محاضرات أصول فقه - المحاضرة 48 - استحالته
استحالته
ويريد القائلون بالاستحالة هنا استحالة وقوع المشترك اللفظي في اللغات البشرية, أي في الواقع الخارجي.
وينقسم هؤلاء القائلون بالاستحالة الى فريقين:
- فريق يقول بالاستحالة مطلقا, أي من غير تفصيل بين مجال وآخر, فهو مستحيل الوقوع في كل لغات العالم,ومنها اللغة العربية.
وكذلك في اللغة العربية الاستحالة على نحو الاطلاق,فلا فرق بين القرآن الكريم وغيره, فكما هو مستحيل الوقوع في القرآن هو في غيره كذلك.
- وفريق آخر يقول باستحالته في كلام الله تعالى فقطويمثل كلام الله عند المسلمين القرآن الكريم, منطلقين الى هذا من مفاهيم عقلية بنيت عليها عقيدة التوحيد.
ومن القائلين باستحالة وقوعه مطلقا أي في كل اللغات,وفي اللغة العربية في القرآن وغيره: ابن درستويه النحوي المتوفى سنة 347هـ .
ذهب الى هذا في كتابه (شرح فصيح ثعلب), قال: ((وانما اللغة موضوعة للابانة عن المعاني, فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين أو أحدهما ضدالاخر, لما كان ذلك ابانة, بل تعمية وتغطية.
ولكن قد يجي الشيء النادر من هذا العلل, فيتوهم من لايعرف العلل ان اللفظ وضع لمعنيين, والسماع في ذلك صحيح عن العرب, وانما يجي من لغتين, أو لحذف واختصارفي الكلام حتى اشتبه اللفظان, وخفي ذلك على السامع فتأول فيه الخطأ )).
وابن درستويه هنا يعتمد في احالة المشترك اللفظي على الدليل الذي ذكره الاصوليون, وهو التعميةوالتغطية, أو الغموض وعدم فهم المعنى المراد للمتكلم لتردده بين معنيين أو أكثر.
وبتعبير آخر: أن المتكلم الذي يستعمل اللفظ المشترك يخل بافهام مقصوده.
يقول صاحب الكفاية: (( أحاله بعض لاخلاله بالتفهيم المقصود من الوضع)).
ويقول السيد المروج في شرحه: (( ان الاشتراك ينافي حكمة الوضع, وهي التفهيم, وابراز ما في الضمائر )).
وذلك لان الاشتراك يوجب اجمال المعنى المقصود للمتكلم وعدم دلالة اللفظ عليه, لان نسبة الوضع الى كل من المعنيين أو المعاني على حد سواء, فتبطل حكمة الوضع.
فمنافاة الاشتراك لحكمة الوضع توجب عدم امكانه الوقوعي الذي اريد بالاستحالة .
ورد صاحب الكفاية مذهب الاستحالة المذكور ب(( منعالاخلال أولا, لامكان الاتكال على القرائن الواضحة .. ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا, لتعلق الغرض بالاجمال أحيانا )).
وصاحب الكفاية هنا يريد أن يوضح أن الغموض الذي يأتي من استخدام المشترك اللفظي يمكننا رفعه باستخدام القرينة المعينة للمعنى المراد.
يضاف اليه: أن حكمة الوضع لا تنحصر بالتفهيم, فقديكون وضع المشترك لحكمة اخرى تقتضي ذلك, وهوالاجمال عندما يتطلب الموقف الغموض لغرض معقول,ويأتي هذا في ما يعرف أدبيا بالتلاعب بالالفاظ, وهو اسلوبمن أساليب الحوار, يقول أولمان في كتابه (دور الكلمة فياللغة):
(( وفي كثير من الاحيان قد يؤخذ ما كان منقصة في التفاهم اللغوي العادي على انه ميزة فيما لو نظرنا اليه منوجهة نظر مختلفة فاستغلال الغموض كخاصة من خواص الاسلوب يكاد يكون قديما قدم الادب نفسه, ولقد كانت للاغريق نظرية دقيقة محكمة في هذه القضايا وأمثالهاوكذلك كان لشعراء التروبادور الاقليميين الذين يمثلون أول مدرسة للشعراء الغنائين في العصور الوسطى الذين كانواينظمون أشعارهم باللغة الدارجة. أما أكثر صور هذاالغموض سذاجة فهو التلاعب بالالفاظ Punning. ويستطيع منشاء أن يستغل كلا من تعدد المعنى Polyeemyوالمشترك اللفظي homonymy أي في استطاعته أن يتلاعب بالمعاني المختلفة للكلمة الواحدة, كما يتلاعب بالكلمات المختلفةالمتحدة الصيغة, بالاضافة الى استغلاله الغموض الذي يلازم ترتيب الكلمات وطرائق نظمها النحوي, ويعتمد كثيرمن الفكاهات والملح التي تجري على ألسنة الناس في الحياة اليومية على هذه المصادر التي تناولتها كذلك بحوث ذات مستويات عالية من الدقة فلقد قام الاستاذ و.اميسون W. Embson بتصنيفها وتحليلها في كتابه القيم المسمى (سبعة أنماط للغموض Seven Types or Ambiguity),ولقد كان عصر الملكة اليزابيث أزهى عصور استغلال التلاعبب الالفاظ في الادب الانجليزي(1).
وذهب المعتزلة الى القول باستحالة وقوع المشترك ا للفظي في القرآن الكريم, منطلقين الى هذا من الاعتقادبوجوب نفي العبث في أفعال الله تعالى لانه منزة عن ذلك.
ويقرر الفخر الرازي في (المحصول) دليلهم على ذلك فيقول: (( واحتج المانع: بأن ذلك اللفظ اما أن يكون المرادمنه حصول الفهم أو لا يكون.
والثاني عبث.
والاول لا يخلوا اما أن يكون المراد منه حصول الفهم بدون بيان المقصود, أو مع بيانه.
والاول تكليف ما لا يطاق.
والثاني لا يخلو اما أن يكون البيان مذكورا معه أو لا يكون,فان كان الاول كان تطويلا من غير فائدة, وهو سفه وعبث.
وأن كان الثاني أمكن أن لا يصل البيان الى المكلف, فحينئذ يبقى الخطاب مجهولا)).
ويقرره صاحب الكفاية بأنه يلزم منه (( التطويل بلا طائل مع الاتكال على القرائن, والاجمال في المقال لولا الاتكال عليها, وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى وجل شأنه )).
ثم يرده (أعني صاحب الكفاية) بأن استعمال المشترك مع القرينة المعينة لا يلزم منه التطويل, اذ ربما كان الاتكال على القرينة لغرض آخر غير تعيين مراد المتكلم .
كما يمنع أن يكون الاجمال عند عدم الاتكال علىالقرينة غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق بهالغرض, والا لما وقع المشتبه في كلامه تعالى, وقد أخبرفي كتابه الكريم بوقوعه فيه, قال الله تعالى: (فيه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات).
ورأيي أن الرد الاقرب الى طبيعة الموضوع هو: أن القرآن الكريم استعمل الاشتراك لانه موجود في لغة العرب يمارسونه في كلامهم ويفهمون مقصود المتكلم به في حواراتهم وخطاباتهم .
وشاهد هذا من المشترك القرآني قوله تعالى (والليل اذاعسعس).
فان الفعل (عسعس) مشترك بين الاقبال والادبار,والعرب يستعملونه في لغتهم في المعنيين المذكورين ويفهمون مراد المتكلم بمعونة القرينة.
ففي (البحر المحيط): (( قال الغراء: عسعس الليل وعسس: اذا لم يبق منه الا القليل.
وقال الخليل: عسعس الليل: أقبل وأدبر.
قال المبرد: هو من الاضداد.
وقال علقمة بن قرط:
حتى اذا الصبح له تنفس اوانجاب عنها ليلها وعسعسا ))
وفي (لسان العرب): (( كان أبو عبيدة يقول: عسعس الليل: أقبل, وعسعس: أدبر, وأنشد:
مدرعات الليل لمّا عسعسا
أي أقبل )), بقرينة (مدرعات) أي متخذات من الليل درعا يتقين بظلمته ولانه مستعمل في لغة العرب مع القرينة لايعتبر هذا تطويلا لان القرينة هنا كالجزء, بسبب الفةالاستعمال.
ولابد من الاشارة هنا الى أن هؤلاء القائلين باستحالةالمشترك في القرآن فقط يتأولون وجود هذه الالفاظ التي يسميها الاخرون بالمشترك, يتأولونها بالحقيقة والمجازدفعا لمحذور نسبة القبح أو العبث الى الله تعالي.
وقد يلاحظ عليهم: انه لا يوجد في البين ما يميزالمعنى الحقيقي للفظ المشترك من غيره من المعاني المجازية المشاركة له.
وعليه: فأي معنى هو الحقيقة?
لا دليل في البين يقوم بدور التميز بين المعاني وتعيين المعنى الحقيقي من بينها.
يضاف اليه: انهم بهذا التأويل وقعوا في المشكلة التي فروا منها وهي أن المجاز أيضا يفتقر الى القرينة في استعماله, ألا يعد هذا تطويلا بلا طائل على رأيهم, واذااستعمل من غير قرينة فانه يؤدي الى الاجمال أيضا, أليس هذا هو الاشكال الذي أشكلوا به على استعمال المشترك??
- امكانه:
يريد الاصوليون بهذا العنوان ما يقابل الاستحالة العقلية, أي هل يمكن عقلا أن يقع المشترك اللفظي في اللغة?
استدلوا للامكان بأدلة, منها:
-ما استدل به صاحب المحصول لامكان الاشتراك, وذلك من طريقين, هما:
أ- اذا كان الواضع للفظ في أكثر من معنى واحدا,فأقصى ما يؤخذ عليه: أن الاستعمال للفظ المشترك قد يوجب الاجمال والغموض, وهذا المأخذ غير وارد لان ((المواضعة تابعة لاغراض المتكلم, وقد يكون للانسان غرض في تعريف غيرة شيئا على التفصيل وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشيء على الاجمال بحيث يكون ذكر التفصيل سببا للمفسدة, كما روي عن أبي بكررضي الله عنه أنه قال للكافر الذي سأله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقت ذهابهما الى الغار, من هو? فقال: (رجل يهديني السبيل),ولانه ربما لا يكون المتكلم واثقا بصحة الشيء على التعيين,الا أنه يكون واثقا بصحة وجود أحدهما لامحالة, فحينئذيطلق اللفظ المشترك لئلا يكذب, ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك, فان أي معنى يصح فله أن يقول: انه كان مرادي )).
ب- واذا كان الواضع متعددا, كأن تضع قبيلة لفظ المعنى وتضع قبيلة اخرى اللفظ نفسه لمعنى آخر (( ثم يشيع الوضعان ويخفي كونه موضوعا للمعنيين من جهةالقبيلتين )), فلا يرد الاشكال باستلزام الاشتراك الاجمال لان الواقع بعد استعمال اللفظ في المعنيين مفهوم, حيث يستعمل اللفظ في هذا المعنى اتباعا لقبيلة, وفي المعنى الاخر اتباعا للاخرى, ولا محذور في هذا من حيث الوضع.
- امكانه مع عدم وقوعه:
ان القائلين بعدم الوقوع هنا قالوا بأن ما ظاهرة الاشتراك فانه في واقعه من نوع الحقيقة والمجاز.
قال صاحب المحصول: (وأما الوقوع فمن الناس من قال:ان كل ما يظن مشتركا فهو: اما أن يكون متواطئا أو يكونحقيقة في أحدهما مجازا في الاخر, كالعين, فانه وضع أولا للجارحة المخصوصة ثم نقل الى الدينار, لانه في الغره والصفاء كتلك الجارحة, والى الشمس لانها في الصفاءوالضياء كتلك الجارحة, والى الماء لوجود المعنيين فيه.
وعندنا: أن كل ذلك ممكن, والاغلب على الظن وقوع المشترك.
والدليل عليه: أنا اذا سمعنا (القرء) لم نفهم أحدالمعنيين من غير تعيين, بل يبقى الذهن مترددا, ولو كان ا للفظ متواطئا, أو حقيقة في أحدهما مجازا في الاخر, لماكان كذلك.
فان قلت: لم لا يجوز أن يقال: كان حقيقة في أحدهمامجازا في الاخر, ثم خفي ذلك?.
قلت: أحكام اللغات لا تنتهي الى القطع المانع من الاحتمالات البعيدة, وما ذكرتموه لا ينفي كونه حقيقة فيهما الان, وهو المقصود, والله أعلم .
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- قد تعد التورية في البلاغة العربية نمطا راقيا من أنماط التلاعب بالكلمات على الوجهيناللذين أشار اليهما المؤلف, وهما التلاعب بالمعاني المختلفة للكلمة الواحدة والتلاعب بالكلماتالمختلفة المتحدة الصيغة, وقد يكون من النوع الاول ما حدث بين الحجاج وأحد خصومه, اذقال له موعدا: لاجملنك على الادهم (يريد القيد) فقال الرجل: مثل الامير يحمل على الادهم والاشهب (يريد الفرس) فقال الحجاج: ويلك انه لحديد, فرد الرجل: لان يكون حديدا خير من أنيكون بليدا.
ومن النوع الثاني نذكر المثالين التاليين:
ياسيدا حاز لطفا له البرايا عبيد
أنت الحسين ولكن جفاك فينا يزيد
فيزيد من المشترك اللفظي, اذ قد يكون معناها هنا يزيد بن معاوية وقد يكون معناها يزداد ومنهذا القبيل كذلك قوله:
نظرت اليها والسواك قد ارتوي بريق علية للطرف مني باكي
تحدرة من فوق در منضد سناة لانوار البروق يحاكي
فقلت وقلبي قد تقطع غيرة أيا ليتني قد كنت عود أراك
فقالت أما ترضى السواك? أجبتها وحقك ما لي حاجة لسواك
فسواك قد يكون معناها (( غيرك )) أو (( السواك )) المعروف (المترجم).