محاضرات أصول فقه - المحاضرة 29 - حقيقة الوضع
حقيقة الوضع
انّ دراسة نشوء الدلالة اللغوية ( دلالة اللفظ على المعنى ) هي فيواقعها دراسة لنشأة اللغة ، لأنّ نشأة اللغة تعني حدوث الألفاظ اللغوية المستخدمة بين الناس للدلالة على معانيها كوسيلة لتحقيق التفاهم وتبادل الأفكار .
فكيف وجدت هذه الدلالة ؟
وقبل بيان هذا ، لابدّ من التنبيه إلى أنّ البحث في موضوع نشأة الدلالة يرتبط - في رأي الاُصوليين - ارتباطاً وظيفياً بتشخيص الظهور ، وذلك لأنّ معرفة الوضع هي المنطلق لمعرفة الظهور ، فإذا تهيّأ للباحث أوالمتلقّي أن عرف أنّ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى ، أي أنّ هذا اللفظ دالّعلى هذا المعنى ، أو قل الذي بين يديه ظاهر في هذا المعنى المعيّن الذي بين يديه ، وهو المطلوب .
ومن ثمّ له أن يرتّب عليه آثار الظهور.
أي انّ معرفة الوضع تفيدنا في معرفة المعنى الحقيقي للفظ .
ولكن ما هو الوضع ؟.
انّ الذي أثار دراسة الوضع عند الاُصوليين هو تأثّرهم فيه بما انحدر إليهم عن طريق الفلسفة اليونانية ، وهو هل دلالة اللفظ على المعنى ذاتية أو مجعولة. ولأنّ أصحابنا الإمامية كأكثر علماء الاُصول من المذاهب الإسلامية الاُخرى ذهبوا إلى أنّ الدلالة مجعولة وليست ذاتية ، اختلفوا فينمط الجعل ( جعل اللفظ دالاً على المعنى ) :
هل هو على نحو التخصيص أو الاختصاص ؟
والفرق بين الجعلين ( التخصيص والاختصاص ) هو بتوفّر عنصر إرادة الجاعل وقصده إلى الجعل في مجال التخصيص وتصريحه به وتنصيصه عليه .
ففي التخصيص ينطلق الجاعل إلى وضع اللفظ المعيّن للمعنى المعيّن ، وجعله له عن إرادة وقصد وتصريح منه بذلك.
وفي ضوئه ، تفهم دلالة اللفظ على المعنى من أوّل استعماله له فيه .
وفي الاختصاص يستعمل الجاعل اللفظ المعيّن في المعنى المعيّن منغير تصريح بالوضع ، معتمداً على القرائن المصاحبة لاستعماله الموضحة لارادته المعنى من اللفظ ، وبعد شيوع الاستعمال بين الناس واُلفهم له واُنسهم به يحصل نحو اختصاص بين اللفظ والمعنى ، فيصبح اللفظ يدلّ على المعنى بمجرد إطلاقه مستغنياً عن القرينة .
وقسّموا الوضع - على أساس من هذا - إلى قسمين :
1 - الوضع التعييني :
وهو الذي يتمّ عن طريق تخصيص اللفظ بالمعنى.
2 - الوضع التعيّني :
وهو الذي يتمّ عن طريق اختصاص اللفظ بالمعنى .
ثمّ تساءلوا عن الواضع : من هو ذلك الواضع للغة ؟
ويجيب اُستاذنا المظفّر فيقول :
- (( قيل : انّ الواضع لابدّ أن يكون شخصاً واحداً يتبعه جماعة من البشرفي التفاهم بتلك اللغة.
- وقيل - وهو الأقرب إلى الصواب - انّ الطبيعة البشرية حسب القوّة المودعة من الله تعالى فيها تقتضي إفادة مقاصد الإنسان بالألفاظ ،فيخترع من عند نفسه لفظاً مخصوصاً عند إرادة معنى مخصوص - كماهو المشاهد من الصبيان عند أوّل أمرهم - فيتفاهم مع الآخرين الذينيتصلون به ، والآخرون كذلك يخترعون من أنفسهم ألفاظاً لمقاصدهم ،وتتألّف على مرور الزمن من مجموع ذلك طائفة صغيرة من الألفاظ ، حتّىتكون لغة خاصة ، لها قواعدها يتفاهم بها قوم من البشر.
وهذه اللغة قد تتشعّب بين أقوام متباعدة ، وتتطوّر عند كلّ قوم بما يحدث فيها من التغيير والزيادة ، حتّى قد تنبثق منها لغات اُخرى فيصبح لكلّ جماعة لغتهم الخاصة.
وعليه :
تكون حقيقة الوضع هو جعل اللفظ بازاء المعنى وتخصيصه به وممايدل على اختيار القول الثاني في الواضع أنّه لو كان الواضع شخصاً واحداً لنقل ذلك في تاريخ اللغات ، ولعرف عند كلّ ( أهل ) لغة واضعها ))(1) .
فهو يأخذ بالنظرية الحديثة في نشأة اللغة القائلة بأنّ اللغة ظاهرةاجتماعية تخضع لمواصفات وشروط الظاهرة الاجتماعية التي منها (التلقائية ) ، ومن هنا قالوا : انّ اللغة تنشأ نتيجة الحاجة إلى التفاهم .
ولأنّ اللغة - كما رأينا - هي مجموعة الألفاظ المستعملة بين الناس للدلالة على معانيها كوسيلة تفاهم تكون من المواد الطبيعية وليست من الكليّات التي لا موطن لها - بصفتها كليّات - إلاّ الذهن.
والمادّة الطبيعية - من ناحية منهجيّة - يرجع فيها إلى الحسّ والطبع لاإلى الفلسفة والمنطق .
ولعلّ المفارقة من هنا جاءت ، حيث افترض الاُصوليون في وظيفة اللغوي أن يفرّق في موارد الاستعمالات اللغوية بين الحقائق والمجازات ،لأنّهم يقدرون أنّ هناك أوضاعاً معيّنة قرنت بالتصريح بها ، واُخرى قرنت بالقرائن الاُخرى ،وعلى اللغوي أن يميّز بين هذه.
ولأنّهم لم يقفوا على هذا في معاجم اللغة العربية ، وبخاصة ما رجعوا إليه من معاجم الألفاظ مثل ( القاموس المحيط ) الذي أكثروا من الرجوع إليه والاعتماد عليه، قالوا : انّ خبرة اللغوي منحصرة في تتبّعه لموارد الاستعمال ، وهذه لا تفيد في التمييز بين الحقيقة والمجاز ، ولا في تعيين الموضوع له ، يقول السيّد علي خان : (( لكن خبروية ( يعني خبرة ) اللغوي إنّما هي في موارد الاستعمال لا في تعيين الوضع وتحديد الموضوع له )) .
مع أنّ الواقع في اللغات - بصفتها ظواهر اجتماعية - غير هذا الذي ذكروه للوضع .
ذلك أنّ التخصيص والاختصاص موجودان في كلّ دلالة ، أي مع كلّ لفظ له معنى ، ذلك ان ابن اللغة عندما يفتقر إلى الرمز أو الإشارة إلى معنى من المعاني يأتي باللفظ قاصداً لاستعماله في المعنى ، ثمّ يستعمله فيه ،والاستعمال هو الذي يكشف عن التخصيص ، ثمّ يأتي الاختصاص بعدتكرار الاستعمال وأُنس الآخرين به.
فلا يوجد وضع تعييني ولا آخر تعيني ، وإنّما هو وضع مقترنبالاستعمال ، وإذا شئت قلت : استعمال مقترن بالوضع.
في ضوء هذا :
بوسع العالم اللغوي تتبّع التطور الدلالي للكلمة من ناحية تاريخيّة .
ومن خلاله يمكننا تمييز الحقائق من المجازات ، والحقائق الاُولى منالتي جاءت بعدها .
وقد قام بعض علماء اللغة العربيّة الذين هم في الوقت نفسه من علماءالدين الإسلامي أيضاً بوضع المعجم الدلالي الذي يفرّق فيه بين الحقيقةوالمجاز ، لعلمهم بالحاجة إليه في مجال دراسة الألفاظ الشرعيّة ،ولمساعدة المتأدّبين في استخدامات المجازات في التعبير الأدبي .
وذلك كالذي صنعه جار الله الزمخشري في كتابه ( أساس البلاغة )حيث أفرد فيه المجاز عن الحقيقة ، والكناية عن التصريح ، قال في مقدّمته :(( ومنها ( أي خصائص كتابه ) تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح ، بافراد المجاز عن الحقيقة ، والكناية عن التصريح )) وذلك بأنخصّص القسم الأوّل من أي مادة للمعاني الحقيقيّة ، والقسم الثاني للمعاني المجازية ، مبتدئاً له بقوله: (ومن المجاز) .
ومثالاً لذلك قوله في مادة ( ظ ، أ ، ر ) : (( هي ظئره ، وهو ظئره ، وهم وهن أظآره ، وبنو سعد أظآر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وظاءرت المرأة مظاءرة : أخذت ولداً ترضعه ، وانطلقت فلانة تظأر ، وأظأرت ظئراً ،وظئرت الناقة على غير ولدها أو على البو فهي ظئور ، وهنّ أظآر وظؤار ،وظأرها بالظأر وهو ما تظأر به من غمامة في أنفها لئلاّ تشمّ ريح المظئورعليه .
ومن المجاز : ظأرته على أمر كان يأباه ، وما ظأرني عليه غيرك ،وظأرني فلان على ذلك وما كان من بالي ، وفي مثل (الطعن يظأر ) : يعطف على الصلح ، وظأر على عدوّه : كرّ عليه ، والأثافي ظؤار للرماد .
ومن المجاز في الإسناد : ظأرت : أخذت ظئراً لولدي )).
وكالذي صنعه ابن حجر العسقلاني ( ت 852هـ ) من تأليفه كتابه (غراس الأساس ) الذي جمع فيه مجازات (أساس البلاغة ) وأضاف إليها مافات الزمخشري من مجازات وقف هو عليها في المعجمات الاُخرى .
وتوجد منه نسخة خطّية في مكتبة طلعت المودعة بدار الكتب المصريّة تحت رقم 363 لغة(2).
انّ الاطلاع على مثل هذا المعجم حيث نعرف المجاز منه نعرف انّ ماسواه ممّا ذكر في المعاجم الاُخرى هي معانِ حقيقيّة ، وان لم ينصّوا علىأنّه معنى حقيقي.
وممّا يفيد في الرجوع إليه لمعرفة المعاني الحقيقيّة ( المعجم الكبير )من صنع مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
فقد اتبّع في ترتيب ومعالجات هذا المعجم للمواد اللغوية الطريقةالتالية :
1 - يذكر في صدر المادة نظائرها من الساميات الاُخرى ان وجدت .
2 - يذكر المعاني الكليّة متدرجة من الأصلي إلى الفرعي ، ومن الحسّي إلى المعنوي ، ومن الحقيقي إلى المجازي.
صدر منه حتّى الآن ثلاثة مجلدات .
ومثله صنوه ( المعجم الوسيط ) حيث تميّز بتوسعه في ذكرالمصطلحات العلميّة الحديثة ، وإقرار الكثير من الألفاظ المولدة والمعربةالحديثة وفيه ثلاثون ألف مادّة ، ومليون كلمة وستمائة صورة .
بعد أن عرفنا من خلال التمهيد من هو اللغوي وما هو منهجه وما هو واقع وحقيقة الوضع اللغوي نستعرض - هنا - ما ذكره الاُصوليون فيحجيّة قول اللغوي سلباً وإيجاباً.
يقوم خلاف الاُصوليين في حجيّة قول اللغوي على أساس من تقييمهم لواقعه باعتباره لغوياً ولواقع عمله في تعامله مع اللغة .
فذهب بعضهم - كما رأينا - إلى أنّه من أهل الخبرة ، وذهب آخرون إلى أنّه جماع ينقل ويروي المسموع فقط .
وعلى أساس أنّه من أهل الخبرة يكون شأنه شأن أهل الخبرة في كلّ صناعة وعمل ، فيصحّ الرجوع إليه في تشخيص الأوضاع اللغوية ، كمايصحّ الرجوع لغيره من أهل الخبرة لسيرة العقلاء القائمة على الرجوع إلى أهل الخبرة لمعرفة مايختصّ بعملهم .
(( لأنّ العقل يحكم بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم ، فلابدّ أن يحكم الشارع بذلك أيضاً ، إذ أنّ هذا الحكم العقلي من الآراء المحمودة التي تطابقت عليه آراء العقلاء والشارع منهم ، بل رئيسهم .
وبهذا الحكم العقلي أوجبنا رجوع العامي إلى المجتهد في التقليد ، غاية الأمر أنّا اشترطنا في المجتهد شروطاً خاصّة كالعدالة والذكورة لدليل خاص .
وهذا الدليل الخاص غير موجود في الرجوع إلى قول اللغوي ، لأنّه في الشؤون الفنّية لم يحكم العقل إلاّ برجوع الجاهل إلى العالم الموثوق به مندون اعتبار عدالة أو نحوها كالرجوع إلى الأطباء والمهندسين .
وليس هناك دليل خاص يشترط العدالة أو نحوها في اللغوي كما ورد في المجتهد )) (3) .
وعلى أساس أنّ اللغوي من النقلة والرواة للاستعمالات اللغوية قالوا :لا حجّة في نقله لأنّ أقصى ما نفيده منه الظنّ بصحّة نقله ، ولا دليل بالخصوص على حجيّة هذا الظنّ إلاّ ما ذكر من اتّفاق الفقهاء أو اجماعهم على الرجوع إلى قول اللغوي .
وهذا الاتّفاق أو الاجماع غير تام .
امّا باعتباره اجماعاً فهو غير كاشف لأنّ المعصوم لا يرجع إلى أهل اللغة .
وباعتباره اتفاقاً فانّا لا نعلم انّ رجوع جميع الفقهاء كان لمعرفة الأوضاع اللغوية ، إذ قد يكون للاستئناس به لإفادة الاطمئنان أو القطع ،والعمل استناداً لأحدهما الحاصل من قول اللغوي لا إلى قول اللغوي .
وذهب الفخر الرازي إلى صحّة نقل اللغوي وسلامة الاحتجاج به إذا كانثقة لأنّ سيرة العقلاء قائمة على قبول خبر الثقة ، والاُصوليون اعتبرواوصحّحوا مثل هذا في ما هو أهمّ من اللغة وهو الشرع حيث اعتبروا خبرالثقة ورتّبوا الآثار العلميّة والشرعيّة عليه ، ففي اللغة أولى ، وبخاصة أنّ اللغة هي الأصل للتمسّك بخبر الثقة في الشرعيّات ، قال في ( المحصول(4) ) متعجّباً : والعجب من الاُصوليين أنّهم أقاموا الدلالة على أنّ خبر الواحد حجّة في الشرع ، ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة ، وكان هذا أولى لأنّ إثبات اللغة كالأصل للتمسّك بخبر الواحد ، وبتقدير أن يقيموا الدلالة علىذلك فكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال رواة اللغات والنحو ، وأن يتفحصوا عن أسباب جرحهم وتعديلهم كما فعلوه في رواة الأخبار ، لكنّهم تركوا ذلك بالكليّة ، مع شدّة الحاجة إليه ، فانّ اللغة والنحو يجريان مجرىالأصل للإستدلال بالنصوص )) .
ونتيجة هذا القول :
1 - إذا كان اللغوي من علماء اللغة فهو من أهل الخبرة ، والرجوع إليه رجوع إلى أهل الخبرة ، وهو - أعني الرجوع لأهل الخبرة - ظاهرة اجتماعية عامّة مسلمة .
2 - وإذا كان من النقلة والرواة يرجع إليه - في ضوء ما حقّقه الفخرالرازي ، وهو تحقيق ناهض بالمطلوب - من باب الرجوع إلى خبر الثقة ،وبخاصة أنّ اللغة هي أساس الشرعيّات التي ينقلها الرواة . ولكن لعلمنا بواقع محتويات كتب أهل اللغة لابدّ من إحراز توفّر اللغوي على الوصفين التاليين : الوثاقة والضبط .
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- اُصول الفقه 1/ 9-10 .
2- أنظر : مقدّمة الشيخ أمين الخولي لأساس البلاغة .
3- أصول الفقه 2-126.
4- المحصول 1/212.