محاضرات أصول فقه - المحاضرة 40 - تحديد المعنى
تحديد المعنى
وينسق على دراسة مراتب الدلالة محاولة تعرف معنى المعنى, وبتعبير أكثر دقة وأجلى وضوحا: هل المعنى في سياق هذه المراتب هو المفهوم الذهني(الصورة الذهنية, الفكرة), أو هو أعيان الأشياء الموجودة في الواقع الخارجي??.
الذي يبدو من استقراء مختلف الدراسات الحديثة أن المعنى هو الفكرة (المفهوم الذهني).
وهذا المفهوم أو هذه الصورة قد تأتي انعكاسا تاما للشيء العيني, وقد تأتي بالعكس, وقد تختلف عنه من جانب أو من أكثر من جانب.
ومن هنا وقع الاختلاف في تعيين ظهورات الالفاظ وتحديد معانيها(1) .
ولنأخذ مثالا لذلك قولنا: (اتخذ من هذا الرغيف عشاء لك) فالذي يستظهر من هذه الجملة أو هذا الكلام هو أن للمخاطب أن يأكل الرغيف كله, وله أن يتناول منه كفايته,أي بعضه.
وبلغة نحوية: أن (من) حرف الجر المذكور في الجملة قد يكون زائدا ويصبح المعنى (اتخذ هذا الرغيف عشاء لك), وقد يكون تبعيضيا ويكون المعنى (اتخذ بعض الرغيف عشاء لك).
ولكن الموقف يختلف في تعاملنا مع الآية الكريمة (واتخذوا من مقام ابراهيم مصلي) فان أريد من الصلاة التي تؤدي في مقام ابراهيم الدعاء فالمقام يتسع لان يكون مقام دعاء, وان أريد من الصلاة ذات القيام والركوع والسجود والجلوس فالمقام لا يتسع لها, فلا تأتي (من) هنا زائدة بحيث يكون المعنى (واتخذوا مقام ابراهيم مصلي), ولا تبعيضية لعدم اتساع المقام بكامله للصلاة فكيف ببعضه.
أذن, لابد من أن نلتمس لها معنى آخر, وهو العندية كما يقول الفقهاء أي صلوا عند مقام ابراهيم .
ثم أن العندية, هل يقتصر فيها على الخلفية المباشرة للمقام, أو تمتد بامتداد المسجد .. وهكذا.
كل هذه الاختلافات ترينا أن المعنى هو الفكرة (المفهوم الذهني), الذي يتأثر عند محاولة فهمه بذكاء الشخص وانتباهه, وما يمتلك من خلفيات ثقافية, وبحدود نظرته لمجريات الحياة.
يقول الدكتور السعران في كتابه (علم اللغة(2)):
(( والأمثلة كثيرة على الخلافات الخطيرة التي تحدث في مجالات السياسة والفقه والقضاء والاجتماع والتاريخ بناء على فهم الكلمة الواحدة, أو العبارة, بأكثر من صورة:
يصدر القانون بعد العناية الفائقة بصياغته صياغة دقيقة منعا للبس, وتصحبه ((مذكرة تفسيرية )), ولكن عند التطبيق تثور (( اشكالات )) وتختلف أحكام القضاة, فتصدر تفسيرية للتفسيرية, ولكنها قد تخلق اشكالات جديدة أولاتفلح في حل القديمة.
ودراسة الكتب المقدسة والآثار الفكرية الكبيرة خير شاهد على ذلك.
القرآن الكريم فسر أكثر من تفسير على مناهج مختلفة,وكثير من آياته يسمح بأكثر من تفسير لهذه اللفظة أو تلك العبارة.
ونحن نعلم كيف اختلف شراح أرسطو في فهم بعض نصوصه, الخ.
وهذا يذكرنا بالترجمة. أن الترجمة من لغة إلي لغة تكشف لنا مشكلة المعنى بصورة جلية, وكل من مارس الترجمة الأمينة يدرك هذا لانه عاناه.
أن الكلمة في اللغة لها غير المعنى القاموسي العام,وغير المعنى الذي قد يفهم من السياق, إيحاءات وارتباطات نتجت عن الحياة المشتركة التي يحياها أصحاب اللغة,فعندما ننقل من لغة إلى أخرى فكيف نوفق في اصطياد كلمات تعطي إيحاءات الحياة الأخرى وارتباطاتها?
ويكفينا مثل واحد على هذا.
كنا ننظر في تفسير محمد مرمدوك بكثال للقرآن الكريم ورأيناه ذهب مذهبا خاصا في نقل كلمة (( الله )) عز وجل ألي الإنجليزية: لفظ الجلالة يترجم عادة
ب God ولكن (بكثال) لاحظ أن كلمة God لا تثير في ذهن القاري الإنجليزي ما تثيره كلمة (( الله )) في ذهن القاري العربي: فكلمة God في الإنجليزية تؤنث
ب Goddess, وتجمع على Gods, بينما الله, وهو واحد لاشريك له, كلمة ليس لها مثنى ولا جمع, ولا مؤنث, أن التصور الذي تشير أليه كلمة (( الله )), سبحانه وتعالي, تصور يقضي على الشرك, بينما كلمة God لا تقضي على هذا التصور, ولم يجد بكثال في الإنجليزية كلمة تقابل كلمة ((الله )) في العربية, فاحتفظ بكلمة (( الله )) في الإنجليزية كما هي, يترجم (بسم الله الرحمن الرحيم )) بقوله:
the Merciful IN the name af Allah the Beneficient )).
ولعله لهذا ذهب الأستاذ فيرث ألي أن المعنى (( كل مركب من مجموعة من الوظائف اللغوية .
وأهم عناصر هذا الكل هو الوظيفة الصوتية ثم المورفولوجية والنحوية والقاموسية والوظيفة الدلالية(سياق الحال) )).
ثم يرى فيرث (( أن الوصول إلى معنى أي نص لغوي يستلزم:
1- أن يحلل النص اللغوي على المستويات اللغوية المختلفة (الصوتية والفونولوجية والمورفولوجية والنظمية والمعجمية).
2- أن يبين (سياق الحال = الماجريات): شخصية المتكلم, شخصية السامع, جميع الظروف المحيطة بالكلام .. الخ.
4- وأخيرا: يذكر الاثر الذي يتركه الكلام (ضحك,تصديق, سخرية ... الخ).
من هنا لابد لمن يتعامل مع النص الشرعي من:
1- دراسة وتعلم علوم اللغة العربية ذات الصلةالمباشرة بدراسة النص وتفهم معناه.
2- تملك التذوق أو القدرة الفنية التي تساعد علىادراك دقائق التعبير ونكات التركيب.
3- دراسة ومعرفة بيئة النص داخل اطار حضارتهازمانا ومكانا. وكل هذا لتأتي الصورة الذهنية (المعنى)مطابقة للواقع)).
وكمثال, لنربط هذا بما نحاول فهمه من آية صلاةالطواف المتقدمة:
أننا إذا رجعنا إلى ملابسات الآية وقرائن الحال التي كانت محيطة بها, وأبرزها وأقواها فعل النبي صلى الله عليه وسلم, ففي أي موضع عند المقام صلى النبي صلى الله عليه وسلم, وصلى الذين كانوا معه في عمرته وحجته.
أن معرفة هذه القرينة هي دراسة للنص في إطار ظروفه الزمانية والمكانية, وضمن حضارته الشاملة.
- علاقة اللفظ بالمعنى:
من مهمات مسألة دلالة اللفظ محاولة معرفة نمط علاقة اللفظ بالمعني.
وهي من القضايا التي تناولها بالبحث الفلاسفة الأقدمون وعلماء اللغة المحدثون, وبين هؤلاء وأولئك علماء أصول الفقه قديما وحديثا.
وأقدم إطار ثقافي بحثت فيه هذه المسألة هو الفلسفةالاغريقية, فقد تناولها بالدرس الفيلسوف اليوناني سقراط,ومن بعدة تلميذة أفلاطون ومن بعدة تلميذة ارسطو.
واختلف فيها رأيا سقراط وار سطو, وانتقل خلافهما مع الترجمات العالمية للفلسفة الإغريقية إلى الفلسفات الأخرى.
فدخلا مجال الفلسفة الإسلامية, وكان أقدم من تعامل معهما من فلاسفة المسلمين متكلمة المعتزلة,وعلى رأسهم عباد بن سليمان الصيمري.
وعن طريق المعتزلة انتقلت المسألة وبما تحمل في طياتها من الرأي اليوناني والآخر المعتزلي إلى الدراسات اللغوية العربية, وكان أقدم من أثارها على صعيد البحث اللغوي عالم اللغة وخريت صناعتها أبو الفتح ابن جني في كتابه اللغوي القيم الموسوم ب(الخصائص).
وكذلك عن طريق المعتزلة دخلت عالم البحوث الاصوليةالاسلامية, واستقبلها الفقهاء المسلمون بالتحليل والنقدوالاضافة والحذف.
واستمرت يدار النظر فيها ويثار الجدل حولها بما تمخض عن أكثر من نظرية اصولية اسلامية في تعريفها اتسمت بالشمولية والعمق.
فكان في اصول الفقه السني بحث في الرأيين اليونانيين,وأكثر من نقد لهما, ولعل أوفى من استوفى ذلك الفخرالرازي في (المحصول) ولكن وبعد استقرار المذاهب الفقهية السنية وتوقف حركة الاجتهاد في الدرس الفقهي السني توقف العطاء الفكري السني في المسألة,وتركز الدرس الاصولي السني في استرجاع وعرض الاراءالقديمة في المسألة, بينما نجده في اصول الفقه الشيعي مستمرا, ومتطورا تطورا تجديديا, فقد نقد النظريات الاولى وبلورها, وجاء بنظريات اخرى وبخاصة في مجال التعريف, دلل فيها على مدى تعمق النظرة العلميةالجادة لديه.
وفي أوائل القرن التاسع عشر الميلادي, وعند انبثاق مايعرف بعلم الدلالة دلفت المسألة وبقوة الى علم اللغةالحديث وقطعت فيه شوطا بعيدا في افراز نظريات جديدة ذات قيمة علمية مهمة.
وبعد أن تبينا كل هذا الذي يرتبط بشكل مباشر أو غيرمباشر بتاريخ المسألة ننتقل الى محاولة معرفة نمط ونوعية العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى الذي هوموضوع المسألة, وذلك من خلال استعراض الاقوال في المسألة, وهي:
(رأي سقراط):
وهو أقدم رأي في المسألة مما وصل الينا, نقله عنه تلميذه أفلاطون في محاوراته(3), ومحصلته: أن العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة ذاتية, وصلة طبيعية, لا تختلف عن الصلات الطبيعية الاخرى, القائمة بين الاسباب ومسبباتها, والعلل ومعلولاتها, كالصلة بين النار والاحتراق والخصب والنماء.
فاللفظ سبب وعلة وجود المعنى في الذهن, ووجودالمعنى في الذهن معلول ومسبب لوجود اللفظ في الذهن,الذي تنتقل صورته اليه عن طريق الحس سماعا أو قراءة أونطقا.
وكما ترى أن هذة الصلة التي افترضها سقراط غيرواضحة, والا لكان كل انسان يستطيع أن يفهم كل لغاتالعالم بمجرد معرفته لالفاظها, ويبدو أن اليونانيين الذين تبنوا رأي سقراط (( لما تبين لهم غموض هذة الصلة بين ألفاظ لغتهم اليونانية ومدلولاتها, ولم يستطيعوا لها تعليلا مقبولا تستريح اليه النفس وتطمئن اليه العقول,أخذوا يفترضون أن تلك الصلة الطبيعية كانت واضحة سهلة التفسير في بدء نشأتها, ثم تطورت الالفاظ, ولم يعد من اليسير أن نتبين بوضوح تلك الصلة أو نجد لها تعليلا وتفسيرا ))(4).
(رأي أرسطو):
ذهب ارسطو الى أن الصلة بين اللفظ والمعنى صلة اعتبارية اصطلح عليها العرف أو الناس (أبناء مجتمع اللغة).
ضمن رأيه هذا كتاباته في الشعر والخطابة.
فالفرق بين رأي ارسطو ورأي سلفه سقراط هو فرق التباين بين الواقع والاعتبار, والتكوين والتشريع.
ولعل ارسطو قال بهذا نتيجة ما رآة من النقد العلمي المتين الذي وجه لرأي سقراط.
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- دور الكلمة في اللغة 63 64.
2- علم اللغة 269 270 .
3- ابراهيم أنيس في (دلالة الالفاظ ط 1980 ص63) نقلا عن: R. A Wilson, the
Miraculous birth of language p. 162
4- ابراهيم أنيس في (دلالة الالفاظ ط 1980 ص63) نقلا عن: R. A Wilson, the
Miraculous birth of language p. 162