محاضرات أصول فقه - المحاضرة 32 - الإستدلال
الإستدلال
الإستدلال : هو عملية إقامة الدليل.
هذا هو المعروف من تعريفه ، وسوف نرى أنّه نقطة المركز التي تلتقي عندها التعريفات الاُخرى التي ستذكر فيما يأتي.
- ففي اللغة :
صيّغت كلمة ( استدلال ) على زنة ( استفعال ) التي تعني في الغالب الدلالة على الطلب.
فالإستدلال على هذا طلب الدليل ، وبه عُرّف في اللغة.
- وفي علم المنطق :
عُرّف الإستدلال بـ (( إقامة الدليل لإثبات المطلوب )).
ويقوم على المبادئ التالية :
- مبدأ التعاكس.
- مبدأ التناقض.
- مبدأ التقايس.
- مبدأ التماثل.
- مبدأ الاستقراء.
- وفي الفلسفة :
عَرّفه ( المعجم الفلسفي - مجمع اللغة العربية ) بما نصّه : (( الاستدلالReasoning : فعل الذهن الذي يلمح علاقة مبدأ ونتيجة بين قضيّة واُخرى أوبين عدّة قضايا ، وينتهي إلى الحكم بالصدق أو الكذب ، أو إلى حكم بالضرورة أو الاحتمال )).
ويقوم على المبادئ التالية :
- مبدأ العلّية.
- مبدأ استحالة التناقض.
- مبدأ استحالة الدور.
- مبدأ استحالة التسلسل.
- وفي الكلام :
يقوم الإستدلال على المبدأين التاليين :
- مبدأ التلازم :
الذي يعني إذا ثبت اللازم ثبت الملزوم.
- مبدأ التمانع :
الذي يعني إذا بطل الملزوم بطل اللازم.
- وفي العلم الحديث :
يعرف الإستدلال بأنّه انتقال الذهن من أمر معلوم إلى أمر مجهول.
ويقسّم إلى نوعين أساسيّين ، هما :
1 - الاستنباط deduction
وعرّفوه ب(( انتقال الذهن من قضيّة أو عدّة قضايا ، هي المقدّمات ، إلىقضيّة اُخرى ، هي النتيجة - وفق قواعد المنطق )) - .
وليس بلازم أن يكون انتقالاً من العام إلى الخاص ، أو من الكلّي إلىالجزئي.
ومن أوضح صوره البرهنة الرياضيّة ، ففيها انتقال من الشيء إلىمساوٍ له ، بل من الأخصّ إلى الأعمّ.
والقياس الارسطي باب منه ( الذي أساسه الانتقال من الكلّي إلىالجزئي ( - المعجم الفلسفي - مادّة : استنباط - .
وقسّموا الاستنباط إلى قسمين ، هما :
أ - الحملي :
وهو ما كانت مقدّماته مسلماً بصدقها بصفة نهائية.
ب - الفرضي :
وهو ما كانت مقدّماته مسلماً بصدقها بصفة مؤقتة.
2 - الاستقراء indction
وعَرّفوه بأنّه (( الحكم على الكلّي بما يوجد في جزئياته جميعها .
وهو الاستقراء الصوري الذي ذهب إليه ارسطو ، وحَدَّهُ وسمّاه(الايباجوجيا ).
أو الحكم على الكلّي بما يوجد في بعض أجزائه.
وهو الاستقراء القائم على التعميم.
وعلى الأخير اعتمد المنهج التجربي ، فهو ينتقل من الواقعة إلىالقانون وممّا عُرِفَ في زمان أو مكان معيّن إلى ما هو صادق دائماً وفيكلّ مكان))(1) .
والخلاصة :
الإستدلال : هو إقامة الدليل للوصول إلى المطلوب.
وهو ما نعنيه - هنا - في اُصول الفقه الإمامي.
أقول هذا لأنّه اختلف عنه في اُصول الفقه السنّي ، فأُطلق بشكل عام علىما ذكرناه ، وأُطلق على الدليل نفسه ، وعلى أدلّة معيّنة بذاتها ، فعرّفوه بأنّه ( الدليل الذي ليس بنصّ ولا إجماع ولا قياس ).
وعنوا بذلك الأدلّة التالية :
- الاستحسان.
- المصالح المرسلة.
- سدّ الذرائع وفتحها.
- الاستصحاب.
- مذهب الصحابي.
- عمل أهل المدينة.
- شرع من قبلنا.
- العرف.
ولمعرفة معاني هذه الأدلّة وشؤونها الاُخرى ، يرجع إلى الكتابين التاليين :
- الاُصول العامّة للفقه المقارن ، السيّد محمّد تقي الحكيم.
- الإستدلال عند الاُصوليين ، الدكتور علي بن عبدالعزيز العميريني.
- خطوات الإستدلال الاُصولي :
أعني بخطوات الإستدلال في البحث الاُصولي المنهج الذي يتبعه العالم أو الباحث الاُصولي في دراسة قضايا ومسائل هذا العلم.
ولأنّه سبق لي أن عرضت له نظرياً وتطبيقياً في كتابي ( اُصول البحث ) تحت عنوان ( الهيكل العام لعلم اُصول الفقه ) أكتفي بنقله هنا عن إعادة البحث فيه ثانيةً لما فيه من وفاء بالمطلوب.
الهيكل العامّ لعلم اُصول الفقه
والهيكل العام لعلم اُصول الفقه المستخلص من واقع التجارب العلميّة فيما كتب فيه ، هو كالتالي :
1 - الهدف من البحث في اُصول الفقه :
هو استخلاص القواعد الاُصوليّة من مصادرها النقليّة أو العقليّة بغيةالإستفادة منها في مجال الإجتهاد الفقهي.
2 - مادّة البحث الاُصولي :
وتتمثّل في مصادر التشريع الإسلامي ( أو أدلّة الأحكام الفقهيّة ).
3 - خطوات البحث الاُصولي :
وتتلخّص في التالي :
أ - تعيين المصدر ( الدليل ).
ب - تعريف المصدر ( الدليل ).
ج - إقامة البرهان على حجيّة المصدر ( الدليل ) لإثبات شرعيّته.
د - تحديد مدى حجيّة المصدر ( الدليل ).
هـ - استخلاص القاعدة الاُصوليّة من المصدر ( الدليل ).
و - بيان دلالة القاعدة.
ز - بيان كيفيّة تطبيق القاعدة لاستفادة الحكم الفقهي.
4 - المنهج العامّ للبحث الاُصولي :
سنتبيّن من خلال التطبيق الآتي أنّ البحث الاُصولي يسير وفق المناهج العامّة التالية :
أ - المنهج النقلي في جملة من مسائله.
ب - المنهج العقلي في جملة اُخرى من مسائله.
ج - المنهج التكاملي ( من النقلي والعقلي ) في جملة ثالثة من مسائله.
وساُحاول - هنا - توضيح العناصر المذكورة من خلال التطبيق علىبعض القواعد الاُصولية.
ولتكن القواعد التالية :
- قاعدة الظهور.
- قاعدة تعارض الخبرين.
- قاعدة الاستصحاب.
- قاعدة الظهور
سوف نتحدّث عن قاعدة الظهور ضمن النقاط التالية :
1 - الهدف من دراسة ظاهرة الظهور.
2 - الموضوع الذي تبحث فيه هذه الظاهرة اُصولياً.
3 - تعريف الظهور.
4 - مدى دلالة الظهور.
5 - الدليل على حجيّة الظهور.
6 - اُنموذج تطبيقي.
1 - يهدف الباحث الاُصولي من دراسة ظاهرة الظهور إلى استخلاص قاعدة هامّة تطبّق على ظواهر الكتاب والسنّة فقهيّاً لاستنباط الحكم الشرعي في ضوئها.
وإذا أردنا أن نستخدم لغة هذا العلم نقول : إنّ الغاية من إثبات حجيّةالظهور ، هي : تنقيح كبرى تصدق على صغرياتها من ظواهر الألفاظ ،وسيتّضح هذا أكثر في عرضنا للاُنموذج التطبيقي.
وإليه يشير اُستاذنا الشهيد الصدر بقوله : (( معنى حجيّة الظهوراتّخاذه أساساً لتفسير الدليل اللفظي على ضوئه))(2).
وتسمّى - كما رأينا - قاعدة الظهور ، وحجيّة الظهور.
وتعرف أيضاً ب ( أصالة الظهور ) ، (( لأنّها تجعل الظهور هو الأصل لتفسير الدليل اللفظي ))(3).
2 - ومحلّها من موضوعات علم اُصول الفقه هو موضوع دلالة ظواهرالكتاب الكريم وموضوع دلالة ظواهر السنّة الشريفة.
يقول اُستاذنا المظفّر : (( إنّ البحث عن حجيّة الظواهر من توابع البحث عن الكتاب والسنّة ، أعني انّ الظواهر ليست دليلاً قائماً بنفسه في مقابل الكتاب والسنّة ، بل إنّما نحتاج إلى إثبات حجيّتها لغرض الأخذ بالكتاب والسنّة ، فهي من متممات حجيّتهما ، إذ من الواضح انّه لا مجال للأخذ بهما دون أن تكون ظواهرهما حجّة ))(4).
3 - لكي نتعرّف معنى الظهور لابدّ لنا من تعرّف مدى دلالة اللفظ علىمعناه ، وهذا يقتضينا أن نقسّم الدلالة - هنا - إلى الأقسام الثلاثة التالية :
أ - الدلالة العلميّة ( القطعيّة ).
ب - الدلالة الظنّية.
ج - الدلالة الاحتمالية.
ذلك انّ اللفظ بحسب دلالته لغوياً أو اجتماعياً على معناه ينقسم إلىقسمين :
أ - ما يدلّ على معنى واحد فقط.
واصطلح عليه الاُصوليون بأن سمّوه بـ ( النص ).
وعرّف ( المعجم الوسيط )(5) النصّ بـ (( ما لا يحتمل إلّا معنى واحداً ، أولايحتمل التأويل )).
ومن الطبيعي انّ دلالة مثل هذا اللفظ هي دلالة علميّة قطعيّة.
ولأنّها تفيد القطع ، والقطع حجيّته ذاتية - كما يعبّر الاُصوليون - لانحتاج إلى إقامة الدليل على حجيّتها.
ب - ما يدلّ على أكثر من معنى.
ويقسّم باعتبار تنوّع المعنى المدلول عليه إلى قسمين :
1 - فقد يكون المعنى المدلول عليه واضحاً بيّناً لا يحتاج في حمل اللفظعليه إلى تأويل.
وسمّاه الاُصوليون ب( الظاهر ) ، لأنّه المعنى الواضح البيّن من إطلاقا للفظ.
ولكن ، لأنّ اللفظ كما يدلّ عليه يدلّ على معنى آخر محتمل إرادته من قبل المتكلّم تكون دلالته ظنّية ، لأنّها الراجحة بالنسبة إلى الدلالة على المعنىالآخر المحتمل.
2 - وقد يكون المعنى المدلول عليه غير واضح ولا بيّن ، وإنّما يحتاج في صرف اللفظ إليه إلى مؤنة تأويل.
وسمّي في بعض الكتب الاُصولية ب ( المؤوّل )لافتقاره في فهمه من إطلاق اللفظ إلى التأويل.
ولأنّ صرف اللفظ في الدلالة يفتقر إلى التأويل يكون مرجوحاً بالنسبة إلىالمعنى الظاهر الراجح ، فتكون دلالته - على هذا - احتمالية.
ونخلص من هذا إلى انّ الظهور : يعني دلالة اللفظ على المعنى الراجح من المعاني المشمولة بدلالته.
4 - وعرفنا من تقسيمنا الدلالة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في أعلاه ،ومن تعريفنا لمعنى الظهور انّ دلالة ما يعرف بـ ( الظاهر ) دلالة ظنّية لأنّمعناه المعنى الراجح ، والرجحان يعني الظنّ - كما هو معلوم - .
5 - امّا الدليل لإثبات حجيّة الظهور واعتباره شرعاً ، فيتلخّص بالتالي :
أ - انّ الأخذ بالظهور اللفظي من الظواهر الاجتماعيّة العامّة التي دأبت جميع المجتمعات البشريّة على الاعتماد عليها في ترتيب كافّة الآثارالاجتماعيّة والقانونيّة وغيرها.
ب - لم يثبت أنّ الشرع الإسلامي حظر الأخذ بها والاعتماد عليها ، بلالثابت انّه سار على ما سارت عليه المجتمعات البشريّة من الأخذ بهاوالاعتماد عليها.
وقد علم هذا بالوجدان.
وهذا يعني انّ الظهور كما هو حجّة عند الناس أقاموا عليه سيرتهما لمعروفة بـ ( سيرة العقلاء ) ، هو حجّة في الشرع الإسلامي أيضاً.
فالدليل على حجيّة الظهور - باختصار - هو سيرة العقلاء وبناؤهم ، أوما أطلقت عليه ( العقل الاجتماعي ).
6 - ولنأخذ المثال التالي كنموذج تطبيقي.
أ - أن ( أقيموا ) في قوله تعالى : ( أقيموا الصلاة )(6) أمر مجرّد من القرينة الصارفة له عن الدلالة على الوجوب ، فهو ظاهر في الوجوب.
ب - ولأنّ ( أقيموا ) ظاهر في الوجوب نطبّق عليه قاعدة الظهور ، لتأتي النتيجة هي وجوب الصلاة ، أخذاً بظاهر هذه الآية الكريمة واعتماداً عليه.
ومتى أردنا أن نصوغ هذا صياغة علميّة في هدي تعليمات الشكل الأوّلمن القياس المنطقي الذي يعتمد تطبيق الكبرى على صغرياتها للوصولإلى النتيجة المطلوبة ، نقول :
الصغرى الكبرى النتيجة
( أقيموا ) ظاهر قرآني + وكلّ ظاهر قرآني حجّة = فأقيموا حجّة.
7 - والنتيجة التي ننتهي إليها من هذا البحث : انّ ظاهرة الظهورالاجتماعية دليل شرعي يستند إليه في استفادة الحكم الفقهي من ظواهرالقرآن الكريم والسنّة الشريفة.
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- مصباح الأصول 11 / 2 .
2- المعالم الجديدة 121.
3- المعالم الجديدة 124.
4- اُصول الفقه 137 / 2.
5- مادّة ( نصص ).
6- سورة البقرة : 43.