محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 14 - في الولاية الجعلية أو السلطنة التنصيبية
الفصل الثالث في الولاية الجعلية أو السلطنة التنصيبية
ونعني بها الولاية التي نصبها صاحب الولاية الأصلية أو الولاية التابعة سواء بنحوها الخاص كما في نواب الغيبة الصغرى أو العامة كالفقهاء جامعي الشرائط في زمن الغيبة الكبرى كما في زماننا هذا فإن ولاية الفقهاء امتداد لولاية المعصومين (عليهم السلام) لكونها ثابتة للفقيه بالجعل والتنصيب والفرق بين التنصيب الخاص والعام أنه في الأول يتم التنصيب في الكبرى وفي الصغرى لنص المعصوم على شخص الولي وتعيينه بالاسم والعنوان وهذا ما يكون في عصر حضور المعصوم غالباً كالنواب الأربعة لمولانا صاحب العصر والزمان في الغيبة الصغرى كما قرر في علم الكلام.
بينما التنصيب في الثاني فالنص يرد على الكبرى دون تعرض لإثبات الصغرى وهو يثبت أصل الولاية ويترك تعيين المصداق وشخص الولي إلى من توفرت فيه الشروط المنصوصة وهو المعهود الغالب في زمان غيبة المعصوم (عليه السلام) وعدم وصول الناس إليه وعليه فإن شرعية سلطة الفقيه نابعة من شرعية سلطة المعصوم (عليه السلام) التي هي مستمدة من شرعية السلطة الإلهية والولاية على العالم تكويناً وتشريعاً ولذا تشكل ولايته المرتبة الثالثة لمنشأ السلطة ومصدر السيادة.
وتفصيل البحث في ذلك يستدعي الاستدلال على أصل ثبوت الولاية والسلطة للفقيه ثم التعرض إلى تفاصيل هذه الولاية ومناصب الفقيه العامة فهنا أمران:
- الأمر الأول: في الاستدلال على ثبوت الولاية العامة للفقيه.
- والأمر الثاني: في بيان مناصب الفقيه وحدود ولايته.
أما الأول فيمكن الاستدلال له بالأدلة الأربعة أما الكتاب فبمثل قوله سبحانه وتعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وبيان الاستدلال يتوقف على ضم بعض المقدمات العقلية وحاصلها أن دفع الفساد في الأرض من الواجبات العقلية والشرعية ولذا وقعت غاية لدفع الله سبحانه الناس بعضهم ببعض وتحقيق الغاية والغرض الإلهي واجب على العباد من جهتين:
- الأولى: لكونه من باب شكر المنعم.
- الثانية: من باب دفع الضرر المحتمل بل الضرر المقطوع فيما نحن فيه.
وذلك لأن الغرض الإلهي لا يعود للباري عز وجل لغنائه عن ذلك فيتعين أن يكون الغرض للعباد أنفسهم كما حقق الكلام فيثبت أن في تحقيق الغرض ثبوت المصلحة وفي عدمه الضرر والمفسدة وكيف كان فإنه يجب دفع الفساد في الأرض فيجب ما يتوقف عليه ذلك أيضاً لوجوب ما يتوقف عليه الواجب ومن المعلوم أنه لولا الحاكم المطاع ذو النفوذ وقع المحذور المذكور إما بنحو كلي كما وقع الفساد مطلقاً في كل الأرض أو في الجملة كما عرفته من المباحث المتقدمة بداهة أنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر لدفع الفوضى والفساد والهرج والمرج وتأمين السبل والحقوق ونحوها وحيث لا يجوز تولي الفاجر مع وجود البر العادل شرعاً وعقلاً من جهة الكبرى لكونه ظلماً للناس ولكونه قبيحاً وترجيحاً للمرجوح على الراجح ونقضاً للغرض فيتعين العادل ومن الواضح أنه في زمن حضور المعصوم (عليه السلام) هو المعين للحكم والحكومة وفي زمن غيبته فيتعين الأقرب إليه في الصفات والمنصوب من قبله لكونه صاحب الحق بالأولوية والأصالة وقد قامت الضرورة والإجماع بل ونصوص الأخبار على أنه الفقيه الجامع للشرائط لا غير.
ومن الآيات أيضاً قوله سبحانه وتعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) والآية مطلقة فتشمل القضاء والحكم أيضاً وهي ظاهرة في الإنشاء ومفادها وجوب الحكم بالعدل فتدل على أمرين:
- الأمر الأول: التلازم بين الحكم بالعدل ولزوم كون الحاكم عادلاً أيضاً بداهة أن غير العادل لا يحكم بالعدل لأن فاقد الشيء لا يعطيه والفاسق الفاجر على كل تقدير ليس بعادل لأن فسقه وفجوره إن تعدى إلى الغير فهو ظالم وإن توقف عند نفسه كما لو كان الحاكم زانياً أو شارباً للخمر أو غير ملتزم بأحكام الله سبحانه فهو ظالم لنفسه بل ومتعدياً على حقوق ربه عز وجل فيخرج موضوعاً عن الآية.
- الأمر الثاني: أن العدل لا يتحقق إلا إذا كان الحاكم العادل عالماً بالأحكام الشرعية وتطبيقاتها على العباد فيتعين للحكومة دون الجاهل بداهة أن العدل هو الهدف والموضوع في الحكومة والعلم طريق إليه وأجلى مصاديق العالم العادل هو الفقيه الجامع للشرائط بل المنصرف من الحاكم العادل في زمن الغيبة هو ذلك فيتعين للحكومة ولا يجوز تقديم غيره عليه لكونه ترجيحاً للمرجوح على الراجح بل ومخالفاً للضرورة والإجماع فضلاً عن النص.
وهناك طائفة أخرى من الآيات التي ربما يستدل بها على ذلك لكن لا يسعنا المجال لبيانها هنا فيمكنكم مراجعة التفاصيل في مضانها وأما السنة فهي روايات متضافرة أيضاً منها مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق (عليه السلام) قال: ينظرن من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله ومحل الاستدلال في قوله (عليه السلام): إني قد جعلته عليكم حاكماً فإنه ظاهر في كبرى كلية في مقام الإنشاء لكونها متفرعة عن قوله (عليه السلام): فليرضوا به حكماً ومن الواضح أن جعل العالم بالحلال والحرام حاكماً يقتضي تنزيل حكمه منزلة حكم الإمام (عليه السلام) بنحو التنزيل التعبدي الجعلي فتجب طاعته ولا يجوز مخالفته بل الرد عليه في حد الشرك لكونه رد على الأئمة (عليهم السلام) والرد على الأئمة هو رد على الله عز وجل وعليه فإن الفقيه الجامع للشرائط إذا حكم بحكمهم يجب طاعته في ذلك ومن الواضح أن الذي يحكم بحكمهم ليس إلا الفقيه الجامع للشرائط الذي استنبط أحكامه من سيرتهم وسنتهم (عليهم السلام) ويعضد ذلك أيضاً بعض الروايات منها قوله (عليه السلام) كل حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت وبذلك يظهر أن ورود الرواية في مورد بيان القضاء ورفع الخصومة لا يخصص الدلالة بها لما عرفت مما تقدم ولكون المورد لا يخصص الوارد وللأولوية أيضاً في جهة الحكومة العامة والرئاسة على شؤون الأمة من القضاء في الشؤون الشخصية كما قد لا يخفى.
ومن الروايات رواية إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري الذي هو من النواب الخاصين للإمام صاحب الأمر (سلام الله عليه) في زمن الغيبة الصغرى سألته أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فوردت توقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك وقال له جملة من الأقوال حتى قال: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ولا إشكال في أن من أهم مصاديق الحوادث الواقعة هي الحكومة وتدبير أمور الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والعسكرية وما أشبه ولا يخفى أن الرجوع إليهم وإن كان أعم من رجوع الرأي في تعيين الحاكم أو رجوع نفس الحكم إليه بمعنى أنه الحاكم وبالتالي فالدلالة أعم إلا أن الظاهر أنها ترجع مآلاً إلى كون راوي الحديث هو الحاكم بعد المعصوم (عليه السلام).
أما الثاني فأمره واضح وهو الظاهر المتبادر من الرجوع.
وأما الأول: فلكون الرجوع إلى الفقيه في تعيين الحاكم حتى في أخذ الرأي فإنه إن كان لجهة أن رأيه حجة على الناس فلا يجوز الرجوع إلى غيره في تعيين الحكام ثبت المطلوب وهو أن مبدأ شرعية الحكم وسيادته وسلطنة الحاكم ترجع إلى الفقيه في أصلها ومنشأها وإن كان لجهة أن رأيه له مدخلية في تعيين الحاكم على الناس بمعنى أن من أرجع إليه الفقيه كان هو الحاكم فهو على المطلوب أدل ولعل مما يعضده روايات منها ما عن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) أنه قال: اللهم ارحم خلفائي قيل: يا رسول الله ومن خلفاءك قال: الذين يأتون من بعدي ويرون حديثي وسنتي ومن المتبادر من الخليفة هو الحاكم المستخلف في كل شؤون النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) إلا ما أخرجه الدليل وأجلى مصاديق ذلك هو الإمام المعصوم في زمان حضوره ومن بعده من نصبه الإمام المعصوم(عليه الصلاة والسلام)وليس إلا الفقيه الجامع للشرائط ومنها ما ورد في صحيحة القداح عن الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) أن العلماء ورثة الأنبياء والعلماء والأنبياء في الرواية جمع محلى باللام فيفيد العموم ومن الأنبياء من كان حاكماً وملكاً كما هو صريح القرآن وحيث أن العلماء يرثون الأنبياء وعلى هذا النحو من العموم والإطلاق فيرثونهم في الحكم والسلطة أيضاً ومنها ما في الفقه الرضوي منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل ومنها ما ورد عنه (عليه السلام) العلماء حكام على الناس ومنها ما ورد في رواية الإمام الحسين (عليه السلام) مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء ومنها رواية الكراجكي قال علي (عليه السلام): الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك وهي أصرح من غيرها في الدلالة ومنها المروي عن إكمال الدين للصدوق رضوان الله عليه عنه (عليه السلام) أنه قال انه تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان ولولا ذلك لالتبست على المؤمنين أمورهم إلى غيرها من الروايات المعضودة سنداً ودلالة ببعضها فضلاً عن دلالة العقل بما لا يسعنا المجال بيانه هنا وفي مجموعها الدلالة على أن الولاية والسلطنة بعد المعصوم (عليه السلام) للفقيه الجامع للشرائط.
هذا بعض ما ورد في السنة المطهرة من الأدلة وأما الإجماع فقد استدل به للولاية العامة أيضاً جمع من الفقهاء منهم المحقق الكركي رضوان الله عليه حيث أنه قال اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب عن قبل أئمة الهدى عليهم السلام في حال الغيبة في جميع مال النيابة فيها مدخل وعن البلغى للسيد بحر العلوم رضوان الله عليه أن حكاية الإجماع على ذلك فوق حد الإحصاء وعن العوائد للشيخ النراقي رضوان الله عليه أنه نص عليه كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات بل لعله الظاهر من المستند في بحث القضاء حيث ادعى الإجماع على وجوبه وعلله بتوقف نظام نوع الإنسان عليه وكذلك استدل بالإجماع السيد الشيرازي (قده) في كتابه الحكم في الإسلام وأيده بمؤيدين قال فيهما:
- الأول: أن جمهرة كبيرة من العلماء كانوا يتصرفون في شؤون الدولة والسياسة العامة أمثال كاشف الغطاء الكبير حيث أجاز للملك القاجاري فتح علي شاه أن يزاول أعمال الدولة بالنيابة عنه وحجة الإسلام الشفتي والسيد المجاهد والسيد المجدد والشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي والسيد محمد كاظم صاحب العروة حيث أفتى بإخراج العثمانيين والآخوند صاحب الكفاية والسيد الحبوبي أما مزاولة الكركي والمجلسي والبهائي والميرداماد وغيرهم للحكم في أيام الصفويين فغني عن الكلام إلى غيرهم من العلماء الكبار مما لا يخفى عن من راجع أحوالهم (قدس الله أسرارهم) بل لم نجد عالماً تسنى له ذلك فلم يقدم عليه بل في كثير من القرى والأرياف في إيران والهند وباكستان وأفغانستان والعراق ولبنان وغيرها بحكم العلماء ووكلاؤهم.
- المؤيد الثاني: أنه يستفاد اتفاق الفقهاء على ثبوت الولاية للفقيه في مواضع كثيرة من الفقه ويعللون الحكم بالولاية العامة للفقيه ومن أمثلة ذلك قولهم بوجوب دفع الزكاة إلى الفقيه ابتداءاً أو بعد طلبه وقولهم بوجوب دفع ما بقي من الزكاة في يد ابن السبيل بعد وصوله إلى بلده إلى الفقيه ومثل وجوب دفع الخمس بإجازة الفقيه أو إلى نفس الفقيه ومثل أن الفقيه مكلف بصرف الخمس والزكاة في مواضعهما المقررة وقولهم بوجوب استيجار الأرض المفتوحة عنوة من الفقيه وقولهم لا يجوز الجهاد ولا الدفاع إلا بإذن الفقيه وقولهم بولايته على ميراث من لا وارث له وقولهم بأنه ولي الصغير في زواجه وقولهم في توقف إخراج الودع الحقوق على إذنه وقولهم بطلاق المرأة التي غاب زوجها أو إجبار الحاكم له بطلاق زوجته إذا لا يعاشرها بالحسنى وقولهم بولايته في إجراء الحدود والتعزيرات وقولهم بولايته في أداء دين الممتنع من ماله وقولهم أنه المرجع في تعيين الهلال وفي القضاء بكل شؤونه وقولهم بأنه يقبض الوقف على الجهات العامة وقولهم بتوقف التقاص من مال الغائب على إذنه وكذلك إذا امتنع الحاضر وقولهم بجواز إجازته لبيع الوقف حيث يجوز بيعه بحسب الشرائط والموازين وقولهم بأنه يقبض الحق عن كل ممتنع لقبض حقه مثلما إذا امتنع الدائن عن قبض الدين أو امتنع المشتري من قبض الثمن أو البائع من قبض الثمن إلى غير ذلك وقولهم بأنه الذي يحجر على المفلس والسفيه والمجنون وقولهم بأنه يضم إلى الوصي الخائن أو العاجز من يشرف عليه وقولهم بأنه يعزل الخائن إذا لم ينفع الظن وقولهم أنه يقيم الوصي لمن مات وصيه أو انعزل وأنه يقيم الوصي والولي لمن لا وصي له ولا ولي له إذا احتاج إلى ذلك وقولهم بأنه يضرب أجل العنين وأنه يبعث الحكمين من أهل الزوجين وأنه يجبر الممتنع من أداء النفقة لزوجته أو سائر واجب النفقة وأنه يجبر المظاهر على أحد الأمرين إلى غيرها من الموارد الكثيرة جداً بل إنا لم نجد مصنفاً في الفقه إلا وفيه كثرة من هذه المسائل كما لم نجد فقيهاً في التاريخ ولا فقيهاً معاصراً إلا كان يزاول هذه الأعمال حتى إذا كان من أشد المحتاطين بل قد رأينا جملة منهم يرون أنفسهم من أولي الأمر الذي قال الله عنهم: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بمقتضى أن ظاهر الآية وجود ولي الأمر الظاهر في كل زمان وليس ذلك في زمان الغيبة إلا الفقيه الجامع للشرائط ولذا يسمون بنائب الإمام.
أما ما ورد في تفسيرها بأن المراد الأئمة (عليهم السلام) فهو من باب المصداق كما هو الظاهر من غالب تفسير الآيات المطلقة بمورد خاص انتهى ما ذكره (قدس سره) في كتابه الحكم في الإسلام في ص26 إلى ص28.
وأما دليل العقل فيمكن بيانه من وجوه أبرزها وجهان:
- الوجه الأول: من جهة أنه يستقل بقبح ترك الحكيم الناس بدون إمام ينظم أمورهم ويصلح فاسدهم ويرعى حقوقهم ويقيم فيهم العدل ويدفع عنهم الظلم والجور ويأخذ من غنيهم لفقيرهم ويحارب أعدائهم ويسالم أصدقائهم ويرفع عوزهم سواء كان من جهة أن الترك يسبب الفوضى والهرج والمرج أو من جهة أن الترك يسبب استبداد الظالمين وسيطرة الطغاة والمفسدين فيحكم بلزوم نصب الحاكم لدفع ذلك ولا بد أن يكون المنصوب عادلاً لما عرفته من أن نصب الظالم ينقض الغرض ويستلزم التناقض ونصب العادل الجاهل كذلك فيتعين العادل العالم بالأحكام وليس إلا الفقيه الجامع للشرائط.
- الثاني: من جهة حكم العقل باشتراك وجوب بعث الأنبياء ونصب الأئمة (عليهم السلام) مع نصب الحاكم في العلة سواء كان حكمه من جهة اللطف أو جذب المصلحة ودفع المفسدة فإنهم ذكروا أن النصب واجب على الله عز وجل لحفظ البلاد ونظم أمور المعاش والمعاد قال السيد الطباطبائي (قدس سره) في النجم الثاقب نصب الإمام حافظ الذمام لطف من الله على الأنام فإنه مقرب للطاعة وقائد الناس إلى الإطاعة فكما وجب النصب عقلاً بالنسبة إلى النبي والامام (عليهم الصلاة والسلام) وجب النصب عقلاً بالنسبة إلى القائم مقامهما ويؤيد ذلك سيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) على نصب الرؤساء والوكلاء والأمناء ونحوهم لحفظ شؤون الناس ومصالحهم في حال وجودهم بين الناس فنصبهم لهم في زمان غيبتهم بشكل أولى بل هذا ما قامت عليه سيرة العقلاء طراً أيضاً في تدبير أمورهم وتنظيم معاشهم وحفظ حقوقهم كما هو المشاهد في الوجدان فضلاً عن البرهان فكيف بالشارع سيد العقلاء وأحرصهم على الحقوق والواجبات وعليه فإنه يتعين عليه نصب الحاكم العادل لحفظ ذلك وليس ذلك إلا الفقيه الجامع للشرائط لما عرفته من الملاكات المتقدمة.
وربما يمكن الاستدلال أيضاً لذلك بالقدر المتيقن بمقتضى حكم العقل وبيانه من جهة أنه لا يمكن إهمال أمر الناس من حيث الحكومة إذ لا بد لهم من ولي وأمير يدير أمورهم ويأخذ حق الضعيف من القوي ويدافع عنهم وينتصف لهم ويجري الحدود ويسوسهم في جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم كما أنه لا ينبغي الشك في أن النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) كان بنفسه يتولى هذه الأمور ومن بعده كان هذا للأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) وأما بعد غيبة ولي الله الأعظم الحجة المنتظر (عج) فإما أن يكون المرجع في هذه الأمور خصوص الفقيه الجامع للشرائط أو يصح لكل أحد القيام بها ولا إشكال في أن القدر المتيقن من الجواز هو الأول لعدم قيام دليل على الثاني والأصل هو عدم ولاية أحد على أحد خرجنا من هذا الأصل في الفقيه الجامع للشرائط لأن جواز ولايته ثابت على كل حال كما هو مقتضى الضرورة والإجماع مضافاً إلى النصوص وإنما الكلام في جواز غيره.
والحاصل إذاً من مجموع الأدلة الأربعة هو أن للفقيه الجامع للشرائط الولاية العامة وهو الولي وصاحب السلطة بعد النبي الأعظم والإمام المعصوم (عليهم الصلاة والسلام) فترجع السلطنة والسيادة في منشأها ومصدرها إليه فهو أصل السلطة ومنشأ السيادة يمكنه أن يباشر هذه السلطنة بنفسه كما يمكنه أن يعطي هذه السلطة لبعض من يراه مناسباً فينصبه على نحو الوكالة أو النيابة أو المأذونية ونحو ذلك على ما ستعرف تفصيل ذلك في البحوث القادمة إن شاء الله تبارك وتعالى.
وأما الأمر الثاني فيمكن بحثه في مسائل:
- المسألة الأولى: في تعيين مناصب الفقيه الظاهر أن مناصب الفقيه الظاهر أن مناصب الفقيه ثلاثة: الأول منصب الإفتاء، الثاني منصب القضاء، الثالث منصب الحكومة وتشكيل الدولة وتطبيق الأحكام والقوانين الإسلامية وقد اتفقت كلمة الفقهاء على المنصب الأول والثاني واختلفوا في المنصب الثالث وتفصيل الكلام في ذلك يستدعي التعرض إلى بعض الأدلة والأقوال في ذلك أما منصب القضاء قال شيخنا الأعظم الأنصاري (رضوان الله عليه) في مكاسبه للفقيه الجامع للشرائط مناصب ثلاثة أحدها الإفتاء فيما يحتاج إليها العامل في عمله ومورده المسائل الفرعية والموضوعات الاستنباطية من حيث ترتب حكم شرعي عليها والظاهر أن الإفتاء كما أنه من مناصب الفقيه فإنه من وظائفه أيضاً فيجب عليه التصدي له وجوباً كفائياً وللعوام أيضاً أن يقلدوه على ما فصله الفقهاء في باب الاجتهاد والتقليد بداهة أن المكلف إما يجب أن يكون مجتهداً أو يكون مقلداً أو عاملاً بالاحتياط فإذا رجع المقلد إلى الفقيه فإنه يجب على الفقيه الإفتاء له وإلا لكان إيجاب التقليد لغوياً وقد استقرت سيرة المتشرعة منذ زمن الرسول الأعظم (صلىالله عليه وآله وسلم) على رجوع الناس في المسائل الشرعية إلى فقهاء الأمة فكان (صلىالله عليه وآله وسلم) إذا فتح بلداً أرسل إليه أميراً وقاضياً فالأمير يقوم بنظم البلد والقاضي يقوم بمهمة الفتوى والقضاء ولم يكن القضاء في ذلك الأيام أمراً مستقلاً عن الإفتاء فإذا جهلوا بالحكم سألوا القاضي وإذا اختلفوا وتنازعوا في الحقوق رجعوا إليه في القضاء أيضاً وقد كان بعضهم جامعاً بين مقام الإمارة والفتوى بمعنى أنه أمير وقاض ومفتي لجهة أعلميته أو لجامعيته للشروط خصوصاً وأن الحاجات ربما كانت في تلك الأزمنة بسيطة وقليلة بالقياس إلى مثلها في مثل هذه الأزمنة ثم لما اتسع نطاق الفقه والعلم انفصل مقام القضاء عن الإفتاء فقد كان هناك فقهاء عارفون بالأحكام يراجعهم الناس في كل بلد في شؤون الفتوى وإن لم يكونوا من القضاة خصوصاً في مثل دول الجور والظلم الذي كانت تستبعد الفقهاء العدول وأصحاب الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) عن مجال القدرة والنفوذ ومنه قال الصادق (عليه الصلاة والسلام) في الحديث لبعض أصحابه أحب أن تجلس في مسجد المدينة وتفتي الناس نعم لعل الاجتهاد في تلك الأعصار كان بسيطاً جداً بالنسبة إلى عصرنا إذ كان يكفي الفقيه المفتي المعرفة باللغة والعرف ومعرفة الحديث والرواية وحكم التعارض بين الأحاديث وشبه ذلك.
ولا فرق في رجوع الناس إلى الفقهاء في الفتوى ما كانت ترتبط بالحكم أو كانت ترتبط بالموضوعات التي يتوقف معرفة الحكم على تشخيصها وذلك لأن الموضوعات على أنحاء ثلاثة:
- الأول: الموضوعات المستنبطة وذلك كالمركبات الشرعية مثل الصلاة والصيام والحج التي تستفاد أجزائها وشرائطها من أدلة الشرع ولا إشكال في أن تشخيص هذه الموضوعات ليس من شأن عموم الناس وإنما من شأن الفقيه الجامع للشرائط.
- الثاني: الموضوعات العرفية غير المستنبطة وهي ما يعبر عنها بالموضوعات الصرفة الموكلة إلى عموم الناس لإمكان توصل كل أحد من المجتمع إلى معرفتها كالماء والتراب والهواء والمال والنجاسة وما أشبه ذلك. فإن مثل هذه الموضوعات لا حاجة فيها للرجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط لكون كل واحد من أبناء المجتمع هو بنفسه عالم بها والرجوع إلى المجتهد فيها لو أمكن كان من جهة أن المجتهد هو أيضاً واحد من العرف ولذا لا يجب التقليد للمجتهدين في مثل تشخيص أن هذا الماء ماء مطلق أو ماء مضاف وأن هذا الغبار الموجود هذا من قبيل غبار التراب أو غبار الحديد مثلاً وكذا أن الأرض مما يصح التيمم عليها أو لا إلى غير ذلك من موضوعات عرفية خاصة.
- الثالث: الموضوعات العرفية لكن الخفية وهذه تحتاج في فهمها وفهم مصاديقها إلى دقة النظر والممارسة والإحاطة بهذه الأمور المختلطة ببعض الخبرة والتجربة وهذا لا إشكال في لزوم الرجوع فيها إلى المجتهدين العدول لخفاء الموضوع على عموم الناس كما يقال في مثل تحديد مسافة القصر في الصلاة التي هي ثمانية فراسخ كما دلت عليه النصوص ولكن في صدق المسافة أنها ثمانية دورية أو ثمانية مرتفعة في الجو والفضاء أو ثمانية في أعماق الأرض هذا له غموض لا يمكن لعموم الناس معرفته وإنما ينبغي أن يتصدى لرفعه الفقيه بالتنقيح والفحص والبحث وكذلك يظهر من بعض الروايات في جواز السجود على الأرض وما أنبتته إلا ما أكل ولبس ولكن في بعض المصاديق قد يخفى المأكول والملبوس إذ يشك في أن قشور الفواكه والأدوية والعقاقير وما أشبه ذلك هل هذا من مصاديق المأكول فلا يصح السجود عليه أو من غير المأكول فيصح وربما يختلف العرف من بلد إلى بلد وإلى غير ذلك من أمثلة وشواهد فإن في مثل هذه الموضوعات ينبغي تقليد الفقيه الجامع للشرائط أيضاً وكيف كان فإن الإفتاء واجب على الفقيه وجوب كفائي كما أن التقليد واجب على جميع الناس ممن وصلوا إلى مرتبة البلوغ إذا كانوا من غير المجتهدين وغير المحتاطين ولكن الكلام هل أن هذا الإفتاء هو من قبيل المناصب للفقيه أو من قبيل الأحكام يظهر من كلمات شيخنا الأعظم بل ربما صريحها أنه من المناصب كالقضاء والولاية ولازمه حينئذ أن يكون هذا المقام موكول على نصب ولي الأمر ويستظهر من كلمات بعضهم أنه من قبيل الأحكام لا المناصب مستدلاً عليه بظاهر قوله سبحانه وتعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) والروايات الكثيرة مثل قولهم (عليهم السلام) فللعوام أن يقلدوه وغيرها أنه من قبيل الأحكام والفرق بينهما يظهر في أنه على الأول لا يصح للفقيه التصدي بنفسه لمقام الإفتاء ما لم ينصبه ولي الأمر في ذلك أما بناءً على القول الثاني فإنه يجوز للجاهل في الأحكام الشرعية أن يرجع إلى الفقيه الجامع للشرائط في أخذ الفتوى كما يجوز بل قد يجب على الفقيه أن يعطيه الفتوى في ذلك كما هو الشأن في جميع الحرف والصنائع والعلوم حيث يرجع فيها الجاهلون إلى العلماء فيها من دون حاجة إلى نصبهم أو انتصابهم من طريق الحكومة أو من طريق ولي الأمر وكيف كان فحيث أن الفقهاء قد فصلوا البحث في مقام الإفتاء الذي يتولاه الفقيه في باب الاجتهاد والتقليد مع ذكر الأدلة تفصيلاً لا داعي لتطويل الكلام هنا فنوكله إلى محله.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.