محاضرات العقائد2 - المحاضرة 7
في هذه المحاضرة ننتقل إلى جانب آخر من اعترافات البلغاء والحكماء من الجزيرة العربية، أبدوا إعجابهم تجاه القرآن بعد أن لم يكونوا مسلمين.
الوليد بن المغيرة المخزومي:
سمع الوليد قريشاً ومباحث رؤساء قريش في كيفية معارضة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وأنه بأي أسلوب يمكن التخلص من هذا الدين الجديد، حيث يزداد عدد المعتنقين له يوماً بعد يوم.
جاءوا عند الوليد بن المغيرة وطلبوا منه أن يبدي رأيه ويصبح حكماً في القضية.
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالساً في جحر إسماعيل (عليه السلام). تقدم إليه الوليد وجلس إلى جانبه، ثم قال: اقرأ لي شيئاً من أشعارك يا محمد.
فأجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس ما أقرأه وأتلوه عليكم شعراً. وإنما وحي من الله تبارك وتعالى. فبدأ يقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له آيات من سورة فصلت. والتاريخ ينقل لنا، أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا ثلاث عشرة آية من تلك السورة وعندما بلغ إلى قوله تعالى: (فإن اعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) بدأ الوليد يرتعش ويرتجف وتحول جسده كله إلى شجرة تهتز أمام الريح العاتية، لا يستطيع أن يسيطر على نفسه. وكان هذا المعنى بادياً عليه، وكل من جلس، يراقبه من بعيد ويتوقع انه سيبدي رأياً فصلاً في القرآن وفي الآيات التي سمعها من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وإذا رأوا هذا التأثير الشديد إلى درجة انه لا يقدر أن يتمالك نفسه من الارتعاش، ثم في مناسبة أخرى يقول المفسرون، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ سورة غافر، بذلك الصوت الملائكي، فانتبه الوليد بن المغيرة إلى هذه الآيات: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنوب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا اله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) غافر 1-2-3-4. هذه الآيات أثرت في روح الوليد وفي أعماقه إلى درجة أنه لم يطق إلا أن يقول: والله لقد سمعت من محمد أنفاً كلاماً ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق. وأنه يعلو ولا يعلى عليه.
يقول العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني في كتابه (المعجزة الخالدة) إن هذه العبارات، كانت أول تقرير صدر من جانب أستاذ من أساتذة البلاغة حول القرآن ومضامين القرآن وكيف تأثر بالإعجاز البلاغي لكلام الله تبارك وتعالى.
- أولاً: لا يشبه كلام الإنس والجن. هذا معنى عميق جداً. لأن الذي اعتاده بلغاء العرب هو أن يسمعوا إما نثراً يجري على لسان البلغاء والفصحاء وهو كلام الإنس. وقد يأتي على الوزن والقافية فيكون مسجوعاً مقفى فيشبه -على حد تصورهم- كلام الجن. بهذا عبر الوليد عن رأيه، بأن هذا الكلام لا يمكن مقارنته بأي كلام آخر لما فيه من عظمة ولما فيه من إعجاز ودقة.
- ثانياً : إن فيه لحلاوة، ويقصد بالحلاوة ذلك الطعم الجميل الذي يغذي العقول والنفوس ويكون أثره مستساغاً لدى العقول والنفوس كما يكون أثر الحلوى على الذائقة البشرية. وهذه الحلاوة لم يجدها في غير الأسلوب القرآني.
- ثالثاً: وإن عليه لطلاوة. والمقصود بالطلاوة الجمال الأخاذ الذي يعتبر من المحسنات القرآنية، والقرآن مليء بالمحسنات اللفظية والمعنوية.
- رابعاً: وإن أعلاه لمثمر، شبه القرآن بشجرة عظيمة، لها فروع وأغصان كثيرة كلها مليئة بالفاكهة.
- خامساً: وإن أسفله لمغدق، والمغدق عبارة عن الشيء ذي الأصول المستمرة المتواصلة. حيث يستمد من ينابيع وجذور ومصادر عميقة. ويدل على ذلك قوله تعالى: (والو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) سورة الجن:16. الماء الغدق هو الماء الذي يروي العطاشى ويكون مستمراً ولا ينقطع.
- سادساً: وأنه يعلو ولا يعلى عليه. إن القرآن يعلو ويتميز على كل الأساليب التي سمعها. إذن الوليد بن المغير المخزومي لما تأثر بالقرآن الكريم وببلاغته وأبدى إعجابه واعترافه بهذه العبارات ولخصها في شيء واحد وهو: إن هذا القرآن لا يجارى وإن التحدي الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يقابل بأي لون من المعارضة.
ومن البلغاء الذين تأثروا بالأسلوب القرآني أيضاً هو عتبة بن ربيعة كان عتبة من كبار قريش ومن الشخصيات المعروفة آنذاك. ذهب عتبة يوماً إلى أصدقائه وقال لهم: أذهب إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واقترح عليه بعض الأمور، فلا بد أن يقبل واحداً من هذه الاقتراحات.
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالساً في المسجد. وتقدم إليه عتبة بمجموعة من المقترحات. حينما انتهى من كلامه، قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفرغت يا أبا الوليد؟.
وحينما أجاب بالإيجاب، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): استمع إلى جوابك من آيات قرآنية. فقرأ له سبعة وثلاثين آية من سورة فصلت وحينما بلغ إلى آية السجدة، سجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رفع رأسه من السجدة، وقال: يا أبا وليد هل سمعت كلام الله وما تلوته عليك؟.
لقد كان عتبة متأثراً بالأسلوب القرآني إلى درجة أنه أشبه ما يكون بالمسمر، بحيث لم يستطع أن يتكلم بشيء، ولكن بعد أن استطاع أن يستعيد قواه، قال: والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.
ويستفاد من هذا نقطتان:
- أولاً: أن ما أثر في المستمع إنما كان الإعجاب والانبهار ببلاغة القرآن الكريم، جمال اللفظ، ودقة المعنى، البلاغة التي لا تجارى ما جعل القرآن متميزاً.
- ثانياً: أننا وجدنا هذا الاعتراف عند عتبة وعند الوليد كليهما، يصرحان بأن هذا ليس من كلام الآدميين وأنه لا يمكن مجاراته.
النموذج الآخر، طفيل بن عمرو الشاعر الجاهلي الذي أسلم. وكان بالنسبة إلى قريش صعب أن تقبل بإسلام هذا الرجل، إن طفيلاً تأثر ببيان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى درجة انه لم يملك مقاومة وحينما عوتب من قبل أصحابه وكيف أنه بقبوله الإسلام سبب التفرقة وأثر في وحدة الكلمة. أجابهم بهذه العبارة قائلاً: فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه.
وهناك نماذج أخرى كثيرة جداً.
- الإخبار عن الغائبات:
القرآن يفتتح -في سورة البقرة- كلامه بالإيمان بالغيب. ولابد من الإشارة إلى أن الرؤية الفلسفية في الإسلام تعتمد على أن الخلق إنما هو في عالمين. وبعبارة أخرى: أن الله تبارك وتعالى له الخلق والأمر.
الله تبارك وتعالى في عالم التكوين له الخلق ولكن في عالم الولاية المطلقة الإلهية له الأمر.
وعالم الخلق يعتمد على الأمور التدريجية ويرتبط بالزمان والمكان ويرتبط بالمقادير والتقديرات. بعكس عالم الأمر الذي لا يكون إلا دفعياً (وما أمرنا إلا واحدة)..
عالم الخلق يتكون من ظاهر ومن باطن. يتكون من شيء أمام الستار ومن شيء خلف الستار. فما نراه على الستار فهو عالم الشهود. ولكن القرآن يصر والعقيدة الإسلامية تؤكد على أن وراء هذا الستار عالماً آخر هو عالم الغيب. ولابد للمؤمن حتى يكمل إيمانه أن يعترف بالغيب. (ألم ذلك الكتاب.... الذين يؤمنون بالغيب) البقرة 1-2-3.
إذن الإيمان بالغيب إنما هو شرط أساسي ليكون الشخص متصفاً بالتقوى ويكون أهلاً لتقبل الهداية الإلهية.
والإيمان بالغيب يعنى أن هناك حوادث وأموراً تأتى من وراء هذا الستار المادي الظاهري. والله تبارك وتعالى خالق للغيب والشهادة كما أنه عالم بالغيب والشهادة. ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة.
الإيمان بالغيب من مستلزمات الإيمان والاعتقاد والاعتراف بوجود الخالق والحياة الأخرى. والذي يأتي ويتحدث عن عالم الغيب هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) -وكل نبي بشكل عام- والإخبار عن الغيب لون أخر من الإعجاز، لأن هذا الغيب لا يطلع عليه إلا الله تبارك وتعالى.
فلما يخبر شخص عن أمور غائبة، فمعناه أنه متصل بعالم وراء هذا العالم. متصل بمصدر الغيب وخالق الغيب وعالم الغيب.
القرآن الكريم يروي لنا أموراً كثيرة من هذا القبيل ومنها مثلاً ما يتعلق بغلبة الروم: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم 1-2-3-4-5.
نجد أن الآية نزلت في زمان كان هذا مستبعداً جداً. لأن الكلام يرجع إلى سنة 625م أو السنة الثانية للهجرة. وفي ذلك الوقت كان هناك نزاع طويل بين إمبراطورية الروم والإمبراطورية الفارسية. وفي السنة الثانية للهجرة أيضاً كان هناك نصر عظيم للمسلمين في (بدر) في مقابل المشركين.
القرآن الكريم استعمل (سين) التي تدل على المستقبل القريب: سيغلبون (في بضع سنين) البضع الفترة الزمنية التي تقل عن سبع سنوات ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله: (إي في نفس الوقت الذي ينتصر فيه الروم على الفرس يفرح المؤمنون بنصر الله.
المثال الآخر: يقول القرآن الكريم: (قل لأن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) القرآن الكريم قد أخبر بشكل قاطع في سورة الإسراء آية 88.
إن الجن والإنس والجماهير كلها سيعجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن وفي ذلك دلالة كافية على الأخبار عن المستقبل. وبالفعل عجزوا عن مجاراة القرآن وعن الإتيان بمثله، القرآن أخبر عن الأمور الغائبة وأخبرهم أن القوى البشرية حتى لو دعمت من قبل الجن لا يقدرون أن يجاروا القرآن وان يأتوا بمثله.
إذن: الإعجاز البلاغي لم يكن هو الجانب الوحيد الذي امتاز به القرآن الكريم. وإنما هناك أساليب وطرق أخرى للإعجاز، جاءت في القرآن الكريم. وكلها تؤيد ادعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للرسالة ودعم هذا الادعاء بالمعجز انتهينا إلى التصديق بالرسالة. وهذا هو المطلوب.