحرمة فلأن عدم مراعاة حسن التدبير يوجب الفوضى واختلال النظام وتضييع الحقوق بل يوجب العسر والحرج والضرر للناس وعليه فإن على الدولة أن تهيئ وسائل حسن التدبير بما يلي:
- أولاً: بالعمل الإيجابي بأن تسهر على صالح الأمة وتبادر إلى إنجاح مطالبها وإسعافها في حاجاتها خصوصاً في الساعات الحرجة كالسيول والزلازل ورفع الأمية ومكافحة الأمراض وما أشبه ذلك إذ الدولة ليست إلا خادمة للأمة أو وكيلة لها أو ما أشبه على ما بيناه.
ومن ذلك أيضاً يجب على الدولة أن تسهل الإجراءات الإدارية في دوائرها ومؤسساتها إذ الدائرة ليست محل إهانة المواطن وإرهاقه فإذا أوجبت ذلك حرم على الدولة صناعة ذلك بل محل الدائرة ينبغي أن تكون محل إكرام المواطن وتسهيل أمره فعلى الموظف أن يسرع في إعطاء المراجع حاجته و إراشاده إلى موضع حاجته إن لم تكن حاجته عنده وعلى كل موظف أيضاً أن يهيئ الأجواء الملائمة في دائرته سواء الأجواء العملية أو المناخية فإذا احتاج مثلاً تسريع الأمر إلى جعل كاتب أو مساعد أو سكرتير وما أشبه ذلك جعلهما لأن في خلافه ما يوجب العسر والحرج والضرر وتضييع أوقات الناس وإرهاق أعصابهم وما أشبه ذلك وكل ذلك موجب للأذى وموجب للإسراف وهدر الوقت التي كلها من العناوين المحرمة ومن الواضح أن من أهم أسباب نجاح الدولة وتقدم الأمة هو تسهيل الأمور والإجراءات بالقدر الممكن وفي حدود عمل كل قوى الدولة.
- الثاني: العمل السلبي وذلك بأن لا تضع الدولة القانون ولا ينفذ القانون على نحو من التعسف والتجاوز بما يوجب عدم أمن واستقرار المواطن سواء في نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه فإن اللازم على الدولة أن تكون سياستها بحيث يشعر المواطن تحت لوائها بالراحة الجسدية والفكرية لا بالقلق والعذاب ولا يسمح للدولة بأي حال من الأحوال أن تفضل مواطن على مواطن وطبقة على طبقة في جعل القانون أو في تنفيذه بل اللازم عليها النظر الى المواطنين بحد سواء وحتى بالنسبة إلى الإنسان المنحرف سواء في العقيدة أو في العمل اللازم على الدولة أن تراعيه أيضاً اعتماداً على قاعدة الضرورات تقدر بقدرها أو قانون الأهم والمهم أو قانون عدم الإجحاف أو عدم الإسراف ولذا نجد في الإسلام حيث أراد تصحيح العقيدة في باب الأديان وإصلاح المجرم في باب الأعمال لاحظ هاتين القاعدتين كما ذكره الفقهاء في كتاب الجهاد وفي باب حكم الأقليات الدينية وفي كتاب القضاء والحدود في باب الارتداد ونحوه.
- المسألة السادسة: يجب على الدولة مراعاة النظام فإن القانون العادل وتطبيق القانون على الدوائر الرسمية وغيرها لا يكفي في سير النظام على ما يرام ويرعى حقوق المواطنين بل اللازم حسن التدبير في الإدارة وصنع جهاز المراقبة والتنسيق والكفاءة وما أشبه ذلك. فأجهزة الدولة لا بد وأن تسود فيها روح تسيرها على أحسن وجه وذلك بأن تمكن تلك الروح من إعطاء الدولة حقها وإعطاء الفرد حقه لا تظلمون ولا تظلمون ولهذا الأمر عينت بعض الدول الحديثة إدارة التنسيق وديوان المحاسبة وإدارة مراقبة أعمال الدولة والأمة ومجلس الدولة وقواعد التأديب المخالف إلى غير ذلك كما هيئت بعض الدول الحديثة لذلك آلات المحاسبة والعقول الإلكترونية وآلات الإنصات وغير ذلك بل جعلت بعض الدول أسلوباً حديثاً لبناء الدوائر أيضاً تمشيةً لذلك ورعاية لحقوق المواطنين حيث تبني الغرف بنصف حائط وتكون منصة مشرفة على كل الغرف فيجلس فيه المراقب الكفوء ويشرف دائماً على الموظفين لئلا يعطل المراجع أكثر من قدر الاحتياج وهذه الأمور في الدول الإسلامية أوجب لأنه مقتضى الأمانة الشرعية كما هو مقتضى مراعاة حقوق الناس من المسلمين والمؤمنين وهذا ما ورد في العمومات والإطلاقات أيضاً كما في الحديث الشريف الوارد عنه (صلىالله عليه وآله وسلم): لعن الله من ضيع من يعول ومن الواضح أن التخلف عن أداء المسؤوليات بما هو بحسب الحاجة والمطلوب يكون من التضييع ومنه أيضاً ورد كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ومقتضى المسؤولية هو في التخلف عن الواجب أو التقصير فيه هذا بالإضافة إلى شمول الإطلاقات مثل قوله سبحانه وتعالى: (أعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وقوله (صلىالله عليه وآله وسلم): الإسلام يعلو ولا يعلى عليه حيث يجب أن تكون البلاد الإسلامية في مقدمة بلاد العالم وأن لا يكون غير المسلمين أعلى من المسلمين وغير ذلك من ما يستفاد منه الدقة والإتقان ومراعاة النظم في كل شيء والتي منها شؤون السياسة بشعبها المختلفة هذا وقد ورد ذلك في نص عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه لواليه إلى مصر يقول فيه ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك من نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحقه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرف ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم للخصومة وأمضاهم فيها عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباةً وإثرة فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً وأقل في المطامع إشرافً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً ثم اسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله إلى غير ذلك مما يدل على لزوم مراعاة التدبير وحسن النظام من قبل الدولة وهذا على نحو الوجوب الشرعي لأن في خلافه تضييع للحقوق والواجبات التي أوكلها الناس إلى الدولة ولا يجوز ذلك كلاً والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.