محاضرات أصول فقه - المحاضرة 31 - تعيين مراد المتكلّم
تعيين مراد المتكلّم
لا زلنا نتناول بالدرس الظنون المعتبرة ، فأتينا منها على ( خبر الثقة )من حيث السند ، و ( ظهور اللفظ ) من حيث الدلالة .
وهما الخطوتان الأوّليان في دراسة النصّ الشرعي نظرياً واعتماده تطبيقيّا ً.
والخطوة الثالثة هي تعيين مراد المتكلّم ، والمقصود به المعصوم فيمجالي الدرس والتطبيق الفقهيين .
فالخطوات لدراسة النصّ الشرعي هي :
1 - التأكّد من قطعيّة أو ظنيّة السند .
2 - التأكّد من قطعيّة أو ظنيّة الدلالة .
3 - تعيين مراد المعصوم من عبارة النصّ في مفرداته وتركيبه .
وقد عبّر الاُصوليون عن هذا ب ( تشخيص مراد المتكلّم ) .
وتشخيص الشيء تعيينه وتمييزه من سواه ، يقال : ( شخص الشيء )إذا عيّنه وميّزه من سواه.
ويريدون بمراد المتكلّم المعنى الذي يقصده المتكلّم من كلامه.
يقول الشيخ الأنصاري في ( الرسائل ) : (( انّ إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المرويّة عن الحجج عليهم السلام موقوف على مقدّمات ثلاث :
الاُولى : كون الكلام صادراً عن الحجّة .
الثانية : كون صدوره لبيان حكم الله ، لا على وجه آخر من تقيّةوغيرها .
الثالثة : ثبوت دلالتها على الحكم المدعى )) .
ويتوقّف تعيين مراد الإمام المعصوم من الرواية على ما يلي :
الخطوة الاُولى : إحراز أنّ الإمام المعصوم كان في مقام بيان الحكم الشرعي .
يقول الشيخ الأنصاري - وهو في معرض الإستدلال على ما قدّم منمقدّمات ذكرت في أعلاه - :
(( وأمّا المقدّمة الثانية فهي أيضاً ثابتة بأصالة عدم صدور الرواية لغيرداعي بيان الحكم الواقعي .
وهي حجّة ، لرجوعها إلى القاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاءمن حمل كلام المتكلّم على كونه صادراً لبيان مطلوبه الواقعي ، لا لبيان خلاف مقصوده من تقيّة أو خوف ، ولذا لا يسمع دعواه ممّن يدّعيه إذا لميكن كلامه محفوفاً بأماراته)) .
والأصل الذي أصّل هنا - كما يختصره ( مصباح الاُصول ) - هو (( الأصلفي كل كلام أن يكون في مقام البيان لاستقرار بناء العقلاء على ذلك ، ما لمتظهر قرينة على خلافه )).
والخطوة الثانية : تعيين وتشخيص المعنى المقصود للمعصوم منكلامه .
وبتعبير آخر : فهم النصّ بمفرداته وتركيبه بحمله على ظاهره ما لمتكن هناك قرينة تصرفه عنه .
ويتمّ هذا على مراحل ، هي :
أ - إثبات أصل ظهور ألفاظ النصّ .
ويتأتّى هذا عن طريق معرفة المعنى الحقيقي للفظ بواسطة الوضع أوغيره .
ب - إثبات بقاء دلالة اللفظ على هذا المعنى الظاهر ، وعدم عدول الإمام المعصوم عنه في النصّ الذي بين يدي الباحث .
ويكون هذا باجراء أصالة عدم القرينة التي تعني حمل اللفظ علىمعناه الحقيقي عند الشكّ.
ج - إثبات أنّ مقصود الإمام المعصوم من كلامه هو المعنى الظاهر.
ويحصل هذا باجراء أصالة الظهور.
وقد وقع الخلاف بينهم في أنّ أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالةالاطلاق هل هي أنواع لأصالة الظهور ، أو هي أنواع لأصالة عدم القرينة.
وممّن ذهب إلى الأوّل اُستاذنا السيّد الحكيم في ( حقائق الاُصول ).
وممّن ذهب إلى الثاني الشيخ الأنصاري كما يظهر من عبارته في (الرسائل ).
وسواء كانت هذه الأصالات نوعاً للظهور أو نوعاً لعدم القرينة توصل إلى النتيجة المطلوبة عند تطبيقها.
تتمّة تقسيمات أدلّة الفقه
- ( التقسيم الرابع ) :
هو تقسيم الدليل الفقهي باعتبار نوعيّة ما يوصل إليه من تكليف إلى :
1 - الدليل الاجتهادي :
وهو الذي يوصل إلى الحكم الواقعي.
ويختصّ هذا بالكتاب والسنّة.
2 - الدليل الفقاهي :
وهو الذي يوصل إلى الحكم الظاهري عند الجهل بالحكم الواقعي.
وترجع نشأة هذا التقسيم إلى أمد غير بعيد ، قد يحدّد بعهد أواخرمتأخّري المتأخرين.
وقد عدل عنه الاُصوليون المعاصرون ومن قبلهم بقليل ، إلى التغييرفي تسمية المصطلح ، والتشعيب في التفريع.
والذي يبدو لي - وكما يظهر ممّا يأتي - أنّ التقسيم الجديد - الآتي - بعد لما يستقرّ استقرار تاماً.
ولهذا سأذكره بألوانه المتداولة في الدرس الاُصولي الراهن :
- التقسيم إلى :
1 - الدليل :
ويريدون به الدليل القطعي ، وهو الذي يكشف عن واقع الحكم كشفاً تامّاً.
2 - الأمارة :
ويعنون بها الدليل الذي أقرّ الشرع الحنيف اعتباره دليلاً ، ممّا يفيد الظنّ في نتائجه عند الرجوع إليه والإستدلال به ، ولكن شريطة أن تكون فيه درجة من الكشف عن الواقع.
ويطلق على الظنّ الذي تفيده الأمارة اسم الظنّ الخاص ، وهو الذي أعطاه الشرع اعتباره في مقابل الظنّ المطلق الذي ألغى الشرع اعتباره (انّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً ).
فالظنّ الخاص - في واقعه - استثناء من حكم الظنّ المطلق.
ويعبّر عن الأمارة أيضاً بالطريق العلمي - نسبة إلى العلم - لأنّ نتيجتها وهي الظنّ بالحكم تقوم مقام العلم بالحكم ، وتستعمل استعمال الطريق المفيد للعلم بالحكم الواقعي.
ولهذا جاز استعمال الأمارة والرجوع إليها في عرض الرجوع إلى الدليل الذي يفيد العلم .
وذلك نحو الأخذ بخبر الثقة مع قدرة المكلّف على الرجوع إلى المعصوم وأخذ الحكم منه مباشرةً .
نعم ، إذا رجع المكلّف إلى المعصوم وسمع الحكم منه لا مجال للرجوع إلى الأمارة .
ويكتفي بالظنّ الذي تفيده الأمارة أن يكون ظنّاً نوعيّاً (( ومعنى الظنّ النوعي: انّ الأمارة تكون من شأنها أن تفيد الظنّ عند غالب الناس ونوعهم ،واعتبارها عند الشارع إنّما يكون من هذه الجهة ، فلا يضرّ في اعتبارهاوحجيّتها ألاّ يحصل منها ظنّ فعلي للشخص الذي قامت عنده الأمارة ، بل تكون حجّة عند هذا الشخص أيضاً حيث انّ دليل اعتبارها دلّ على انّ الشارع إنّما اعتبرها حجّة ورضي بها طريقاً لأنّ من شأنها أن تفيد الظنّوان لم يحصل الظنّ الفعلي منها لدى بعض الأشخاص ))(1).
3 - الأصل :
ويقصدون به الأصل العملي الذي يعيّن الوظيفة العمليّة للمكلّف عند عدم وقوف الفقيه على الدليل المقطعي أو الأمارة الظنّية.
وقسّموه إلى قسمين :
أ - الأصل الاحرازي أو المحرز :
وهو الذي فيه درجة من الاراءة الكاشفة عن الواقع ، ولكن أقل من مستوى الأمارة .
ومثّلوا له بالاستصحاب بناءً على أنّه أصل لا أمارة .
وسمّي بالاحرازي والمحرز لأنّه يحرز الواقع في الجملة ، أو قل بعضالأحراز.
ب - الأصل غير المحرز :
وهو الذي لا حكاية فيه عن الواقع ، وإنّما يقوّم - فقط - بتعيين الوظيفة العمليّة.
ويتمثّل هذا في أصل البراءة وأصل الاحتياط وأصل التخيير.
وهذا الذي ذكرته هو ما قد يستفاد من ظاهر كلام اُستاذنا الشيخ المظفّرعن الحجّة في تعريفها وتقسيمها.
- التقسيم الذي ذكره اُستاذنا التقي الحكيم في ( الاُصول العامّة ).
حيث قسّم الحجّة إلى :
أ - الذاتية :
وهي التي تفيدنا القطع.
سميّت بذلك لأنّ حجيّة القطع قائمة بذاته ، غير مفتقرة إلى جعل ( اعتبار).
ب - المجعولة :
وهي التي تفيدنا الظنّ ، والتي جعل الشارع لها الدليليّة ، أي اعتبرها دليلاً.
وتشمل :
- الأمارات أمثال : خبر الثقة والظهور اللفظي.
- الاُصول الاحرازية كالاستصحاب بناءً على أنّه أصل لا أمارة.
الاُصول غير الاحرازيّة ، وهي البراءة والتخيير والاحتياط.
- التقسيم الذي قرّره أستاذنا الشهيد الصدر في كتابه الاُصولي (دروس في علم الاُصول )
- ويعني بالأدلّة المحرزة تلك الأدلة التي فيها اراءة للواقع وكشف عنه.
- وبالأدلّة العمليّة تلك الأدلّة التي تعيّن الوظيفة العمليّة للشاكّ الذي لايعلم بالحكم.
- وبالأدلّة القطعيّة الأدلّة التي تؤدّي إلى القطع بالحكم الشرعي.
- وبالظنيّة التي تؤدّي إلى كشف ناقص عن الحكم الشرعي ، محتمل خطأه ، وهي التي تسمّى بالأمارات.
وكما ترى ، انّ التقسيمات المذكورة اختلفت لاختلاف أساس القسمة الذي قامت عليه.
- فبعضها جعل الأساس هو الكشف عن الواقع ، فجاءت أقسامه علىأربعة مستويات :
1 - مستوى الكشف التام ، ويقوم به الدليل القطعي.
2 - مستوى الكشف غير التامّ إلّا أنّه في مدى قد يقرب من التام ، وتقومبه الأمارة.
3 - مستوى الكشف غير التامّ أيضاً إلّا أنّه في مدى أقلّ من كشف الأمارة ،ويقوم به الأصل الاحرازي.
4 - لا كشف فيه أصلاً ، وهو الأصل غير الإحرازي.
وجاء اتّخاذ هذا الأساس في القسمة لأنّ المطلوب في الدليل أوّلاً أنيوصل الفقيه إلى الحكم الواقعي.
وعندما لا يتهيّأ هذا يؤخذ بالأقرب للإيصال إلى الواقع ، فالأقل منه مدىوهكذا.
- وبعضها اتّخذ أساس القسمة نوعية حجيّة الدليل ، فقد تكون ذاتية ،وقد تكون مجعولة.
والنتيجة في الجميع واحدة لأنّ الغاية المتوخّاة هي طلب المؤمِّن من العقاب ، وكلّها تنهي إليه.
ويقول اُستاذنا السيّد الخوئي : (( انّ الغرض من علم الاُصول هو تحصيل المؤمِّن من تبعة التكاليف المتوجهّة إلى العبد من قبل المولى.
والمؤمن الأوّل : هو القطع.
والمؤمن الثاني : الأمارة المعتبرة.
والمؤمن الثالث : هو الرجوع إلى الاُصول العملية الشرعية المجعولةعند الشكّ والعجز عن تحصيل الأوّلين ، أو الاُصول العمليّة العقلية عندالعجز عن جميع ما تقدّم ))(2) .
وقسّم الميرزا النائيني الأصل إلى ثلاثة أقسام ، هي :
التنزيلي والمحرز والعملي.
1 - الأصل التنزيلي :
وهو المأخوذ من الخطاب الشرعي ( النصّ ) الذي يفاد منه تنزيل الشارع المقدّس ، الشيء المشكوك منزلة الواقع عند قيام المكلّف باداءوظيفته العمليّة وفقاً للأصل.
وهذا مثل ( أصل الطهارة ) المأخوذة من الحديث الشريف :
( كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر ).
فلسان الحديث يقول : انّ الشيء الذي يشكّ في طهارته هو بمنزلةالطاهر الواقعي.
2 - الأصل الإحرازي ( المحرز ) :
وهو المأخوذ من الخطاب الشرعي ( النصّ ) الذي يفاد منه تنزيلالشارع المقدّس للاحتمال منزلة اليقين.
كما في ( أصل الاستصحاب ) - بناءً على أنّه أصل لا أمارة - المأخوذ منالحديث الشريف : ( ليس لك أن تنقض اليقين بالشكّ ) فانّ لسانه يقول : انّ احتمال استمرار بقاء الشيء عند الشكّ في عدم استمراريّته ينزل منزلةاليقين .
3 - الأصل العملي :
وهو المأخوذ من الخطاب الشرعي ( النصّ ) الذي لا يفيد لسانه تنزيل المشكوك منزلة الواقع ولا تنزيل الاحتمال منزلة اليقين.
وهذا مثل ( أصل البراءة ) و ( أصل الاحتياط ).
ويبدو من هذه التقسيمات التي ذكرناها للدليل الشرعي عند متأخّري المتأخرين والمعاصرين أنّها بعد لما تستقرّ علميّاً ومنهجيّاً ، ولا ضير فيذلك لأنّ المطلوب في البحث الاُصولي إثبات حجيّة الدليل لا معرفة مستوىالدلالة ، لأنّ معرفة المستوى مسألة علميّة أكثرها منها مسألة عمليّة.
لوازم الدليل الشرعي
اللوازم جمع لازمة. واللازمة : الشيء لا ينفكّ عن الشيء الآخر.
ففي معجم ( لاروس ) العربي : (( لازم ملازمة ولزاماً : تعلّق به ولم يفارقه.
اللازم ، والمؤنّث لازمة ، والجمع لوازم : ما يمتنع إنفكاكه عن الشيء )).
ويراد بلازمة الدليل الشرعي ما اصطلح عليه في علم اُصول الفقه ب(المنجزية ) و ( المعذرية ) - على زنة إسم الفاعل - من ( نجز ) و ( عذر ) - بالتضعيف - .
يقال : نجز الشيء : إذا حصل وتمّ ، فهو ناجز.
ويقال : نَجَزَ الشيء بمعنى حصله وأتمّه فهو منجِّز ، والشيء منجَّز ،ويقال : عَذَرَهُ على ما صنع ، وفي ما صنع عذراً ومعذرةً ، إذا رفع عنه الذنب واللوم فيه ، فهما عاذر ومعذور.
ويقال : عذّره : إذا أوجب له العذر وقبل عذره ، فهما معذِّر ومعذَّر - بالشدّ كسراً وفتحاً - .
والمنجزية تعني - في ضوء ما تقدّم - حصول المكلّف على التكليف المطلوب منه ، ودخوله في عهدته جاهزاً للامتثال.
ومن هنا عرّفوها - اُصولياً - ب(( دخول التكليف في عهدة المكلّف عن طريق القطع أو الظنّ أو الاحتمال بحيث يستحقّ المكلّف العقاب في حالة تخلّفه عن هذه التكاليف )) - كما حكاه في ( معجم المصطلحات الاُصولية ) -.
وفي ( الاُصول العامّة ) عُرّفت ب(( اعتبار ما تقوم عليه الحجّة من الاُمور الموصلة إلى واقع ما تقوم عليه بحيث يسوّغ للمشرّع أن يعاقب إذا قدر لها إصابة الواقع مع تخلّف المكلّف عنها )).
وعرفت المعذرية بانّها (( حكم العقل بلزوم قبول اعتذار الإنسان إذا عمل على وفق الحجّة الملزمة وأخطأ الواقع ، وليس للآمر معاقبته على ذلك مادام قد اعتمد على ما أقامه له من الطرق ، وألزمه بالسير على وفقها ، أو كان ملزماً بحكم العقل بالسير عليها كما هو الشأن في الحجج الذاتية )).
وباختصار :
التنجيز : هو جاهزية الامتثال ولزوم المكلّف به.
والتعذير : هو إعذار المشرّع المكلّف عند عدم إصابته للواقع المطلوب منه بعد تصدّيه له.
والمنجزية والمعذرية هما من اللوازم العقليّة للحجّة لا تنفك عنها بحال من الأحوال.
وهاتان اللازمتان هما المرمى الذي يهدف إليه الاُصوليون من وراء بحثهم لأدلة الفقه وإثبات الحجيّة لها ، ليكون المكلّف على عتبة الإمتثال ، ويأمن طائلة العقاب الاُخروي .
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- أصول المظفّر ط2 / ج2 / ص14 .
2- مصباح الأصول 11 / 2 .