محاضرات أصول فقه - المحاضرة 33 - قاعدة تعارض الخبرين
قاعدة تعارض الخبرين
سنختصر الحديث عن هذه القاعدة في النقطتين التاليتين :
- بيان معنى التعارض.
- حلّ التعارض شرعاً.
1 - يعني الاُصوليون بالتعارض - هنا - التكاذب بمعنى انّ كلاً منالخبرين إذا توفّر على جميع شروط ومقوّمات الحجيّة يبطل الخبر الآخر ،ويكذبه.
2 - واستدلّوا لحلّ هذا التعارض بما ورد في ( مقبولة عمر بن حنظلة )(1) من قوله : (( قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما ، اختلفا فيحديثكم؟
قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث ،وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قلت : فانّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما علىالآخر؟
قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي به حكما ، المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهورعند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الاُمور ثلاثة :
أمر بيّن رشده فيتبّع ، وأمر بيّن غيّه فيتجنّب ، وأمر مشكل يُرَدُّ علمه إلى الله ورسوله ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( حلال بيّن ، وحرامبيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذبالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لايعلم ).
قلت : فان كان الخبران عنكما(2) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال : ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة ، وخالف العامّة فيؤخذبه ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة.
قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة،ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم ، بأي الخبرين يؤخذ؟
قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد.
قلت : جعلت فداك ، فان وافقهم الخبران جميعاً؟
قال : تنظر إلى ما هم إليه أميل - حكّامهم وقضاتهم - فيترك ، ويؤخذ بالآخر.
قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟
قال : إذا كان ذلك فأرجه ( وفي بعض النسخ : فأرجئه ) حتّى تلقى إمامك ،فانّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ))(3).
حيث استفيد من هذه المقبولة : ان حلّ التعارض يتمّ بالتالي :
- إذا كان أحد الخبرين مشهور الرواية ، والآخر شاذّ الرواية ، يؤخذبالمشهور ويطرح الشاذّ.
- وإذا كان أحد الخبرين موافقاً في حكمه لحكم الكتاب والسنّة ، والآخرمخالفاً في حكمه لحكم الكتاب والسنّة يؤخذ بالموافق ويطرح المخالف.
- وان كان أحد الخبرين موافقاً في حكمه لحكم قضاة وحكّام العامّة ،والآخر مخالفاً لحكم قضاة وحكّام العامّة ، يؤخذ بالمخالف ، ويطرحالموافق.
والمراد بالعامّة - في هذا السياق - : (( اُولئك الرعاع وقادتهم من الفقهاءالذين كانوا يسيرون بركاب الحكّام ويبرّرون لهم جملة تصرّفاتهم بمايضعون لهم من حيث انتشر الوضع على عهدهم انتشاراً فظيعاً )).
وتسمّى هذه المرجّحات ، وتختصر كالتالي :
1 - الشهرة في الرواية.
2 - موافقة الكتاب والسنّة.
3 - مخالفة العامّة(4).
-
قاعدة الاستصحاب
ويأتي الحديث عن هذه القاعدة في النقاط التالية :
1 - تعريف الاستصحاب.
2 - بيان أركان الاستصحاب.
3 - الاستدلال لحجيّة الاستصحاب.
وسأقتصر - هنا - لأجل الاختصار على ما ذكرته في كتابي ( مبادئاُصول الفقه)(5) ، وهو :
1 - عرف الاستصحاب بانّه (( حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشكّمن حيث الجري العملي )).
وسوف يتضّح معنى هذا التعريف أكثر عند استعراض أركانالاستصحاب فيما يأتي.
ولأجل توضيحه بالمثال تقريباً إلى الأذهان نقول :
إذا كان المكلّف على حالة معيّنة وكان متيقناً منها ثمّ شكّ في ارتفاعها ،فانّ الشارع المقدّس يحكم - هنا - بالغاء الشكّ وعدم ترتيب أي أثر عليه ،وبالقيام بترتيب آثار اليقين السابق في مجال العمل والامتثال.
كما إذا كان المكلّف على وضوء وكان متيقناً من ذلك ، ثمّ شكّ في انتقاض وضوئه هذا بنوم أو غيره ، فإنّه - هنا - يبني على وضوئه السابق، ويرتّب عليه آثاره الشرعيّة من جواز الصلاة به ، وغيره ، ويلغي الشكّ الطارئ عليه ، بمعنى انّه لايرتّب عليه أي أثر.
2 - ويشترط في جريان الاستصحاب لينتهى إلى الحكم المطلوب أنيتوفّر الموضوع الذي يجري فيه على الأركان التالية:
أ - اليقين :
وهو العلم - وجداناً أو تعبّداً - بالحالة السابقة على الشكّ.
ب - الشكّ :
وهو كلّ ما لم يصل إلى مرحلة اليقين ( العلم الوجداني أو التعبّدي ).
ج - وحدة المتعلّق في اليقين والشكّ.
أي أنّ ما يتعلّق به اليقين هو نفسه يقع متعلّقاً للشكّ.
د - فعليّة الشكّ واليقين فيه.
(( فلا عبرة بالشكّ التقديري لعدم صدق النقض به ، ولا اليقين كذلك لعدم صدق نقضه بالشكّ )).
ه - وحدة القضيّة المتيقنّة والقضيّة المشكوكة في جميع الجهات.
(( أي أن يتّحد الموضوع والمحمول والنسبة والحمل والرتبة ، وهكذاويستثنى من ذلك الزمان فقط رفعاً للتناقض )).
و - إتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.
(( بمعنى أن لا يتخلّل بينهما فاصل من يقين آخر )).
ز - سبق اليقين على الشكّ.
3 - واستدلّ على حجيّة الاستصحاب بعدّة أدلّة أهمّها ما يلي :
أ - سيرة العقلاء :
وقد استدلّ بها على حجيّة الاستصحاب على غرار الاستدلال بها على (حجيّة الظهور ).
وملخّص الإستدلال :
هو (( أنّ الاستصحاب من الظواهر الاجتماعية العامّة التي ولدت مع المجتمعات ، ودرجت معها ، وستبقى - ما دامت المجتمعات - ضمانة لحفظ نظامها واستقامتها ، ولو قدر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الاستصحاب لما استقام نظامها بحال ، فالشخص الذي يسافر - مثلاً - ويترك بلده وأهله وكلّ ما يتّصل به ، لو ترك للشكوك سبيلها إليه - وما أكثرها لدى المسافرين - ولم يدفعها بالاستصحاب ، لما أمكن له أن يسافر عن بلده ، بلأن يترك عتبات بيته أصلاً ، ولشلّت حركتهم الاجتماعية وفسد نظام حياتهم فيها )).
و عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان بدعا من العصور ، ولا مجتمعه بدعاً من المجتمعات، ليبتعد عن تمثّل وشيوع هذه الظاهرة ، فهي بمرأى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم - حتماً - ، ولو ردع عنها لكان ذلك موضوع حديث المحدّثين ، وهو ما لم يحدّث عنه التاريخ ، فعدم ردع النبيصلى الله عليه وآله وسلم عنها يدلّ على رضاه وإقراره لها ، وبخاصة هو قادرعلى الردع عن مثلها ، وليس هناك ما يمنعه عنه ) صلى الله عليه وآلهوسلم.
ب - السنّة :
وقد استدلّ على حجيّة الاستصحاب بأحاديث ، منها :
موثّقة عمّار عن أبي الحسن عليه السلام : (( قال : إذا شككت فابن علىاليقين .
قلت : هذا أصل؟
قال عليه السلام : نعم )).
والرواية من الوضوح في غنى عن الشرح.
- النتائج :
1 - وكما رأينا انّ البحث في ظاهرة الظهور انتهج - من المناهج العامّة -المنهج العقلي حيث ارتكز في ما توصّل إليه من النتيجة على العقل الاجتماعي ( سيرة العقلاء ).
2 - وانّ البحث في ظاهرة تعارض الخبرين انتهج المنهج النقلي حيث اعتمد في الوصول إلى النتيجة المطلوبة على مقبولة عمر بن حنظلةالمنقولة عن الإمام عليه السلام.
3 - وفي ظاهرة الاستصحاب تكامل المنهج فكان في الإستدلال بسيرةالعقلاء عقلانيّاً وفي الإستدلال بموثّقة عمّار نقلياً.
وهذه النتائج تعزّز ما ذكرته آنفاً من انّ البحث الاُصولي قد ينتهج المنهج العقلي ، وقد يسلك المنهج النقلي ، وقد يجمع بينهما فيكون منهجه تكاملياً.
وعلى أساس هذا :
1 - يسير المنهج الاُصولي في هدي المنهج النقلي العامّ الخطوات التالية :
1 - تعيين موضوع البحث.
2 - تعريف الموضوع.
3 - جمع النصوص التي لها علاقة بالموضوع دلالة أو ملابسة ، شريطة أن تكون مصادرها موثّقة ومعتمدة.
4 - تقييم أسانيد النصوص في ضوء قواعد علمي الحديث والرجال.
5 - تقويم متن النصّ وفق قواعد تحقيق التراث.
6 - تعرف دلالة النصّ من خلال معطيات الوسائل والأساليب العلميّة الخاصّة بذلك من لغوية وغيرها.
7 - استخلاص القاعدة من النصّ ، وصياغتها صياغة علميّة تعتمد فيها اللغة العلميّة لاُصول الفقه.
8 - بيان كيفيّة تطبيق القاعدة.
9 - عرض بعض الأمثلة لتطبيق القاعدة.
2 - ويسير المنهج الاُصولي في هدي المنهج العقلي العام الخطوات الآتية :
1 - تعيين موضوع البحث.
2 - تحديد الموضوع.
3 - التماس الدليل العقلي الدالّ عليه المعتمد شرعاً وتوضيح دلالته عليه.
4 - استخلاص القاعدة وصياغتها صياغة علمية تعتمد فيها لغة اُصول الفقه.
5 - بيان كيفية تطبيق القاعدة.
6 - عرض بعض الأمثلة لتطبيق القاعدة.
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- المقبولة : هي الرواية التي يتلقّاها العلماء بالقبول من حيث السند ، ويعملون بمضمونها.
وعمر بن حنظلة : هو عمر بن حنظلة العجلي البكري الكوفي ، قال فيه الشهيد الثاني : (( لم ينصّالأصحاب فيه بجرح ولا تعديل ، لكن أمره عندي سهل ، لأنّي حقّقت توثيقه في محلّ آخر )) ص44من الدراية.
وقال إبنه الشيخ حسن العاملي : (( قال - يعني الشهيد - في بعض فوائده : الأقوى عندي انّه ثقة لقول الصادق عليه السلام في حديث الوقت : إذاً لا يكذب علينا )) ص103 من اتقان المقال - اُنظر :مبادئ اُصول الفقه ص69 ط3.
2- يقصد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام.
3- مبادئ اُصول الفقه 71 - 69 نقلاً عن اُصول الفقه للمظفّر 250 / 3.
4- اُنظر : مبادئ اُصول الفقه 27 - 65.
5- ص107 - 104.