محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 10
- الدليل الخامس: على ضرورة التصدي لإقامة الدولة الإسلامية الروايات المتواترة الدالة على فضل الإمام العادل وفضل المعيشة في ظل حكمه الدالة على رجحان ذلك فيدل على رجحان العمل لأجل السلطة العادلة للملازمة بينهما وإذا انطبق عليه عنوان إقامة الحق ودفع الباطل دل على الوجوب لا فقط الرجحان كما ورد في الروايات الواردة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه تصدى لإقامة الدولة والحكم لأجل إقامة الحق ودفع الباطل ففي نهج البلاغة اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمل المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك وفيه أيضاً قال عبد الله بن عباس دخلت على أمير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي ما قيمة هذه النعل فقلت لا قيمة لها فقال (عليه السلام) والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً وفيه أيضاً فيما رده (عليه السلام) على المسلمين من قطائع عثمان ورد والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.
من هذا الحديث يفهم أن من وظائف الحاكم الإسلامي رد الأموال العامة المغصوبة المتعلقة بالمجتمع إلا أهلها.
وورد أيضاً في خطابه (عليه السلام) لعثمان فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة وفيه أيضاً أيها الناس إن لي عليكم حقاً ولكم علي حق فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كي لا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم ومفاد الحديث فيما نحن فيه ظاهر مضافاً إلى الأدلة الخاصة الدالة على لزوم الأخذ بالعدل وتولي ولاة العدل والتخلي عن ولاة الجور التي منها ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساعة إمام عدل أفضل من عبادة سبعين سنة وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الغرر والدرر أفضل ما من الله سبحانه به على عباده علم وعقل وملك وعدل وعنه (عليه الصلاة والسلام) إمام عادل خير من مطر وابل وعنه (عليه السلام) ليس ثواب عند الله سبحانه أعظم من ثواب السلطان العادل والرجل المحسن مما يدلل على محبوبية تولي الولايات والحكومة من قبل العدول فيدل أيضاً على رجحان التصدي لذلك بل كما ذكرناه إذا توقف عليه إقامة الحق ودفع الباطل فإنه يصبح من الواجبات وكما أن طاعته والالتزام بأوامره ونواهيه وقوانينه ومقرراته يعد من الطاعة فعن آمال المفيد بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله الأمر بأنه نظام الإسلام وفي نهج البلاغة فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك إلى أن قال والإمامة نظام للأمة والطاعة تعظيم للإمامة.
ومن الواضح أن إقامة نظام الإسلام ودفع الهرج والمرج عن الأمة من الملاكات الواجبة وأيضاً عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ومكان القيم بالأمر مكان نظام من الخرز يجمعه ويضمه فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً وفيه دلالة ظاهرة في أهمية الحاكم وأهمية السلطة الحاكمة وأيضاً ورد عنه (عليه الصلاة والسلام) قال وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل وجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويأست مطامع الأعداء وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور وكثر الإذلال في الدين وتركت محاج السنن فعمل بالهوى وعطلت الأحكام وكثرت علل النفوس ولا يستوحش لعظيم حق عطل ولا لعظيم باطل فعل فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتعظم تبعات الله عند العباد.
ويمكن قراءة فقرات الحديث على نحو المبني للمعلوم أيضاً وفي اختصاص المفيد أنه قد روي عن أحدهم (عليهم السلام) أنه قال الدين والسلطان أخوان توأمان لابد لكل واحد منهما من صاحبه والدين أسس والسلطان حارس وما لا أسس له منهدم وما لا حارس له ضائع.
وفي تحف العقول عن مولانا الصداق (عليه السلام) في بيان سلسلة نظام الحكم قال فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر الله بمعرفته وولايته والعمل لهم في ولايته وولاية ولاته وولاة ولاته بجهة ما أمر الله به الوالي العادل بلا زيادة في ما أنزل الله به ولا نقصان منه ولا تحريف لقولوه ولا تعد لأمره إلى غيره فإذا صار الوالي وال عدل في هذه الجهة فالولاية له والعمل معه ومعونته في ولايته وتقويته حلال محلل وحلال الكسب معهم وذلك أن في ولاية وال العدل وولاته إحياء كل حق وكل عدل وإماتة كل ظلم وجور وفساد فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه والمعين له على ولايته ساع إلى طاعة الله مقوياً لدينه ومن مجموع هذه الروايات الشريفة نستفيد رجحان التصدي لإقامة الدولة العادلة بل إذا توقف عليها إقامة الحق ودفع الباطل ونصرة المظلوم تصبح من الواجبات ويؤيد ذلك جملة من المؤيدات نذكر اثنين منها:
- المؤيد الأول: أن ذلك مقتضى التأسي بالأنبياء السابقين (عليهم الصلاة والسلام) فإنهم قد تولوا مناصب السلطة وأقاموا الدول وبعضهم ادعاها وطالب بها أيضاً ومن الواضح أن سيرة الأنبياء الصالحين حجة علينا لدليل استصحاب الشرائع السابقة فيهم ومن الواضح أن من قدر من الأنبياء السابقين على إقامة دين الله سبحانه والأخذ بالحكم فعل ذلك بكل ما أوتي من قوة كما قال عز وجل: (إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا) وفي قضية داوود (عليه السلام) يقول عز وجل: (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) وفي سليمان (عليه السلام) يقول تبارك وتعالى: )رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) ولولا رجحان التصدي وتولي الولاية من قبل الأولياء وإقامة الدولة والحكومة بين الناس لما طلبها سليمان (عليه الصلاة والسلام) لنفسه وفي قضية يوسف (عليه الصلاة والسلام) يقول تبارك وتعالى: (رب قد آتيتي من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث) ومن قبل ذلك طلبها يوسف (عليه السلام) إذ خاطب عزيز مصر بقوله كما في قوله عز وجل: )اجعلني على خزائن الأرض) إلى غير ذلك من الأدلة.
- المؤيد الثاني: ما ورد في الآيات الشريفة من أن الإسلام دين ودنيا وأنه حسنة ولا إشكال في أن الدولة الإسلامية العادلة من مصاديق الحسنات بل من أظهر مصاديقها قال عز وجل: (ومنهم من يقول ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والحسنة في الآية الشريفة لا يراد بها حسنة واحدة أو عدة حسنات وإنما مطلق الحسنة كما بينه العلماء في الأصول ولا إشكال أن من أهم الحسنة إقامة الدولة الإسلامية إذ بدونها لا تقام الأحكام ولا يقام الدين ويعطل كثير من شرائع الإسلام كما هو واضح وفي الحديث الشريف ليس منا من ترك آخرته لدنياه وليس منا من ترك دنياه لآخرته وكيف كان فإن الآية المتقدمة جعلت الإتيان في الإتيان بالحسنة نصيب أخروي مما يكشف لنا عن أن التصدي لإقامة الدولة مضمون الرضا والقبول الإلهي فتكون من مصاديق الطاعة أيضاً.
وبضميمة مثل قوله سبحانه وتعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم( يصبح عنوانها من الواجبات أيضاً وهنا مسائل:
- المسألة الأولى: الواجب الشرعي على العالم الديني كوجوب الصلاة والصيام أن يهتم لإبعاد الحكام الظلمة عن الساحة الإسلامية ليقبض زمام الأمة العلماء الراشدون فيسيرون بالأمة كما أراد الله سبحانه وتعالى وهذا ما قامت عليه سيرة العلماء قديماً وحديثاً من أمثال السيد المجاهد والميرزا الشيرازي الكبير والآخوند الخراساني والميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي والسيد آغا حسين القمي والميرزا مهدي الشيرازي و السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد الشيرازي وغيرهم من الأعلام (قدست أسرارهم) فإن في ترك الأمر بيد الحكام الظلمة هدم الإسلام وإحياء الكفر والفسق كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ظهرت البدع في أمتي فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله.
وأيضاً يجب على العالم الديني الاطلاع بالعلوم السياسية بل ذلك وظيفة كل متدين على نحو الوجوب الكفائي وذلك لأنه يتوقف على هذه العلوم إدارة أمور المسلمين بل إنقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين ونشر الإسلام وهداية الناس من الظلمات إلى النور و هي من العناوين الواجبة قال سبحانه وتعالى: )وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) في مقام الاستفهام الاستنكاري إلى غير ذلك من الأدلة الأربعة الدالة نصاً أو بالمناط على الإنقاذ والهداية ولا يخفى أن معرفة العلوم السياسية لا تكون إلا بمعرفة لا يقل من أمور ستة هي معرفة الدين والاقتصاد والحقوق والاجتماع والنفس والتاريخ وذلك لأن معرفة السياسة لا يمكن إلا بهذه المعارف الستة على تفصيل لا يسعنا بيانه هنا.
وعليه فإنه يجب كما يجب التصدي لإقامة الدولة يجب التصدي لمعرفة العلوم الإسلامية السياسية والتدبيرية لأنه يتوقف عليه الواجب إذ ما يتوقف عليه الواجب واجب كما حقق في محله.
- المسألة الثانية: من المعلوم أن الفقهاء العدول هم ولاة من قبل الوالي المنصوب من الله سبحانه بالنص فإن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون (عليهم الصلاة والسلام) منصوبون من قبل الله سبحانه وتعالى بالنصوص الخاصة كما حقق في محله من علم الكلام والفقهاء العدول الجامعون للشرائط هم منصوبون من قبلهم بالعموم من قبلهم أيضاً كما ستعرفه في المبحث الثاني والثالث إن شاء الله تعالى.
وقد ورد في ذلك عن مولانا الصادق (عليه الصلاة والسلام) الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك وعن عبد الله بن سنان قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يوم ندعو كل أناس بإمامهم قال إمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل زمانه.
بناءً على شمول الإمام للزمان إلى الفقيه الجامع للشرائط أيضاً وعن الشحام عن الصادق (عليه السلام) قال: من تولى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقاً على الله عز وجل أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا بني الملك على قواعد العدل ودعم بدعائم العرض نصر الله مواليه وخذل معاديه عنه (عليه الصلاة والسلام) دولة العادل من الواجبات وعنه (عليه الصلاة والسلام) ليس ثواب عند الله سبحانه أعظم من ثواب السلطان العادل وعنه (عليه الصلاة والسلام) من حسنت سياسته وجبت طاعته وعنه (عليه السلام) خير الملوك من أمات الجور وأحيا العدل عنه (عليه الصلاة والسلام) أفضل الملوك من حسن فعله ونيته وعدل في جنده ورعيته ومن المعلوم أن المراد بالملك أو بالملك من يملك الأمر أعم من الملك الاصطلاحي وإن كان يمكن الجمع بينهما شرعاً أيضاً كما بعث الله سبحانه طالوت ملكاً بينما كان النبي موجوداً أيضاً إذ قال سبحانه وتعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً) الظاهر في التفريق بين الأنبياء والملوك إذ يمكن أن يكون في زمان واحد ملك عادل ونبي أيضاً وفي روايات كثيرة قد تعدو الـ50 منها في باب القضاء والشهادات والحدود والديات والقصاص وغيرها ورد لفظ الإمام على ما عرفته أيضاً مما تقدم والتي يظهر من بعض القرائن الداخلية والخارجية أن المراد من الإمام الأعم من الإمام المنصوص عليه ونوابه في حال الحضور والغيبة فإن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن في زمان قيامهم كان لهم نواب في البلاد البعيدة ونصبوا الولاة والأئمة فكان حكمهم في إجراء الأحكام تابع لهم (عليهم السلام) وأي فرق بين زمان الحضور وزمان الغيبة في ذلك خصوصاً وأن مسألة التصدي إلى الحكومة العادلة إحياءً للحق وإماتة للباطل هو مقتضى سيرة العقلاء وبنائهم في مقتضى الشؤون.
وكيف كان فإنه في زمن الغيبة يجب على الفقهاء الذين جمعوا الشرائط الدينية والدنيوية التصدي لتولي شؤون الدول العادلة وإقامتها بين الناس ويؤيد ذلك مضافاً إلى الأدلة التي تقدمت سابقاً يؤيده مؤيدات منها ما ذكروه في روايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما هو فوق حد التواتر وعلى سبيل النموذج منها نذكر ما رواه جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال فيه: فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وابغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً ولا مريدين بالظلم ظفراً حتى يرجعوا إلى الله ويمضوا على طاعة الله.
وفي رواية عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لأصحابه: أيها المؤمنون أنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرأ ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين ومنها أيضاً ما دل على وجوب مقاومة الجائر والقيام عليه وإزالة الجور من بين حياة الناس وهنا لسائل أن يسأل إذ هل المراد بأنه يغير على الجائر حتى يأتي مكانه جائر آخر أو حتى يأتي عادل فإن كان الأول كان خلاف العقل لأنه يستلزم اللغو إن كان بلا هدف وإن كان لهدف كانت تناقضاَ ونقضاً للغرض إن كان صالحاً وإن كان طالحاً فبطلانه أوضح وإن كان الثاني كان هو المطلوب ومنها ما دل على أمور الحسبة قولاً وعملاً حيث أكثر الفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم) من ذكر تلك الأمور في كتبهم الفقهية كما لا يخفى على من راجع مثل الجواهر والحدائق والمستند والمعارج والرياض والمناهل والمسالك وجامع المقاصد وجامع الشتات والفقه ومهذب الأحكام ومستمسك العروة وغيرها من كتب الأعلام وقد ذكروها في مختلف أبواب الفقه.
أما من حيث عملهم فإن جملة كبيرة منهم تمكنوا من إجراء الأحكام فكانوا يفعلونها في العراق وإيران والخليج وغيرها كما لا يخفى على من راجع التواريخ والإنكار عليهم من البعض إما لم يكن من جهة الإطلاق أو كان من بعض بدون حجة ظاهرة كإنكار الفاضل القطيفي على حجة المحقق الكركي كما لا يخفى على من راجع كتابه وأي فرق بين تلك الأمور وبين ما ذكرناه من الإطلاق فهذا إن لم يكن دليلاً بنفسه للسيرة قولاً وعملاً فلا يكون أقل من المؤيدة التي يطمئن إليه ومنها ما دل على تصديق الأئمة (عليهم السلام) لنهضة بعض أصحابهم وأوليائهم كنهضة المختار وزيد الشهيد والحسين شهيد فخ (عليهم السلام) فإن عددا من الأئمة (عليهم السلام) ترحموا على المختار وصدقوا فعله كما هو مذكور في كتب الرجال أما تصديقهم (عليهم السلام) لزيد والحسين فكثير وأما الروايات الطاعنة فيهم أو المخالفة لهم محمولة على التقية كما يدل على ذلك القرائن الداخلية والخارجية ومن الروايات الواردة لتأييدهم صحيحة عيسى ابن القاسم قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة وأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم إن أتاكم آت منا فانظروا على أي شيء تخرجون ولا تقولوا خرج زيد فإن زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (عليهم السلام) ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه فالخارج منا اليوم إلى شيء يدعوكم إلى الرضا من آل محمد (عليهم السلام) فنحن نرشدكم إنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمعوا منا إلا من اجتمعت بنو فاطمة معه والله ما صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه إذا كان رجب فأقبلوا على اسم الله وإن أحببتم أن تتأخروا إلى شعبان فلا ضير.
ولا يخفى أن زيد (عليه الصلاة والسلام) كان يدعو إليهم (عليهم الصلاة والسلام) وفي هذه الرواية كلمات تدل على صحة القيام من قبل الفقيه العادل الجامع للشرائط إذا كان يدعو إلى الحجة منهم (عليهم السلام) وقد قال زيد كما روي عنه ما لفظه في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه وحجة زماننا ابن أخي جعفر ابن محمد لا يظل من تبعه ولا يهتدي من خالفه وعن الصادق (عليه السلام) إن عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا مضى والله عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام ) إلى غير ذلك مما ورد في زيد من الروايات وأقوال العلماء ما لا يخفى على من راجع كتب الرجال وأما بالنسبة إلى الحسين بن علي شهيد فخ فقد روي عن زيد بن علي قال: انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى موضع فخ فصلى بأصحابه صلاة الجنازة ثم قال: يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين ينزل لهم بأكفان وحنوط من الجنة تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنة وفي هذا قال السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الفقه الدولة الإسلامية في الجزء الأول منها ص44 يقول لعل المراد بصلاة الجنازة الصلاة على حسين ندباً بإهداء الثواب له وقد كان الحسين شهيد فخ أيضاً يدعو إلى الرضا من آل محمد فقد روي عن أرطئة قال: لما كانت بيعة الحسين بن علي صاحب فخ قال: أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أن يطاع الله ولا يعصى وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه والعدل في الرعية والقسم بالسوية وفي رواية جاء الجند برؤوس إلى موسى والعباس وعندهم جماعة من ولد الحسن والحسين فلم يتكلم أحد منهم بشيء لا موسى ابن جعفر (عليه السلام) فقال له: هذا رأس الحسين قال: نعم إنا لله وإنا إليه راجعون مضى والله مسلماً صالحاً صواماً قواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله فلم يجيبوه بشيء إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على مشروعية نهضة زيد والحسين وغيرهم من أعلام آل البيت الذين نهضوا ضد الجور لإقامة دولة العدل.
ومنها إطلاق الآيات والروايات المتضافرة الواردة في باب الجهاد والدفاع ومحاربة المعتدي من الطائفتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود والقصاص وغير ذلك مما يكون أغلبها من شأن الحكومة فإنها بين دليل ومؤيد وقد ذكر الكثير في مختلف أبواب الفقه ولعل منها قوله سبحانه وتعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) ومنه قوله عز وجل: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فائت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)، إلى غير ذلك من الآيات والروايات.
ومنها مؤيد أو دليل عقلي وذلك لأن الأمر دائر بين أن يكون الرسول والأئمة (عليهم السلام) بينوا حكم السلطان في زمن الغيبة أو تركوه ولم يبينوه والثاني لا مجال للالتزام به لأنه مخالف للنصوص الصريحة حيث وردت إنهم بينوا كل شيء وفي موثقة أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه وفي هذه الرواية دلالتان:
- الدلالة الأولى: أن الدولة وشؤون الحكم قد بينها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن دولة العدل تقرب إلى الجنة ودولة الجور تقرب إلى النار كما هو واضح.
- والثاني: أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بين شؤون الحكم والدولة لأنه ما من شيء يقرب إلى الجنة ويبعد من النار إلا وقد بينه ولا إشكال في أن الدولة والحكم في أجلى مصاديقه وعن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه وفي رواية مرازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبياناً لكل شيء حتى والله ما ترك الله شيء يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه وعن عمر بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سمعته يقول: إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شيء حداً وجعل عليه دليلاً يدل عليه وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة التي يجدها المتتبع في المجاميع الروائية وعلى هذا فإنهم (عليهم السلام) إما أن قرروا إمامة الجائرين وبينوها أو قرروا إمامة العادلين وبينوها أو لم يقرروا بشيء أصلاً.
- الثالث: من هذه الاحتمالات واضح البطلان والأول لا يمكن الالتزام به فلا بد وأن يكون الثاني والكلام في هذا طويل ندعه إلى مجاله إن شاء الله.
- المسألة الثالثة: التصدي لإقامة الدولة العادلة أو تولي الحكومة من قبل الفقيه الجامع للشرائط واجب كفائي إذا كان هناك فقهاء متعددون صالحون للقيام بهذا الشأن وإذا لم يكن إلا فقيه واحد ولو على سبيل الفرض وجب عليه عيناً بلا إشكال وإن كان يجب عليه الأخذ بضوابط الشورى في الحكم وإقامة الدولة في كلا الفرضين وذلك للأدلة العامة التي عرفت بعضها مما تقدم كما أنه يجب على الأمة تعيين الحاكم إذا كان واحداً فوجب عيناً وتعيين أحدهم إذا كانوا متعددين من باب الوجوب الكفائي كما يجب على الناس معاداة أئمة الجور والتنقيص منهم والاستمرار في مقاومتهم حتى سقوطهم ورجوع الأمر إلى من عينه الباري عز وجل كل ذلك للأدلة العامة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأدلة الخاصة الدالة على وجوب كلمة الحق عند السلطان الجائر مضافاً إلى سيرة الأنبياء والأئمة في مقاومة الظلم وكفاحه وقد روى الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) في قصة إخراج أبي ذر من الشام قال: إن الناس خرجوا معه إلى دير المران فودعهم ووصاهم ومن جملة ما قاله لهم: أيها الناس اجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضباً لله عز وجل إذا عصي في الأرض ولا ترضوا أئمتكم بسخط الله وإن أحدثوا ما لا تعرفون فجانبوهم واذروا عليهم وإن عذبتم وحرمتم وسيرتم حتى يرضى الله عز وجل فإن الله أعلى وأجل لا ينبغي أن يسخط برضى المخلوقين ولا يخفى أن ذلك إنما هو إذا لم يكن هناك أمر أهم يقتضي المراودة وتقبل الوظيفة كما ذكره الفقهاء في باب معونة الظالم على تفصيل لا يسعنا بيانه ولذا قبل يوسف (عليه السلام) وزارة ملك مصر وكان في بلاط فرعون عمران أبي موسى الكليم (عليه السلام) ومؤمن آل فرعون وكان أبو ذر (رضوان الله عليه) يحارب في جيش معاوية مع الروم وسلمان وحذيفة وعمار وأضرابهم في أمارتي بصرة والمدائن وقد ورد في الأحاديث جهاد الإمام الحسن (عليه السلام) في فتح إيران وجهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في فتح أفريقيا إلى غير ذلك.
وكان من هذا الباب أيضاً بمصداق آخر وبشكل آخر من المحاربة والمقاومة للظلم ما أظهره الإمام الحسن (عليه السلام) من الصلح مع معاوية مع أنه كان في الحقيقة لأجل تربية المجاهدين لتوفير فترة الصلح فترة من السعة للإمام (عليه السلام) للقيام بهذا الشأن ثم هؤلاء المجاهدون يفجرونها ثورة عارمة بقيادة الإمام الحسين (عليه السلام) ليس في وجه يزيد وبني أمية بل في وجه كل ظالم إلى يوم القيامة ولذا تمكنت هذه الثورة السماوية العظيمة التي قام بها الإمام الحسين (عليه السلام) أن تقلع جذور الاستبداد والاستهتار بحقوق الناس من قطع الرؤوس والطواف بها وإحراق البيوت وما أشبه ذلك من سياسات الظلمة ولذا لا نجد في عالمنا اليوم من أمثال هذه الأمور أثراً وسوف تستمر ثورة الإمامين التربوية حتى يأتي يوم لا نجد لظلم الحاكم على المحكوم إن شاء الله وبإذنه عز وجل وكل ذلك ببركة سيد الشهداء والإمام الحسن (عليه السلام).
- المسألة الرابعة: لا إشكال في جواز تحاكم الفقيهين أو أكثر لنيل مرتبة الرئاسة للدولة الإسلامية للأصل بعد عدم الدليل على عدم جواز ذلك وإن كان للحكم بالشورى مجال هنا وما دل على أنهم حكم بحكمهم (عليهم السلام) لا يجوز رده لا يشمل نيل الرئاسة فحال ذلك حال تشاحن الإمامين على إمامة الجماعة كما أنه لا دليل على لزوم تعيين الناس لأحدهما بل ظاهر الأدلة جواز إرادة أحد الخصمين قاضياً والخصم الآخر قاضياً آخر جواز ذلك بالفحوى نعم إذا أشغل المنصب أحدهم لم يجز لفقيه آخر مزاحمته ونقض حكمه كما أفتى بذلك غير واحد ما دام عاملاً بالشرائط لأنه بانتصابه يكون من أولي الأمر فيشمله دليل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ولما تقدم في كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية ولأنه يوجب النزاع والخصام الذي لا يرضى به الشارع قطعاً بل يستلزم نقض الغرض من الحكومة وإقامة الدولة وقد قال سبحانه: )وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) وذلك شامل للفساد الموجب من معارضة ولي الأمر وإن كان يجب على ولي الأمر أن يأخذ بالشورى في تطبيقه وفي تنفيذه وفي تشريعه.
كما أن الانتخابات الحرة تكون هي الفيصل في تعيين أحد الفقهاء أو تعيين الجماعة منهم فيما إذا تنافس أكثر من فقيه واحد على تولي مقام الرئاسة فبناء على هذا من ناحية الأصل يجوز لجمع من الفقهاء التنافس لأجل نيل مقام الرئاسة من دون تعيين والانتخابات هي الحكم والحمد لله رب العالمين.