من صفحة: 22
إلى صفحة: 53
النص الكامل للبحث: PDF icon 3-2.pdf
خلاصة البحث:

خلق اللهُ الإنسان ليكون خليفته في الأرض، وحمّلهُ مسؤوليات جسام أبت الجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وكان لابُدَّ من أن يُكرَّم هذا الإنسان على تحمّله المسؤولية الكبيرة، وذلك بجعله خليفة الله في الأرض، ومن التكريم أيضاً أن جعله مختاراً، والاختيار يعني الحرّية. وفي مُقابل الواجبات التي تحمَّلها الإنسان لكونه خليفة الله في الأرض بصريح (آية الخلافة)، فقد منحه الله حقوقاً، ولاشكّ أنّ هذه الحقوق تتأطّر باطار الشريعة الإسلامية، التي هي _في الأساس_ نظام الحياة بالنسبة إلى كُلّ المخلوقات.وكان من مسؤولية الحكم الإسلامي صيانة هذه الحقوق، ومنح أصحابها فُرصة كسب حريّاتهم، والحصول على حقوقهم كاملةً غير منقوصة.من هنا أتت مناسبة التأكيد على مبدأ الحقوق والحرّيات عند أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ بوصفه حاكماً إسلامياً، مهمّته الأولى تنظيم شؤون الناس، وإرسائها على روابط متينة هدفها تحقيق العدالة.

البحث:

 

تمهيد

خلق اللهُ الإنسان ليكون خليفته في الأرض، وحمّلهُ مسؤوليات جسام أبت الجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وكان لابُدَّ من أن يُكرَّم هذا الإنسان على تحمّله المسؤولية الكبيرة، وذلك بجعله خليفة الله في الأرض، ومن التكريم أيضاً أن جعله مختاراً، والاختيار يعني الحرّية. وفي مُقابل الواجبات التي تحمَّلها الإنسان لكونه خليفة الله في الأرض بصريح (آية الخلافة)، فقد منحه الله حقوقاً، ولاشكّ أنّ هذه الحقوق تتأطّر باطار الشريعة الإسلامية، التي هي _في الأساس_ نظام الحياة بالنسبة إلى كُلّ المخلوقات.

وكان من مسؤولية الحكم الإسلامي صيانة هذه الحقوق، ومنح أصحابها فُرصة كسب حريّاتهم، والحصول على حقوقهم كاملةً غير منقوصة.

من هنا أتت مناسبة التأكيد على مبدأ الحقوق والحرّيات عند أمير المؤمنين(عليه السلام)؛ بوصفه حاكماً إسلامياً، مهمّته الأولى تنظيم شؤون الناس، وإرسائها على روابط متينة هدفها تحقيق العدالة.

المبحث الأوّل: الحقوق:

المطلب الأوّل: مفهوم الحق:

الحقّ في اللغة: المطابقة والموافقة، لمطابقة رِجْلِ الباب في حَقِّهِ لدورانه على استقامة([1]).

والحقّ في اصطلاح أهل القانون: مجموعة القرارات التي تحكم الأفراد كونهم يعيشون في الوسط الاجتماعي([2]).

والحقّ عند الفقهاء هو: ما ثبت به الحكم([3]).

ومعنى ذلك أنّ الفقهاء علّقوه بالقضاء، فأصبح للحقّ آثار. ومهمّة القضاء الكشف عنه لتعيين آثاره.

وبحث الفقهاء _ من كافّة المذاهب _ موضوع الحقّ في باب الحكم على الغائب، وباب الشهادات؛ لكونها الوسيلة لإثباته، فقسموا الحقّ إلى مراتب تبعاً لقوّة الشهادة؛ فهناك من الحقوق ما يثبت بأربعة شهود، وهناك ما يثبت بثلاثة شهود، وشاهدين، وشاهد واحد.

وهناك من الحقوق ما يثبت بشهادة النساء، وهناك ما لا يثبت إلا بشهادة الرجال. ومن الذين ربطوا بين نظرية الحقوق الفقهية والحكم على الغائب سلار، وهو أبو يعلى الديلمي، المتوفّى سنة (463هـ)، فقد قسّم الحقوق إلى ثلاثة أنواع: حقّ الله، وحقّ الآدمي، وحقّ الله تعالى يتعلّق به حقّ الآدمي. ثمّ يضرب أمثلة على حقّ الله تعالى: الزنى واللواط والخمر فلا يُقضى فيها على الغائب؛ لأنّ القاضي مأمورٌ بالتخفيف، وحقّ الله قابل للتخفيف، بخلاف حقوق الناس التي لا يمكن التخفيف فيها؛ لذا يُقضى فيها على الغائب، كما يقول الصهرشتي: كالدين ونحوه، أمّا النوع الثالث فالمثال الذي يضربه سلار بالرسقة، فإنه يقضي فيها على الغائب بالغرم دون القطع([4]).

أمّا هبة الله الراوندي المتوفّى سنة (573 هـ)، فيربط بين الحقوق والشهادات، فيقسّم الحقوق تبعاً لذلك إلى ضربين: حقّ الله وحقّ الآدمي.

"فأمّا حقّ الآدمي فإنّه ينقسم _في باب الشهادة_ إلى ثلاثة أقسام: أحدها لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين كالقصاص، والثاني: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين، وهو كلُّ ما كان مالاً أو المقصود منه المال، والثالث: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين، أو أربعة نسوة، وهو الولادة والاستهلال والعيوب تحت الثياب.

وأمّا حقوق الله فجميعها لا مدخل للنساء، ولا للشاهد مع اليمين فيها، وهي ثلاثة أضرب: ما لا يثبت إلاّ بأربعة؛ وهو الزنى واللواط إذا كانا بالأحياء، فإن كانا بالأموات فيكفي في ذلك شاهدان، وإتيان البهائم. والثاني: ما لا يثبت إلاّ بشاهدين؛ وهو السرقة، وحدّ الخمر. والثالث:ما اختلف فيه؛ وهو الإقرار بالزنى، قال قوم: لا يثبت إلاّ بأربعة كالزّنى، وقال آخرون: يثبت بشاهدين كسائر الإقرار؛ وهو أقوى"([5]).

أمّا ابن فرحون فيربط بين الحقوق والإثبات عبر الشهادة من زاويتين:

الزاوية الأولى: مسؤولية الشاهد في الشهادة، فقسّم هذه الحقوق إلى ما يجب أن يشهد الشاهد عليها، وما لا يجب عليه ذلك. ويعطي مثالاً على النمط الأوّل: العتق والطلاق والخلق والرضاع، وعلى النمط الثاني: الزّنى وشرب الخمر وما أشبه ذلك ممّا أُمرنا بالستر فيها، فلا يضرّ الشاهد ترك إخباره باشهادهِ.

أمّا الزاوية الثانية: فهي مراتب الشهادات وقسّمها إلى خمسة أقسام:

1ـ أحكام تثبت في البدن فقط، وهي ما يطَّلع عليها الرجال، وهي تثبت بشاهدين.

2ـ أحكام تثبت في البدن ممّا يطلع عليه النساء، وهي تثبت بشهادة امرأتين.

3_ أحكام تثبت في البدن وتتعلّق بالمال، كالشهادة على أسباب التوارث، كالنكاح بعد موت أحد الزوجين ليرث الآخر مالاً، وفيه رأيان؛ الأوّل: جواز شهادة رجل وامرأتين، والثاني: لابُدّ من رجلين.

4ـ حقوق الأموال: كالقرض والوديعة وما شابه ذلك، واستحقاقه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو بشاهد ويمين، أو بامرأتين ويمين.

إذاً، فدائرة الحقوق عند الفقهاء هي ما يتحمَّل بموجبها شخصٌ تبعات عمله وآثاره، وإثباتها يكون عبر الشهادة.

فالحقوق تتكشّف عندما يتمّ تجاوزها، ففي هذه الحالة يتحمَّل المتجاوز تبعات عمله، كالقصاص والجلد والرجم، أو قطع اليد، أو إعادة المال المسروق إلى أصحابه، فهذه هي الحقوق بالمنظور الفقهيّ البحت.

المطلب الثاني: الحقوق عند أمير المؤمنين(عليه السلام):

أمّا في منظور أمير المؤمنين(عليه السلام) فإنّ دائرة الحق هي أوسع ممّا أوردها الفقهاء أثناء معالجاتهم القضائية.

فالحقوق عنده(عليه السلام) هي الركن القانوني في نظام العلاقات الاجتماعية فالمسلم مسؤولٌ عن حقوق الآخرين: حقّ الوالدين، وحقّ الزوجة، وحقّ الابن، وحقّ المعلّم، وحقّ المُربّي، وحقّ الصديق... الخ.

فيجب على الإنسان المسلم أن يُؤدّي هذه الحقوق، وكما أنّ للآخرين حقوقاً عليه، فإنّ له حقوقاً عليهم، ونتيجة لهذه الحقوق المتبادلة يقوم نظام العلاقات الاجتماعية بين الأفراد.

أمّا حقّ الله فهو الدائرة الواسعة التي تشمل حقّ المجتمع، فهو غير منفصل عن حقوق الناس، بل هو تبعٌ لحقوق الناس، وليس العكس. تأمَّل ما يقوله أمير المؤمنين(عليه السلام): "جعل الله سبحانه حقوق عباده مُقدِّمة لحقوقه"([6]).

لذا كان أفضل ما يقوم به الإنسان هو أن يُوصل الحقوق إلى أهلها، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): "أفضل الجود إيصال الحقوق إلى أهلها"([7]).

المطلب الثالث: أنواع الحقوق:

تنقسم الحقوق إلتي تؤمِّنها الدولة الإسلامية لرعاياها إلى: 1ـ الحقوق الشخصية 2ـ الحقوق الاقتصادية 3ـ الحقوق الاجتماعية 4ـ الحقوق السياسية 5ـ الحقوق الدينية 6ـ الحقوق القضائية.

أولاً: الحقوق الشخصية:

وعلى رأسها حقّ الإنسان في الحياة؛ إذ لا يجوز مصادرة الحياة من الناس، يقول تعالى:)وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا( ]النساء/93[.

وتأمين هذا الحقّ واجبٌ من واجبات الدولة الإسلامية؛ حيث ورد في القرآن الكريم) فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ( ]البقرة/193[.

وخق الإنسان في الحياة واضح في منهج أمير المؤمنين (عليه السلام)من اللحظة الأولى لتكوينه، وهو جنين، حتى آخر يوم من حياته.

فقد روي أنّه ((أُتي بحامل قد زنت، فأمر الخليفة برجمها، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): ((هب أنّ لك سبيلاً عليها، أيّ سبيل لك على ما في بطنها)) والله تعالى يقول:) )أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( ]النجم/38[، فقال عمر: لا عشتُ لمعظلة لا يكون لها أبو الحسن، ثمّ قال: فما أصنع بها؟ قال(عليه السلام): ((احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحدّ))([8]).

هذا، ومن تسبّب في موت الجنين _ حتى بصورة غير مباشرة _ فعليه الدية، روي _أيضاً_ أنّ الخليفة كان استدعى بامرأة ]يتجمّع[ عندها الرجال، فلمّا جاءها، رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم، فأملصت ووقع إلى الأرض ولدها يستسهل، ثمّ مات، فبلغ عمر ذلك، فجمع أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وسألهم عن الحكم في ذلك، فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدِّياً ولم ترد إلا خيراً ولا شيء عليك في ذلك، وأمير المؤمنين(عليه السلام) جالسٌ لا يتكلّم، فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: ((لقد سمعتُ ما قالوا))؛ قال: فما عندك أنت؟ قال: ((قد قال القوم ما سمعت)) قال: أقسمتُ عليك لتقولنّ ما عندك، قال: ((إن كان القوم قاربوك فقد غشوك، وإن كانوا ارتأووا فقد قصروا، الدية على عاقلتك؛ لأنّ قتل الصبيّ خطأ تعلّق بك))، فقال: ((أنت -والله- نصحتني من بينهم، والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي))([9]).

وتأكيداً لحقّ الإنسان في الحياة وضعت الشريعة الإسلامية أحكاماً صارمة لمنع الاعتداء على حياة الآخرين، حتى لو كان قد ارتكب جناية، وهذا الأمر نجده في منهج أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد طالب الزوج الذي قتل رجلاً _مُدّعياً أنّه وجده في فراش زوجته_ بأربعة شهود، وهو أمر شبه مستحيل، أو أن يدفع الدية عن قتله إيّاه.

ففي رواية ((أنّ معاوية بن أبي سفيان كتب إلى أبي موسى الأشعري أنّ ابن أبي الجسري وجد على بطن امرأته رجلاً فقتله، وقد أشكل حكم ذلك على القضاء فسأل أبو موسى عليّاً(عليه السلام)، فقال: ((والله ما هذا في هذه البلاد)) _يعني الكوفة وما يليها _ وما هذا بحضرتي، فمن أين جاء هذا؟ قال: كتب إليّ معاوية أنّ ابن أبي الجسري وجد مع امرأته رجلاً فقتله، وقد أشكل ذلك على القضاة، فرأيت في هذا، فقال عليّ(عليه السلام): ((إن جاء بأربعة يشهدون على ما شهد وإلا دفع برمته))([10]).

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يدرأ الحدود التي توجب قتل المتّهم إلاّ في القصاص، فكم من مرّة جاء زانٍ محصن راغباً في إقامة الحدّ فكان يردّه بأعذار حتى لا يعود، لكنّه يعود مرّة ثانية وثالثة ورابعة.

وحكايته مع المرأة التي زنت حكاية مشهورة ذكرها العامّ والخاصّ؛ فقد جاءته امرأة وقالت له: إني زنيت فطهّرني، وكانت المرأة حاملاً، فقال لها أمير المؤمنين: ((انطلقي فضعي ما في بطنك ثمّ ائتيني أُطهرك..)) ثمّ ذهبت وعادت بعد حولين فتجاهل عليها أمير المؤمنين فأصرَّت مرّة ثالثة على إقامة الحدّ فقال لها(عليه السلام): ((انطلقي فأكفليه)) (الطفل) حتى يعقل أن يأكُل ويشرب، ولا يتردّى من سطح، ولا يتهوّر في بئر)).

وكان هدفه من التسويف هو توفير الأسباب النفسية لكي لا تعود المرأة في المرّة الرابعة؛ لأنّها إن عادت وجب إقامة الحدّ عليها، ثمّ إنّها عادت وأصرّت على إقامة الحدّ، فأقام الإمام عليها حدّ الرجم([11]).

وفي واقعة أخرى: ((أتاه رجلٌ بالكوفة فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهّرني، قال: فمن أنت؟ قال: من مزينة، قال: أتقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: بلى، قال: فاقرأ، فقرأ،... قال: أبك جنّة؟ قال: لا، قال: فاذهب حتى نسأل عنك، فذهب ثمّ عاد، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): ألك زوجة؟ قال: بلى، قال: فمقيمة معك في البلد؟ قال: نعم، فأمره أمير المؤمنين(عليه السلام) فذهب وقال: حتى نسأل عنك، فرجع ثالثة، ثمّ رابعة، فغضب أمير المؤمنين منه ثمّ إنّه قال: ((ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملاء، أفلا تاب في بيته؟ فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ))([12]).

نستخلص من هذه الحكاية الأمور التالية:

1ـ رغبة الإمام في انصراف الرجل عن قراره بإقامة حدّ الرجم عليه من خلال صنع أجواء تعلّقه بالدُنيا.

2ـ كان الإمام يُحاول أن يجد طريقاً لدرء الحدّ عنه، فكان يسأله أسئلة مختلفة علَّه يجد سبيلاً لإنقاذه من الرجم.

3ـ لا يكتفي الإمام بمنح الرجل فُرصة للعيش، بل للعيش الكريم أيضاً؛ أي أن يبقى مستوراً لا يعلم بما فعله أحد.

4ـ قول الإمام: ((فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ))، عبارة عن قاعدة ذهبية سبق بها أمير المؤمنين الشرائع الحديثة في مجال حقوق الإنسان.

وتحمل هذه القاعدة إقراراً صريحاً بأنّ الحدود ليس الهدف من إقامتها الانتقام، بل الهدف هو إصلاح الإنسان والمجتمع، فإذا صلح الإنسان بغير العقاب فلا ضرورة لإقامة الحدّ عليه.

وقد اسقط أمير المؤمنين _فعلاً_ الحدّ عن رجُلٍ اتّهم بقتل رجل لم يكن له أولياء، فهو وليّ الدم عنهم، فقد أُتي أمير المؤمنين(عليه السلام) برجل وجد في خربة وبيده سكين ملطّخة بالدم وإلى جانبه رجلٌ مذبوح يتشحّط في دمه، فاعترف الرجل بأنَّه القاتل، فلمَّا جاءوا به لإقامة حدّ القتل عليه، فإذا برجلٍ مُسرعٍ مقبل عليهم، مُدَّعياً بأنّه هو القاتل، فسأل أمير المؤمنين الرجل الأوّل: ((ما حملك على إقرارك على نفسك؟)) فقال: يا أمير المؤمنين، وماكنتُ أستطيع أن أقول وقد شهد علي أمثال هؤلاء الرجال وأخذوني وبيدي سكينٌ ملطّخة بالدم والرجلُ يتشحّط في دمِه وأنا قائم عليه؟ وخفتُ الضرب فأقررتُ، وأنا رجلٌ كنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاةً وأخذني البول، فدخلتُ الخربة فرأيتُ الرجل يتشحّط في دمه، فقمتُ متعجّباً، فدخل عليّ هؤلاء، فأخذوني. فأمر أمير المؤمنين أن يأخذوا الاثنين إلى الإمام الحسن(عليه السلام) ليحكم بينهما، فقال الحسن(عليه السلام): ((قولوا لأمير المؤمنين: إنّ هذا ]الرجل الثاني[ إن كان ذبح ذلك ]المقتول[ فقد أحيا هذا ]الرجل الأول[، وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}]المائدة/32[، يُخلى عنهما ويُخرج دية المذبوح من بيت المال))([13]).

وهكذا نرى أنّ حكم الإمام الحسن هو حكم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). وهذه الحكاية على غرار الحكاية السابقة، طبّق فيها أمير المؤمنين(عليه السلام) قاعدة _التوبة أفضل من إقامة الحدّ_ وقد كاد يُقيم الحدّ على الرجل الأوّل لإقراره بالقتل لو لا الرجل الثاني الذي لو كان هو القاتل فقد تاب عن فعله، ولأنّه تسبّب في إلغاء حدّ القتل عن الرجل الأوّل، فقد استحقّ الحياة. أمّا حقّ المقتول فلم يذهب هدراً؛ إذ عُوِّض عن ذلك بالدية من بيت المال.

هذه الحادثة وغيرها الكثير من الحوادث المماثلة ترسم لنا لوحة جميلة يتجلّى فيها حرص الإمام على حقّ الإنسان في الحياة، وإنّ هذا الحقّ مُصان، وأنّ رئيس الدولة هو المسؤول الأوّل والأخير عن تأمين حياة الناس.

وقد ذهب الإمام إلى أبعد ممّا وصلت إليه الشرائع الوضعية في مجال حقوق الإنسان، فقد أسقط الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) الحدّ عن سارق الطعام في عام المجاعة؛ إذ رُوي عنه: ((لا يقطع السارق في أيّام المجاعة))([14])، ونُقل عنه أيضاً أنّه قال: ((لا قطع في عام مجاعة))([15]) لأنّ حياةالإنسان أغلى من كل شيء.

وبناءً على هذه القاعدة أجاز أمير المؤمنين لأهل الميّت أن ينبشوا القبر لاستخراج الكفن عند حاجتهم إليه؛ لأنّه سيسدّ بعض حاجاتهم([16]).

ثانياً: الحقوق الاقتصادية

وهو حقّ الإنسان في إيجاد العمل اللائق، وحقّه في ناتج العمل، وهو يشمل ملكيّته لرأس المال وللإنتاج، وضمن القرآن الكريم للإنسان هذا الحقّ من خلال الآية الكريمة:{لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل (ِ]النساء/29[. وهذا اعتراف صريح بالحقّ في الملكيّة، ومسؤولية الدولة الإسلامية في ضمان هذا الحقّ بتوفير الكسب المشروع للإنسان، وبضمان حرّية التملّك على أساس العمل، وحماية الملكية من اعتداء الآخرين عليها.

وفي سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) في الحُكم نجد الكثير من الشواهد الدالّة على ضمان هذا الحقّ، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في كتابنا ((الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة)).

إلاّ أنّنا سنأتي _بمقدار الضرورة_ على ذكر الشواهد الحيّة.

1ـ توفير الكسب الحلال.

فقد حثّ الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) على العمل، فقال((من أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه))([17]).

وذكر عن سيرة الأنبياء: إنّ الله أوحى إلى داود(عليه السلام): ((يا داود، إنّك نعم العبد لولا أنّك تأكل من بيت المال، ولا تعمل بيدك شيئاً))، قال: فبكى داود أربعين صباحاً، فأوحى الله إلى الحديد: ((أن ألن لعبدي داود))، فلان له الحديد فكان يعمل في كلّ يوم درعاً([18]).

ومن مسؤولية الدولة أيضاً توفير فرص العمل للجميع، فحقّ رعايا الدولة الإسلامية _حتى من غير المسلمين_ ضمان هذا الحقّ. ويُذكر هنا أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) وجد شيخاً أعمى بالبصرة بتصدّق من أموال الناس، فأنكر أمير المؤمنين ذلك فقالوا له: يا أمير المؤمنين، نصراني، فقال الإمام: ((استعملتموه حتى إذا كَبُرَ وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال))([19]).

ومن جانب آخر، فمن حقّ العامل الذي يعمل ضمن العقود الإسلامية أخذ الأجر على عمله، وصاحب العمل مكلّف بأداء هذا الأمر قبل أن يجفّ عرق العامل، وقد أكد أمير المؤمنين(عليه السلام) على ذلك في بداية حُكمه عندما بعث أحداً ليُنادي بين المسلمين باللعن على ثلاثة؛ أحدهم من خان أجيراً على أجرته.

2ـ حقّ الإنسان في الملكية.

وثمرة العمل هو الإنتاج، فكان من حقّ الإنسان أن يمتلك ما أنتجته يداه، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): ((من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديّيه إلى الإمام))([20]).

وهذه قاعدة أرسى معالمها أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأخذها الفقهاء كمستند في تملّك الأرض المحياة.

ويؤكّد هذا النصّ على حقّين؛ الأوّل: حقّ الإنسان في العمل. والثاني: حقّه في تملّك نتائج عمله([21]).

3ـ حماية الملكية من السرقة أو العبث أو ماشابه ذلك.

وقد واجه أمير المؤمنين(عليه السلام) مظاهر التسيّب والعبث بأموال الناس، فقد قضى على صاحب البقرة التي شقّت بطن الجمل بالضمان لأنّه ربطها في طريق الجمل؛ مستنداً إلى حديث رسول الله: ((لا ضرر ولا ضرار))([22]).

ومن طرق حماية الملكية الاقتصادية إقرار الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لقاعدة اليد التي لها آثار كبيرة في الفقه والقضاء الإسلاميّين.

ذُكر أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قال في رجلٍ أبصر طائراً فتبعهُ حتى سقط على شجرة، فجاء رجلٌ آخر فأخذه ((للعين ما رأت ولليد ما أخذت))([23]).

فأصبح الطائر ملكاً لمن أخذه باليد، وسنجد كثيراً من القضايا التي وقعت في عهده(عليه السلام) حكم فيها استناداً لهذه القاعدة التي هي أصلٌ من أصول الملكية.

وبالإضافة إلى مسؤولية الدولة، فعلى المالك أيضاً مسؤولية حماية أمواله؛ لذا دعا أمير المؤمنين(عليه السلام) أصحاب الأموال إبداء ما يستطيعون من شجاعة عند تعرّض أموالهم للانتهاك، يقول(عليه السلام): ((إنّ الله ليمقت الرجل يدخل عليه اللصّ بيته فلا يحارب))([24]).

وخلاصة الأمر، أنّ الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) تعهّد بحماية الحقوق الاقتصادية لرعايا الدولة الإسلامية، وضمن ما يكفل لهم العيش الكريم، فقد ورد عنه: ((أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ: فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم))([25]) والفيء الذي يُوفرهُ الإمام لرعيته هو الخراج، وما يجلب إلى بيت المال، والظاهر أن توفير ذلك إنّما يكون بتهيئة جميع وسائل العمل وميادين الانتاج([26]).

وقد وضع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قاعدة مهمّة يمكن الاستناد إليها في جميع الحقوق الاقتصادية للأمّة؛ وهي: ((والناس كلّهم عيال على الخراج))([27]).

فرسم من خلال هذه القاعدة مسؤولية الدولة في إيجاد العمل المناسب، وفي توفير العيش الكريم لكلّ رعايا الدولة الإسلامية([28]).

قارن بين نص المادة (17) مِن الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواقف أمير المؤمنين(عليه السلام).

ثالثاً: الحقوق الاجتماعية:

وهي تشمل حقّ الإنسان في الزواج وإشباع حاجاته الجنسية، ومن ثمّ إنشاء الأُسرة، وكذلك حقّه في العيش الكريم بعيداً عن أذى الآخرين وتتحمّل الدولة مسؤولية كبيرة في توفير هذا الحقّ وصيانة الفرد اجتماعياً وأُسرياً حتى ينعم بحياة رغيدة.

والحقوق الاجتماعية يمكن لنا أن نستشفّها من خلال الإجابة على هذا السؤال: ماذا يُريد الفرد من المجتمع؟

1ـ يُريد منه تأسيس الأُسرة السعيدة وإشباع حاجاته الجنسية، ولم يكن أمير المؤمنين(عليه السلام) بغافل عن وجود هذه الغريزة، فكان يُسرع في توفير مستلزمات إشباعها كلّما دعت الضرورة إلى ذلك، وهذه نماذج حيّة عن ذلك:

جاءته امرأة فقالت له:

مـا ترى أصلحك الله

 

وأثـرى لـك أهـلا

في فـتـاة ذات بعـلٍ

 

أصـبحت تطلـب بعلا

بعد إذنٍ من أبـيـها

 

أتـرى ذاك حــلا ؟

فأنكر ذلك السامعون، ولعلّهم أرادوا ضربها وتأديبها على كلماتها.. لكنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) عرف ما تبطن هذه الكلمات من شهوة جامحة قاومتها المرأة ستراً على زوجها.

فقال: أحضريني بعلك، فأحضرته، فأمره بطلاقها ففعل، ولم يحتجّ لنفسه بشيء، فقال(عليه السلام): إنّه عنّين، فأقرّ الرجل بذلك، فأنكحها رجلاً من غير أن تقضي عدّة([29]).

ورُوي أيضاً: قضى أمير المؤمنين في امرأة حُرّة دلس لها عبد فنكحها ولم تعلم إلاّ أنّه حرٌ، قال: ((يُفرّق بينهما إن شاءت المرأة))([30])؛ أي أنّها مُخيّرة بين أن تبقى زوجة له أو أن تفترق عنه، فالخيار لها. فالزواج رابطة مُقدّسة تتساقط أمامها كلّ الاعتبارات غير الشرعية.

روى أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني أنّ عبد الله بن أبي بكر أعطى زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل حديقة على أن لا تتزوّج بعده، فلمّا مات من السهم الذي أصابه بالطائف خطبها عمر، فقالت: كان أعطاني حديقة على أن لا أتزوّج.

فقال لها عمر: فاستفتي، فاستفتت عليّاً(عليه السلام)، فقال لها: ((ردِّي الحديقة على أهله وتزوّجي))، فتزوّجت منه([31])؛ لأنّ الزواج رابطة مُقدَّسة لا يستطيع أيّ عقد أو اتّفاق الوقوف بوجهها. فمثلما للمرأة الحقّ في الزواج والعيش الكريم، كذلك من حقّ الرجل الذي يملك مؤونة الزواج أن يتزوّج أيضاً؛ لأنّ الزواج حصانة ضدّ الانحراف.

وحينما شاهد عليٌّ(عليه السلام) شاباً يستمني فضرب على يده حتى احمرّت، ثمّ زوّجه من بيت المال([32]).

لقد وجد الإمام في هذا الشابّ ثورة جنسية عارمة لا يطفئها شيء سوى الزواج؛ لأنّه سيعود مجدّداً إلى ممارسة فعلته إن لم تحل مشكلته حلاً جذرياً، كذلك فإنّ الضرب وحده لا يكفي، بل لا فائدة منه، والحلّ الطبيعيّ يكمن في الزواج، ولمّا لم يكن الشابّ قادراً على الزواج زوّجه الإمام من بيت المال. وهذا يدلّ _بما لا يدع مجالاً للشكّ_ أنّ الزواج حقّ مشروع يجب أن تعمل أجهزة الدولة على تحقيقه([33]).

ومن حقّ الفرد _أيضاً_ أن يعيش في مجتمعه حياةً كريمةً مرفوع الرأس، لا تنالهُ الألسن بالقذف. أو ماشابه ذلك. وعلى الدولة مسؤوليّة تطهير المجتمع، وإزالة الأسباب التي تُنقص من الاحترام المتبادل إذ ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: ((يُعزَّر الرجلُ في الهجاء))([34]).

أمّا لو قذف إنسانٌ إنساناً آخر بابن المجنونة فإنّه يُجلد عشرين جلدة، كما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) ([35]).

ومن أطرف ما رُوي في قضاء أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّ رجلاً قال لرجلٍ على عهده(عليه السلام): إنّي احتلمتُ بأمّك، فرفعه إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وقال: إنّ هذا افترى عليّ، قال: وما قال لك؟ قال: زعم أنّه احتلم بأمّي، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): ((إن شئت أقمته لك في الشمس فأجلد ظلّه، فإنّ الحلم مثل الظلّ))([36]).

ولم يكتفِ أمير المؤمنين بهذا القدر، بل قرّر ضربَهُ حتى لا يُؤذي المسلمين بعد الآن، لأنّ كلامه كان جارحاً وهو شبيه بالقذف، فكان لابدّ من مكافحة حتى هذا القليل من الأذى حتى يصبح المجتمع طاهراً يستطيع أن يأمن فيه الإنسان على ماله وحرماته. وهذا هو ما يُسمّى اليوم بالحقّ العامّ أو حقّ المجتمع.

رابعاً: الحقوق السياسية:

وتشمل الحقّ في المشاركة السياسية، في صنع القرار وفي بناء مؤسّسات الدولة، وكذلك الاعتراض على أعمال المسؤولين في الدولة، وكذلك الحقّ في إنشاء التجمّعات السلمية.

وتنطلق هذه الحقوق في الشريعة الإسلامية من قاعدة الاستخلاف؛ إذ وعد اللهُ المؤمنين ان يجعل منهم خلفاء يحكمون الأرض، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ ]النور/55[، يتبيّن لنا من ضمير ((هم)) في لفظ ﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم ﴾ أنّ جميع الذين آمنوا هم خلفاء دون استثناء، ولهم الحقّ في الشؤون السياسيَّة، ويُلاحظ من يدرس سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) هذه الحقوق جليّة وواضحة([37])

1ـ حقّ المشاركة في بناء الدولة.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): ((وأكثر مُدارسة العلماء، ومناقشة الحُكماء في تثبيت ما صَلَحَ عليه أمرُ بلادِكَ وإقامة مااستقام به الناسُ قبلَك، واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يَصْلحُ بعضُها إلاّ ببعض، ولا غِنى ببعضِها عن بعض؛ فمنها جُنود الله، ومنها كُتابُ العامّة والخاصّة، ومنها قُضاة العَدْلِ، ومنها عُمّالُ الإنصافِ، والرِّفقِ، ومنها أهْلُ الجزية والخراد من أهْل الذِّمَّة ومُسْلِمة الناس؛ ومنها التجارُ وأهل الصناعاتِ، ومنها الطبقة السُّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكُلٌّ قد سمَّى الله له سَهْمَهُ، ووضع على حدِّه] فريضةً في كتابهِ أو سُنَّةِ نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً فيه عِندنا محفوظاً))([38]).

فالمجتمع بجميع طبقاته يجب أن يُساهِم في البناء، فكلاهما؛ المجتمع والدولة، كيانٌ واحد، وكلّ طبقة في المجتمع تشكل جزءاً من هذا الكيان، ولا نعرف مفهوماً للمشاركة السياسية أقوى من المفهوم الذي أكّد عليه أمير المؤمنين(عليه السلام) في قوله وفعله([39]).

2ـ حق المعارضة، والاعتراض والشكوى:

فتاريخ أمير المؤمنين(عليه السلام) حافلٌ بحوادث من هذا القبيل، فالمرأة التي اعترضت على الوالي، قصّتها مشهورة؛ وهي سودة بنت عمارة الهمدانية.

فقد شكت هذه المرأة جور الوالي إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، فأخذ الإمام يبكي ويقول: ((اللّهمّ أنت الشاهد عليّ وعليهم، إنّي لم آمرهم بظُلم خلقك، ولا بترك حقّك)) ثمّ عزله في الوقت([40]).

وحكاية الفلاّحين الذين اشتكوا واليهم، فكتب إليه الإمام(عليه السلام) كتاباً جاء فيه: ((أمّا بعدُ، فإنّ دهاقين أهْلَ بَلدِك شكوا مِنك غِلظةً وقسوةً واحتقاراً وجفوةً، ونَظَرْتُ فلم أرَهُم أهلاً لأن يُدْنوا لشِرْكِهِم، ولا أن يُعصَوْا ويجفَوْا لِعَهْدِهم، فالبس لَهُم جلباباً من اللّين تشُوبُهُ بطرفٍ من الشِّدَّة، وداوِلْ لَهُم بين القسْوةِ والرأفةِ، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والاقصاء، إن شاء الله))[41].

أمّا حكاية أبي الأسود الدؤلي الذي عُزل من القضاء لرفعه صوته فوق صوت الخصم، فاعترض على قرار الإمام قائلاً: لم عزلتني وما خنتُ ولا جنيت؟ قال(عليه السلام): ((إنّي رأيت كلامك يعلو كلام خصمك))([42]).

وما هذه الحكايات إلاّ مؤشر دالّ على طبيعة النظام السياسي الذي أرسى دعائمه أمير المؤمنين(عليه السلام)، والذي آل على نفسه احترام حقوق الناس كاملة، ولا ريب في ذلك فقد كتب إلى أحد ولاته: ((أمّا بعدُ، فإنّما أهلَكَ من كان قبلكُم أنّهم منعُوا الناس الحقَّ فاشتروه وأخذوهُم بالباطل فاقتدَوْه))([43]).فقد كان حكم أمير المؤمنين نقيضاً للحكم الفردي المستبدّ الذي كان عليه نظام الحُكم في الشام، فكان لابُدّ من رسم صورة صالحة عن الإسلام لتمكينه من الانتشار، بعد أن شّوّهتها الممارسات الخاطئة لبني أميّة في عهود سيطرتهم السياسية على البلاد الإسلامية.

3ـ السماح للتجمعات السلمية بممارسة طقوسها:

ظهرت في عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) تشكيلات مختلفة؛ منها المنحرفة سياسياً بمعارضتها للسلطة الحقّة المتمثِّلة بالإمام(عليه السلام)، ومنها المنحرفة عقيدياً، وكان الإمام يعاملها كما يُعامل رعاياه دون أن يستثنيهم بشيء طالما ظلّت هذه التجمّعات سلمية، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال للخوارج: ((لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولم نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا))([44]). لكنّ الأمر يختلف تماماً مع المنحرفين عقيدياً؛ لأنّ عمل هؤلاء يتجاوز مفهوم المعارضة السياسية، فهم خارجون على الدين وليس السلطة، ولربّما كانوا مُساندين للسلطة، من أمثال الذين اعتقدوا بربوبيَّة أمير المؤمنين(عليه السلام) فحتى مع هؤلاء استخدم الإمام شتى الطُرق السلمية والأساليب الفكرية والتربوية لإعادتهم إلى الجادة، وعندما لم تفلح كلّ الوسائل استخدم معهم العنف. جاء في الكافي عن الصادق(عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط([45])، فسلّموا عليه وكلموه بلسانهم، فردّ عليهم بلسانهم ثمّ قال لهم: ((إنّي لست كما قلتم، أنا عبد الله مخلوق)) فأبوا عليه وقالوا: أنت هو([46])، فقال لهم: ((لئن لم تنتهوا وترجعوا عمّا قُلتم فيّ وتتوبوا إلى الله عزّ وجلّ لأقتلنَّكم))، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا، فأمر أن تُحفَر لهم بئر، فحفرت، ثمّ خرق بعضها إلى بعض، ثمّ قذفهم فيها، ثمّ خمر رؤوسها، ثمّ أُلهِبَت النار في بئر منها ليس فيها أحد منهم، فدخل الدخان عليهم فيها فماتوا([47]).وسياسته إزاء المعارضين سياسة واضحة أكّدتها رسائله إلى ولاته، ومنها كتابه إلى عبد الله بن عبّاس؛ وهو عامله على البصرة التي كانت موطن المعارضة، جاء في الرسالة: ((إعلمْ أنّ البصرة مهبطُ إبليس، ومغرِسُ الفِتن، فحادثْ أهْلَهَا بالإحسان إليهم، واحلل عُقدة الخوف عن قلوبهم...))([48]) فأمَرَ واليه باتّباع سياسة اقتصادية وتربوية لتصفية مظاهر الحقد من نفوسهم؛ لأنّ معارضتهم لم تكن واقعية، بل كانت معارضة نفسية قائمة على الحقد.

4ـ الحقّ في المساواة:

وهو من الحقوق السياسية التي جاء بها الإسلام وصدع بها القرآن الكريم في أكثر من آية قرآنية، يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتـــْْقَاكُمْ ﴾ ]الحجرات/13[.

وبذلك كان القرآن الكريم مؤسّساً لفكرة المساواة في مجتمع كان يغرق في مستنقع التناقضات والطبقية. وعندما آلت قيادة الأمّة إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) عمل بهذا المبدأ على أفضل صورة، فكان يساوي بين نفسه وخادمه قنبر، بل كان يؤثره في اللباس الجيّد والطعام المفضّل، كما ورد في سيرته.

وساوى أمير المؤمنين(عليه السلام) في العطاء بين الشريف والوضيع، وبين الغنيّ والفقير، وقد دفع ثمن هذه السياسة غالياً، فثارت عليه الفئات التي كانت تمثّل الطبقة الاستقراطية في البلد، فكانت حرب الجمل، وتمرّد عليه معاوية لأنّه أراد إقصاءه عن الولاية فوقعت واقعة صفّين، وعلى الرغم من كلّ هذه المتاعب التي واجهته فقد ظلّ مصرّاً على تطبيق مبدأ المساواة في الحياة، فكان يقول: ((أأقنع من نفسي بأن يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش))([49]).

وكتب إلى واليه محمّد بن أبي بكر: ((فاخفض لهم جناحك، والِن لهم جنابك، وابسُط لهم وجهك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضُعفاء من عدلِك عليهم))([50]).

ولم ينسَ _حتى آخر لحظة من حياته_ هذه القيم التي استشهد من أجلها، لم ينسَ أن يقول لولده بأن يساووا بينهم وبين قاتله عبد الرحمن بن ملجم في المأكل والملبس، ثمّ يقول للحسن(عليه السلام): ((أحسنوا إساره فإن عشت فأنا وليّ دمي، وإن متّ فضربة كضربتي))([51]).

خامساً: الحقوق الدينية:

المشمولون بهذا الحقّ هم المعاهدون من أهل الذمّة، فهؤلاء هم من رعايا الدولة الإسلامية، وهم سواسية لا يختلفون عن المسلمين في الحقوق الاقتصادية والحقوق الشخصية، لكنّهم يختلفون معهم في بعض الحقوق السياسية. وقد نظّم الحكم الإسلامي _على طول التاريخ الإسلامي_ علاقة إيجابية بين المجتمع الإسلامي وبين أهل الذمّة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً في التسامح الديني. وكان أهل الذمّة يحظون برعاية أمير المؤمنين(عليه السلام) في فترة حكمه، فقد ذكرنا مُشاهدته للرجل المعاهد في البصرة وهو يتصدّق من أموال الناس، وكيف جعل له حقاً في بيت المال.

ولم ينسَ أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يُوصي عامله على الخراج: ((ولا تمسّنَّ مال أحدٍ من الناس، مُصَلٍّ ولا معاهدٍ، إلاّ أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام))([52]).

فالمعاهد الملتزم بقوانين الدولة الإسلامية هو بحكم المُسلم في ضمان حقوقه وممتلكاته وصيانتها.

أمّا حقّهم الديني في ممارسة طقوسهم، فكانوا يجرونها وفق تعاليمهم الدينية، فقد ورد ((أن عليّاً(عليه السلام) كان يستحلف النصارى واليهود في بيعهم وكنائسهم، والمجوس في بيوت نيرانهم))([53]).

وذُكر أنّ عليّاً(عليه السلام) استحلف يهوديّاً بالتوراة التي أُنزلت على موسى(عليه السلام)،فحقوق أهل الذمّة مُصانة طالما ظلّوا ملتزمين بالقوانين الإسلامية، أمّا إذا أخلّوا بها فإنّ عقابهم سيكون أشدَّ من عقاب المسلمين، سيّما في الأمور التي تمسّ الجانب الأخلاقيّ من المجتمع الإسلامي، وذلك لأنّ الدولة الإسلامية، أحسنت إليهم ومنحتهم حقّ الرعاية وهم في الأصل غير مستحقّين لكلّ هذه الرعاية؛ لعدم انتمائهم لعقيدة الدولة، فإذا أذنبوا ذنباً فإنّهم خانوا خيانتين؛ الأولى: خيانتهم للمسلمين بارتكابهم الذنب، وخانوا الأمانة والإحسان الذي أولته لهم الدولة الإسلامية.

وهنا لابُدّ من التنويه إلى أنّ الحقوق الدينية لا تعني الحرية الدينية، فالمسلم الذي اعتنق الإسلام كعقيدة ونظام لا يحقّ له تغيير دينه إلى دين آخر، فإذا فعل ذلك فيُحاسب حساب المُرتدّ ويعاقب عقاباً شديداً.

وعقاب المُرتدّ عقابٌ صارم؛ لأنّه تجاوز حقوق المجتمع، وظلم نفسه عندما غيّر عقيدته بعد الاقتناع؛ لذا كان عقاب المرتدّ عند أمير المؤمنين أنّه: يُعزل عن امرأته، ولا تؤكل ذبيحته، ويُستتاب ثلاثة أيّام؛ فإن تاب، وإلاّ قُتل في اليوم الرابع([54]).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لمُسلم تنصَّر ثمّ رجع: ((قد قبلتُ منك رجوعك هذه المرّة، فلا تعد، فإنّك إن رجعت لم أقبل عنك رجوعاً بعده))([55])؛ لأنّه سيُحاسب حساب المُرتدّ، فالإنسان حرّ في اختيار عقيدته قبل أن يصبح مسلماً، فإذا أسلم فسيكون مُقيَّداً بالإسلام.

سادساً: الحقوق القضائية:

الحقوق القضائية هي ما يجب على القاضي توفيره للمُدّعي والمدّعى عليه حتى يسير القضاء وفق العدالة التي يتوخّاها الجميع، وإذا أخلّت الجهة التي تتولّى القضاء بهذه الحقوق، فإنّ الحُكم الصادر بحقّ المدّعى عليه يكون حكماً جائراً يمكنه استئنافه.

((وقد رعى الإسلام هذه الحقوق في زمن حالك لم تعرف البشرية طعم العدالة والحريّة، وفي زمن لم يكُن لدى العرب في الجاهلية نظام مُحكم للقضاء))([56]).

وتأتي رعاية الإسلام لهذه الحقوق من منظور إنسانيّ واقعيّ، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض، وهو مُركّبٌ من عقل وهوى، وفيه استعداد للخير كما وأنّه قابل للانحراف نحو الشرّ، فإذا ارتكب ذنباً أصبح مُجرماً في نظر القانون إلاّ أنّه يظلّ إنساناً قابلاً للعودة إلى الجادّة.

وأفضل صورة واقعية عن الحقوق القضائية هوما ترجمهُ أمير المؤمنين(عليه السلام) في ممارساته القضائية.

ومن أجل أن نُنظّم هذه الحقوق تنظيماً منطقياً منسجماً مع أهداف الإسلام في القضاء نقسّمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الحقوق التي يجب مراعاتها قبل إصدار الحكم. وهي:

1ـ المساواة في القضاء:

يجب أن يتساوى المدّعي والمدّعى عليه حتى لا يشعر أحد الطرفين بالغبن، فتضعف حجّته، وقد ضرب أمير المؤمنين(عليه السلام) أورع الأمثلة في المساواة.

فقد ساوى بين شخصِهِ واليهوديّ الذي نازعه في الدرع في القصّة المشهورة، وأَمَرَ قُضاته بأن يساووا بين الخصمين ذاكراً العلّة أيضاً في ذلك، فيقول لأحدهم: ((وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء مِن عدلك))([57]).

وكتب إلى شريح قاضيه: ((ثمّ واسي بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك))([58]).

وأكثر أهميّة من ذلك هو المساواة بين أفراد المجتمع أمام القضاء، وقد ضرب أمير المؤمنين(عليه السلام) أروع الصور في المساواة عندما عاتب خازن بيت المال عليّ بن أبي رافع لمّا أعطى إحدى بناته عقد لؤلؤ كعارية مضمونة فقال له: ((لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة لكانت إذاً أول هاشمية قُطعت يدها في سرقة))([59]).

فإذا كان الحاكم لا يُفرّق بين الإنسان العادي وأحد أولاده في تنفيذ الأحكام لهو الحاكم الجدير بحُكم البلاد؛ لأنّه سيُسعِد شعبه بتطبيق العدالة بينهم وتحقيق المساواة([60]).

2ـ تدقيق القاضي وعدم الإسراع في إصدار الحُكم:

يجب على القاضي أن لا يُسرع وأن يتفحّص الشهود بتمعّن ويستمع إلى أقوالهم وأقوال الخصمين بدقّة؛ لأنّ إهمال نقطة صغيرة قد تؤدّي إلى كارثة، وهذا حقٌ مُسلَّم لكلا الخصمين، فالعجلة والسرعة تؤدّيان حتماً إلى هضم الحقوق؛ نضرب مثالين عن دقّة أمير المؤمنين(عليه السلام) وتأنّيه وعدم إسراعه في إصدار الحُكم:

المثال الأوّل: نقله العامّة والخاصّة، ومفاده أنّ امرأة نكحها شيخ كبير فحملت فزعم الشيخ أنّه لم يصل إليها، وأنكر حملها منه، فالتبس الأمر على عثمان، وسأل المرأة: هل افتضّك الشيخ؟ وكانت بكراً، قالت: لا، فقال عثمان: أقيموا الحدّ عليها، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): ((إنّ للمرأة سُمّين، سمّ للمحيض وسمّ للبول، فلعلّ الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سمّ المحيض فحملت، فاسألوا الرجُل عن ذلك))، فسُئل فقال: قد كنت أنزل الماء في قِبلها من غير وصول إليها بالافتضاض، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام) ((الحمل له والولد ولده، وأرى عقوبته في الإنكار)) فصار عثمان إلى قضائه بذلك([61]).

ولو لا تدقيق الإمام في هذه القضية لكان قد حُكِمَ على المرأة بالزّنى.

المثال الثاني: روي أن امرأة هوت غلاماً فدعته إلى نفسها فامتنع الغلام، فمضت وأخذت بيضة وألقت بياضها على ثوبها، ثمّ علقت بالغلام ورفعته إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقالت: إنّ هذا الغلام كابرني على نفسي وقد فضحني، ثمّ أخذت ثيابها فأرت بياض البيض وقالت: ماؤه على ثوبي، فجعل الغلام يبكي ويتبرّأ ممّا ادّعته ويحلف، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام) لقنبر: من يغلي ماءً حتى يشتدّ حرارته، ثمّ لتأتني به على حاله، فيجيء بالماء فقال: ألقوه على ثوب المرأة، فألقوه عليه، فاجتمع بياض البيض والتأم، فأمر بأخذهِ ودفعه إلى رجلين من أصحابه، فقال: تُطعماه والفظاه، فطعماه فوجداه بيضاً، فأمر بتخلية الغلام وجلد المرأة عقوبة على ادّعائها الباطل([62]). فلو لا تدقيق الإمام(عليه السلام) وتأنّيه وأخذ الفرصة الكافية للتحقيق لكانت تهمة الزّنى ثابتة على الغلام من خلال القرائن والظواهر.

3ـ علنية جلسات المحاكمة:

وهي أساس في النظام القضائي المعاصر، وهي حقّ قضائي لصالح المتّهم، سيّما إذا كانت الدولة هي المُدّعى عليها، فالقاضي يستطيع أن يتلاعب بالأحكام كيفما يشاء، ولضمان قضاء عادل طالبت الدساتير بإجراء المحاكمات العلنية لكي تفوّت الفرصة أمام الأغراض الخاصّة لبعض القُضاة.

كما وأقرّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مبدأ علنية جلسات المحاكمة: كلّ شخص مُتّهم بجريمة يُعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانونياً بمحاكمة علنية تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه([63]).

وكانت تجري المحاكمات في عهد الإسلامي بصورة علنية، وكان لأمير المؤمنين(عليه السلام) مكانٌ خاصٌ في مسجد الكوفة يجلس فيه للقضاء.

وعند تتبّع سير القضاء في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) نجد أنّها كانت تجري بين الناس حتى يأخذ الآخرون العبرة منها.

وكان(عليه السلام) يعظ الناس وينصحهم أثناء المرافعة، وهذه الحكاية شاهدٌ على ذلك: حدث في زمن الخليفة عمر أنّ غلاماً طلب مال أبيه من عمر، وذكر أنّ والده كوفيّ بالكوفة، والولد طفلٌ بالمدينة، فصاح في وجهه الخليفة وطرده، فخرج يتظلّم منه فلقيه عليّ(عليه السلام) قال: ((ائتوني به إلى الجامع حتى اكشف أمره فجاءوا به، فسألوا عن حاله، فأخبره بخبره، فقال(عليه السلام): لأحكمنّ فيكم بحكومةٍ حكم الله بها من فوق سبع سماواته، لا يحكمُ بها إلاّ من ارتضاه لعلمهِ))، ثمّ استدعى بعض أصحابه وقال: هات بحجرٍ منه، ثمّ قال: سيروا بنا إلى قبر والد الصبيّ.. إلى آخر القصّة([64]).

وإذا ما دقّقنا في حكاية المرأة التي زنت وطلبت من الإمام أن يُطهّرها، والرجل اللاطي الذي طلب من الإمام تطهيره، ليتبيّن لنا _ بما لا يدع مجالاً للشكّ_ أنّ هاتين الحكايتين وقعتا وسط الناس، وفي مكان عامّ، والطريف في الأمر أنّ بعض الفقهاء قالوا بكراهة إقامة القضاء في المسجد، لكن بعضهم الآخر استدلّ بعمل أمير المؤمنين(عليه السلام) في عدم الكراهية.

فيذكر المحقّق الحلّي أنّ من المكروهات: ((وأنْ يتّخذ المسجد مجلساً للقضاء دائماً، ولا يُكره لو اتّفق نادراً، وقيل: لا يُكره مطلقاً التفاتاً إلى ما عُرِف من قضاء عليّ(عليه السلام) بجامع الكوفة))([65]).

وقد ذكر الفقهاء في آداب القضاء استحباب حضور أهل العلم إلى مجلس القضاء لتصويب القاضي إذا أخطأ، فهؤلاء يُشكّلون عيوناً على القاضي يحصون عليه أخطاءه إذا أخطأ.

وقد منع أمير المؤمنين(عليه السلام) إقامة القضاء في الأماكن الخاصّة لأنّها تكون بعيدة عن أعين الناس وسمعهم، فقد بلغ أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّ شُريحاً يقضي في بيته، فقال: ((يا شُريح، اجلس في المسجد فإنّه أعدل بين الناس، وإنّه وهنٌ بالقاضي أن يجلس في بيته))([66]).

لأنّ المحاكمة في البيت ستكون أشبه بالمحاكمة السرية، وسيكون بمقدور القاضي أن يحكم بما شاء، فتوجّه إليه الاتّهامات، وقد أورد الحرّ العاملي باباً في كتابه تحت عنوان: ((كان علي(عليه السلام) يقضي بين الناس في الأماكن العامّة))([67]).

4ـ مبدأ حرية الدفاع:

وهو مبدأ قرّته الدساتير الحديثة، ولم تعرف البشرية هذا الحقّ إلاّ عند أمير المؤمنين(عليه السلام).

روي أنّ امرأة شهد عليها الشهود أنّهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها ليس ببعل لها، فأمر الخليفة عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللّهمّ إنّك تعلم أنّي بريئة، فغضب الخليفة وقال: وتجرح الشهود أيضاً؟ فقال أمير المؤمنين(عليه السلام) ((ردّوها واسألوها فلعلّ لها عُذراً، فرُدّت)) وسُئلت عن حالها، فقالت: كان لأهلي إبلٌ فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماءً، ولم يكن في إبل أهلي لبن، وخرج معي خليطنا وكان في إبله لبن، فنفد مائي فاستسقيتهُ فأبى أن يسقيني حتى أُمكّنه من نفسي، فأبيتُ، فلمّا كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كُرهاً، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): ((الله اكبر)) )فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ( ]البقرة/173[ فلمّا سمع ذلك الخليفة خلّى سبيلها([68]).

وهذه الحكاية تؤكّد بأنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) هو الذي استحدث هذا المبدأ؛ لأنّ العُرف القضائي السائد هو اعتماد رأي الشهود مع وجود الدلائل، فالمؤشّرات توحي بأنَّ المرأة كانت قد زنت، وجاء الشهود ليشهدوا بذلك، وقد أخذ عمر بالعُرف السائد في مثل هذه القضايا فحكم عليها بالرجم ورفض أن يسمع طعنها في الشهود، لكن مع تطبيق مبدأ حرّية المتّهم في الدفاع عن نفسه تغيّر كلّ شيء؛ حيث ثبت من دفاع المرأة أنها كانت مُجبرة، ولا حدّ على المضطرّ.

القسم الثاني: الاعتراض على قرار القاضي.

وهو حقٌ لم نرَ له وجوداً إلا في عهد الإسلام؛ حيث أعطى للفرد الحقّ في الاعتراض على قرار القاضي وإعطاء أدلّة جديدة تثبت براءته أو إعطاء أدلّة جديدة تثبت حقّاً لصالحه، وقد منح أمير المؤمنين(عليه السلام)هذا الحقّ للشابّ الذي اعترض على حُكم شُريح القاضي في تبرئه الرجال الذين شاركوا أباه في رحلة التجارة حيث قُتل في الطريق، وكان الشابّ على يقين أنّهم هم الذين قتلوه، فاعترض على ذلك الحُكم عند أمير المؤمنين(عليه السلام)الذي قام بتفريق الشهود ومساءلتهم، كلّ على انفراد، حتى اكتشف التناقض في أقوالهم، وبالتالي ثبتت له صحّة اعتراض الشابّ على حكم شريح.

5ـ الإقرار يجب أن يكون عن وعي بالقانون:

وهو حقٌ انفرد به أمير المؤمنين(عليه السلام)، حتى أنّ القانون الوضعي أهمل هذا الجانب([69])، فالذي يرتكب عملاً مخالفاً يُعتبر مُجرماً حتى لو كان لا يعرف بموادّ القانون، وحتى هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تتباهى به الدول الكُبرى في عالمنا اليوم، فإنه غفل عن هذا الحقّ الذي لا نجد في جميع الشرائع والقوانين أحداً أقرّه غير الإسلام؛ وبالأخصّ أمير المؤمنين(عليه السلام)، الذي نجد في سيرته العطرة مصاديق كثيرة تدلّل على احترامه لهذا الحقّ. فقد أتي برجل قد شرب الخمر، فقال له الخليفة أبي بكر: أشربت الخمر؟ فقال الرجل: نعم، فقال: ولم شربتها وهي مُحرّمة؟ فقال: إنّني أسلمت ومنزلي بين ظهراني قومٌ يشربون الخمر ويستحلّونها، ولم أعلم أنّها حرامٌ فأجتنبها، قال: فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال: معضلة، وأبو الحسن لها، فقال أبو بكر: يا غلام ادع لنا عليّاً، فقال عمر: بل يؤتى الحُكم في منزله، فأتوه ومعهُ سلمان الفارسي، فأخبره بقصّة الرجل فاقتصّ عليه قصّته، فقال عليٌّ(عليه السلام) لأبي بكر: ((ابعث معهُ من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار فمن تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شيء عليه)) ففعل أبو بكر ذلك بالرجل. قال عليّ(عليه السلام): ((إنّما أردت أن أجدّد تأكيد هذه الآية فيّ وفيهم:)) ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ]يونس/35[ ([70]).

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يسأل من يقرُّ على نفسه بذنب، هل سمع آية التحريم في ذلك العمل الذي ارتكبه؛ فإذا أقرّ بذلك حكم عليه، وإلاّ ترك سبيله. فالرجل الذي أقرّ على نفسه بالزّنى، فسأله أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد إقراره: ((أتعرف شيئاً من القرآن؟)) فقال: نعم، قال: اقرأ، فقرأ فأصاب، فقال له: ((أتعرف ما يلزمك من حقوق الله تعالى في صلاتك وزكاتك))، فقال: نعم، ولم يكتف الإمام بهذا المقدار من الأسئلة عن مقدار المعلومات الدينية للمتّهم، بل حاول أن يستطلع حالته الصحية والنفسية ذات الأثر في إمكانية الوعي لديه فسأله: ((هل بك من مرض معروف أو تجد وجعاً في رأسك أو شيئاً في بدنك أو غماً في صدرك؟))([71]).

6ـ الإقرار بالذنب بعيداً عن الضغوط:

وهو حقٌ يضمن حكماً عادلاً للأفراد، فالمُقرّ بالذنب يجب أن يتمتّع أثناء اعترافه بذنبه بكامل حرّيته، وأن لا يُمارَس بحقّه أي ضغط من أنواع التعذيب أو الترهيب أو التهييب (استخدام القاضي هيبته لانتزاع الأقوال). وقد ساند أمير المؤمنين(عليه السلام) هذا الحقّ الذي غَفِل عنه القضاء قبل الإسلام وبعده، وأمامنا حشدٌ من الصور الرائعة يمكن للقاضي أن يضعها نصب عينه، ويمكنها لوحدها أن تُشكّل معلماً من معالم القضاء عند أمير المؤمنين(عليه السلام).

أُتي بامرأة حامل إلى الخليفة عمر في ولايته، فسألها فاعترفت بالفجور، فأمر بها أن تُرجم، فلقيها عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: ((أمرت بها أن تُرجم؟)) فقال: نعم، اعترفت عندي بالفجور، فقال: ((هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟)) ثمّ قال له عليّ(عليه السلام): ((فلعلّك انتهرتها أو أخفتها؟)) فقال: قد كان ذلك، قال: ((أو ما سمعت رسول الله يقول: لا حَدَّ على معترف بعد بلاء)) إنّه من قُيّدت أو حُبست أو تهدّدت فلا إقرار له. فخلّى عمر سبيلها، ثمّ قال: عجزت النساء أن تلد مثل عليّ بن أبي طالب. لو لا عليّ لهلك عمر([72]).

تُبيّن لنا هذه الحادثة كم للضغط النفسي من أثرٍ على إقرار المتّهم، وكم لأسئلة القاضي من انعكاس على سير التحقيق وسير العدالة في القضاء. ونستخلص منها مبدأ قضائياً عمل به أمير المؤمنين(عليه السلام)، ويجب أن يُسنّ في التشريعات القضائية في البلاد الإسلامية والمبدأ هو: ((لاحدّ على معترف بعد بلاء))، وهو حديثٌ سمعهُ أمير المؤمنين(عليه السلام) من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فالإقرار الذي يأتي نتيجةً للتعذيب النفسي أو البدني هو إقرارٌ باطل، ولا يجوز الاعتماد عليه في إصدار الأحكام.

القسم الثالث: الحقوق التي يجب مراعاتها عند إصدار الحُكم.

وهي اللحظة الحرجة التي رعاها الإسلام أحسن رعاية، وأعطى لأَطراف الخصومة الفُرصة الكافية لكي تأتي قرارات القاضي قرارات عادلة، وتنقسم هذه الحقوق إلى:

1ـ تفسير الأدلّة لصالح صاحب الحقّ:

فالأدلّة التي يحصل عليها القاضي من إقرار أو شهادة أو ماشابه ذلك تمتاز بالمرونة، فيمكن أن تُفسّر تفسيرات مختلفة، ولمّا كان همّ القاضي هو احقاق الحقّ، فإذا تعيّن لديه صاحب الحقّ فيجب أن يُوجِّه مرونة الأدلّة لصالح صاحب الحقّ.

روي أنّ رجلاً أوصى، ودفع إلى الوصيّ عشرة آلاف درهم، وقال: إذا أدرك ابني فأعطهِ ما أحببت منها، فلمّا أدرك استعدى أمير المؤمنين، قال له: ((كم تحب أن تعطيه؟)) قال: ألف درهم.

قال: ((أعطه تسعة آلاف درهم، وهي التي أحببت وخُذ الألف)).

ورووا أنّ رجلاً حضرته الوفاة، فوصّى بجزء من ماله ولم يُعيّنه، فاختلف الورّاث في ذلك بعده، وترافعوا إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقضى عليهم بإخراج السُبع من ماله، وتلا قوله تعالى: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ ]الحجر/44[، فقد فسّر الجزء بالسبع.

وقضى(عليه السلام) في رجل وصّى فقال: اعتقوا عني كلّ عبدٍ قديم في ملكي، فلمّا مات لم يعرف الوصيّ ما يصنع، فسأله عن ذلك فقال: ((يعتق عنه كلّ عبدٍ ملكهُ ستّة أشهر))، وتلا قوله جلّ اسمه: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾]الأحقاف/15[ ثمّ قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾]البقرة/233[، فحولان مدّة الرضاع وستّة أشهر مُدّة الحمل، فقال عثمان: ردّوها، ثمّ قال: ما عند عثمان بعد أن بعث إليها تردّ.

وقضى في رجل ضرب امرأة فألقت علقة أنّ عليه ديته أربعين ديناراً، وتلا قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ $ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ $ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ ]المؤمنون/14[.

ثمّ قال: ((في النطفة عشرون ديناراً، وفي العلقة أربعون ديناراً، وفي المضغة ستّون ديناراً))([73]).

فيجب أن يكون رأي القاضي مُدعماً بالدليل الشرعي، وأن يكون الدليل حاضراً حتى يستطيع الإجابة عنه متى ما سُئل. طبعاً لم يحصل ولا مرّة أن سُئل أمير المؤمنين عن الدليل؛ لأنّ المسلمين كافّة يعتقدون به اعتقاداً جازماً، وأنّه لا يحكم اعتباطاً، لكن من كان يُريد السؤال كانت الإجابة حاضرة عنده. بل نجده كان يُقدّم الدليل مع الحكم عندما يلاحظ الإمام علامة السؤال كانت الإجابة حاضرة عنده. بل نجده كان يُقدّم الدلل مع الحكم عندما يلاحظ الإمام علامة السؤال وقد ارتسمت في محيّا المُدّعي أو المدّعى عليه.

القسم الرابع: الحقوق الممنوحة لمن يُقام عليه الحدّ:

1ـ مراعاة وضع الجاني وحاله أثناء إقامة الحدّ:

فهناك نظرة إنسانية إلى من يُراد إقامة الحدّ عليه، فيجب أن يكون في حالة سليمة طبيعية، وإلاّ لايُقام عليه الحدّ.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): ((ليس على المستحاضة حدّ حتى تطهر، ولا على الحائض حتى تطهر، ولا على الحامل حتى تضع))([74]).

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يسأل مَن يُراد إقامة الحدّ عليه عن حالته وأوضاعه، سأل مرّة رجُلاً زنى وأراد إقامة الحدّ عليه؛ وهو الرَّجم، سأله أمير المؤمنين(عليه السلام): ((هل بك من مرضٍ معروف أو تجد وجعاً في رأسك أو شيئاً في بدنك أو غماً في صدرك))([75])؛ لأنّه يكفي للجاني أن يتحمّل أذى الحدّ الذي يُجرى عليه، فإذا كانت صحّته غير سليمة فإنّ التبعات تتضاعف، ولمّا كان الإسلام دين الرحمة فلا يُريد أن يضيف على من يُراد إقامة الحدّ عليه ألماً أكثر ممّا يتركه عليه الحدّ.

2ـ العفو عمّن تاب عن جُرمهِ قبل أن تُقام عليه البيّنة:

لأنّ الإقرار قبل البيّنة فضيلة، ولأنّه يشكّل دليلاً قاطعاً على الندم والتوبة، فقد كان باستطاعته أن يتجنب الحدّ بعدم إقراره، لكنّه يقرُّ لإقامة الحدّ عليه، وهذا حقّ يرتبط بقرار الإمام، فهو الذي يعفو ويصفح إذا وجد في ذلك مصلحة عامّة في الإعفاء لإشاعة الصفات الحسنة في الناس، مثلما فعل أمير المؤمنين(عليه السلام) بالقاتل الحقيقي الذي جاء ليعترف بأنّه قتل وبيده السكّين، والذي لم يرَ بُداً سوى الاعتراف على نفسه ولو كذباً، لكنّ الله كشف الحقيقة عندما قذف في نفس القاتل الأصليّ الرحمة والشفقة فجاء ليقرّ أمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بذنبه ولينقذ القصّاب من المحنة، وفي النهاية جاءت النتيجة سليمة للغاية حيث عُفي عن القاتل الحقيقي بسبب توبته([76]).

والحادثة الثانية التي عفا الإمام(عليه السلام) عن مرتكبها حادثة الرجل اللاطي الذي جاء إلى الإمام مقرّاً بذنبه، تائباً إلى الله، طالباً من أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يُقيم عليه أشدّ الحدود؛ وهو الحرق، ثمّ قام وهو باكٍ حتى جلس في الحُفرة التي حفرها له أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يرى النار تتأجّج حوله، فبكى أمير المؤمنين وبكى أصحابه جميعاً، فقال له أمير المؤمنين: ((قم يا هذا، أبكيت ملائكة السماء وملائكة الأرض، وإنّ الله قد تاب عليك، فقُم ولا تعاودنَّ شيئاً ممّا قد فعلت))([77]).

فأمير المؤمنين(عليه السلام)، ومن خلال هذا الموقف، يُريد أن يُشيع فضيلة الإقرار بالذنب والتوبة النصوح في المجتمع، فهو أفضل من إقامة الحدّ _كما جاء في إحدى كلماته(عليه السلام)_ كما مرّ سلفاً.

وهناك حكاية لها مغزى كبير هي: ((جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فأقرّ بالسرقة، فقال له: ((أتقرأ شيئاً من القرآن؟)) قال: نعم، سورة البقرة، قال: ((وقد وهبتُ يدك لسورة البقرة))، فقال الأشعث: أتعطّل حداً من حدود الله؟ قال: ((وما يُدريك ما هذا إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقرّ الرجُل على نفسه فذاك إلى الإمام؛ إن شاء عفا وإن شاء قطع))([78]).

واستدلّ الفقهاء من هذه المواقف الإنسانية لأمير المؤمنين(عليه السلام) ((إنّ للإمام أن يعفو عن الحدّ إذا أقرّ الجاني لا إذا قامت عليه البيّنة))([79]).

3ـ العناية بمن أُقيم عليه الحدّ:

وتتجلّى إنسانية النظام القضائي الإسلامي _أيضاً_ في عنايته بمن أُقيم عليه الحدّ، وتظهر صورة بارزة عن هذه الإنسانية في تعامل أمير المؤمنين(عليه السلام) مع الذين أقام عليهم الحدّ، وفي مايأتي بعض الصور المُشرقة والمواقف الإنسانية للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

أتي بسرّاق فقطع أيديهم، ثم قال: ((يا قنبر، ضمّهم إليك فداوِ كلومهم وأحسن القيام عليهم، فإذا برئوا فأعلمني)) فلمّا برئوا أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، القوم الذين أقمت عليهم الحدود قد برئت جراحاتهم، قال: ((إذهب فأكسِ كلّ واحد ثوبين وآتيني بهم))، فكساهم ثوبين ثوبين، وأتى بهم في أحسن هيئة مشتملين كأنّهم قومٌ محرمون، فمثلوا بين يديه قبالاً، فأقبل على الأرض ينكثها بإصبعه ملياً، ثمّ رفع رأسه إليهم، فقال: ((اكتشفوا أيديكم))، ثمّ قال: ((ارفعوا إلى السماء فقولوا: اللّهم إنّ عليّاً قطعنا))، ففعلوا، فقال: ((اللهم على كتابك وسنّة نبيّك))، ثم قال: ((يا هؤلاء، إن تبتم سلمت أيديكم وإن لا تتوبوا ألحقتم بها، يا قنبر خلّ سبيلهم، واعطِ كلّ واحد منهم ما يكفيه إلى بلده))([80]).

أُتي أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوم لصوص قد سرقوا فقطع أيديهم من نصف الكفّ وترك الإبهام لم يقطعها، وأمرهم أن يدخلوا إلى دار الضيافة، وأمر بأيديهم أن تُعالج، فأطعمهم السمن والعسل واللحم، حتى برئوا فدعاهم، فقال: ((إن أيديكم سبقتكم إلى النار، فإن تبتم وعلم الله منكم صدق النيّة تاب عليكم وجررتم أيديكم إلى الجنّة، فإن لم تتوبوا ولم تفعلوا عمّا أنتم عليه جرّتكم أيديكم إلى النار))([81]).

وهذه الحادثة قد تكون رواية عن الحادثة التي سبقتها، على أيّ حال، يمكننا أن نستنتج منها ومن غيرها من الحوادث، التي هي من هذا القبيل، أنَّ الهدف من إقامة الحدّ ليس الانتقام، بل هو التنبّه لغرض الإصلاح، وبعد أن يعيش المذنب لحظات الألم يتذوّق بعدها حلاوة الرحمة الإسلامية وهي تمدُّ يد الشفقة حتى للمُجرم الذي يُحكم عليه بالموت، بل حتى للذي ارتكب أعظم جريمة في التاريخ وهي قتل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فماذا فعل الإمام بقاتله الذي ضربه على رأسه وهو يؤمُّ المسلمين في صلاة الصبح؟

تقول الرواية: لمّا ضُرب عليّ(عليه السلام)تلك الضربة قال: ((فما فعل ضاربي أطعموه من طعامي وأسقوه من شرابي، فإن عشتُ فأنا أولى بحقّي، وإن متّ فاضربوه ضربة ولا تزيدوه عليها))([82]).

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) قد أوصى أولاده وأقرباءه: ((يا بني عبد المطّلب، لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين، تقولون: قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلنّ بي إلاّ قاتلي، انظر يا حسن إن أنا متّ من ضربتي هذه فاضربه ضربة، ولا تمثّل بالرجل، فإنّي سمعتُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور([83]).

وهذه أروع صورة في عدالة القضاء الإسلاميّ، ونحن لا نجد لهذه الصورة مثيلاً، وقد افتخر المسلمون على مرّ التاريخ بهذه المواقف وقد أشاد بها حتى غير المسلمين، وأصبحت معلماً من معالم الحكم الإسلامي يذكرها كلّ من كتب في النظام السياسي الإسلامي.

المبحث الثاني الحريّات:

أوّل دستور تضمّن فكرة الحريّات هو دستور الولايات المتّحدة الذي وُضع أواخر القرن الثامن عشر، وبعده بعقود أقرّ الدستور الفرنسي ذلك لكن قبل ذلك باثني عشر قرناً كان الإسلام قد أقرّ وعلى لسان قرآنه الكريم ونبيّه المرسل وخلفائه الصالحين، هذا المبدأ، وجعله قاعدة وركيزة من ركائز الحياة السياسية والاقتصادية.

والحريّة التي جاء بها الإسلام تُعيّن المسؤولية بخلاف الحريّة الغربية التي أطلقت العنان للإنسان لينفلّت من كلّ القيود.

المطلب الأوّل: مفهوم الحريّة:

هناك تعريفات عديدة للحريّة أفضلها ما ورد في الموسوعة الاجتماعية: ((الاستخدام العامّ لمصطلح الحريّة يُشير إلى التحرّر من القيود التي يفرضها شخص معيّن على شخص آخر، ينطوي هذا المصطلح على الكثير من التعريفات بعضها يُساير المعنى الشائع للحريّة، أمّا البعض الآخر فإنه يميل إلى القول بأنّ الحرّية في الواقع تتوقّف على، وجود الظروف أو الفُرص الضرورية التي تسمح بالتطوّر ونموّ قدرات المرء... وقد أخذ فلاسفة النازية والفاشية هذه الفكرة لتدعيم حكم هتلر وموسوليني، ويُعدّ كُلُّ من هوبز (Hobbes) وهل (Hill) من بين الذين تناولوا مفهوم الحريّة بمعناه الشائع، فالإنسان الحرّ في رأي هوبز هو الذي يستطيع أن يفعل ما يُريد بإرادته وقدراته، ويؤكّد البعض من ناحية أخرى أنّ الحريّة تُشير إلى أسلوب محدّدة في الحياة يمثّل في القيام بالأفعال التي تتطابق مع القانون الأخلاقي أو المنطق، وقد ذهب كارليل (Cairlale) في هذا الصدد إلى أنّ الإنسان الحرّ هو الذي يستطيع أن يكتشف الطريق الصحيح وأن يسير عليه، والحريّة الأخلاقية عن جريم (Green) هي تحديد الإرادة بواسطة العقل، أمّا هيغل على تحقيق الحريّة طالبما أنّ الفرد يجد ذاته من خلال خدمة الدولة))([84])، وعَرَّفَها مونتسكيو بأنها: حقّ صنع جميع ما تُبيحه القوانين، فإذا استطاع أحدٌ أن يصنع ما تحرّمه القوانين فقد الحرّية (سلبها)، وذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما صنع([85]).

هذه هي الحريَّة في الفكر الغربي، أمّا في الفكر الإسلامي:

يقول الراغب الأصفهاني: ((والحُرُّ خِلافُ العَبْدِ... والحرّيةُ ضربان، الأوّل: من لم يجْرِ عليه حكْمُ الشيء؛ نحو (الحرُّ بالحُرُّ)، والثاني: مَنْ لم تتملكه الصفات الذميمة مِن الحرص والشّرهِ على المقْتنيات الدنيوية، وإلى العبودية التي تُضادُّ ذلك أشار النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بقوله: ((تَعِسَ عبدُ الدِّرْهم، تَعِسَ عبدُ الدينار))([86]).

واستخلص الشيخ السبحاني من الأحاديث والروايات هذا المعنى للحرّية: ((الحرّية تعني أن يكون الجوّ الاجتماعي بنحوٍ يستطيع كل فردٍ من أفراد المجتمع من إخراج مواهبه وقابليّاته إلى منصَّة الظهور دون أن يمنعهُ مانع، أو يحجزهُ حاجز يقف دون ظهور المواهب ويمنع من نموّ الاستعدادات)). ثمّ يُضيف:

((وقد جاء الأنبياء والمرسلون لمثل هذه المهمة الكبرى، فهم جاءوا ليرفعوا جميع الموانع والحواجز من بين أيدي البشرية، ويخلقوا بيئة حرّة لا مكان فيها للسدود والقيود حتى يستطيع كلّ فرد أن يصل إلى كماله المنشود ويُنمّي مواهبه))([87]).

مفهوم الحرّية عند أمير المؤمنين(عليه السلام):

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): ((الجاهل عبد شهوته))([88]).

وقال أيضاً: ((لا يسترقنّك الطمع وقد جعلك الله حُراً))([89]).

فأوّل خطوة على طريق الحرية هي الخروج من ربقة الشهوات والأهواء والطمع، وبعدها تأتي الخطوة الثانية.

ثانياً: الخروج من سلطة الاستبداد الخارجي:

سواء كان من نوع السلطة السياسية أو النفوذ الاقتصادي أو العادات الاجتماعية، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): ((الحرّية مُنزّهة من الغلّ والمكر))([90]).

ويقول لولده الحسن: ((لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حُرّاً))([91]).

والمقصود به هو العبودية للأشخاص؛ لمقامهم السياسيّ أو قُدرتهم الاقتصادية. ويضع أمير المؤمنين(عليه السلام) قاعدة رسّخها الزمن؛ وهي: ((الناس كلّهم أحرار))([92])، وقد أعلن الإمام هذه القاعدة قبل أن تعلن الأمم المتّحدة في ميثاقها المشهور، الذي نصّ في مادّة الأولى على ما يأتي: ((يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء))([93]).

المطلب الثالث: أنواع الحرّيات:

نستخلص من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) أنواعاً معيّنة من الحرّيات، التي ثبت وجودها وحرص عليها، وهذه الحرّيات هي:

1ـ حرية ابداء الرأي.

2ـ الحريّة الشخصية.

3ـ الحرّية السياسية (المعارضة).

أولاً: حرّية الرأي:

جاء في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: لكلّ شخص الحقّ في حرّية الرأي والتعبير([94]).فإذا كانت الحضارة المعاصرة تفتخر بسنّها لهذا المبدأ الذي لا يعتبر أكثر من توصية، فإنّ الإنسانية فخورة بسيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي وضع المبدأ موضع التنفيذ العمليّ في فترة حكمه العادل.

قال أبو زهرة شيخ الأزهر، بشيء من الزهو، ((وكذلك كان الأمر بالنسبة لعليّ _كرّم الله وجهه_ فقد كان يصدع بالكلمة النابية، فلا يجد في ذلك ما يُوجب عقاباً، ولقد كان يكون على المنبر فيقاطعه مخالفوه يرمونه بالكفر فلا يُفكّر في عقابهم، وإنّه ليذكر أنّهم رموه بالكُفر قائلين له: لا حكم الاّ لله، فيقول لهم هادئاً مطمئنّاً: ((كلمة حقّ يُراد بها باطل))، نعم نّه لا حُكم إلاّ لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلاّ لله، وإنّه لابُدَّ للناس من أمير برٍّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمنين، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الأجل، ويبلغ فيها الفتى، ويُقاتل به العدوّ، وتأمن به السُبل، ويؤخذ به الضعيف من القويّ، حتى يستريح بر ويُستراح من فاجر.

ثم يستنتج من جملة حوادث كان ذكرها: ((وبهذا نرى أنّ علي بن أبي طالب _كرّم الله وجهه_ ما عاقب على إبداء الرأي ما دام الرأي ليس كُفراً))([95]).

ووصلت الحرّية في عهد الإمام(عليه السلام) إلى أوجها؛ حيث ظهرت في عهدة المعارضة السياسية والعقيدة، ومن أبرزها _بالطبع_ حركة الخوارج.

لنتمعَّن في هذا الحوار الذي دار بينه وبين قادة الخوارج لنستنتج كيف نمت هذه الحركة.

ذكر الطبري: ((لمّا أراد عليّ أن يبعث أبا موسى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج، زُرعة بن البُرج الطائي وحرقوص بن زُهير السعدي، فقالا: لا حُكم إلاّ لله، فقال عليّ: ((لا حُكم الاّ لله)). وقال حرقوص بن زُهير: تُب مِن خطيئتك وارجع من قضيتك وأخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا، فقال عليّ: ((قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً، وشرطنا شروطاً، وأعطينا عليها عهوداً))، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ ]النحل/91[.

فقال حرقوص: ذلك ذنبٌ ينبغي أن تتوب عنه، فقال عليّ: ((ما هو ذنب، ولكنّه عجزٌ عن الرأي، وقد نهيتكم))، فقال زُرعة: يا عليّ، لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنّك، أطلب وجه الله تعالى، فقال عليّ: ((بؤساً لك، ما أشقاك، كأنّي بك قتيلاً تُسفى عليك الرياح))، قال: وودت كان ذلك، فخرجا من عنده يحكمان([96]).

ووقف يزيد بن عاصم المجازي أمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ليقول: يا عليّ، أبا القتل تخوّفنا؟ أما والله إنّي لأرجو أن نضربكم بها عمّا قليل غير مصفحات، ثمّ لتعلم أيّنا أولى بها صليّا([97]). وقد جئنا على ذكر كلام يزيد لندلّل من خلاله على مدى ما بلغه عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) من الحرّية السياسية، وإلى أي حدٍّ بلغ تمادي بعضهم في استغلال تلك الحرّية الممنوحة في عهده(عليه السلام).

ثانياً: الحرّيات الشخصية:

وهي أن يصبح بمقدور الفرد أن يتصرّف في شؤون نفسه، وفي كلّ ما يتعلّق بذاته آمناً من الاعتداء على نفسه أو عرضه أو ماله أو داره، وهي تشمل حرّية التنقّل واختيار محلّ الاقامة، وحرّية الزواج عند بلوغه سنّ الرُشد، وحرّية التملك، وما إلى ذلك من الحرّيات.

وقد ورد في الإعلان العالميّ لحق 2/195وق الإنسان بعض من هذه الحرّيات في الموادّ (13ـ16ـ17)، وهي حرّيات مضمونة في الدستور الإسلامي، فقد ورد في القرآن الكريم تأكيدٌ على هذه الحرّيات، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾]الجمعة/10[.

ويقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ ]النساء/97[.

من هنا، فلا يحقّ لأحد أن يمنع إنساناً من التنقّل من مكانٍ إلى آخر.

وقد ضرب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أروع الأمثلة في توفير الحرّيات الشخصية، فقد جاءه طلحة والزُّبير واستأذنا منه الذهاب إلى مكّة، فأذن لهما، وهو يعلم أنّهما قد نويا شرّاً، لنستمع إلى هذا الحوار بينه وبين ابن عبّاس.

قال ابن عبّاس: رأيت طلحة والزبير.

قال أمير المؤمنين: ((إنّهما استأذنا في العمرة فأذنت لهما بعد أوثقت منهما بالأَيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يُحدثا فساداً)).

ثم أطرق الإمام برأسه، بعد هنيئة واصل قائلاً: ((إنّي لأعلم أنّهما ما قصدا إلاّ الفتنة فكأنّي بهما قد سار إلى مكة ليسعيا إلى حربي)).

فقال ابن عبّاس بأدب بالغ، كاظماً غيظه في قلبه: إن كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوماً فلِمَ أذنت لهما؟ هلاّ حبستهما وأوثقتهما بالحديد، وكفيت المؤمنين شرّهما! فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): ((يا ابن عبّاس، أتأمرني بالظُلم، أبدأ بالسيّئة قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظنّة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل كونه، كلاّ _والله_ لا عدلت عمّا أخذ الله عليّ من الحُكم والعدل، ولا ابتدئ بالفصل))([98]).

وبهذا الموقف الخالد الذي دفع الإمام ضريبته غالياً فيما بعد، أرسى أمير المؤمنين مبدأ حرّية التنقّل حتى لمن يُشَمُّ منهم رائحة الفتنة، عملاً بكتاب الله وسنّة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم)، تقول المادّة الثالثة عشرة من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: لكلّ فردٍ حرّية التنقّل واختيار محلّ إقامته داخل حدود كلّ جولة([99]).

فالحرّية الشخصية مُصانة إلاّ إذا اعترضت حقوق الآخرين وحريّاتهم، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: ((وإذا دخلت دار قوم بإذنهم فعقرك كلبهم فهم ضامنون، وإذا دخلت بغير إذن فلا ضمان عليهم))([100])، لأنّهم أحرارٌ في بيوتهم يستطيعون أن يتصرّفوا فيها كما يحلو لهم، فإذا ورد عليهم ضيف كان عليهم أن يرفعوا عن طريقه الموانع، فإذا عقر كلبهُم الضّيف فهم ضامنون، أمّا إذا دخل شخص إلى بيتهم بلا إذن منهم فهو قد تجاوز حدوده واعتدى على حرّيتهم، فإذا عقره كلبُهم فلا ضمان عليهم لأنّه متجاوز.

وروي _أيضاً_ أنّ رجلاً قال لرجلٍ على عهد أمير المؤمنين(عليه السلام): إنّي احتلمتُ بأمّك، فرفعه إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وقال: إن هذا افترى عليّ، فقال: ((وما قال لك؟)) قال: زعم أنّه احتلم بأُمّي، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام) في العدل: ((إن شئت أقمتهُ لك في الشمس فأجلد ظلّه، فإنّ الحلم مثل الظلّ، ولكنّا سنضربه حتى لا يعود ويؤذي المسلمين))([101]).

فمن حقّ الفرد أن يقول ما يشاء إلاّ المساس بالآخرين، فحرّيته تنتهي عندما تبدأ حرّيتهم. فهذا الرجل استغلّ حرّيته فتطاول بالكلام على شخص آخر مُسَبِّباً له الأذى، فشكا إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقام الإمام بتأديبه حتى لا يعود إلى تكرار هذا العمل الذي فيه تطاولٌ على حقوق الآخرين، فالحرّيات تبدأ في اللحظة التي يقرّر فيها الإنسان استخدام إرادته في ما يراه مناسباً، وتنتهي عندما تتعارض حرّيته وحقوق الآخرين.

ثالثا: الحرّيات السياسية:

وهي الحرّيات التي تكفل للأفراد اتّخاذ المواقف السياسية، والقيام بالعمل السياسي ضمن مجموعات متعاقدة على شكل أحزاب وجمعيّات.

وقد أباح الإسلام هذه الحرّيات، بل أكّد على مشروعيّتها، بل وضرورتها أيضاً، عندما صدع قائلاً: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾]آل عمران/104[.

وقد استنبط العلماء من الآية هذه الأفكار:

1ـ تقرير الآية ضرورة قيام جماعة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2ـ ولهذه الجماعة قُدرة تنفيذية بدليل أنّها تأمر وتنهى، ولا يمكن أن يكون هناك أمرٌ ونهيٌ من دون وجود القوّة.

3ـ إنّ هذه الجماعة تنبثق من القاعدة العريضة للأُمّة، واستناداً لهذه الآية، فقد أجاز العلماء تكوين الجمعيات والأحزاب لمراقبة الدولة.

ومهمّة هذه الجماعات المنبثقة من الأمّة هي تقديم النُصح للدولة ومواجهة الانحرافات التي ترتكبها السلطات بأساليب تؤدّي إلى التقليل منها أو إزالتها.

هذا في حالة وجود حُكمٍ جائر، وعندما يكون الحاكم عادلاً فإن مسؤولية هذه الجماعة هي النُصح، فقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ((إنما الدين النصيحة))، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم))([102]).

والنُصح هنا بمعنى إخلاص العمل، وإخلاص الطاعة للحاكم الإسلامي المشروع، وتأصيلاً للأهداف الحكم الإسلامي في بناء المجتمع على استخدام الإرادة، وليرفع من مستوى الوعي السياسيّ للمجتمع الإسلامي، هذا الوعي الذي لا يتحقّق إلاّ بوجود الحريّات السياسية. وبالرغم من عدم وجود الحاجة إلى هذا النمط من الحرّيات في ظل الحُكم العادل إلاّ أنّنا وجدنا أمير المؤمنين(عليه السلام) يعمل على تثبيت هذه الحرّيات في المجتمع الإسلامي، وهو بهذا العمل يحصّن المجتمع الإسلاميّ من خطر الحكومات المنحرفة والظالمة. ونستطيع أن نصنّف الحريات السياسية الممنوحة في عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى قسمين:

الأوّل: حرّية اتّخاذ الموقف السياسي: وكان أوّل موقف سياسيّ اتّخذه بعضهم هو الامتناع عن مبايعة أمير المؤمنين(عليه السلام)؛ فقد أتوا بسعد بن أبي وقّاص، فقال له الإمام: ((بايع))، قال: حتى يُبايع الناس، والله ما عليك منّي بأس، فأراد الصحابة أن يُرغموه على البيعة، فنادى فيهم الإمام.. ((خلّوا سبيله)).

وجاءوا بعبدالله بن عمر، فقالوا: بايع، فقال: لا، حتى يُبايع الناس، فقال(عليه السلام): ((إئتني بكفيل))، قال: لا أرى كفيلاً، فقال الأشتر: دعني أضرب عُنقه، فقال الإمام: ((دعوه، أنا كفيله)).

وكان أمير المؤمنين يقول عن بيعة طلحة والزُبير: ((بايعني فيمن بايعني طلحة والزُبير ولو أبيا ما أكرهتهما، كما لم أُكره غيرهما))([103]).

فرفضُ المبايعة هو موقفٌ سياسيّ واضح المعالم والأهداف، وهو يعني رفض الحاكم والسلطة الحاكمة.

أمّا في مجال العمل السياسيّ، فقد سمح الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) للتجمّعات مع تيقّنه أنّها تجمّعات مُنحرفة بالعمل السياسيّ؛ لأنّه على يقين _أيضاً_ بأنّ الحرّية على أضرارها المؤقّتة هي أنفع من الاستبداد؛ لأنّها ستفتح _في النهاية_ طريق الهداية أمام المستفيدين منها.

الحرّية السياسية مشروعة طالما لم تصل إلى درجة حمل السلاح، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) للخوارج الذين خرجوا عليه: ((لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولن نقاتلكم حتى تقاتلوننا))([104]).

فهنا يمدُّ الإمام يده إلى جناح المعارضة فيمنحهم الحرّية الكافية في العمل، والحضور إلى الأماكن العامّة، ولهم الحقّ _أيضاً_ في الفيء حالهم حال بقيّة المسلمين، لكن إذا حملوا السلاح وقاتلوا المسلمين تسقط جميع حقوقهم. وهذا ما فعله أمير المؤمنين(عليه السلام) مع تجمّع الخوارج، فقد قاتلهم عندما سفكوا الدماء المُحرّمة استباحوا الحُرمات. هذا هو موقف الإمام من المعارضة، فهو لم يقاتلهم إلاّ بعد أن نفّذوا أهدافهم ولم يقاتلهم لمجرد معارضتهم له، ولم يعاقبهم لأنّهم نووا مقاتلته، كما تفعل الحكومات اليوم حيث تُلقي بالسجن وتُعذّب كلّ من تشكّ بأنّه نوى معارضة الدولة.

ولتوضيح هذا الموقف الثابت عند أمير المؤمنين(عليه السلام)نأتي على ذكر هذه الحادثة، والتي ذكرها شيخ الأزهر أبو زُهرة في كتابه ((الجريمة)).

عن الحضرمي أنه قال: ((دخلتُ مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة، فإذا نفرٌ خمسة يشتمون عليّاً _رضي الله عنه_ وفيه رجلٌ عليه برنس يقول: أعاهد الله لأقتلنَّه، فتعلّقتُ به وتفرّقت أصحابه عنه، فأتيتُ به عليّاً _رضي الله عنه_ فقلت: إنّي سمعت هذا يُعاهد الله ليقتلنّك، فقال له: ادنُ ويحك! من أنت؟ فقال: أنا سوار المنقري، فقال عليّ رضي الله عنه: ((خلِّ عنه))، فقلتُ: أخلّي عنه وقد عاهد الله ليقتلنّك؟ قال عليّ: ((أفأقتله ولم يقتلني))، قلتُ فإنّه قد شتمك، قال: ((فاشتمه إن شئتُ أوأدعهُ))([105]).

حريُّ أن تُكتب هذه القصة بماء الذهب وتُعلّق في قصور الملوك والرؤساء؛ لكي تكون درساً لهم، فيتعلّموا من أمير المؤمنين(عليه السلام) كيف يجب أن يتعامل الحاكم مع معارضيه.

المصادر والمراجع:

1. الآمدي (عبد الواحد التميمي)؛ غرر الحكم ودرر الكلم؛ فهرسة مصطفى درايتي، مكتب الاعلام الإسلامي، قم ابن أبي الحديد.

2. ابن أبي الحديد؛ شرح نهج البلاغة؛ دار احياء التراث العربي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع القاهرة.

3. ابن الأثير (عز الدين أبو الحسن بن علي)؛ الكامل في التاريخ؛ دار صادر، بيروت.

4. ابن شهر آشوب (رشيد السروي)؛ مناقب آل أبي طالب، طهران.

5. ابن عبد ربه؛ العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1953م.

6. الاربلي (علي بن عيسر) (687)، كشف الغمة في معرفة الأئمة، نشر أدب الحوزة، قم، 1346هـ.

7. الأنصاري (الشيخ مرتضى)؛ القضاء والشهادات المكتبة، الفقهية، ط1، قم، 1410.

8. التستري (محمد تقي)، قضاء أمير المؤمنين، منشورات الشريف الرضي ط5، قم.

9. الثقفي (أبو هلال إبراهيم)، الغارات، دار الكتاب الإسلامي، ط1، قم 1990م.

10. الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق عبد الرحيم المرباني، دار احياء التراث العربي، بيروت.

11. الحلي (المحقق) أبو القاسم نجم الدين، جعفر بن الحسن (676)، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، انتشارات الاستقلال، طهران.

12. الراغب الأصفهاني (520)، مفردات الفاظ القرآن، تحقيق محمد سيد كلاني، ط2، المكتبة المرتضوية.

13. الراوندي (هبة الدين سعيد بن عبد الله) (573)، فقه القرآن، سلسلة الينابيع الفقهية، ط، طهران 1406.

14. زيدان (عبد الكريم)، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، ط1، مطبعة العاني، بغداد، 1984.

15. الصهرشتي (نظام الدين سليمان بن الحسن) اصباح الشيعة بمصباح الشريعة، سلسلة الينابيع الفقهية، طهران 1406.

16. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار سويدان، بيروت.

17. الطحاوي (سليمان محمد)، السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الإسلامي، دار الفكر العربي، 1967.

18. الطوسي: شيخ الطائفة (أبو جعفر محمد بن الحسن) (460 هـ) تهذيب الأحكام في شرح المقدمة، دار الكتب الإسلامية، طهران.

19. فقاهتي (ميرزا عبد الرحيم الزنجاني)، كتاب القضاء، مكتبة المرتضوي، طهران.

20. القرشي (باقر شريف)، العمل وحقوق العامل في الإسلام، دار التعارف، مصر، 1966.

21. الكليني (أبو جعفر محمد بن يعقوب)، الكافي (الروضة) المكتبة الإسلامية، قم.

22. المجلسي (محمد باقر)، بحار الأنوار الجامع لدرر الأخبار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983.

23. المفيد (محمد بن النعمان 413هـ)، الارشاد، دار التيار الجديد، دار المرتضى، لبنان.

24. الموسوي (محسن)، دولة الإمام علي، دار البيان العربي، ط1، 1993.

25. النسائي، (أحمد بن شعيب)، سنن النسائي، دار احياء التراث العربي، بيروت.

26. النوري، مستدرك وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، بيروت.

الهوامش

 


 

[1]_ الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 125.

[2]_ كاتوزيان، ناصر مقدّمة علم حقوق (فارسي)، ص:1.

[3]_ مرتضى الأنصاري، القضاء والشهادات _ الينابيع_، ص495.

[4]_ الصهرشتي، اصباح الشيعة، ص110.

[5]_ الراوندي، فقه القرآن، ص193.

[6]_ الآمدي، غرر الحكم: 3/370.

[7]_ المصدر نفسه.

[8]_ المفيد، الإرشاد، ص: 97 _ 98، والمجلسي، بحار الأنوار: 40/251، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1/494.

[9]_ الإرشاد، ص: 98، والمناقب: 1/497.

[10]_ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص:51.

[11]_ الكليني، الكافي: 7/185 _ 187.

[12]_ الكليني، الكافي: 7/185 _ 187.

[13]_ الكليني، الكافي: 7/289_290.

[14]_ الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 25، أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

[15]_ المصدر نفسه.

[16]_ قارن بين مذهب أمير المؤمنين7في حقّ الإنسان في الحياة، وبين ما جاء في المادّة (435) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: لكلّ فردٍ الحق في الحياة والحرّية وسلامة شخصه (انظر: ص:19 من الوثيقة).

[17]_ اكتفى الاعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة (23) بالقول: لكلّ شخص الحقّ في العمل، ص 24 من الوثيقة.

[18]_ المجلسي: بحار الأنوار: 14/13، رواية 21.

[19]_ الحرّ العاملي: وسائل الشيعة: 11/49.

[20]_ صحيحة ابن خالد الكابلي عن الإمام الباقر7: وجدنا في كتاب عليّ7 ثمّ ذكر الحديث: راجع التهذيب: 4/145، رواية 26.

[21]_ اكتفى الاعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة (23) بالقول: لكلّ شخص الحقّ في العمل، ص24 من الوثيقة.

[22]_ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 196.

[23]_ المصدر نفسه، ص61.

[24]_ الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 46، جهاد العدو، حديث 22.

[25]_ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2/192.

[26]_ القرشي، العمل وحقوق العامل، ص327.

[27]_ باب الرسائل، رقم 53.

[28]_ ورد في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان المادّة ((17)): لكلّ شخص حقّ التملّك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسّفاً، ص 22 ـ 23.

[29]_ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1/492 _ 493، والمجلسي في بحاره: 40/227.

[30]_ الكليني، الكافي: 5/42، الحديث2.

[31]_ الأصفهاني، الأغاني: 18/60.

[32]_ الحرّ العاملي، الوسائل، الباب3: نكاح البهائم، الحديث2.

[33]_ الحرٌ العاملي، الوسائل، الباب3: نكاح البهائم، الحديث2.

[34]_ الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 19 حدّ القذف، حديث5.

[35] _ المصدر نفسه، حديث 3.

[36] _ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص36.

[37] _ سنفرد له بحثاً مفصّلاً.

[38] _ باب الرسائل، رقم 53.

[39] _ قارن بين ما عُرف عن أمير المؤمنين7 في هذا المجال وبين ما ورد في المادّة (21) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: لكلّ فردٍ الحقّ في الاشتراك في إدارة الشؤون العامّة لبلاده إمّا مباشرة وإمّا بواسطة ممثّّلين يختارون اختياراً حُرّاً (المواثيق الدولية، ص23).

[40] _ ابن عبد ربّه، العقد الفريد: 1/211.

[41] _ باب الرسائل، رقم 19.

[42] _ النوري، المستدرك: 17/359، رواية رقم 21581.

[43] _ باب الرسائل، رقم 79.

[44] _ ذكره أبو زُهرة في كتابه الجريمة، ص 163.

[45] _ الزط: قوم من الهنود والسودان.

[46] _ يعنون أنه الله _ والعياذ بالله_.

[47] _ الكليني الكافي: 7/259، الحديث23.

[48] _ باب الرسائل، رقم 18.

[49] _ باب الرسائل، رقم 45.

[50] _ باب الرسائل: رقم 27.

[51] _ ذكره أبو زُهرة مستشهداً به على عظمة النظام الإسلاميّ في إعطائه حقوقاً كافية حتى للمجرمين، انظر كتابه: الجريمة، ص259.

[52] _ باب الرسائل: رقم 51.

[53] _ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: 18/219.

[54] _ فقاهتي، كتاب القضاء، ص85.

[55] _ الوسائل، الباب 3: حدّ المرتد، الحديث5.

[56] _ الطحاوي، السلطات الثلاث، ص33.

[57] _ باب الرسائل: رقم 46.

[58] _ الأنصاري، القضاء، ص113.

[59] _ الأنصاري، القضاء، ص 113.

[60] _ تُشير المادّة (7) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: كلّ الناس سواسية أمام القانون (المواثيق الدولية، ص 20)، قارن بين هذا النصّ وبين موقف الإمام من عليّ بن أبي رافع الذي أصبح مضرباً للأمثال في المساواة. وكل من تحدّث في هذا الموضوع لم ينسَ أن يُشير إلى موقف أمير المؤمنين7، بل الكثير اسندوا إلى مساواة أمير المؤمنين7 لإظهار عظمة القضاء الإسلاميّ (انظر: علم القانون والفقه الإسلامي، ص303).

[61] _ المفيد، الإرشاد، ص: 101ـ102، وابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1/50 _ 51.

[62] _ المفيد، الإرشاد، ص: 105، وابن شهر آشوب، المناقب: 1/498.

[63] _ المفيد، الإرشاد، ص: 105، وابن شهر آشوب، المناقب: 1/491ـ492.

[64] _ راجع: ابن شهر آشوب، المناقب: 1/491 _ 492.

[65] _ المحقق الحلّي، شرائع الإسلام 2/195.

[66] _ النوري، المستدرك، كتاب القضاء آداب القاضي، الباب 11، الحديث3.

[67] _ الحرّ العاملي، الوسائل: 11/157.

[68] _ المفيد، الإرشاد، ص 99.

[69] _ يذكر ناصر كاتوزيان: بعد انتشار القانون وحلول موعد تنفيذه لا حقَّ لأحد عدم اطلاعه عليه.

[70] _ الكليني، الكافي: 7/249.

[71] _ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 25.

[72] _ الأربلي، كشف الغمّة، ص 33.

[73] _ المفيد، الإرشاد، ص 107.

[74] _ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 5.

[75] _ المصدر نفسه، ص 25.

[76] _ انظر: الكليني، الكافي: 7/289 _ 290.

[77] _ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 29.

[78] _ المصدر نفسه، ص 30.

[79] _ المصدر نفسه، ص 29.

[80] _ الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 30: حدّ السرقة، الحديث 3.

[81] _ المصدر نفسه، الحديث 4.

[82] _ كشف الغمة، ص57.

[83] _ المصدر نفسه، صفحة 578.

[84] _ غيث، قاموس علم الاجتماع، ص 194.

[85] _ مونتسكيو، روح القوانين، 1/226.

[86] _ الراغب الأصفهاني، المفردات، ص111.

[87] _ السبحاني (جعفر)، مفاهيم القرآن ]معالم الحكومة الإسلامية[، ص 447.

[88] _ المصدر نفسه 1/123.

[89] _ المصدر نفسه: 6/98.

[90] _ الآمدي، الغرر: 1/385.

[91] _ باب الوصايا، رقم 31.

[92] _ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: 3/234.

[93] _ المواثيق الدولية، ص 18.

[94] _ المواثيق الدولية، المادّة 19، ص 23.

[95] _ أبو زُهرة، الجريمة، ص 151.

[96] _ الطبري، تاريخ الأمم والملوك: 5/72، والكامل لابن الأثير: 3/334.

[97] _ ابن الأثير، الكامل: 3/335.

[98] _ الموسوي، دولة الإمام عليّ، ص249.

[99] _ المواثيق الدولية، ص 29.

[100] _ الشيخ الطوسي، التهذيب: 10/228، رواية رقم 31.

[101] _ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 36.

[102] _ سنن النسائي: 7/156.

[103] _ الثقفي، الغارات، ص 25.

[104] _ أبو زُهرة، الجريمة، ص 163.

[105] _ أبو زُهرة، الجريمة، ص162.