محاضرات أصول فقه - المحاضرة 39 - دلالة اللفظ
دلالة اللفظ
- تعريف اللفظ:
من المفيد جدا, ونحن ننطلق من دراستنا الاصولية هذه,الى تعرف دلالات الالفاظ الشرعية, أن نبدأ بتحديد اللفظ بتبيان المقصود منه هنا, فنقول:
قد نلمس باستقراء مختلف الاستعمالات في الدرس الفقهي أن اللفظ يرادف الكلمة.
ومع هذا يبقى الامر فيه شيء من الغموض أية كلمةهذه التي يرادفها اللفظ وترادفه ?
أهي الكلمة في عرف علماء اللغة المحدثين, وأعني بهاالكلمة ذات السمة الواحدة في جميع اللغات.
أم هي الكلمة المعجمية, وهي الكلمة المفردةالمستقلة عن الجملة.
أم أنها الكلمة النحوية, وهي تلك الكلمة التي تشكل عنصرا في الجملة, له موقعه, وله وظيفته النحوية ومؤداة الدلالي.
أم أنها كل هذه وأوسع منها بما يشمل الجملة والكلام ؟؟؟.
وقبل أن يسلمنا البحث الى النتيجة المطلوبة, لنستعرض شيئا من تعريف كل نمط من أنماط الكلم المذكورة, فيحدود ما يوضح الفكرة ويضعنا في الصورة أمام هذاالاختلاف العلمي المثمر.
يعرف ستيفن أولمان Stephen Ullmann الكلمة في كتابه (دور الكلمة في اللغة) بأنها (( أصغر وحدة ذات معنى للكلام واللغة )).
ثم يشير الى صعوبة تعريف الكلمة تعريفا وحيدا, أوتعريفا جامعا مانعا, لانها من الواضحات لدى الناس,وتوضيح الواضح تغميض له.
ثم يذكر بعض تعريفات علماء اللغة الاخرين أمثال اللغوي الامريكي (بلو مفيلد) الذي يعرفها ب(( أنها أصغر وحدة كلامية قادرة على القيام بدور نطق تام )).
والذي أشكل عليه بأن مثل أل التعريف, اذا أخذت مستقلة عن مدخولها لاتقوم بدور نطق تام, مع أنها كلمة لانها ذات معنى تضيفه الى ما يرتبط بها من ألفاظ.
ومعجميا يعرف الزمخشري في كتابه (المفصل) الكلمةبقوله: (هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع).
وتعريف الزمخشري هذا يلتقي وتعريف أولمان في أن الكلمة لابد أن تكون ذات دلالة على معنى, ويفترق عنه بأنه (أعني الزمخشري) نظر الى الكلمة مستقلة عن الجملة, بينما ربط أولمان معناها بأنه للكلام واللغة.
وجاء هذا الفرق من أن كل واحد منهما انطلق الى تعريفها من زاوية تخصه, فأولمان لانه عالم لغوي نظره اكظاهرة لغوية اجتماعية, أما الزمخشري فلان نظرتهانصبت عليها, وهي في اطار المعجم وكمفردة من مفرداته ينطبق عليها تعريفه وهدفه.
وباعتبارها كلمة نحوية فيمكننا أن نعرفها باللفظةالتي يمكن أن تدرج عنصرا في مركب الجملة, وتشغل موقعا اعرابيا فهي تعطي من خلاله وظيفتها النحوية من فاعلية ومفعولية والخ.
ولان الفقيه يتعامل مع الالفاظ الشرعية في مختلف أحوالها, مفردة مستقلة, وعنصرا ضمن الجملة, ومختلف مجالاتها نصا مفردا وجملة وكلاما, يكون المراد منها تطبيقا كل هذه.
فاللفظ اذن هو الكلمة والجملة والكلام .
ولعل عدم تعريف الاصوليين له كان السبب الذي جعل علماء اللغة المحدثين ينحون في هذه الايام منحى الاكتفاء بالاشارة الى وضوح معنى الكلمة والكلام عن الوقوع في اشكاليات التعريف العلمي غير القادر على الجمع والمنع.
- تعريف دلالة اللفظ:
في ضوء تعريف الدلالة منطقيا بالتلازم بين الدال والمدلول, يعرف ابن سيناء في (الشفاء) دلالة اللفظ بقوله:(( ومعنى دلالة اللفظ: أن يكون اذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى, فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم, فكلما أورده الحس على النفس التفتت الى معناه )).
ولغويا يعرفها (المعجم الوسيط) بما نصه: (( الدلالة:ما يقتضيه اللفظ عند اطلاقه )).
ويعرب الشاطبي في (الموافقات(1)) عن أن المقصود للاصولي هو (المعني), وما اللفظ الا وسيلة لتحصيل المعنى, فيقول: (( واللفظ انما هو وسيلة الى تحصيل المعنىالمراد, والمعنى هو المقصود )).
- مراتب دلالة اللفظ:
وما ذكرة ابن سينا في تعريفه المتقدم أثار البحث في محاولة معرفة مراتب الدلالة عند الفلاسفة الاقدمين, ولايزال يثيره لدى علماء اللغة المحدثين.
ولما له من أهمية في القاء الضوء على تعريف المعنى,والكشف عن حقيقته وهويته, تأتي اثارته هنا من الاهمية بموضع الضرورة, وعليه نقول:
للفظ ارتباط مباشر بالمفهوم الذهني وارتباط غير مباشربالواقع الخارجي, يتم بوساطة المفهوم الذهني.
وتتحقق هذه الدورة بأن اللفظ عند اطلاقه يستدعيد صورة المعنى في الذهن التي هي تعبير عن الواقع الخارجي.
اللفظ ــــ الذهن ــــ الخارج .
وتكتمل هذه العملية العقلية عن طريق التداعي بين اللفظ والمعنى, وساحاول ايضاح هذا وفق المنظور القديم والمنظور الحديث.
وبدءا نلمس هذا في مربع الغزالي من كتابه (معيار العلم) الذي يقول فيه: ((اعلم أن المراتب (يعني مراتب الوجود)فيما نقصده أربع, واللفظ في المرتبة الثالثة, فان للشيء وجودا في الاعيان, ثم في الاذهان, ثم في الالفاظ, ثم في الكتابة.
فالكتابة دالة على اللفظ, واللفظ دال علىالمعنى الذي في النفس, والذي في النفس هو مثال الموجود في الاعيان )).
ومتى عرفنا أن اللفظ والكتابة في مربع الغزالي كلاهم حكاية عما في الذهن ورمز يشير اليه يتحول عند علماء الدلالة المحدثين الى مثلث.
وأشهر مثلثات الدلاليين المحدثين هو مثلث الاستاذ ينأوجدن وريتشاردز المعروف ب basie triangle الذي تناول بالدرس في كتابهما (معنى المعنى The meaming of meaming): (( يرى الاستاذان أن هناك ثلاثة عوامل تتضمنها أيةعلاقة رمزية:
العامل الاول: الرمز نفسه the symbol, وهو في حالتنا هذه عبارة عن الكلمة المنطوقة المكونة من سلسلة من الاصوات المرتبة ترتيبا معينا, ككلمة (منضدة) مثلا.
والعامل الثاني: المحتوى العقلي الذي يحضر في ذهن السامع حينما يسمع كلمة (منضدة).
وهذا المحتوى العقلي قد يكون صورة بصرية أو صورة مهزوزة, أو حتى مجرد عملية من عمليات الربط الذهني,طبقا للحالة المعينة.
وهذا ما سماه هذان العالمان ب(الفكرة thought) أو (الربط الذهني refereuce).
وهناك أخيرا الشيء نفسه الذي ارتبط ذهنيا بشيءآخر, وهذا الشيء قد سمياه (المرتبط ذهنيا (2) refernt).
ثم يوضح الاستاذ أولمان العلاقة الحاصلة بين هذه المصطلحات الثلاثة بصورة مثلث, وهو:
الفكرة أو الربط الذهني
الشيء........................................................................ الرمز
علاقة مفترضة
ثم يعلق الاستاذ أولمان على هذا الرسم البياني بقوله: ((والنقطة الجوهرية في الرسم البياني الذي قد بسطناه الى حد ما هي أنه ليست هناك علاقة مباشرة بين الكلمات والاشياء, ومن ثم وضعت النقط لتدل على علاقة مفترضة,اذ لا يوجد طريق مباشر قصير بين الكلمات وبين الاشياء التي تدل عليها هذه الكلمات, فالدورة يجب أن تبدأ عن طريق الفكرة أو الرمز الذهني, أي عن طريق المحتوى العقلي الذيت ستدعيه الكلمة, والذي يرتبط بالشيء.
ولقد كانت هذه الصورة معروفة بالفعل لدى فلاسفةالعصور الوسطى.
ولقد صاغها روبرت براونج Robert Browining صياغة شعرية:
يستطيع الفن أن ينبي عن الحقيقة .
فلا شك أن الافكار تتولد عن الاشياء بطريق غير مباشر.
كما أن ليس محالا وجود الفكرة دون الاعتماد علىالكلمة.
ويرجع الفضل في ذلك على كل حال الى أوجدن وريتشاردز اللذين جعلا هذه النقطة مدار بحثهما, واللذين عبرا عنها برسم بياني نال قدرا كبيرا من النجاح فيما جاء بعد ذلك من بحوث خاصة بهذا الموضوع ))(3) .
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- 2 / 57 .
2- دور الكلمة في اللغة 63 64.
3- دور الكلمة في اللغة 63 64.