محاضرات أصول فقه - المحاضرة 30 - دلالة المؤوّل
دلالة المؤوّل
المؤوّل - بصيغة اسم المفعول - من الأول ، بمعنى الرجوع .. هذا في اللغة ، وفي الاصطلاح :
المؤوّل : هو اللفظ الذي يحمل على المعنى المرجوح ، الذي عبّرنا عنه -في ما سلف - بالمحتمل في مقابل المظنون .
وعرّفه ابن حزم بقوله : (( التأويل : نقل اللفظ عن ما اقتضاه ظاهره وعمّاوضع له في اللغة إلى معنى آخر )) .
فالمؤوّل هو ما يقابل الظاهر في درجة الترجيح ، فما كان في الطرفالراجح فهو المظنون ، وما كان في الطرف المرجوح هو المؤوّل ، ويراد بهما يحمل فيه اللفظ على غير الظاهر ، وذلك لاقترانه بقرينة صارفة إذا كان المعنى مجازياً ، أو بقرينة معنيّة إذا كان المعنى مشتركاً ، كما في قوله تعالى : ( واسأل القرية ) حيث أُوّلت الآية الكريمة بأنّ المراد ( أهل القرية )بقرينة عدم إمكان توجيه السؤال إلى القرية - عقلاً - لأنّها جماد لا يعي السؤال ولا يردّ الجواب .
وهو من المجاز .
ومثل قولهم ( أرسل القوم عينهم ) أي ربيئتهم - وهو الطليعة الذي يرقب العدوّ من مكان عال لئلاّ يدهم قومه - وذلك لأنّ العين الباصرة لاترسل إرسالاً يستلزم إنفصالها عن الجسد .
وهو من المشترك .
ومثل هذه الدلالة حجّة لأنّ القرينة تعطي اللفظ ظهوره في المعنى الذي صرفته إليه أو عيّنته فيه ، والظهور - كما تقدّم - ممّا تبانى العقلاء علىالأخذ به .
- دلالة المجمل :
المجمل - بصيغة اسم المفعول - من الإجمال بمعنى الإبهام ، الناشئ من الالتباس والغموض .
وعرف ب (( ما كان معناه غير مؤكّد ولا متميز ، ولم يعبّر عنه ، أو يبيّن في وضوح )) .
وعرّف أيضاً ب (( ما لم تتضح دلالته )) .
وهذا التعريف يوضّح بأنّ المجمل له دلالة إلاّ أنّها غير واضحة .
وفي توضيحه يقول اُستاذنا المظفّر : (( والمقصود من المجمل : ما جهل فيه مراد المتكلّم ومقصوده إذا كان لفظاً ، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده إذا كان فعلاً .
ومرجع ذلك إلى أنّ المجمل هو اللفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له )).
وهو يقابل المبيّن - كما تقدّم - لأنّ المبيّن له ظاهر يدلّ عليه بنفسه أو بمساعدة القرينة .
وقد ذكر الاُصوليون موارد لما اختلف في إجماله وبيانه ، وهي - كما أحصاها وسلسلها الدكتور الحفناوي في كتابه ( أثر الإجمال والبيان في الفقه الإسلامي ) - :
1 - إضافة الأحكام الشرعيّة إلى الأعيان :
ويعنون بهذا أن يرد لفظ شرعي اُضيف فيه الحكم التكليفي إلىالأعيان .
وتوضيح هذا : انّ الأحكام التكليفيّة تتعلّق بالأفعال ، فإذا جاء نصّ شرعي علّق فيه الحكم بالأعيان كقوله تعالى : (حرّمت عليكم اُمّهاتكم ) و ( حرّمت عليكم الميتة ) حيث علّق التحريم المذكور في الآيتين الكريمتين بذات الاُم وبذات الميتة .. فهل يعتبر مثل هذا النصّ مجملاً فنتوقّف عن الأخذبه ، أو أنّ هناك قرينة توضّح المقصود منه يمكننا الاعتماد عليها والأخذبه .
في مثل هذا اختلف العلماء على مذهبين يتلخّصان في أنّ بعضهم نظرإلى النصّ مستقلاً عن فهم العرف له فتساوت عنده الاحتمالات فتوقّف ، وانّبعضهم نظر إلى النصّ مرتبطاً بواقع فهم العرف الاجتماعي له فاعتبره قرينة رافعة للاجمال ومعيّنة للمراد .
المذهب الثاني وهو مذهب الجمهور ، قالوا : لا إجمال في مثل هذه النصوص محتجّين بالتبادر ، ذلك (( أنّ الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل( هذا طعام حرام) هو تحريم أكله ، ومن قول القائل ( هذه المرأة حرام ) هوتحريم وطئها.
وتبادر الفهم دليل الحقيقة ، وعليه فالمفهوم من قوله تعالى : ( حرّمت عليكم اُمهاتكم ) هو تحريم الوطئ ، لأنّه أعظم ما يقصد من النساء .
وكذا قوله تعالى : ( حرّمت عليكم الميتة ) فانّ المفهوم منه هو تحريم أكلها، لأنّه أعظم ما يقصد من الحيوان قبل موته.
المذهب الأوّل : وهو مذهب جماعة منهم : أبو الحسن الكرخي الحنفي وأبي عبدالله الحسين بن علي البصري الحنفي والقاضي أبي يعلىالحنبلي وبعض الشافعية ، قالوا : بأنّ إضافة الحكم التكليفي تحليلاً أوتحريماً إلى الأعيان يوجب إجمال النصّ فيتوقّف عن الأخذ به ، محتجّين بأنّه (( لما استحال تعلّق التحريم بالأعيان ، وجب أن يقدّر في الكلام مايصحّ أن يتعلّق به التحريم.
وإذا تعيّن التقدير فامّا أن نقدّر جميع الأفعال المحتملة ، وهو باطل ، لأنّ التقدير على خلاف الأصل ، فلا يقدّر إلاّ بقدر ما تدعو إليه الضرورة ،والضرورة لا تدعو إلاّ إلى ما لا يتم الكلام إلاّ به ، ولا تدعو إلى الجميع ،وعليه فلا يقدّر الجميع، وإنّما يقدّر البعض .
وهذا البعض المقدّر :
امّا معيّن .
أو غير معيّن .
والمعيّن باطل ، لأنّه ترجيح بلا مرجّح لاستواء جميع الأفعال
وإذا بطل أن يكون الفعل المقدّر معيّناً ، وجب أن يكون غير معيّن ،وحينئذ يكون اللفظ مجملاً ، وهو المطلوب )).
ورد من قبل الجمهور بأنّ جميع الأفعال المحتملة هي مجازات ، والقرينة مرجّح لأحدها على سواه .
وقلنا : انّ القرينة - هنا - هي الفهم العرفي ، والعرف - هنا - يفهم أنّمتعلّق التحريم في الآية الاُولى هو الوطئ ، وفي الثانية هو الأكل ، وبه يرتفع الإجمال .
2 - الكلام الذي يتوقّف صدقه على التقدير :
مثاله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( رفع عن اُمّتي الخطأ والنسيان ) فانّ ظاهر هذا الحديث الشريف يفيد رفع ذات الخطأ وذات النسيان ، وهوخلاف الوجدان لأنّ الخطأ والنسيان واقعان في اُمّة محمّد صلى الله عليهوسلم قطعاً .
ومن هنا لا يصحّ حمل اللفظ على ظاهره لئلاّ يلزم منه كذب أخباره صلى الله عليه وآله وسلم فهو مستحيل منه صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه الصادق المصدوق .
فالأمر يدور بين موقفين :
- امّا اعتبار النصّ مجملاً ، والتوقّف عن الأخذ به .
- وامّا التقدير بما يناسب ، حسب الفهم العرفي .
فكان في المسألة - على هذا - مذهبان أيضاً :
مذهب الجمهور القائلين بعدم الإجمال ، محتجّين بأنّه لما كان المعنىالظاهر للفظ غير مراد قطعاً ، يتعيّن حمل اللفظ على إرادة أحد مجازاته ،وحيث لا يوجد له إلاّ مجازان هما :
1 - رفع أو الغاء الإثم أو المؤاخذة أو العقوبة على الخطأ .
2 - رفع حكم الخطأ.
(( ولمّا كان إثم الخطأ أظهر عرفاً لتبادره إلى الذهن ، رجّح على المجاز الآخر ، فالسيّد لو قال لعبده : ( رفعت عنك الخطأ ( لفهم أهل العرف من هذاالقول رفع المؤاخذة والإثم عن العبد ، بدليل أنّه لو قال السيّد ذلك ثمّ عاقب عبده ، عدّ في نظر أهل العرف متناقضاً )) .
ومثال أبي الحسين البصري وأبي عبدالله البصري وبعض الحنفيّة القائلين بالإجمال ، احتجّوا ب(( أنّ رفع نفس الخطأ ونفس النسيان لا يصحّ، لأنّه واقع ، والواقع لا يرتفع ، وعليه فلابدّ من تقدير شيء ، وهو متردّد بين اُمور لا حاجة إلى جميعها ، لأنّ التقدير خلاف الأصل ، فلا يقدّر إلاّ بقدر ماتدعو الحاجة أو الضرورة إليه ، والضرورة لا تدعو إلاّ ما لا يتمّ الكلام إلاّ به، ولا تدعو إلى الجميع ، فلا يقدر الجميع ، وإنّما يقدر البعض .
وهذا البعض المقدّر :
- امّا معيّن .
- وامّا غير معيّن .
والأوّل باطل لأنّه ترجيح بلا مرجّح .
وإذا بطل أن يكون الفعل المقدّر معيّناً ، وجب أن يكون غير المعيّن ،وحينئذ يكون اللفظ مجملاً )) .
واُجيب عنه بما اُجيب عن سابقه بأنّ الفهم العرفي قرينة مرجّحة ومعيّنة فلا إجمال في البين .
3 - دخول النفي على الحقائق الشرعيّة :
وهذا كالذي في الأحاديث التالية :
- ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ).
- ( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ).
- رواية ( الدعائم ) عن علي عليه السلام أنّه قال : لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد إلاّ أن يكون له عذر أو به علّة ، فقيل له : ومن جار المسجدي اأمير المؤمنين ؟ قال : من سمع النداء .
وأيضاً في هذه المسألة مذهبان :
المذهب الأوّل ، وهو مذهب الجمهور بنفي الإجمال ، وبتقدير إرادة إحدىمجازي اللفظ هنا حسب ما يفهم من القرائن ، والمجازان هما :
أ - الصحّة.
ب - الكمال.
ففي الحديثين الأوّلين المراد نفي الصلاة الصحيحة ونفي الصيام الصحيح لثبوت وجوب قراءة الفاتحة ، ووجوب تثبيت النيّة بالنصوص الشرعيّة الاُخرى .
وفي الحديث الثالث يحمل على إرادة نفي الكمال ، أي لا صلاة كاملة من حيث الثواب والأجر إلاّ في المسجد لثبوت استحباب ذلك بالنصوص الشرعيّة الاُخرى .
والفرق بين التقديرين هو أنّ الفعل في التقدير الأوّل ( نفي الصحّة ) يقع باطلاً عند المخالفة .
وفي التقدير الثاني ( نفي الكمال ) يقع صحيحاً إلاّ أنّ ثوابه يكون أقل من ثوابه عند الموافقة .
المذهب الثاني : هو مذهب أهل الرأي ، وقال به أيضاً القاضي أبو بكرالباقلاني والقاضي عبدالجبّار المعتزلي وأبو علي الجبائي وإبنه أبوهاشم وأبو عبدالله البصري .
(( وقد اختلف هؤلاء في تقرير الاجمال على ثلاثة وجوه :
الأوّل : أنّه ظاهر في نفي الوجود ، وهو لا يمكن ، لأنّه واقع قطعاً ،فاقتضى ذلك الاجمال.
الثاني : أنّه ظاهر في نفي الوجود ونفي الحكم ، فصار مجملاً.
الثالث : أنّه متردّد بين نفي الجواز ونفي الوجوب ، فصار مجملاً )).
وفي الموازنة نقول : انّه ما دام هناك قرينة ترفع الاجمال وتعيّن المرادتتبّع القرينة لأنّها تكشف عن ظهور اللفظ في المعنى المقترن بها.
4 - تردّد الحكم بين متعلّقين :
كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( من استجمر فليوتر ))فانّ متعلّق حكم الوتر ( وهو الوجوب ) متردّد بين الجمار فيلزم الاستجمار ثلاثة وبثلاث أحجار ، وبين فعل الاستجمار ( الاستنجاء ) فيلزم فيه الاستجمارثلاثة سواء .
كان بوتر من الأحجار أو بشفع .
ففي الأوّل يحتمل معنيين : الوتر في الاستجمار ( فعل الاستنجاء )والوتر في الجمار ( مادّة الاستنجاء ) .
وفي الثاني يحتمل معنى واحداً وهو الوتر في الاستجمار لا في الجمار .
وكما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا ينكح المحرم ولا ينكح ))، فلأنّ النكاح مشترك بين العقد والوطء يأتي حكم الحرمة مردّداً بين تعلّقه بالوطء فيحرم على المحرم أن يطأ غيره كما يحرم عليه أن يمكّن غيره من وطئه ، وتعلّقه بالعقد فيحرم على المحرم أن يعقد لنفسه وأن يعقد لغيره .
وحرّر الدكتور الحنفاوي محلّ الخلاف في المسألة كالتالي :
(( اللفظ الوارد :
- امّا أن يظهر كونه حقيقة في ما قيل من المحملين مع اختلافهما .
- أو كونه حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر.
- أو لم يظهر أحد الأمرين.
فان كان من القسم الأوّل أو الثاني فلا معنى للخلاف فيه :
أمّا الأوّل فلتحقّق إجماله .
وأمّا الثاني فلتحقّق الظهور في أحد المحملين.
وأنهى النزاع ( الخلاف ) في القسم الثالث )) .
وهو ( أعني الخلاف ( على ثلاثة أقوال هي :
1 - لا إجمال في اللفظ ، وذلك لظهوره في ما يفيد معنيين.
2 - انّه مجمل ، لتردّده في التعلّق.
3 - ان كان المعنى الواحد أحد المعنيين عمل به لأنّه القدر المتيقن في البين ، ويتوقّف في العمل بالآخر للتردده فيه .
وإذا لم يكن المعنى الواحد هو أحد المعنيين كان اللفظ مجملاً.
وكما قلنا سالفاً انّ النصوص الاُخرى الواردة في الموضوع تقوم بدورالقرينة الرافعة للاجمال والمعيّنة للمطلوب ، كذلك الشأن هنا ، لقاعدة (رفع التباس المتشابه بالمحكم ورفع غموض المجمل بالمبين ).
5 - دوران اللفظ بين إفادته حكماً شرعيّاً أو وضعاً لغوياً .
وبتعبير آخر : تردّد معرفة مقصود المتكلّم بين إرادته الأخبار فيفيد الإشارة إلى الاستعمال اللغوي ، أو إرادته الإنشاء فيفيد الجعل والتشريع ،كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( الطواف بالبيت صلاة )) فيحتمل أن يكون هذا إخباراً منه صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الطواف بالبيت في اللغة العربية يسمّى صلاة ، لأنّ الصلاة في اللغة هي الدعاء ، ومن ثمّ سمّي الطواف صلاة لما فيه من الدعاء .
ويحتمل أن يكون إنشاء لحكم يفيد بأنّ الطواف كالصلاة شرعاً أي انّه مشروط بما شرطت به من النيّة والطهارة والساتر ، والخ .
وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( الإثنان فما فوقهما جماعة )). فانّه يحتمل أن يكون هذا إخباراً منه صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ أقلّ الجمع إثنان .
ويحتمل أن يكون إنشاء لحكم أنّ أقلّ عدد تحصل به الجماعة في الصلاة هو الإثنان .
وفي المسألة قولان :
- قول بالإجمال ، للتردّد المذكور .
- وآخر بالبيان ، لأنّ ظاهر حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ ما يصدرمنه يحمل على أنّه في مقام التبليغ ، وبخاصة إذا دار الأمر بين الإخبار والإنشاء .
فظاهر الحال - هنا - قرينة قائمة للحمل على الإنشاء وإرادة الحكم الشرعي .
والقرينة بيان يرفع غموض الاجمال .
وبعد :
فأمثلة الإجمال كثر ، وما تقدّم إنّما هو نماذج فقط والقاعدة هنا : إذا كان هناك بيان فانّ الموقف أن يرجع إليه في رفع غموض الإجمال. وإذا لم يوجدمن البيان ما يصلح قرينة لذلك فالموقف التوقّف .