محاضرات أصول فقه - المحاضرة 50
- ويقابل هذا الطريق التدريجي البطيء الى تعددالمعنى طريق آخر قصير يتحقق في الاستعمال المجازي,فالاستعمال مثلا في نحو Crane وظيفتها الحاق مدلول جديد بمدلول قديم عن طريق العلاقة المباشرة بين المدلولين, غير أن السمات المشتركة فقط هي التي يدركهاالمتكلم حين يتم الانتقال من المعنى القديم الىالمعنى الجديد والمعتاد أن يعيش المعنى القديم جنباالى جنب مع المعنى الجديد, فالطير المسم+ى Crane سوف يظل يدعى بهذا الاسم, بالرغم من أن اللفظ نفسه قد أطلق على تلك الالة المعهودة التي تستعمل في رفع الاحمال الثقيلة.
ولقد ظهرت في كثير من اللغات الاوروبية استعارات تشبه مثالنا المذكور.
وهذا يدل على الانتقال من معنى الى آخر قد لا يكون ذاتيا أو تلقائيا في جميع الحالات, وانما قد يكون راجعاالى التأثر بالصور أو النماذج الاجنبية ))(1).
- التعامل مع المشترك فقهيا:
تكرر أن اصول الفقه هو منهج الفقه أي العلم الذي يضي أمام الفقيه الطرق التي ينفذ منها الى فهم النص الشرعي وكيفية استفادة الحكم الشرعي منه.
وقد يشتمل النص الشرعي على لفظ مشترك أو ألفاظ مشتركة, فكيف يتعامل معها الفقيه ليفيد منها الحكم الشرعي?
لا يختلف موقف الفقيه في تعامله مع المشترك اللفظي عن تعامل الاخرين من أبناء اللغة.
ويتلخص في لزوم اعتماد الفقيه على القرينة المعينة للمعنى المقصود, فوظيفة الفقيه هنا الفحص عن القرينة مقامية أو مقالية.
ولكن على الفقيه أن يفحص عن القرينة أولا في النصوص الاخرى التي لها علاقة بالنص المشتمل على اللفظ المشترك, أو في ما يلابس النص من حوادث تاريخية أو ما شاكلها.
يقول الدكتور حمودة: (( اذا كان الاشتراك واقعا في اللغة كما تبين وواقعا في النصوص الشرعية, فكيف يحددالاصوليون دلالته?
بعبارة اخرى: ما حكمه?
ان الالفاظ عند الاصوليين ينبغي أن تكون محددةالدلالة, لان المقصد من التشريع هو العمل بما يدل عليه اللفظ, والمشترك لا يدل على أحد معنييه أو معانيه الا اذاكان مصحوبا بقرينة تبينه, سواء كانت القرينة لفظية أوحالية.
ومن ثم فان تحديد أحد المعنيين أو المعاني يتوقف على هذة القرائن ))(2).
ومن أمثلة التعامل مع المشترك فقهيا ما جاء في كتاب كنز العرفان في فقه القرآن)(3) .
(( والدلوك: الزوال, نص عليه الجوهري, من الدلك لان ا لناظر اليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها.
وقيل: الغروب, وتمسك بقول الشاعر:
هذا مقام قدمي رباح دبب حتى دلكت براح
و (براح) علم للشمس كقطام وحذام لمرأتين(4).
والحق: أنه لا دلالة فيه على المدعي لاحتمال اراده زوالها, وكذا على الرواية الاخرى (غدوة حتى دلكت براح).
وعلى تقدير الدلالة لا ينافي كونه بمعنى الزوال لاحتمال الاشتراك )).
وفي المصدر نفسه(5): (( والحق أن النكاح لغة هوالوطي, ويقال على العقد فقيل: مشترك بينهما, وقيل:حقيقة في الوطي مجاز في العقد, وهو أولى اذ المجازخير من الاشتراك عند الاكثر )).
- أثر المشترك في اختلاف الفقهاء:
لنأخذ هنا مثالا لذلك عدة المطلقة واستفادتها من الاية الكريمة (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء).
والمشترك كلمة (قروء) جمع (قرء) وهو مشترك لفظي بين الطهر والحيض.
ودل على أنه مشترك:
1- الاستعمال اللغوي الاجتماعي:
فمن استعمال القرء بمعنى الطهر قول الاعشى:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لاقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي لما ضاع من طهر نسائك لغيبتك عنهن فلم تغشهن لشغلك بالغزو فأبدلت من ذلك هذا المال وهذه الرفعة.
وقال ابن منظور في (اللسان) معلقا عليه: (( فالقرؤ هنا الاطهار لا الحيض, لان النساء انما يؤتين في اطهارهن لا في حيضهن, فانما ضاع بغيبته عنهن اطهارهن)).
ومن استعماله بمعنى الحيض قول الاخر:
يارب ذي ضغن على فارض يرى له قرء كقرء الحائض
يقول: رب رجل حاقد راكب على حيوان مسن طعنته فكانت له دم كدم الحائض.
وفي الحديث: (دعي الصلاة أيام أقرائك) أي أيام حيضك.
2- النقل اللغوي المعجمي:
ففي كتاب (الاضداد) لابن الانباري: ((والقرء: حرف من الاضداد, يقال القرء للطهر وهو مذهب أهل الحجاز, والقرءللحيض وهو مذهب أهل العراق)).
يعني بالمذهب هنا المذهب الفقهي لا اللغوي, وسيأتي.
وفي (لسان العرب): (( والقرء والقرء: الحيض والطهر: ضد.
وذلك أن القرء الوقت فقد يكون للحيض والطهر )).
وفيه أيضا: (( (قال) أبو عبيد: الاقراء: الحيض, والاقراء:الاطهار, وقد أقرأت المرأة في الامرين جميعا, وأصله من دنو وقت الشيء .
قال الشافعي رضي الله عنه: القرء اسم للوقت, فلما كان الحيض يجي لوقت, والطهر يجي لوقت, جاز أن يكون الاقراء حيضا وأطهارا )).
وفيه أيضا: (( قال ابن الاثير: قد تكررت هذة اللفظة في الحديث مفردة ومجموعة, فالمفردة بفتح القاف, وتجمع على أقراء وقروء:
وهو من الاضداد: يقع على الطهر, واليه ذهب الشافعي وأهل الحجاز, ويقع على الحيض, واليه ذهب أبو حنيفة وأهل العراق.
والاصل في القرء الوقت المعلوم, ولذلك وقع على الضدين, لان لكل منهما وقتا.
وأقرأت المرأة اذا طهرت واذا حاضت )).
وفيه أيضا: (( وقال أبو اسحاق النحوي: الذي عندي في حقيقة هذا أن القرء في اللغة الجمع, وان قولهم: (قريت الماء في الحوض) وان كان قد ألزم الياء فهو جمعت, و (قرأت القرآن) لفظت به مجموعا, و (القرد يقري) أي يجمع ما يأكل في فيه, فانما القرء اجتماع الدم في الرحم, وذلك انما يكون في الطهر )).
والى هنا نكون قد تبينا الاتي:
1- ان القرء في اللغة الاجتماعية يستعمل في الطهرويستعمل في الحيض, ولهذا صار مشتركا.
2- ان أصل القرء في اجتهاد اللغويين: الوقت عندبعضهم, والجمع عند آخرين.
فاذا كان أصله الوقت جاز أن يسمى به الحيض فيقال له قرءلانه يجي في وقت, وجاز أن يسمى به الطهر فيقال له قرءلانه يجي في وقت.
واذا كان أصله الجمع يتعين أن يكون للطهر لانه في الطهر يجتمع الدم في الرحم ولا يخرج.
ومنشأ الاختلاف بين الفقهاء في المسألة جاء من الاتي:
فمن أخذ من الفقهاء بالرأي القائل ان أصل القرء هو الجمع قال هو للطهر, فعدة المطلقة تحتسب بالطهر لا بالحيض.
ومن أخذ بالرأي القائل ان أصله الوقت ثبت عندة اشتراكه فلابد له من أن يفتش عن القرينة ليعين المراد منه, ومن أقوى هذه القرائن الحديث النبوي (دعي الصلاة أيام أقرائك)لان على المرأة أن تترك الصلاة أيام حيضها وهو متفق عليه فيكون معنى الاقراء الحيض, فيحمل في الاية الكريمةعلى الحيض بقرينة الحديث.
وقد يشكل هنا بأن القرء من خلال النقل اللغوي المشيرالى أصله فيه والتدليل على ذلك بالاستعمال اللغوي الاجتماعي انه مشترك لفظي أيضا بين معنى الوقت ومعنى الجمع, فحمله على أحدهما اعتمادا على قول اللغويين لا يثبت أن أصله واحد من المعنيين المذكورين لان قول اللغويين المذكور اجتهاد منهم لمعرفة الاصل في استعماله, واجتهاد اللغويين ليس بحجة الا مع تبني الفقيه له وذلك لا يتأتى الا اذا أثبت رأيه بدليل ناهض بالاثبات وأبطل القول الاخر بدليل قادر على الابطال, واللغوي في طريقةاجتهادة يثبت فقط ولا يبطل والمعتمد هنا النقل عن العرب فقط.
ولان النقل يروي الاستعمالين معا فانه يدل على انه مشترك لفظي بينهما.
وعليه لابد من التماس قرينة اخرى لتعيين المراد.
التضاد
تطلق كلمة (الضد) في اللغة العربية على مثل الشيءونظيرة, كما تطلق على خلافه ومنافيه.
وتطلق في اصطلاح علماء اللغويات على الشيء وخلافه,وعبروا عن الشيء وخلافه بالضدين.
واستعمال اللفظ الواحد في المعنيين المتضادين أو الضدي نظاهرة لغوية عامة, فلم تنفرد بها اللغة العربية.
ومن شواهد عمومها ما ذكرة أولمان في كتابه (دورالكلمة في اللغة) وهي: كلمة altrus فانها تستعمل في اللغة اللاتينية للمرتفع والمنخفض.
كلمة sacer تستعمل في اللاتينية أيضا للمقدس والملعون, وكذلك هي في اللغة الفرنسية الحديثة.
كلمة biassed تستعمل في اللغة الانجليزية للمقدس والملعون.
ومن شواهد التضاد في لغتنا العربية:
كلمة (القرء), قال الاصمعي: القرء عند أهل الحجازالطهر, وعند أهل العراق الحيض.
وتقدم الحديث فيها مفصلا في موضوع المشترك اللفظي.
كلمة (الجلل): تستعمل للامر العظيم والامر الهين,يقال: (قد جلت مصيبتهم) أي عظمت, وقال لبيد:
كل شيء ما خلا الموت جلل والفتى يسعى ويلهيه الامل
أي هين, وقال امرؤ القيس حين قتل أبوة:
بقتل بني أسد ربهم ألا كل شيء سواة جلل
أي هين.
كلمة (أسر), يقال: (أسررت الحديث) بمعنى كتمته,ويقال: (أسررت الحديث) بمعنى أظهرته, ومنه قوله تعالى: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) أي أظهروها,وقول الفرزدق:
فلما رأى الحجاج جرد سيفه أسر الحروري الذي كان أضمرا
أي أظهر.
كلمة (أخفى), يقال: (أخفيت الشيء) كتمته, و (أخفيته) أظهرته, ومنه قوله تعالى: (ان الساعة آتيةأكاد أخفيها) أي أظهرها.
كلمة (مولى) فانها تطلق على المنعم والمنعم له,وعلى السيد والعبد.
كلمة (باع) فانها تستعمل بمعنى اشترى كماتستعمل بمعناها المعروف.
كلمة (شرى) فانها تستعمل بمعنى باع, كماتستعمل بمعناها المعروف.
وقد ألف في الاضداد غير واحد من علماء اللغة العرب,منهم: الانباري والاصمعي والسجستاني وابن السكيت وغيرهم .
والتضاد نوع من الاشتراك اللفظي, قال السيوطي في (المزهر(6)): ((قال ألكيا في تعليقه: المشترك يقع علىشيئين ضدين, وعلى مختلفين غير ضدين.
فما يقع على ضدين كالجون وجلل, وما يقععلى مختلفين غير ضدين كالعين)).
فما قيل في المشترك اللفظي يقال فيه, أمثال انكار ابن درستويه فانه قال في (شرح الفصيح): (( النوء: الارتفاعبمشقة وثقل, ومنه قيل للكوكب قد ناء, اذا طلع, وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط أيضا, وانه من الاضداد,وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في ابطال الاضداد))(7).
وحجة المنكرين هنا هي حجتهم في انكار المشترك اللفظي لان الاضداد من المشترك اللفظي, فهي, أيضا توقع في اللبس والابهام, أو التعمية والتغطية.
قال السيوطي في (المزهر(8)): (( قال أبو بكر بن الانباريفي أول كتابه (الاضداد): هذا كتاب ذكر الحروف التي توقعها العرب على المعاني المتضادة, فيكون الحرف منهامؤديا عن معنيين مختلفين, ويظن أهل البدع والزيغ والازدراء بالعرب أن ذلك كان منهم لنقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم وكثرة الالتباس في محاوراتهم عند اتصال مخاطباتهم, فيسألون عن ذلك, ويحتجون بأن الاسم مبني على المعنى الذي تحته, ودال عليه, وموضح تأويله, فاذااعتور اللفظة الواحدة معنيان مختلفان لم يعرف المخاطب أيهما أراد المخاطب (أي المتكلم), وبطل بذلك معنى تعليق الاسم على هذا المسمى)).
ثم يذكر ابن الانباري وجوها في الجواب أهمها: (( أن كلام العرب يصحح بعضه بعضا, ويرتبط أوله باخره, ولا يعرفمعنى الخطاب منه الا باستيفائه واستكمال جميع حروفه,فجاز وقوع اللفظة الواحدة على المعنيين المتضادين لانها تتقدمها ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الاخر, فلا يراد بها في حال التكلم والاخبار الامعنى واحد )).
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- ص115 116.
2- دراسة المعنى عند الاصوليين 92.
3- كنز العرفان في فقه القرآن 1 / 67 .
4- و (رباح) اسم المتغزل بها, وكان الشاعر ينظر الى أثر قدميها حتى دلكت الشمس فلم يستطع رؤية الاثر لدخول الظلام ف(دلكت) هنا بمعنى غربت.
5- 2 / 133 .
6- المزهر 1 / 387 .
7- عن المزهر 395/1 396.
8- المزهر 1 / 397 .