محاضرات أصول فقه - المحاضرة 34 - الحكم
الحكم
لأنّ الحكم - بمعناه العامّ - من المفاهيم العرفيّة المعروفة لم يولّه اللغويون العرب كبير اهتمام ، واستغنوا بذكر بعض معانيه دونما تفصيل أو مقارنة.
وأهمّ ما ذكروه مستفيدين إيّاه من الاستعمالات الاجتماعية ان قالوا :
الحكم : المنع ، يقال : حكمت عليه بكذا ، إذا منعته من خلافه فلم يقدر علىالخروج من ذلك - كما في ( المصباح المنير ) - .
ومنه اُخذت بقيّة معانيه التي هي :
- القضاء والفصل بين الناس.
إدارة شؤون البلاد وسياسة من فيها من العباد.
- الحكمة : وضع الشيء في موضعه ، والاتقان والإجادة في الصنع.
- العلم والتفقّه.
هذا في اللغة العربية.
وفي علم المنطق :
عرّفه الجرجاني في ( التعريفات ) ب (( إسناد أمر إلى آخر إيجاباً أو سلباً)).
أي انّه النسبة أو العلاقة القائمة بين المحكوم عليه والمحكوم به ( أو قل: بين المسند إليه والمسند ، أو الموضوع والمحمول.
وعرّفه المنطق الحديث : بأنّه (( إقامة علاقة بين حدّين أو أكثر )).
والفرق بين التعريف المنطقي القديم والتعريف المنطقي الحديث هو أنّ الحكم في المنطق القديم نفس العلاقة التي اصطلح عليها بالنسبة ،وفي المنطق الحديث هو إقامة العلاقة.
وأخال انّ المقصود به العلاقة بالذات بقرينة ما يأتي من أنّ من أخصّ خصائصه احتماله الصدق والكذب ، وهذا لا يتمّ إلّا في الإسناد أو النسبة أوالعلاقة - ما شئت فعبّر - . إلاّ انّه كان هناك تسامح في العبارة بذكر الإقامة ،وحينئذ لا يوجد فرق بين المنطقين في تعريفه.
وقالوا : انّ من أخصّ خصائص الحكم المنطقي احتماله للصدق والكذب.
وقسّموه ، منطقياً - إلى قسمين :
1 - الحكم التحليلي :
وهو ما كان محموله متضمنّاً في موضوعه نحو ( الإنسان الكامل عادل).
فـ ( الإنسان الكامل ) الذي هو موضوع الحكم متضمّن للعدالة التي هي محمول الحكم لشمولية الكمال لها.
2 - الحكم التركيبي :
وهو الذي لا يشتمل موضوعه على محموله ، ولا يمكن الحكم علىصدقه أو كذبه إلاّ بالتجربة.
وقسّموا الحكم - أيضاً - بتقسيم آخر إلى قسمين آخرين ، هما :
1 - الحكم الوصفي :
وهو الذي يصف الأشياء والأفعال ، ويقرّرها بما هي عليه ، أي في واقعهاالقائم ، ومن هنا سمّي ب( الواقعي ) أيضاً.
2 - الحكم المعياري :
وهو الذي يدلّ على تقدير وتقييم الأشياء والأفعال بالتحليل أوالمقارنة ونحوهما ، ولهذا قد يسمّى ب( القيّمي ) و (التقييمي ) أيضاً.
- وفي القانون :
عرّف الحكم تعريفاً شرعيّاً مقارناً بالتعريف القانوني للقاعدة القانونية التي تعني الحكم في اللغة القانونية.
وفي ضوئه :
انّ كلمة ( قاعدة ) في التعريفات القانونية للحكم الشرعي تعني الحكم ..وقد جمع بينهما الدكتور سمير عالية في كتابه ( علم القانون والفقهالإسلامي ) - ص16 - باستخدام الأداة ( أو ) التفسيريّة ، قال : ( وأمّا الحكم الشرعي فهو خطاب الشارع المفيد فائدة شرعيّة أو القاعدة التي نصّ عليها الشرع الإسلامي في مسألة من المسائل).
و ( الخطاب ) في التعريف هو المصطلح الفقهي ، و ( القاعدة ) هي المصطلح القانوني ، وكلاهما يعني الحكم.
ثمّ في ص86 ، وتحت عنوان ( تعريف القاعدة الشرعيّة ) ذكر الدكتور عالية أكثر من تعريف قانوني للحكم الشرعي، منها :
- انّه (( القاعدة التي تستفاد من القرآن والسنّة النبويّة والمصادرالاُخرى المعتبرة شرعاً ، والتي تنظّم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع، بتبيان ما لهم من حقوق ، وما عليهم من التزامات وحدود يجب عدم تجاوزها ، وإلاّ تعرّضوا للجزاء الشرعي الذي يستحقونّه )).
- انّه (( كلمة من الله في صورة خطاب لتنظيم الأفعال الإنسانيّة والأقوال، وحتّى الأفكار والنيّات )).
(( وهذا الخطاب يعبّر عن إقرار الله لبعض الأفعال على أساس أصل الإباحة، وأمره بإتيان بعض الأعمال ، ونهيه عن مقارفة البعض الآخر ،وتبيان الجزاء في حالة مخالفة هذا الأمر أو النهي )).
- انّه (( خطاب الله المتعلّق بأفعال عباده وأقوالهم وسرائرهم )).
ثمّ يعلّق الدكتور عالية(1) بقوله : (( والتعريفان الأخيران جامعان للقواعد الاعتقاديّة والأخلاقية والعمليّة في الشرع الإسلامي.
وهما مماثلان لتعريف الحكم الشرعي الشامل للقواعد الشرعيّة العمليّة ، وسواها من القواعد التي تستفاد من الشرع مباشرةً أو بالواسطة)).
ثمّ يقول : (( والحقيقة انّ مفهوم القاعدة الشرعيّة هو ذات مفهوم الحكم الشرعي )).
ولا يوجد أي فرق بين القاعدة الشرعيّة والحكم الشرعي ، سواء التزمنا بنظرة الاُصوليين في اعتبار لفظ الحكم الشرعي علماً ( أي اسماً ) على ذات خطاب الشارع ، أو جارينا نظرة الفقهاء لجهة كون الحكم دالاً على أثرخطاب الله تعالى )) ، وهو رأي بعض الفقهاء أمثال ابن عابدين - كما سيأتي:
وفي ص89 ، استعرض خصائص القاعدة الشرعيّة ( الحكم الشرعي ) ،وهي :
1 - أصلها سماوي وطابعها ديني.
2 - انّها قاعدة سلوك.
3 - انّها تحكم ظاهر السلوك وباطنه.
4 - انّها خطاب يوجّه إلى الاشخاص في مجتمع.
5 - انّها عامّة مجردة.
6 - انّها ملزمة لاقترانها بجزاء دنيوي واُخروي.
والخلاصة :
الحكم : هو تشريع يوضع لتنظيم سلوك الإنسان.
وقد يكون عرفيّاً ، وقد يكون شرعيّاً ، وقد يكون قانونيّاً.
وإلى هنا وقد تبيّنا المعنى العامّ للحكم ، ومقارنة الحكم الشرعي بالحكم القانوني في مجال التعريف ، ننتقل إلى تبيّن معنى الحكم عندالاُصوليين وتقسيماته التي ذكروها في مدوّناتهم الاُصولية.
( الحكم الشرعي )
- تعريفه :
ارتبط تعريف الحكم الشرعي عند الاُصوليين بما ذكروه من مراحل للحكم الشرعي حيث استمدّوا منها معنى الحكم.
ولكي نتفهّم مفهوم الحكم الشرعي عندهم نمهّد لذلك بذكر تلك المراحل ،وهي :
1 - مرحلة إنشاء الحكم :
وهي مرحلة تشريع الحكم من قبل الله تعالى ، وعبّروا عنها -مستعيرين المصطلح من الفلسفة - بمرحلة الجعل والاعتبار ، وكان الأولى أن تسمّى مرحلة التشريع لأنّه ألصق بواقع هذه المرحلة وأدلّ عليها من سواه.
2 - مرحلة تبليغ الحكم :
وهي مرحلة صدور الخطاب المتضمّن للحكم المجعول من قبل الله تعالى ، وتبليغه للناس من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والخطاب - في الأصل - هو توجيه الكلام نحو المخاطب للإفهام ، ولكن يراد به هنا النصّ الشرعي قرآناً وحديثاً.
ولهذا بامكاننا أن نطلق على هذه المرحلة اسم مرحلة النصّ.
3 - مرحلة فهم الخطاب :
الباب الأول / مباحث الدليل والحكم / الحكم الشرعي
وهي مرحلة تعامل الفقيه مع الخطاب ( النصّ ) لاستنباط الحكم الشرعي منه.
ولنسمّها مرحلة الاستنباط.
إنبثق اختلاف الاُصوليين في تعريف الحكم من نظرتهم إلى إحدى المرحلتين الأوّليين.
ـــــــــــــــــ
الهامش
1 - ص87 .