محاضرات أصول فقه - المحاضرة 6 - موضوعه
موضوعه
تبينا من خلال بحثنا في تعريف علم أصول الفقه موضوعه أيضا, وهوالدلالة عامة والدلالة الفقهية خاصة.
ولنأخذ لذلك مثالا توضيحيا: (الظهور في اللفظ) كلمة كان اللفظ أوجملة أو سياقا هل يعتبر دليلا يستدل به, وحجة يحتج بها?
ان النتيجة التي يتوصل اليها البحث الاصولي, سلبا أو ايجابا, لا يقتصر بهاعلى لغة من اللغات البشرية, كما لا يقتصر بها على مجتمع من المجتمعات البشرية, وانما تؤخذ على نحو الشمولية لكل اللغات ولكل المجتمعات, لان الظهور اللفظي من الظواهر اللغوية الاجتماعية المشتركة بين كل اللغات,وفي جميع المجتمعات.
فدراسة ظاهرة الظهور هنا عامة, ونتيجتها التي تتوصل اليهاالدراسة أيضا عامة.
ولكن لانا نهدف من دراستنا لقاعدة الظهور المشار اليها, محاولة استفادةالحكم من ظواهر الالفاظ الشرعية, يأتي الامر هنا تطبيقا للنظرية العامةعلى اللغة العربية بشكل خاص, وفي مجال الالفاظ الشرعية بشكل أخص,فكأنا بحثنا في دلالة الالفاظ الشرعية بصورة خاصة.
ولنأخذ مثالا آخر: (لزوم الامر بالشيء النهي عن ضده), ان هذه القضية تبحث في علم أصول الفقه كظاهرة اجتماعية عامة لكل مجتمعات البشر, فمايدركه العقل هنا أو ما عليه سيرة العقلاء في هذه القضية مما يتوصل اليه البحث الاصولي من نتيجة سلبا أو ايجابا تعد ظاهرة عامة لكل المجتمعات البشرية.
ولكن لانا طبقنا هذه القاعدة (قاعدة لزوم الامر بالشيء النهي عن ضدة)على الاوامر الشرعية في المجتمع الاسلامي نكون كأننا بحثنا هذه الظاهرة في المجتمع الاسلامي خاصة, وفي الامتثالات الشرعية بشكل أخص ..وهكذا.
ونخلص من هذا كله الى أن علم أصول الفقه يدرس الموضوعين التاليين:
1- الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة, أي المشتركة بين جميع لغات البشر.
2- المدركات العقلية العامة, أي المشتركة بين جميع مجتمعات البشر.
ويتحرك في بحثه داخل دائرة التشريعات, شرعية وعرفية وقانونية.
وكاصول للفقه الاسلامي يقتصر في دراساته على قضايا التشريع الاسلامي.
من الواضح أن فائدة هذا العلم مهمة جدا لانه المدخل المباشر لمعرفة الاحكام الشرعية.
وكل امة لابد أن يكون لها تشريعها الذي هو نظام حياتها, ولابد أن يكون لتشريعها علماؤه المتخصصون به.
والامة الاسلامية تشريعها هو الفقه الاسلامي, والمتخصصون به هم الفقهاء, والفقيه لا يكون فقيها الا بعد تخصصه بعلم أصول الفقه, لانه منهج الفقه والمدخل اليه.
ولانه العلم الذي بواسطته يثبت العلماء حجية أدلة الفقه بغية ترتيب الامرين التاليين:
1- صحة الاستناد في مقام العمل الى ذلك الدليل الذي تثبت حجيته.
2- صحة اسناد مؤدي الحجية للشارع المقدس.
- حكم تعلمه:
وحكم تعلمه يترشح من حكم تعلم الفقه, ولان تعلم الفقه من الواجبات الكفائية, وهو متوقف على علم الاصول, وعلم الاصول هو المقدمةالمباشرة للاجتهاد فيه, يصبح تعلمه هو الاخر واجبا كفائيا من باب وجوب مالا يتم الواجب الا به.
- علاقته بالعلوم الاخرى:
لعلم الاصول علاقة وثيقة بالعلوم التالية:
1- علوم اللغة العربية: الاصوات والتصريف والنحو والبلاغة, وذلك ليعرف الدارس الاصولي دلالات الحرف والكلمة والجملة.
ليمكنه الانطلاق في دراسة النص العربي وبخاصة الشرعي منه.
2- علم اللغة العام: Linguistics.
ذلك أن علم اللغة العام يعنى بدراسة الظواهر اللغوية المشتركة بين كل اللغات, يقول الدكتور السعران في كتابه (علم اللغة: مقدمة للقاري العربي): (( واللغة التي يدرسها علم اللغة ليست الفرنسية أو الانجليزية أو العربية, ليست لغة معينة من اللغات, انما هي (اللغة) التي تظهر وتتحقق في أشكال لغات كثيرة ولهجات متعددة وصور مختلفة من صور الكلام الانساني, فمعأن اللغة العربية تختلف عن الانجليزية, وهذه الاخيرة تفترق عن الفرنسية, الا أن ثمة اصولا وخصائص جوهرية تجمع ما بين هذه اللغات, وتجمع مابينها وما بين سائر اللغات وصور الكلام الانساني, وهو أن كلا منها لغة, أن كلامنها نظام اجتماعي معين تتكلمه جماعة معينة, بعد أن تتلقاة عن المجتمع, وتحقق به وظائف خاصة, ويتلقاة الجيل الجديد عن الجيل السابق, ويمر هذا النظام بأطوار معينة, متأثرا بسائر النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية وبسوى ذلك ... الخ, وهكذا فعلم اللغة يستقي مادته من النظر في اللغات على اختلافها, وهو يحاول أن يصل الى فهم الحقائق والخصائص التي تسلك اللغات جميعا في عقد واحد )).
وهذا الذي يدرسه علم اللغة كان يدرس ضمن الفلسفة ثم انسرب منها الى مباحث الالفاظ في أصول الفقه, واستقل أخيرا عن عالم الفلسفة بمايعرف حديثا ب (علم اللغة العام).
وأضاف اليه علم اللغة ما يرتبط باللغة من معطيات الدراسات الانسانيةفي علم الاجتماع وعلم النفس ومؤديات البحوث الطبيعية في علم الفيزياء وعلم الوراثة وعلم الاحياء وعلم وظائف الاعضاء وعلم التشريح, وكذلك استعان بالجغرافية والتاريخ.
ففي علم اللغة موضوعات مشتركة بينه وبين علم أصول الفقه, أمثال:نشأة اللغة, وعلاقة اللفظ بالمعنى, والكلمة في مادتها وهيئتها والجمل في دلالاتها منطوقا ومفهوما والخ.
3- علم الدلالة: Semantics
ذلك أن علم الدلالة يدرس وسائل نقل المعاني من ذهن الملقي الى ذهن المتلقي.
ولان علم الاصول كما ذكرنا يدرس الدلالة تكون العلاقة بينهما جد وثيقة وجد حميمة.
ولان أهم وسيلة لنقل المعاني هي (الالفاظ) تكون علاقة علم أصول الفقه بدلالة الالفاظ ألصق آصرة وأشد وثاقة.
وموضوعات علم الدلالة هي الاخرى كانت تدرس ضمن البحوث المنطقية والدراسات الفلسفية, ومنها انداحت الى علم الاصول, ثم استقلت حديثا بما يعرف ب (علم الدلالة) وبما يعرف ب (دلالة الالفاظ).
4- علم الاجتماع اللغوي: Socioling|uistics
لانه يضع أمام الباحث الاصولي حقائق وسمات الظاهرة اللغويةالاجتماعية, ويساعده على بحثها والطريق الى تعرف شموليتها.
5- علم النفس اللغوي: Psycholing|uistics
لما له من ارتباط في معرفة آثار الظواهر النفسية على الظواهراللغوية.
6- علم الاسلوب:
وهو من العلوم الحديثة التي تقوم بدور علم البلاغة بتعرف الاسلوب في خصائصه ومميزاته, مما يلقي الضوء على معرفة أساليب النصوص الشرعيةالتي يتعامل معها الباحث الاصولي, وكذلك معرفة مستوى ونمط دلالاتهاكقرائن تساعد على كشف شرعيتها وصدورها من المعصوم .
7- علم المنطق: Logic
لما ألمحت من أن المنطق يدرس موضوعي التعريف والاستدلال, وفي علم الاصول مصطلحات ومفاهيم لابد أن تعرف, ولان فيه قضايا لابد أن يستدل على صحتها أو حجيتها, كانت له العلاقة به لمعرفة طرق وقواعد التعريف وطرق وقواعد الاستدلال.
يضاف اليه أن الدلالة التي هي موضوع علم الاصول هي من مباحث علم المنطق, ومنه امتدت الى علم الاصول كما أشرت الى ذلك.
8- علم الرجال:
ذلك أن أصول الفقه, وفي المجال التطبيقي منه والاستدلالي لقضاياه التي ترتبط بالجانب الاسلامي قد يستدل برواية فتحتاج لمعرفة قيمة سندها منحيث القبول والرفض, وأحوال الرجال هو الكفيل بذلك.
9- علم الحديث:
وذلك لمعرفة مستوى الحديث الذي قد يستدل به هنا في قيمته من حيث الاعتبار واللااعتبار فيصح الاستدلال به أو لا يصح.
10- علم الكلام: Theology
وبخاصة في موضوع التحسين والتقبيح العقليين حيث يثبت هذا الموضوع وجود قيم عقلية لظواهر اجتماعية تطابقت آراء العقلاء عليها كحسن العدل وقبح الظلم ولزوم الاتيان بما لا يتم الواجب الا به, واستلزام الامر بالشيء النهي عن ضدة.
وكذلك لاثبات شرعية ومشروعية الكتاب والسنة كمصدرين للفقه الاسلامي.
11- الفلسفة القديمة:
حيث كانت التربة الخصبة التي نبتت فيها النظريات اللغوية الاجتماعية التي يتناولها علم الاصول بالدرس والنظر فيها.
وكذلك منها استمد البحث الاصولي المبادي العقلية العامة, أمثال: مبدأ العلية, ومبدأ استحالة التناقض وامتناع الدور والتسلسل.
12- علم الفقه:
ذلك أن نتائج الفقه تمر في مراحلها من النص ودلالته, والرواية ورواتها, ومعطيات العقل وسيرة العقلاء لتصبح نتائج فقهية عبر أصول الفقه بدوره يهيء كبرياته لجزءياتها بغية الكشف عن حجيتها ومدى قدرتها على النهوض بالدلالة الفقهية.
13- علم أصول القانون:
لما بينهما من وشيجة قربى لان كلا منهما قواعد تشريع, ليفيد من بعض مصطلحاته ومفاهيمه مما يلتقي وخطه التشريعي الاسلامي ويمس واقع حياةالانسان.
لا أعني بالمصدر هنا الكتاب أو البحث الذي يرجع اليه الباحث يستقي منه مادة بحثه كما يعرفه علماء المكتبات.
وانما أعني به المجال الذي يرجع اليه عند وضع وتدوين العلم أي علم بغية استقاء مادة العلم منه.
والكلمة (أعني لفظ مصدر) بعد لما تدخل المعاجم اللغوية العربية بهذاالمعنى المذكور كمصطلح علمي.
ومن المظنون قويا أنها مأخوذة من المصدر بمعنى (المنهل = المورد) الذي يستقي منه الماء, حيث يردة الناس خلوا من الماء ويصدرون عنه (أي ينصرفون) مزودين بالماء.
وذلك للتشابه بين مصدر المعلومات ومصدر الماء في التزويد بالمادةالمطلوبة.
فالمصدر كمصطلح علمي هو ما يرجع اليه الباحث لاستفادة المعلومةالمرتبطة ببحثه منه(1).
وعليه: فكل مجال يرجع اليه واضع أو واضعو علم ما لاستقاء مادة العلم منه,هو مصدر معلومات ذلك العلم .
ومن أمثلة ذلك:
علم النحو: مصدره:
1- السماع: ما يسمع من كلام العرب الفصحاء.
2- القياس: ما يقاس على المسموع من كلام العرب الفصحاء.
التاريخ: مصدره:
1- الوقائع: مشاهدة الواقعة عيانا.
2- الرواية: حكاية الواقعة ممن شاهدها أو ممن روى عنه.
3- الوثائق: المدونات.
4- الاثار: الاطلال والحفريات والنقوش وما شابهها.
علم الفقه: مصدره:
1- القرآن الكريم (آيات الاحكام).
2- السنة الشريفة (أحاديث الاحكام).
3- الاجماع (اتفاق الفقهاء الكاشف عن رأي المعصوم).
4- العقل (الادراك العقلي الكاشف عن رأي المعصوم).
وفي ضوئه:
ما هو المصدر الذي وردة واضعو علم أصول الفقه وصدروا عنه بالمادة العلمية الاصولية التي دونوها في كتبهم ?
لم يذكر الاصوليون هذا العنوان في كتبهم الاصولية, ولم يتناولوه بالبحث.
وكان من الطبيعي منهجيا أن يبحث بشكل مستقل, ويوضع في موضعه الطبيعي من تصنيف موضوعات هذا العلم, فتنشأ به المقدمة العلمية لهذا العلم .
وقد يرجع عدم تعرضهم لمصدر الاصول بالبحث لاضطراب كلمتهم في تحديد موضوعه كما أوضحت هذا في ما سلف.
ولانا قد تبينا موضوع هذا العلم, وحصرناه في العنوانين التاليين:
1- الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة (أي المشتركة بين جميع لغات البشر).
2- المدركات العقلية العامة (أي المشتركة بين جميع مجتمعات البشر).
وبينا هناك أن علم الاصول يتحرك في تعامله مع هذين المصدرين داخل دائرة التشريعات, شرعية وعرفية وقانونية.
وكاصول للفقه الاسلامي فانه يقتصر في دراسته على قضايا التشريع الاسلامي.
لابد لنا من التعرض للموضوع (أعني مصدر الاصول).
اننا نستطيع أن نستخلص ذلك من طوايا وثنايا البحوث الاصولية, منطلقين الى هذا من التعرف على أدلة موضوعاته بعناوينها الرئيسية التي هي:
الاصول اللفظية.
الملازمات العقلية.
الاصول العملية.
ففي الاصول اللفظية يتفق علماء أصول الفقه على أن الهدف من دراستهاهو تشخيص صغريات لكبرى ظاهرة الظهور.
وعليه: فالاساس في دراسة الاصول اللفظية هو ظاهرة الظهور.
والظهور كما هو معلوم يراد به ظهور اللفظ في دلالته على المعنى, وهوأحد أنواع دلالة اللفظ المبين, التي منها:
دلالة النص: وهي أن يكون اللفظ نصا في معناه فلا تحتمل دلالته على معنى آخر غيرة.
دلالة الظهور: وهي أن يكون اللفظ ظاهرا في معنى مع احتمال دلالته على معنى آخر غيرة.
والدلالة الاولى في طبيعتها دلالة يقينية, بينما الدلالة الثانية دلالة ظنية لوجود طرف الاحتمال.
ويستدل الاصوليون هنا على حجية الدلالة الاولى بأن اليقين حجيته ذاتية, أي انه هو بذاته حجة, فلا يحتاج الى دليل يثبت له الحجية, لان اليه تنتهي حجية كل حجة, وأية حجية لا تنتهي اليه لا تعتبر حجة, وذلك لان اليقين كشف عن الواقع, بل هو الواقع.
وهذا مما يدرك ببديهة العقل.
واستدلوا على حجية الظهور ببناء العقلاء أو سيرة العقلاء أي أن الاخذ بظواهر الكلام من الظواهر الاجتماعية العامة لجميع اللغات وفي جميع المجتمعات.
أما الملازمات العقلية فاستدلوا على اعتبارها بالدليل العقلي وقصدوا منه كما يوضح استاذنا المظفر (( حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم الثابت شرعا أو عقلا, وبين حكم شرعي آخر, كحكمه بالملازمة في مسألة الاجزاء,ومقدمة الواجب, ونحوهما, وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان اللازم منه حكم الشرع بالبراءة, وحكمه بتقديم الاهم في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعليه حكم الاهم عند الله, وكحكمه بوجوب مطابقة حكم الله لما حكم به العقلاء في الاراء المحمودة.
فان هذه الملازمات وأمثالها امور حقيقية واقعية يدركها العقل النظري بالبداهة أو بالكسب, لكونها من الاوليات والفطريات التي قياساتها معها, أولكونها تنتهي اليها فيعلم بها العقل على سبيل الجزم .
واذا قطع العقل بالملازمة والمفروض أنه قاطع بثبوت الملزوم فانه لابد أن يقطع بثبوت اللازم وهو أي اللازم حكم الشرع.
ومع حصول القطع, فان القطع حجة يستحيل النهي عنه, بل به حجية كل حجة))(2).
وبالنسبة الى الاصول العملية فأنها كما يوضح السيد السبزواري ((من الارتكازيات العقلائية يكفي في اعتبارها شرعا عدم وصول الردع, ولانحتاج الى اقامة الدليل على اعتبارها من الكتاب والسنة والاجماع, وتطويل الكلام في ذلك, فان العقلاء بفطرتهم بعد الفحص عن الحجة واليأس منها, لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء فعلا أو تركا, وهو البراءة المصطلحة,وأنهم بفطرتهم يرون العلم الاجمالي منجزا في الجملة, ويعبر عن ذلك في الاصطلاح بالاشتغال والاحتياط, وعند الدوران بين المحذورين لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء منهما بالخصوص, ويعبر عنه بالتخيير, ومع اليقين السابق والشك لاحقا تحكم فطرتهم باتباع اليقين السابق ويعبر عنه بالاستصحاب ))(3).
ومن مجموع ما تقدم ندرك أن مصدر أصول الفقه هو (العقل), وندرك أن المراد بالعقل (سيرة العقلاء), والتي تسمى عند المتأخرين أيضا (بناءالعقلاء).
ولان سيرة العقلاء أو بناء العقلاء هي ظاهرة اجتماعية عامة, يأتي من المفيد أن نمهد للحديث عنه بتعريف الظاهرة الاجتماعية.
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- أنظر: تحقيق التراث المصادر المراجع.
2- أصول الفقه ط2 مج2 ص112.
3- تهذيب الاصول ط2 ج2 ص144.