محاضرات أصول فقه - المحاضرة 26
5 - الأخبار الدالّة على جواز الرجوع إلى كتب الشلمغاني(1).
وبني فضال(2) ، وهي : مثل ما في كتاب ( الغيبة ) - للشيخ الطوسي ،بسنده الصحيح إلى عبدالله الكوفي خادم الشيخ أبي القاسم الحسين بنروح حيث سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني ، فقال الشيخ : ( أقول فيها ماقاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال حيث قالوا له : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ ، قال : خذوا ما رووا ، وذروا ما رأوا).
فانّه دلّ بمورده على جواز الأخذ بكتب بني فضّال ، وبعدم الفصل علىكتب غيرهم من الثقات ورواياتهم (3).
6 - الأخبار الواردة في الترغيب في الرواية : حفظها وكتابتها وإبلاغ الناس بها ، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من حفظ على اُمّتي أربعين حديثاً بعثه الله فقيهاً عالماً يوم القيامة ).
وقوله عليه السلام لأحد الرواة : ( اُكتب وبثّ علمك في بني عمّك فانّه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم ).
ومثل ما ورد في شأن الكتب التي دفنها أصحابها تقيّةً : ( حدّثوا بها فانّهاحقّ ).
- والخلاصة :
انّ ما استدلّ به المثبتون لحجيّة خبر الثقة ناهض بالإثبات وواف بالدلالة على ذلك.
وكما يقول الشيخ الخاقاني في ( أنوار الوسائل (4) ) : (( قامت الأدلّة من الأخبار المتواترة على حجيّة الخبر الموثوق بصدوره تعبّداً أو امضاءً للسيرة المتعارفة المألوفة بين الناس في اعتبار خبر الواحد الموثوق بصدوره في كلّ عصر وجيل )).
- تطور الرأي :
رأينا أنّ البحث في خبر الواحد كان يدور حول وجوده في موسوعات الحديث ، وفي حجيّته بعد ثبوت وجوده.
وكان محور البحث هو وثاقة الراوي المفيدة للظنّ بالصدور وكلّ هذاكان من حيث النظريّة.
أمّا من حيث التطبيق ، أي عندما يتعامل الفقيه مع الرواية لاستنباط الحكم الشرعي منها ، فانّ الوضع يختلف عنه في دراسة المسألة نظرياً.
ويرجع هذا إلى أنّ العديد من الأخبار لا يمكن الوصول إلى وثاقة رواته على وجه التحقيق.
ومن هنا وضع العلماء قاعدة الجبر القائلة : انّ الحديث الضعيف سنداً ينجبر ضعفه بعمل الأصحاب على وفقه ، وذلك لسدّ الفراغ الذي قد يحدث بسبب عدم وجود شيء يملؤه إلاّ الأخذ بالقاعدة المذكورة ، ومن جرّاء هذا انبثق المبدأ القائم على أساس اكتفاء أو استغناء الفقيه بوثوقه شخصياً بصدور الخبر عن المعصوم بما يعثر عليه من قرائن وملابسات تساعده على ذلك.
وعبّروا عن هذا المبدأ ب ( الوثوق بالصدور ) في مقابل المبدأ المتقدّم ،وهو ( وثاقة الراوي ).
وممّن صرّح بذلك الآغا رضا الهمداني ، فقد نقل عنه اُستاذنا الخوئي فيبحثه عن ( الاجتهاد والتقليد ) عند تعرّضه لبيان حاجة المجتهد لعلم الرجال خلال قوله : (( ثانيهما : علم الرجال ، وذلك لأنّ جملة من الأحكام الشرعيّة وان كانت تستفاد من الكتاب إلاّ أنّه أقل قليل ، وغالبها يستفاد من الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام )).
وعلى ذلك : ان قلنا بأنّ الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور ، أو انّها ممّا نطمئن بصدورها ، لأنّ الأصحاب عملوا على طبقها ،ولم يناقشوا في إسنادها ، وهذا يفيد الاطمئنان بالصدور ، فقد استرحنا من علم الرجال لعدم مساس الحاجة إلى معرفة أحوال الرواة ، كما سلك ذلك المحقّق الهمداني قدس سره حيث قال :
(( ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية على اتّصافها بالصحّةالمطلوبة ، وإلاّ فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواته على سبيل التحقيق ، لولا البناء على المسامحة في طريقه ، والعمل بظنون غير ثابتةالحجيّة.
بل المدار على وثاقة الراوي أو الوثوق بصدور الرواية ، وان كانبواسطة القرائن الخارجية التي عمدتها كونها مدوّنة في الكتب الأربعة ، أو مأخوذة من الاُصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها وعدم إعراضهم عنها )).
إلى أن قال :
( ولأجل ما تقدّمت الإشارة إليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حالهم ) انتهى.
وإنّما اللازم حينئذ مراجعة أنّ الرواية هل هي معمول بها عندهم لتكون حجّة أو أنّها معرض عنها لتسقط عن الاعتبار.
ومعه لا تمسّ الحاجة إلى علم الرجال إلاّ في بعض الموارد ، كما إذا لميظهر لنا عمل الأصحاب على طبق الرواية أو إعراضهم عنها )) (5).
- مبنى الاستنباط :
ونخلص ممّا تقدّم إلى أنّه أمام الفقيه أكثر من مبنى لابدّ له من أن يجتهد فيها. ويتبنّى ما يسلمه إليه الدليل ، ليبني عليه استنباطاته عند الرجوع إلى أخبار الآحاد ، والتعامل معها فقهيّاً.
وهذه المباني ، هي :
1 - عدم جواز العمل بخبر الواحد.
2 - جواز العمل به :
وينشعب هذا الأخير - على أساس توافر الخبر على عنصر الوثوق بصدوره عن المعصوم إلى مبنيين ، هما :
أ - اشتراط وثاقة الراوي.
ب - الاستغناء بالوثوق عن طريق القرائن والملابسات ، أو قل الاكتفاء بوثاقة الرواية.
- النتائج :
1 - انبثق في الوسط العلمي الفقهي لموضوع خبر الثقة رأيان ، هما :
أ - عدم جواز العمل به لأنّه مظنون الصدور ولا دليل على جواز العمل به.
ب - جواز العمل به ، لقيام الدليل القطعي على صحّة الأخذ به والعمل على طبقه.
وقد سار هذان الرأيان جنباً إلى جنب حتّى عصر الفقيهين المتعاصرين الشريف المرتضى والشيخ الطوسي ، ثمّ كانت الغلبة للرأي الأوّل.
وعرف الشريف بأخذه بالرأي الأوّل وعمله على تركيزه والدفاع عنه.
وعرف معاصره الشيخ بأخذه بالرأي الثاني وعمله - أيضاً - علىتركيزه والدفاع عنه.
وعندما دوّن الشيخ رأيه في كتابه الاُصولي ( العدّة ) بدأ يتغلّب علىالرأي الأوّل.
وذهب الرأيان يتصارعان علميّاً حتّى عصر ابن إدريس وهو آخر من تبنّى الرأي الأوّل من الاُصوليين ، حيث راح الرأي الأوّل يضعف أمام الرأي الثاني.
2 - وفي عصر المحقّق الأوّل استقرّ المنهج على الأخذ بالرأي الثاني وحتّى الآن .
3 - كما استقرّ المبنى مؤخّراً على الاستناد امّا إلى وثاقة الراوي ، وامّا إلى وثاقة الرواية .
ظواهر الألفاظ
- تعريف الظهور :
لكي نعرف معنى الظهور اللفظي علينا أن ننطلق إلى هذا عن طريق بيان أنواع دلالة الدليل اللفظي على معناه ثمّ مستوى الإيمان بكلّ نوع.
أمّا أنواع الدلالة فهي :
- دلالة النصّ.
- دلالة الظاهر.
- دلالة المؤوّل.
- دلالة المجمل.
ويقوم هذا التنويع للدلالة على أساس من مستوى علاقة اللفظبالمعنى من حيث إفادته له.
1 - فقد يكون للفظ معنى واحد ، فدلالته عليه دلالة نصّ.
2 - وقد يكون للفظ أكثر من معنى ، إلّا أنّ له ظهوراً وبروزاً في دلالتهعلى واحد منها دون البقيّة ، انّ دلالته على المعنى الذي له ظهور فيه هيدلالة الظاهر.
3 - وقد يقترن هذا اللفظ الذي له أكثر من معنى بما يصرفه عن الدلالة على المعنى الظاهر إلى الدلالة على المعنى الآخر المحتمل ، فهي دلالة المؤوّل.
4 - وقد لا يتبيّن المتلّقي المعنى من اللفظ لابهامه وغموضه ، فهي المجمل.
أمّا مستويات الإيمان بالدلالة التي تتمثّل في درجة القناعة النفسيّة التي تحصل للمتلّقي - سامعاً كان أو قارئاً - عند محاولة استفادته المعنىمن اللفظ ، فهي :
- اليقين.
- الاطمئنان.
- الظنّ.
- الاحتمال.
- التوقّف.
وكلّ هذه المذكورات حالات نفسيّة تمثّل مستوى أو درجة إيمان أوقناعة المتلقي بدلالة اللفظ على المعنى المقصود للمتكلّم.
وإذا حاولنا أن نتعرّف هذه الدرجات في ضوء النسبة المئوية - علىنحو التقريب - فانّنا نقول :
- اليقين يساوي نسبة 100%.
- الشكّ يساوي نسبة 50% لتساوي محتملات الأطراف ، ذلك أنّ الشكّ Doubt حال نفسيّة يتردّد معها الذهن بين الإثبات والنفي ، فلا يقوى الإنسان معها على ترجيح أي طرف من الطرفين أو الأطراف.
- التوقّف يساوي نسبة الصفر.
وما بين الشكّ واليقين هي منطقة نسبة الاطمئنان والظنّ.
فما بين 95% إلى 99% هي نسبة الاطمئنان لضعف درجة الاحتمال المقابل له إلى مستوى لا يعتدّ به.
وما فوق الخمسين حتّى نسبة 94% هي درجة الظنّ على اختلاف مستوياته قوّة وضعفاً.
وما دون الخمسين هي نسبة الاحتمالات المقابلة للظنون ، وهي أيضاً تتفاوت قوّة وضعفاً.
ففي الحالتين الأوليّين : ( اليقين والاطمئنان ) تسمّى الدلالة بالدلالةاليقينيّة أو الدلالة النصيّة أو دلالة النصّ ، أو الدلالة الصريحة من تسميّة اللفظ - هنا - بالنصّ أو الصريح.
وفي الحالة الثالثة ( الظنّ ( تسمّى الدلالة بالدلالة الظنّية أو دلالةالظهور أو دلالة الظاهر من تسمية اللفظ - هنا - بالظاهر.
وفي الحالة الرابعة ( الاحتمال ) تسمّى بالدلالة الاحتمالية أو دلالة التأويل من تسمية اللفظ - هنا - بالمؤوّل.
وفي الحالة الخامسة التي هي التوقّف ، تسمّى الدلالة بالدلالة الإجمالية من تسميّة اللفظ بالمجمل.
ويطلق على الدلالات الأربع الاُولى عنوان الدلالة البيانية أو دلالة البيان، في مقابل الدلالة الاجمالية ، ويصطلح على اللفظ ب( المبيّن )في مقابل (المجمل ).
فالدلالة البيانية هي التي يبيّن فيها المعنى ، أي يعرف من اللفظ سواءكان ذلك من حاقّ اللفظ أو بمعونة القرينة ، أي بشكل مباشر أو غيرمباشر.
والدلالة الاجماليّة هي التي لا يتبيّن فيها المتلّقي المعنى من اللفظ.
- دلالة النصّ :
قد يطلق ( النصّ ) ويراد به مطلق اللفظ ، وهو المعروف في عصرنا هذا ،وبخاصة في لغة الثقافة : العلوم والآداب والفنون ، فيقال ( نصّ أدبي )و (نصوص أدبية ) أمثال : القصيدة أو البيت من القصيدة أو البيت المفرد ،والمقالة ، والقصّة أو المقطع من إحداهما ، أو اللفظة المفردة.
ويقال : ( نصّ علمي ) و ( نصوص علميّة ) أو ( نصّ فنّي ) كنصّ المسرحية ونصّ الاُنشودة .
وقد يطلق ( النصّ ) ويراد به اللفظ الذي هو نصّ في معناه ، أي الذي يعيّن معناه بما لا يحتمل دلالته على غيره ، لأنّ التنصيص معناه التعيين، واللفظ - هنا - ينصّ على معناه أي يعيّنه ويمنع احتمال إرادة سواه .
والمعنى الثاني هو المقصود هنا لأنّه المصطلح الاُصولي في مقابلة (الظاهر ( وأخواته من المصطلحات المذكورة في أعلاه.
- ( تعريف النصّ ) :
فالنصّ : هو اللفظ الذي يدلّ على معنى معيّن مع دفع احتمال إرادة غيره.
ومستوى الدلالة - هنا - بدرجة اليقين الذي يعني إرادة المتكلّم للمعنىالمدلول عليه باللفظ إذا كانت ( 100% ) ، أو بدرجة الاطمئنان الذي هو أقلّمن اليقين بقليل جدّاً ، أي يقارب ( 100% ).
واليقين أو الاطمئنان حالة نفسيّة تكون عند المتلّقي حين سماعه أوقراءته اللفظ ، تعرب وتكشف عن إيمانه بأنّ المعنى المدلول للفظ هوالمقصود للمتكلّم بمستوى يلغي معه احتمال إرادة غيره أو لا أقل مناحتمال إرادة معنى آخر احتمالاً ضعيفاً جدّاً لا يعتدّ به ، وذلك في حالة الاطمئنان.
واليقين في اللغة العربية مأخوذ من ( يقين الماء في الحوض ) إذا استقرّ وثبت ، فكأنّ اللفظ لتعيينه لمعناه يجعل هذا المعنى مستقرّاً في نفس المتلّقي وثابتاً ، فتكون نفسه كالحوض يستقرّ فيها المعنى كما يستقرّ فيها لماء.
ويقال : ( اطمأنّ القلب ) إذا سكن بعد القلق ، أي استقرّ وثبت.
ويقسّم اليقين على أساس من طريقة حصوله عند الإنسان إلى : ذاتي وموضوعي ، أو وجداني وبرهاني :
1 - اليقين الذاتي أو الوجداني :
هو اليقين الذي يحصل عند الإنسان من مجرّد إدراكه لواقع ذلك الشيءأو قل : بوجدان ذلك الشيء عنده أو أمامه ، أي بمجرد وجوده من غير افتقارإلى تفكير أو إقامة برهان.
فيؤمن بذلك الشيء ويذعن له ويسلم به لذاته لا لشيء آخر خارج عنه دلّ عليه.
فالإدراك في حالة اليقين أو الاطمئنان - هنا - وجداني ، أي منبعث ونابع من الوجدان لا البرهان.
والمعرفة - هنا - ذاتية نابعة من ذات المعلوم ، لا من شيء آخر خارج عن الذات.
وهكذا معرفة لا تقبل الشكّ.
ومن هنا عرف اليقين والاطمئنان منطقياً ب ( المعرفة التي لا تقبلالشكّ ) ، واُصولياً ب ( الجزم الذي لا يحتمل الخلاف) وسيكلولوجيا (نفسيّاً ( ب ) طمأنينة النفس لشيء تراه حقّاً لا ريب فيه ( ، وذلك لأنّ هكذا يقين - حيث ينكشف معه المعلوم إنكشافاً لا يبقى معه ريب - لا يقارنه إمكان الغلط والوهم.
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- هو محمّد بن علي ( ت 322هـ ) نسبة إلى شلمغان قرية من نواحي مدينة واسط بالعراق ،ويعرف بابن أبي العزاقر.
كان مستقيم الطريقة ، متقدّماً في أصحابنا ، ثمّ انحرف عن المذهب ، وله كتب ألّفها حال استقامته ،وإليها الإشارة في السؤال وجوابه المذكورين في أعلاه.
2- بنو فضّال : من أُسر الشيعة في الكوفة ، وهم من آل تيم الرباب.
اشتهر منهم :
- الحسن بن علي بن فضّال.
- وإبنه علي بن الحسن بن علي بن فضّال.
وعرفا بانتمائهما إلى المذهب الفطحي الذي كان فبان.
3- الرسائل : خبر الواحد.
4- أنوار الوسائل 6 - 5 / 1 .
5- اُنظر : التنقيح : الاجتهاد والتقليد.