تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 119
إلى صفحة: 133
النص الكامل للبحث: PDF icon 180524-164048.pdf
خلاصة البحث:

الملخص

يتحدث هذا البحث عن ظاهرة بارزة في تاريخ تطور الشعر العربي؛ إذ شكل الدوبيت نمطًا شعريًا مستحدثًا من بين الأشكال الفنية الناضجة، منبثقًا من البيئة الجديدة التي اختلطت فيها أجناس متباينة وثقافات متنوعة،وطباع متميزة وعادات مختلفة. وانماز من غيرة من الفنون  الشعرية المستحدثة (كالمواليا والزجل والكان وكان والقوما والبند) بكونه محلى بقواعد الأعراب والصرف وحلاوة الايقاع بجانب ارتباطه بمعاني الحب الوجداني المفعم بالعواطف الصادقة ونوازع الزهد والعرفان والتأمل الفلسفي.

Abstract

The present  study discusses a prominent phenomenon in the history of Arab poetry.

The(dubait – double – lines) forms a poetic Style created from the new environment in which different genres, cultures, traditions, distinguished behavior, are blended. This genre is distinguished from other modern poetic Arts like Mawalia, Zajal,  Al – kan wa  kan, Al Quma and Band, as it is  decorated with grammatical rules and sweet tune, in addition to its connection with the meanings of subjective – love which is charged by truthful passions and the tendency of asceticism, mysticism and the philosophical meditation.

البحث:

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله المبعوث للناس كافة هداية للعالمين وعلى آله  ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يعد العصر العباسي من أطول العصور الأدبية عمرًا وأغزرها ثراءً, وبجملته يمثل أعلى مراحل تطور الأدب العربي ونضجه، فقد اتسعت الثقافة في هذا العصر أتساعًا شاملاً أستوعب الكثير من تراث الأمم القديمة وحضاراتها، فصار الكتاب والشعراء العباسيون يستثمرون بنتاجاتهم ما آل إليه الواقع الحضاري الجديد من عمق في الفكر وسمو في المنطق وتعدد في مصادر المعرفة وتطور في أساليب التعبير والأداء اللغوي، ولا سيما في الشعر كالتجديد في البنية والأوزان والقوافي، ولعل ما وسم شخصية العربي من خصائص النمو العقلي والتطور المعرفي الأصيل، جعلته يحرص بشغف على ارتشاف كل جديد، وإعمال العقل لمحاولة اكتشاف الطريف والمبتكر،  وكان الشعر من بين ما شملته تلك المحاولات الجادة, لاسيما بعد جنيه ثمار التطور الحضاري الباهر حتى نهاية العصر العباسي, فإذا بنا نستقبل مع بواكير القرن الرابع الهجري وما تلاه أشكالاً فنية مبتكرة من الشعر العربي، تمثلت بتنويعات إيقاعية مغايرة – بناء وترتيبا – للمعهود في النظام العددي لتفعيلة الأوزان المعروفة، ذهب بعضهم إلى اعتبارها أوزانًا جديدة تضاف إلى سابقاتها، على الرغم من أنها لم تخرج عن الوحدات الصوتية والايقاعية لبنية التفعيلة وجرسها، كما درج على ما نطقه العرب وساغ اسماعهم فنيًا فقد كانت الرباعية أو ما أصطلح على تسميتها (الدوبيت) من بين هذه الاشكال الفنية الناضجة؛ التي تتميز من عيرها من الفنون الشعرية المستحدثة (كالمواليا والزجل والكان وكان والقوما)، فقد امتازت هذه بكونها محلاة بقواعد الأعراب وموازين الصرف، وحلاوة الايقاع بجانب ارتباطها بمعاني الحب الوجداني المفعم بالعواطف الصادقة ونوازع الزهد والعرفان والتأمل الفلسفي.

لقد كان أقدامنا على دراسة هذا النوع أمرا طبيعيا، خصوصًا أن مثل هذه الظاهرة البارزة في تاريخ تطور الشعر, التي دامت قرونا طويلة وغطت خلالها مساحات واسعة من الأقاليم واستغرقت  امتع أغراض الشعر وأقربها إلى النفس، وأثرت بجمالية مظهرها الشعري(زمنًا ونظامًا) في الكثير من  نماذج الشعر التقليدي ذي العروض الصريح، فظهر فيها التصريع والتجنيس المقتبس من نظام الرباعية المبتكر، وهذا في العديد من النماذج الشعرية. لذا فقد تطلب الإيفاء بجوانب الموضوع دراسته على وفق منهج يتمثل عبر ثلاثة مباحث، يسبقها تمهيد وجيز يعرض إلى شيء عن مفهوم شعر الدوبيت وملامح نشأته. يتناول الأول منها (الجذور الفنية لهذا النمط الشعري، فيما يتناول الثاني جوانبه الفنية، على حين يوظف المبحث الثالث لعرض جانب من أبعاد مضامينه, مشفوعة بنماذج منتقاة تعبر عن أغراضه عبر القرون العشرة.

وقد أعقبت تلك المباحث خاتمة ضمنت أبرز النتائج التي توصل إليها البحث.

وبعد, فلم يدّعِ باحث قبلاً لبحثه الكمال، وما كان لنا أن ندعيه لبحثنا هذا.

توطئة

تشكل الرباعيات أو ما يسمى (بالدوبيت) نمطًا شعريًا مستحدثًا، نظم على شاكلته العديد من الشعراء وقد عدّه معظم الدارسين وزنًا خاصًا خارجًا عن بحور الخليل الستة عشر([1]) ويعرف(عند المحدثين)ببحر السلسلة أو الرباعي، ويأتي في العربية على وزن (فعلن متفاعلن فعولن فعلن) بتكراره أربع مرات، مصحوبة بوحدة القافية ومن أهم ما يدفع الشعراء إلى النظم به – كما يرى الدكتور كامل الشيبي – يعود إلى حاجة الشعراء إلى الإعراب عن أحاسيسهم، وبخاصة شؤون حياتهم اليومية ومشاعرهم الشخصية الخاصة، بقطع من الشعر فيها شكل القصيدة العام دون التطويل المتبع. إذ جرت الأمور على مقتضى الطباع المتغيرة([2])، أي أنها تخدم الحاجات الآنية والمتطلبات السريعة، لذلك اعتمدها الشعراء توافقا مع طبيعة السلوك والتعامل الخاص بمجريات الحدث الآني، فالشاعر يستجمع فيها قواه الفكرية وإحساساته النفسية وإيماءاته الداخلية دون البحث عن منافذ تعبيرية تخضعه لعملية اختيارية لمستوى الذوق والمقدرة على الانتقاء والبناء، ولعل ظهور نوع من الرباعيات في القرن الثاني الهجري، مقولا على السنة الشعراء من أمثال حماد عجرد 261هـ وبشار بن برد 165هـ يعد دليلاً على الرغبة في التغيير تدخل ضمن هذا الإطار الفني منظومة أبن دريد المتوفي 324هـ التي سماها (المربعة) وهي قصيدة طويلة وحدتها أربعة أبيات تبدأ كلها بحرف وتنتهي به باعتبار قافيتها، ثم ترد أربع أخرى تبدأ بالحرف التالي وتنتهي به حتى تستوفي حروف المعجم لتكون 116بيتًا([3]).

إنَّ هذا النمط الشعري الذي عرف عند العرب بكونه وحدة شعرية ذات مصاريع أربعة تتحد فيها القافية، أو قد تختفي فيها القافية الثالث([4])، وقد وجد (ما يشاكله) في الآداب الأخرى، إذ ظهر فيما بعد في الشعر الفارسي على لسان (الرودكي) المتوفي سنة 329هـ وغيره، وظهر كذلك في القوالب التركية والتاجيكية([5])، بينما تعني الرباعية أو (الدوبيت) في الشعر الانكليزي المقطع الشعري المكون من أربعة أبيات تتفق في قافية  واحدة أو اثنين، كما تتحد في وزن واحد أو اثنين([6]) وعلى الرغم مما يحظى به هذا الفن من شهرة واسعة ورواج كبير بين الشعراء والمتذوقين طيلة القرون العشرة الماضية، بدأ نوره يخبو شيئًا فشيًا، ويتجه نحو الانحسار فاتحًا المدار الأدبي لشيوع أنماط أخرى جديدة، يأتي في طليعتها ما أصطلح على تسميته بالشعر الحر، تساوقًا مع سنة التطور التلقائي في الأدب. إذ أنه صار كما يقول الشيبي – من تراثنا الموسيقي الكلاسيكي، باعتباره من الموشحات!، فكثيرًا ما تغني فرق الإنشاد رباعيات الدوبيت على أنها موشحات!([7]). وهذا يعني ((ان دور الدوبيت لم ينتهي بعد، وأن فيه من الحيوية والقوة ما يمكنه أن يستمر في الفصحى والعامية سنين طويلة آتية، وخصوصًا في مجال الاوبريت الغنائي، (فكل ما يحتاج إليه شيء من الإلحاح في لفت النظر إليه)، ذلك أنه غناء وإيقاع من ناحية وفلسفة وتأمل من ناحية أخرى، ومناجاة وحب من ناحية ثالثة، وهي عناصر تجذب إليها الناس بشتى أجناسها وميولها وأهدافها))([8]). ولا شك في أنها معطيات وسم بها (العصر الحديث)، وربما وجدت لها إمدادات فنية في أجناس أدبية أخرى، أو قوالب فنية مستحدثة.

المبحث الأول: جذور الرباعيات، نشأتها وتطورها

التسمية والنشأة:

اقترنت لفظة(الرباعيات([9])) بشعرنا العربي المعاصر، بمصطلح (الدوبيت), وقد ذهب بعض الدارسين والمؤرخين إلى أنه مأخوذ في الأصل عن الفرس([10])، ومعناه البيتان، بوصفة (قالبًا شعريًا مكونًا من بيتين بأربعة مصاريع)، ظهر في الشرق مثل ظهور الموشح في الأندلس والمغرب، والاسم المذكور(الدوبيت)، مركب عندهم من لفظتين (دو) الفارسية ومعناها الاثنان، و(بيت) العربية، ذلك أن الفرس لم يكونوا لينظموا أكثر من بيتين([11])، وسمي بالرباعية- عندهم – على الرغم من كونه بيتين، بغية تميزه من (المثنوي) الفارسي، الذي يتكون بيته من شطرين في بيت مصرع، فدخل في مجال المزدوج العربي باعتباره وحدته بيتًا مصرعًا لا صلة له بما قبله ولا بما بعده في القافية، وعند ظهور الدوبيت واشتهاره كالمثنوي ويزيد،  والذي هو بيت واحد، عن الدوبيت الذي تتكون وحدته من بيتين، كان منطقيًا وقياسًا في زعمهم أن يطبق على الدوبيت (الرباعي) بضرب المثنوي X2([12])، ولعل تسمية الفرس له بـ (الربــاعي) بسبب اشتماله على أربعة أشطر موحدة القافية في الغالب([13]).

وقد ذهب بعض الدارسين إلى أن اصل اللفظة (الدوبيت) بأعجام الذال لا إهمالها وهي عربية الأصل وتعني صاحب البيت أفسدتها العامة إلى (دو بيت)([14])، غير أن الرصافي يرجح إهمالها ويشاطره في ذلك د. مصطفى جواد، الذي يرى أن التحريف جرى على الأصل، وهو (الدوبيت) إلى (ذو بيت) ثم إلى(البوذيت) ثم إلى (بوذيّة)ثم قالوا: (أبوذيّة)([15])، ولعل من الطريف في تحديد نسبة التسمية وأصلها ما ذكره (رامز حيدر) من أن الفرنج أطلقوا قديمًا على وحدة الرباعية في الشعر العربي(الدوبيت) ومعناها بحر البيتين، وهي مركبة – كما يرى – من(دو) بالفرنجي أي الاثنين، وبيت بالعربي، وكل بيت منها يقسم شطرين، وهي على ذلك (عربية الأصل)، وهذا ما دعا عمر الخيام  - كما يعتقد – إلى تجنب نظم رباعيته بالعربية – وهي لغة عامة ادبه – تحرزا من افتضاح مصدرها العربي الذي تأثر به، بل وانتحل بعضه لنفسه، ومنه ما سمع عن أبي محجن الثقفي وبشار وأبي نؤاس وأبي العتاهية والمعري وحتى أبي العباس الباخرزي، فها هو مثلا ينسخ (فكرة وبناء) ما سبق لعدي بن زيد قوله(وهو شاعر جاهلي):

أيـــــــها الركـــــــــــــب المخـــــــــــــــبّون
 

فكـــــــــــما أنتـــــــــــــــــــــــمُ كــــــــــــــــــنا
 

 

علــــــى الأرض المجـدّون
 

وكمــــا نحــن تكونـــــــون
 

 

فقال الخيام:

أرى أناسًا على الغبراء قد هجدوا
 

وإن نظرت لصحراء الفناء أرى
 

 

ومعشرًا تحت اطباق الثرى رقدوا
 

قومًا تولوا وقومًا بعد لم يردوا([16])
 

 

ومهما يكن من أمر فأن ما ذكره (رامز حيدر)، ربما لا يعطي دليلا عليما كافيا – كما نعتقد – على تحديد بدء استعمال وزن الرباعية(لقالب العروض الذي سبقت الإشارة إليه)، غير أنه يشكل – في تقديرنا – الجذر الأساس الذي تطورت منه لتصل إلى ما هي عليه، تساوقًا مع ناموس الحياة في التطور، وبخاصة ما يتصل بالفكر والأدب، ولعل ما يؤيد ذلك إحاطة الشعراء الذين سبقت الإشارة إلى محاولاتهم لأنماط قريبة من السمات الفنية الخاصة بالرباعية أو الذوبيت، فضلاً عن أن (نوعًا من الرباعيات العربية كان معروفًا في القرن الثاني الهجري ومقولا على السنة بعض الشعراء) مثل حماد عجرد وبشار بن برد، كما بدا عليه بيتا بشار المشهوران في جارية تبيع الطيور، مازحًا: 

ربـــــابــــــــة ربـــــــــــة البـــيــــــــــت
 

لـــــــــــــــــها سبــــــــــــع دجــاجـــات 
 

 

تصـــــــــب الخـــــــــل فــــي الـزيــــــت
 

وديــــــــــــــك حســـــــــــن الصــــــــوت
 

 

((حيث اتحدت قافية مصاريع هذه الرباعية عدا المصراع الثالث))([17])

وإذا كانت مزاعم شمس الدين الرازي المتوفي بعد سنة 628هـ من ان مكتشف الرباعية هو(الرودكي) عبد الله بن جعفر السمرقندي المتوفي سنة 329هـ، معتمدًا قصة سماعهِ صبيا يردد متوازية في أثناء لعبه، وجد فيها وزنًا مقبولاً ونظمًا مطبوعًا يرتبط بأحد فروع الهزج فنظم على نسقه (بعد إصلاحه) اشعارًا، اقتصر من كل قطعة منها على بيتين، احدهما مصرع والآخر مقفى([18]).

فأن رأي (السلمي) المتوفي سنة 412هـ من أن ورود مصطلح الرباعيات على لسان الجنيد البغدادي المتوفي سنة (298هـ)  أي قبل الرودكي، باعتباره الرباعية ضربًا من الشعر يختلف عن القصائد، مما يعين الدارسين على القول بتحديد تاريخ مبكر لظهور فن(الرباعية) في الشعر العربي([19]) قبل تعرف غير العرب عليه.

التطور:

وإذا كانت بواكير ظهور الرباعيات أو شعر الدوبيت في القرن الثاني الهجري – كما عرفها كذلك بعض المتصوفة والزهاد، فأن وتائر تطورها ونضجها وانتشارها بدأت بشكل ملموس عبر القرنين الخامس والسادس، وإن كانت ملامح استوائها بدأت منذ القرن الرابع الهجري، فقد ذكر د. كامل الشيبي([20]) مستندًا إلى رواية (الحاكم النيسابوري ت 405هـ) إلى أن أول وانضج رباعية نظمت مدونة في العربية كانت لأبي العباس (الباخرزي) وهو من شيوخ الحاكم النيسابوري، المتوفي سنة 405هـ، اذ من رباعيات الباخرزي المشهورة مثلاً قوله:

قد صيرني الهوى أسير الذلة
 

واستأصل هجره بصبري كله 
 

 

واستنهكني وما بجسميَ عِلّة
 

لا حــــــــول ولا قـــــوة إلا بالله
 

 

وهذا ما يعضد الرأي القائل بأسبقية البراعية العربية على سواها من اللغات الأخرى، وفي ذلك نفي لرأي الرافعي أيضًا من أن الذوبيت لم يكن في العربية قبل القرن السابع الهجري([21]) لاسيما وقد ظهر لعديد من ناظمي الرباعية العربية من أمثال أبي سعيد ابن أبي الخبر(357- 440هـ) وغيره، وما أن هل القرن السادس الهجري حتى بلغ الشغف بالرباعيات أرض العراق، فكان الناظمون للرباعية في هذه الفترة من رجال الدولة والقضاء، والوزير الحسن بن علي بن صدقة(ت 522هـ) وسديد الدولة الأنبار 468-558هـ، وغيرهم كثير، وبرز منهم: (أبن القطان ت558) في العراق و(ابن قسيم الحموي ت 541هـ) المتوفي في الشام، ومن الأسرة الأيوبية (ناصر الدين كامل ت 581هـ) ثم انتقل إلى مصر في القرن السابع الهجري على يد(أبن مماتي ت 611هـ) و(ابن الفارض 576-632هـ) الذي نقله أبوه من الشام إلى مصر حيث كانتا موحدتين أبان حكم الأيوبيين، وبرز من المصريين(البهاء زهير 581-656هـ). ويبدو أن القرن السابع الهجري كان عصر الذوبيت الذهبي، إذ يذكر د. كامل الشيبي أنه وقف على دوبية تسعة وأربعين شاعرًا ممن مارسوا نظمه، وكان بينهم الصوفية والملوك والفقهاء والفلاسفة والأطباء، ومن بينهم نصير الدين الطوسي وجلال الدين الرومي الذي كان له الفضل في إيصالها إلى بلاد الروم، حيث وجد له تسع عشرة رباعية وكذلك سعد الدين بن عمر عربي 618-686هـ له ستين رباعية، ومن الشخصيات المهمة نظام الدين الاصفهاني ت 680هـ الذي نظم ديوانًا برأسه، ضمن ألف بيت منها على القوافي من الألف الياء، فضلاً عن ترجمة للكثير من الرباعيات الفارسية، فكان أول من ترجم لعمر الخيام.

وفي القرن الثامن الهجري برز العديد من شعراء (الدوبيت) المعروفين في مصر والشام والعراق مثل (كمال الدين لشوصي الشافعي 631- 701هـ) في مصر، و (صفي الدين الحلي 677- 750هـ) في العراق، الذي تفنن في شكل الرباعية، كما فعل في هذه الرباعية من فنون التجنيس التام:

العيدأتـــى ومن تعشقت بعــــــــــــيد
 

ما العيش كذا لكن من عاش رغيد 
 

 

ما اصنع بعد! منية القلب بعيد
 

من غازل غزلانا أو عاشر غيد
 

 

وعبر مسارها الطويل، مضت الرباعيات إلى مكة حيث نظمها أبو بكر المكي، وما ان طل القرن التاسع الهجري، حتى بدت المراجع تشح، فلم يظهر منها سوى القليل مثل: السعيد الخوارزمي المكي ت 813هـ، وابن حجة الحموي 776-837هـ، صاحب خزانة الادب، وهذا ما وسم رباعيات القرن العاشر أيضًا إذ كان من أشهر شعرائها(فضولي البغدادي 910-970هـ) وبرز في القرن الحادي عشر يجيدون لغتين أو ثلاث(كالبوريني 963- 1024هـ) صاحب تراجم الأعيان الذي تعلم الفارسية والتركية واتقنهما، ومن أشهر شعراء العصر: (بهاء الدين العاملي 953-1531هـ) الفقيه الفيلسوف الموسوعي، وقد شهد هذا العصر ظهور شاعر عراقي هو(أبو بحر الخطي ت 1028هـ).. وفي القرن الثاني عشر الهجري ظهرت نماذج كثيرة من الذوبيت على صورة رباعيات وموشحات لشعراء ينتمون إلى المشرق كان منهم نصر الله الحائري ت 1175هـ) وهو من فقهاء كربلاء و (صالح بن المعمار ت1866) من الموصل، ومنهم (شهاب الموسوي ت 1187هـ) من قبيلة كعب العربية في إيران، و(أزاد البلكرامي 116/1200هـ) من الهند الذي له ديوان بالعربية.. ودخل القرن الثالث عشر فإذا الانحسار الكبير للذوبيت بسبب من تربص الاستعمار الغربي للدولة العثمانية والانصراف التام عن الثقافة، فلم يظهر من الشعراء إلا ثلاثة منهم: (الشريف الخشاب ت 1230هـ) و (عثمان الموصلي 1188- 1246هـ). وما أن دخل القرن الرابع عشر الهجري حتى شهدنا انحسار فن الرباعيات من دواوين شعراء ما يسمى بعصر النهضة، أمثال محمود سامي البارودي وشوقي وحافظ والكاظمي والشيبي والرصافي، إلا ما ندر([22]).

المبحث الثاني: خصائص الرباعيات الفنية، بنيتها وإيقاعاتها...

  • بنيتها العروضية:

الرباعية أو الدوبيت قالب شعري مميز مؤلف من أربعة مصاريع، سمى العرب الواحد منها رباعية يراعي في المصراع الأول والثاني والرابع منه في الأقل قافية واحدة، وإلا فقوافيها موحدة، ووزنه العروضيين والمصنفين العرب المتأخرين هو:

[فّعْلُنْ مُتفاعِلُنْ فَعْولُنْ فَعِلُنْ] بتكراره اربع مرات([23])

كقول شرف الدين بن الفارض/ 632هـ:

نفسي لك زائرًا وفي الهجر فدا
 

إن كان فراقنا مع الصبح بًدا 
 

 

يا مؤنس وحدتي إذا اليل هَدا
 

لا اسفرَ بعد ذاكَ صبحٌ ابدا
 

 

وهو – كما واضح – متحد القوافي في جميع مصاريعه، فأن اختلفت الثالثة منها، سمى (اعرجا)، مثل قول ابن الفارض نفسه:

أهوى رشأليَ الأسى قد بعثا
 

ناديت وقد فكرت في خلقته
 

 

مذ عاينه تصبري ما لبثا
 

سبحانك ما خلقت هذا عبثا([24])
 

 

وقد تطرأ على قالبه زحافات عديدة، مما دعا البعض إلى إلحاقه بأوزان تقليدية معروفة كالرجز والهزج والوافر. فالفرس أفرغوه في قالب عروضي يناسب أجزاء (بحر الهزج) الذي وزنه (مفاعلين 6 مرات)، ولكن بالإيقاع نفسه آل إليه تعديل (الرودكي) في قصة اكتشافه المزعومة، فاضحى الوزن عندهم:

[مَفْعولُ مَفاعِيلُ مَفاعِيْلُنْ فاع] أربع مرات.

واعتبروه من ملحقات بحر الهزج: الذي وزنه (مفاعلين 6 مرات)، ولكنه لا يستعمل إلا مجزوءًا فيصير (مفاعلين) 4 مرات:

[مفاعيلن مفاعيلن       مفاعيلن مفاعيلن].

ويذهب (ممدوح حقي)([25]) إلى أن أحد أنموذجي(بحر السلسلة) الملحق بالذوبيت، الذي يتألف وزنه من [تن مستفعلن مستفعلن مستقعلن] هو بالأساس جزء من (بحر الرجز) الذي وزنه [مستفعلن مستفعلن مستفعلن] مكرر، لذا فهو يلحقه به، لأن حذف السبب (تن) الأول، يعيده إلى وزن الرجز ويمثل بقوله:

(قد) اقســـم مــن احبــــه بالبـــــاري
 

 

(ان) يبعـــــث طيفــــه مـع الاسحار
 

 

فحذف السبب الخفيف(قد) من المصراع الأول، وكذلك السبب الخفيف(ان) من المصراع الثاني، يعيد البيت إلى الهزج، وقد يستعمل الذوبيت مجزوءًا، فيكون وزنه: [فعلن متفاعلن فعولن] مرتين، كقول الباء زهير:

يــا مـــن لعبــــت بـــــه شمــــول
 

 

مــــا ألــطــــف هـــــذه الشمائـــل
 

 

وقد عدّه بعضهم منتسبا إلى (بحر الوافر) في الأصل، الذي وزنه (مفاعلتن) 6 مرات، غير أن بحر الوافر لا يرد – عادة – صحيحًا، بل لابد من قطف عروضته فيصير؛

[مفاعلتن مفاعل] وتحول إلى (فعولن). كما يظهر ذلك في رباعية البهاء زهير المذكورة آنفًا، فيكون وزنها:

[فعلن متفاعلن فعولن] بحذف (فَعِلُنْ) من مصراعيه.

  • تفعيلتها وإيقاعاتها:

يُقطّع وزن الرباعية التام – كما ثبته د. صفاء خلوصي، مستندا – في ذلك- إلى ما ذكره ياقوت الحموي في ترجمته أبي يعلى بن علي بن العين زربي(ج4 ص152) من ان للذوبيت وزنا خاصا هو:

[فَعْلُنْ – مُتَفَاْعِلُنْ – فَعُوْلُنْ – فَعِلُنْ] لكل مصراع، مثل:

نَفْسِيْ
___ ___

فَعْلُنْ          

لَكَ زَاْئِرًا

ب ب - ب –

مُتَفَاْعِلُنْ

وَفِي الْهَجْـ

ب__ __

فَعَــوْلُـنْ

رِ فــِدَاْ

-  ب ب–

فَعَلُنْ

 

يَاْمُؤْ
- - 
فَعْلُن          

نِسَ وِحْدَتِيْ

ب ب– ب-

 مُتَفَاْعِلُن

إِذَا الْلَيـــْـــ

ب - -

فَعَــوْلُـنْ

لُ هَدَاْ

ب ب-

فَعَلُنْ

 

ويكرر هذا التقطيع الإيقاعي على الجزء الثاني من الرباعية بمصراعيه وهو:

 ((إِنْ كَاْ
 

نَ فِرَاْقُنَاْ

مَعَ الصْبـُ

حِ بَدَاْ

 

لَاْ اَسْـ

ـفَرَ بَعْدَ ذَاْ

كَ صُبْحٌ

أَبَدَاْ([26])

 

وقد يستعمل الدوبيت مجزوءًا هكذا:

  (فعلن متفاعلن فعولن) مرتين، كقول البهاء زهير:

يـَـْـا مـَــنْ لَعِبـــَــتْ بـــِــهِ شَمُـــــوْلُنْ
 

 

مــَـاْ أَلْــطَــــــفَ هَــــــذِهِ الشَمَــــاْئِلْ
 

 

فَيُقطَّع:/

يَاْ مَنْ

فَعْلُنْ

--

لَعِبَتْ بِهِيْ

مُتَفَاْعِلُنْ

ب ب - ب -

شَمُوْلُنْ

فَعَــوْلُـنْ

ب -   -

 

مَــاْ أَلْــ

فَعْلُنْ

- -

ــــــطَفَ هـــَـاْذِهِشْـــ

 مُتَفَاْعِلُنْ

ب ب – ب -

شــَمَاْئـِـــــلْ

فَعَــوْلُـنْ

ب - -

 

               ويكرر هذا التقطيع الإيقاعي على الجزء الثاني من الرباعية بمصراعية، وهو:

نَشْــــــوَاْ

نُ يَهـُــــــــــــزُّهُ

دَلَاْلٌ
 

 

كَاَلْغُصْـ
 

نِ مَعَ النَسِيـ

ـمِ مَاْئِلْ([27])

 

المبحث الثالث:أهم السمات الفكرية, نماذج مختارة بحسب العصور

من الطبيعي أن يكون للفسحة الزمنية الطويلة التي استغرقها نظم الرباعيات والرقعة المكانية المتزامنة التي انتشر فيها, أثر واضح في إثراء التراث العربي بنماذج رائعة طرزت نسيجه بإيقاعاته الجذابة وجرسه الشجي، فكان وعاءً شهيًا لعدد من الأغراض والمعاني القريبة من النفس، وأن وجودها وكثرتها في تراثنا الشعري واهتمام الشعراء بها، إنما يتعلق بظروف الموضوع الذي نظمت فيه وطبيعة الغرض، ودرجة الانفعال وطبيعته عند الشاعر، وهو بحاجة إلى هذا النمط مثل حاجته إلى المقطوعة والطوال([28])، لأنها أولج في المسامع واجول في المحافل([29])، فتعنى به أصناف المحبين، وحلقت بأخيلة عروضته الممتعة تأملات الصوفية, والمتفلسفين ممن جنحوا إلى التعبير عن أعماق نفوسهم بأحاسيس صادقة، وأن كان نصيب الأغراض الأخرى ضئيلاً.. ذاك أنهم تناولوا بعض أغراض أهل المشرق بمفهوم الخاص، ولاسيما الغزل، الذي توسعوا في أنواعه وتفننوا بألوانه، وبرعوا في وصف الطبيعة، معبرين من خلالها عن طبيعة بلادهم الساحرة وأنماط حياتهم الرخية الناعمة, وقد استحدثوا أغراضًا جديدة من الشعر، كشعر الاستلطاف والاستعطاف والمناجاة، فضلاً عن تولعهم بالشعر التعليمي كألفية مالك وسواها، مما يَسّر لهم حفظ التراث العربي الإسلامي، ولعل ما أفاضت به همت الدكتور كامل الشيبي للبحث عن النصوص، أغنى الباحثين مضنة التنقيب والبحث([30])، إذ جمع المئات من قصائد الدوبيت لعشرات الشعراء على مدى القرون العشرة التي شملها ديوانه (الدوبيتي) الأثير، أثرنا أن ننتقي منها ما يعبر عن تنوع الأغراض وتعدد الأسماء وتسلسل القرون، بما يحترم المقام.

  1. قال أبو العباس الباخرزي، من القرن الرابع الهجري, مجسدًا تواجده في (الحب حد التسليم..)

قد صيَّرني الهوى أسيرَ الذلّة
واستأصلَ هجرهُ بصبري كلّه

 

 

واستنهكَني وما بجسمي عِلّة
لا حَولَ ولا قوةَ إلا بالله

 

 

لقد صدرت الشكوى من الشاعر عندما وجد نفسه متوجعة ((واستنهكنى)) أمام الهوى وهجر الحبيب، لا يملك أمامها ردًا إلا الشعر الدوبيتي، فلجأ إليه معبرًا عن مكوناته النفسية وانين شكواه، فالشعر ((فيض تلقائي لمشاعر قوية))([31])، وهو الاقدر على تجسيد المعاناة الدائمة بين الإنسان الشاعر وما يحيط به، وعالمه فيسمح للتعبير عن الرغبات والانكسارات, وبعد هذا أراد الشاعر أن يضفي على شعره هالة من الحسن والبهاء والصدق والرفعة فالتجأ إلى القرآن الكريم واقتبس منه آيات وضمنها هذا الشعر، فالعبارة الأخيرة مقتبسة من قوله تعالى: ((ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله)) [الكهف:39][32]

  1. وقال أبو سعيد بن أبي الخير، 357-440هـ في (المناجاة):

حمدًا لكَ، ربَّ، نجّني، منِكَ فَلاح
من عندك فتح كلِّ باب، ربّي

 

 

شكرًا لكَ في كلّ مساءٍ وصباحْ
افتح ليَ أبوابَ فتوحٍ وفتِاحْ

 

 
  1. وقال سديد الدولة الانباري 468-558 في (الحب ومناجاة النفس):

يا قلب الام لا يفيد النصْحُ
 

 

دَعْ مزحك كم هوىً جناهُ المزْحُ
 

ما جارحةٌ منكَ خَلاها جرحُ
 

ما تشعر بالخُمّار حتى تَصحو
 

 

 

 
  1. وقال السهروردي، أبو الفتوح: قتل سنة 586هـ في (الجفاء)، مستخدمًا التجنيس التام:

قومٌ رقدوا فهم نيام، يا قلبْ
ما ينفعُ بالنصح كلامٌ، يا قلبْ

 

 

دعهم – بالله – فذا ظلامٌ، يا قلبْ
فاصفحْ عنهمُ وقلْ، سلامٌ يا قلبْ

 

 
  1. وقال عماد الدين الأصفهاني، توفي سنة 591هـ في (الجهاد):

أقسمت سوى الجهاد مالي يا ربُ
إلاّ بالجــــــــــــد لا يُنالُ الطلبُ

 

 

والراحة في سواه عندي تعبُ
والعيشُ بلا جد جهادٌ لعبُ

 

 
  1. وقال أبو الفرج، (ابن الجوزي) توفي 597هـ في (شكوى الزمان):

واها لزماننا الذي كان صفا
ذابت روحي وما أرى منه جنا

 

 

أبكى مرضي وليس لي منه شفا
هذا رمقي، تسلموه بوفا

 

 

أن أهات الشكوى والحزن ظاهرة في الدوبيت الشعري، وهي عبرت عن حالة من حالات الإنسان المنكونة بفعل تأثيرات داخلية وخارجية وقد رسمت الانكسار والضعف الذي انتاب الشاعر، فالشعراء هم((اسرع الناس تعبيرًا عما يعتمل في نفوسهم، وفي نفوس الآخرين من الألم والشعور المحض))([33]).

وفي (عشق الذات الالهية)، قال:

يا ملك مهجتي ووالي ديني
هجرانك، مع محبتي، يضنيني

 

 

كم ينشرني الهوى ولم يطيويني
هل تدركني بنظرة تحييني؟!

 

 
  1. وقال فتيان الشاغوري(جمال الدين أبو محمد) توفي سنة 615هـ في(الغزل العذري الجامح)/ تجنيس:

الــورد بـوجـنـتـيـك زاهٍ زاهـــرْ
والعشق في هواك ساهٍ ساهرْ

 

 

والســـــــحر بمقلتــيك وافٍ وافــــرْ
يرجو ويخاف، فهو شاكٍ شاكرْ

 

 

كم اتعب الشاعر نفسه في هذه الأبيات التي تفتقر إلى الحس الشعري؟! وكم كد ذهنه في إيجاد كلمات تلائم التجنيس والقافية؟! أنه كما يبدو أراد أن يبين حذقه في التلاعب اللفظي، مضحيا بأبسط عناصر البعد النفسي الوجداني.

  1. وقال الملك الامجد، المقتول سنة628هـ في (فلسفة الحياة):

كم يذهب هذا العمر في الخسران
ضيعت زماني كله في تعب

 

 

ما أغفلني فيه وما أنساني
يا عمر، فهل بعدك عمر ثان؟!

 

 

فقد عبر عن رحلة هذا العمر في الخسارة والغفلة والنسيان وعكست واقعه المرير، ورسمت الأمه وأخرانه, لذا توصف بكونها المرآة العاكسة لضعفه وعجزه في مواجهة هذه الرحلة وشجونها، فالتجأ إلى الشكوى لـ((تخفف الهم وتزيل الألم))([34]).

  1. وقال (ابن الفارض) شرف الدين أبو حفص عمر، توفي سنة 632هـ (في حب الذات الالهية):

لم أخشىَ- وأنت ساكنٌ أحشائي- 
فالناسُ اثنانِ: واحدٌ اعشقهُ

 

 

إن اصبحَ عني كل خلٍ ناَءِ
والآخرُ لم أحسبْه في الأحياءِ

 

 

هكذا هو ابن الفارض – سلطان العاشقين، فشعره انهيالاً ذاتيا واندفاقا فكريا وعاطفيًا في غير اهتمام كبير بلغة وصفتها, وفي غير اهتمام كبير للصياغة الإيضاحية همه أن يندق عن ذلك الكلام يكون تعبيرًا عما في نفسه من شوق وضِرام([35])

  1. وقال جلال الدين الرومي، توفي سنة 672هـ في (فلسفة الوجود):

ما أطيـــبَ! ما ألذ! ما أحـــلانا!
ان شــــــــاء بـــــــــنا كرامـــــــة مولانا

 

 

كنا مهــــجا ولـــم نكـــن ابــــــدانا
يعفـــــــــو ويـعـيــــــدنا كـــــما أبـــــــدانا

 

 
  1. وقال سعد الدين بن عربي (محمد بن محمد بن علي الطائي الحاتمي) توفي 686هـ:

يا ليــــلُ الا طلتُ بالله عليك
ناداني: "لا تخش طلوع الفجر!

 

 

قـــد زارني الحبيب والأمر اليك
ما يطلعه وشمسه بين يديك"!

 

 
  1. وقال (صفي الدين الحلي) توفي 750 أو 752هـ في (الغزل):

يا مَنْ لجمال يوسف قد ورثا
والناس تقول – أَذ ترى حسنك ذا

 

 

العـــاذل قــــد رق لحــــالي ورثا
"سبحانـــك مــا خلقت هذا عبثًا"

 

 
  1. وقال (فضولي البغدادي) محمد بن الحسين، توفي في 963هــ (في مناجاة المتصوفة والزهاد)

 فأودع خفقات قلبه في شعره العرفاني، وجعل منه صورة لنفسه الحزينة، ونراه يكثر فيه من الدعاء.

الحمدُ لمن انار قلبي وهدى
ما أمدحُ واهبا سواهُ ابدا

 

 

والشكر لما فيه من الشوق بَدا
لا اشرك في ثناءِ ربّي احدا

 

 

أن الشعر لابد له أن يعبر عن روحيه قائله, فهو ((إذ لم يعبر عن الغصة الكيانية التي يقاسيها الإنسان، أو عن الفرح الذي ينبثق عن رؤيا الشاعر إذ ينْفذ إلى عالم الغيب الكامن وراء المرئيات وعن دهشته وافتنانه غذ ينظر إليه، فليس شعرا))([36]).

  1. وقال (عثمان الموصلي) ابو يوسف بن عز الدين القادري، توفي سنة 1146هـ: (من مناجاة الصوفية والزهاد)

يا من عذلوا اخا الهوى في الحب
ماذا نفعتْ زينة ثوبي: يبلى!

 

 

ما العيد سوى رؤية وجه الحِبِّ
ماذا صنعت مشية أهل العُجْبِ

 

 

فالموصلي أدى غرضه بأبيات بسيطة واضحة, وقد أتت الصورة عنده حاملة لشحنة عاطفية, وما كانت إلا أمنية منه ((سوى رؤية وجه الحب)) – بأسلوب القصر- يتحقق منها كل ما يطمح إليه فكانت الصورة ((محكومة بأنفعال طاغ أو أفكار مفصلة أو صور أثارها ذلك الانفعال))([37]).

وقال أيضًا في (مناجاة الخالق المتجلي بلطفه عباده):

من مال إلى غيرك فهو الجاهلْ
يا من هو للجمال فردٌ كامل

 

 

والغَيرُ تخيُّل ووهم باطِلْ
باللطفِ عُبيدك المعنى عاملْ

 

 
  1. وقال (احمد الصافي النجفي) توفي سنة 1985م في ترجمته رباعيات الخيام:

البلبلُ قد شدا على الاغصانِ
والوردُ زَها، فقم وبادِر عَجِلا

 

 

فاشرب صهباءَها مَع الندمانِ
يومين من الهناء في البُستانِ

 

 

فالنص لم يخلق الشعرية, بل لم يتقرب منها؛ إذ أن الصور جاءت مغسوله ((والشعر المغسول ليس من الشعر ؛ لأنه لا تتحقق فيه الشعرية وهي التدفق وروعة التعبير وطرافة التصوير))([38]).

هكذا يكاد كلف الشعراء بالجناس يكون عامًا في فن الدوبيت، واختصوا بالجناس الناقص بشكل خاص في تطبيقاتهم عليه، وهو أمر يتمم فن الرجال ويعليهم ؛ لأن الجناس الناقص يرفع من الأثر الموسيقي في الشعر ويزيد من ألوانه أما الجناس التام فيخلع طابع الرتابة على الشعر وتلك ظاهرة لا تحمد في التصنيع وإن التلوين في أوزان الألفاظ المستعملة في التجنيس تتحول إلى مسارات صوتية متحركة تستأثر بخواطر المتلقي وتشده إليها([39]).

الخاتمة:

في المتقدم من الصفحات، طفنا في رحاب لون مستحدث من ألوان شعرنا العربي، أمتعنا بأنغام عروضه المبتكر، ومعاني التأمل والوجدان، فأغرانا إلى التعرف على جانب من قدرات شعرائنا المبدعين، وحيوية لغتنا النامية، ونعني بذلك فن الرباعيات الشعري.

أن ما وقفنا عليه من محاولات التجديد الأولى المتمثلة باعتماد نظام البيتين ذوي المصاريع الأربعة المتحدة في القافية أو باختلاف الثالث منها، في شعر القرن الثاني الهجري، مرورًا بنماذج شعر الصوفية المختلف عن نظام القصائد السائدة، كل ذلك كان له أثره الواضح في ظهور (فن الرباعية واستوائه بقالبه العروضي المتميز لدى العرب منذ القرن الرابع الهجري على يد أبي العباس الباخرزي مما حدا ببعض المعاصرين إلى اعتباره بحرا جديدا يضاف إلى البحور الستة عشر، على حين عده آخرون من بحر الرجز، بينما رأى قسم ثالث أنه من ملحقات بحر الوافر، فيما أرجعه إلى الهزج وهكذا.

على حين عده بعض المحدثين واحدا من الإرهاصات الفنية والفكرية لتجديد الشعر في العصر الحديث، بدءا من محاولات جماعة الديوان وأبولو، وانتهاء بمدرسة الشعر الحر المكتملة ذات المعالم الثابتة، ولاسيما من حيث التحرر من قيود القافية ووحدة الوزن وعدد التفعيلات في الشكل، والميل إلى الغموض الشفاف والرمز المحبب واللغة الموحية في المضمون.

لقد طالعنا عبر سياحتنا في رحاب الفكر الصوفي والفلسفي الذي ميز بعض مضامين هذا النوع من الشعر صور فنية طريفة، كان لها وقعها في وجدان المتلقي ورؤيته للحياة، ولاسيما ما يتصل بكشف خوالج النفس الإنسانية، التي أضحت تواجه ظواهر التباين الحاد في الرؤية المعاصرة لمنظومة القيم التي تناولها هذا النوع المميز.

وأخيرا فقد لمسنا مقدار تأثيره – بمزاياه الإيقاعية المتفردة الجميلة و موضوعاته الطريفة – في مجمل شعرنا العربي، مما يذهب بنا القول بعيدا إلى ان من الجدير بنا ان نمنحه الفرصة في أن يحظى بالدعم عبر التعريف به: بحثا ونشرا وأعلاما، ليستعيد مجده الآفل في مدار (أدبنا المعاصر).

والله نرجو التوفيق في مسعانا المتواضع للتعريف الموجز به – بما يتحمله المقام- ومنه الهداية إلى مواطن الصواب.. أنه مجيب الدعاء.

قائمة بالمراجع الاساسية:

  1. القرآن الكريم
  2. اتجاهات الهجاء في القرن الثالث الهجري، قحطان رشيد التميمي، دار المسيرة، بيروت،د.ت.
  3. الأدب الرفيع في ميزان الشعر وقوافيه: معروف الرصافي: مطبعة المعارف: بغداد: 1969.
  4. أهدى سبيل إلى علمي الخليل العروض والقافية: محمود مصطفى: ط7: القاهرة: 1967.
  5. تاريخ آداب العرب: مصطفى صادق الرافعي: ج3: مصر/1940: إخراج (محمد سعيد العريان).
  6. تطبيقات البديع عند أبي تمام, حميد مخلف الهيتي، مجلة الجامعة المستنصرية، العدد / الثالث- السنة الثالثة 1972م، مط دار للسلام بغداد(بحث).
  7. الجامع في تاريخ الأدب العربي/ حنا الفاخوري، مط ذوي القربى / طهران 1327هـ.
  8. ديوان الدوبيت في الشعر العربي(في عشرة قرون): د. كامل مصطفى الشيبي: دار الثقافة: بيروت: 1972.
  9. رباعيات أبي نؤاس: رامز حيدر: ط1: بيروت: سنة 1965.
  10. سلسة نوابغ الفكر الغربي، كولدرج، ترجمة محمد مصطفى بدوي، دار المعارف، مصر، 1958م.
  11. الشعر في معركة الوجود، دار مجلة شعر, 1960.
  12. الشعرية، د. أحمد مطلوب, فرزه من مجلة المجمع العلمي العراقي 1989.
  13. العروض الواضح: د. ممدوح حقي:ط14: دار مكتبة الحياة: بيروت/سنة 1970.
  14. العمدة: في محاسن الشعر وآدابه ونقده: أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني, (ت456هـ) تحقيق: محمد محيّ الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت, 1972م.
  15. فن  التقطيع الشعري والقافية: د.صفاء خلوصي: ط3، بيروت/ سنة 1966.
  16. في أدب العصور المتأخرة: د. ناظم رشيد: مطبعة جامعة الموصل: العراق: سنة 1985.
  17. محاضرات الأدباء، الراغب الأصفهاني، دار الحياة، بيروت، 1961م.
  18. المستطرف في كل فن مستظرف/ لشهاب الدين محمد بن أحمد الابشيهي(852هـ), قدم له وضبطه وشرحه د. صلاح الدين الهواري، ط1، مط دار الهلال، بيروت، لبنان، 200م.
  19. مسند أحمد بن حنبل (ت 241هـ) شرح أحمد محمد شاكر،ط3، دار المعارف، مصر، 1949م.
  20. معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب: مجدي وهبة وكامل المهندس: لبنان: 1984.
  21. معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا(ت 395هـ) اعتنى به د. محمد عوض مرعب وفاطمة محمد اصلان، ط1، دار أحياء التراث العربي، بيروت لبنان، 2001.
  22. المعجم الوسيط، قام بأخراجه: إبراهيم مصطفى وأحمد حسن الزياد وحامد عبد القادر ومحمد علي النجار، مط، أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (د.ت).
  23. ميزان الذهب: أحمد الهاشمي، (د.ط)، (د.ت).

نظرية الأدب ومناهج الدراسات الأدبية، د. عبد المنعم إسماعيل، ط1، مكتبة الفلاح، الكويت، د.ت.

 

[1]- أنظر: ديوان الدوبيت في الشعر العربي(في عشرة قرون): د. كامل مصطفى الشيبي: دار الثقافة: بيروت: 1972 / 58-68.أنظر: العروض الواضح: د. ممدوح حقي:ط14: دار مكتبة لحياة: بيروت: 1970/164. الأدب الرفيع في ميزان الشعر وقوافيه: معروف الرصافي: مطبعة المعارف: بغداد: 1969/114: فن  التقطيع الشعري والقافية: د.صفاء خلوصي: ط2، بيروت:1966/ 291: أهدى سبيل إلى علمي الخليل: محمود مصطفى: ط7: القاهرة: 1967/146: في أدب العصور المتأخرة: د. ناظم رشيد: مطبعة جامعة الموصل: 1985/46.

[2]- أنظر: ديوان الدوبيت./ ص34-35. 

[3]- أنظر: نفسه/38.

[4]- أنظر: أهدى سبيل/146.

[5]- أنظر: ديوان الدوبيت/96.

[6]- أنظر: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب: مجدي وهبة وكامل المهندس: لبنان: 1984.

[7]- ينظر: ديوان الدوبيت/95.

[8]- نفسه/ 131.

[9] - يقول أبن فارس إنَّ ربع: الراء والباء والعين، أصول ثلاثة: احدهما جزء من أربعة أشياء،ينظر: معجم مقاييس اللغة، ((مادة ربع)) ص418، فالرباعي: ما ركب من أربعة أشياء. وهي رباعية ينظر: المعجم الوسيط، مادة (ربع)

[10]- أنظر: ديوان الدوبيت / (17-18)، الأدب الرفيع/114، أهدى سبيل/146، العروض الواضح/164، فن التقطيع الشعري/291، في أدب العصور المتأخرة: د. ناظم  رشيد: الموصل 1985/46، ميزان الذهب: أحمد الهاشمي، 145-146.

[11]- أنظر: فن التقطيع الشعري/291.

[12]- أنظر: ديوان الدوبيت/55.

[13]- أنظر: أهدى سبيل/ 146.

[14]- أنظر: ديوان الدوبيت121(استنادًا إلى رأي (المحبي) في خلاصة الأثر 1 / 108، والمزدي في سلك الدر 3/350، والابياري في سعود المطالع 1/381.. في أنه أعجم تصحيحًا وتحريفًا، وليس أصلاً).

[15]- أنظر: في التراث العربي /ج232.

[16]- أنظر: رباعيات أبي نؤاس: رامز حيدر: ط1: بيروت: سنة 1965/3-7.

[17]- أنظر: ديوان الدوبيت../38،36.

[18]- أنظر: ديوان الدوبيت../18-19(نقلا عن معجم البلدان لياقوت الحموي).

[19]- أنظر: نفسه 43- 45.

[20]- أنظر: تاريخ أدباء العرب/ديوان الدوبيت/ 50-53، 137.

[21]-  نفسه/172.

[22]- أنظر: ديوان الدوبيت/72-87.

[23]- ينظر: ديوان الدوبيت/58، نقلا عن:  ((حاشية الدمنهوري ص38، وميزان الذهب للهاشمي، وهو عنده ،   - الدوبيت - على خمسة أنواع ، الرباعي المعرج، الرباعي الخالص ، الرباعي المرفل ، الرباعي الممنطق ، الرباعي المردوف، ص146-147)) وقد جاء مصراعه الأول في (أهدى سبيل: ((روحي لك يا مواصل الليل فدا))، ص146.

[24]- أهدى سبيل/ 147.

[25]- العروض الواضح/ 167.

[26]- أنظر: التقطيع الشعري والقافية/ 291- 293.

[27]- أنظر: الأدب الرفيع../115.

[28]- ينظر: العمدة: 1/186.

[29]- ينظر: المصدر نفسه: 1/187.

[30]- ينظر: المستطرف في كل فن مستطرف/ لشهاب الدين محمد بن أحمد الابشيهي(852هـ) ، قدم له وضبطه وشرحه د. صلاح الدين الهواري، ط1، مط دار الهلال، بيروت، لبنان، 200م.

[31]- نظرية الأدب ومناهج الدراسات الأدبية، د. عبد المنعم إسماعيل، ط1، مكتبة الفلاح، الكويت، د.ت، ص218.

[32] - أو مقتبسة من قول الرسول الكريم (ص) ، قال النبي(ص): ((لا حول ولا قوة إلا بالله فأنها كنز من كنوز الجنة)). ينظر مسند أحمد بن حنبل:2/333.

[33]- اتجاهات الهجاء في القرن الثالث الهجري، قحطان رشيد التميمي، دار المسيرة، بيروت،د.ت، 156. 

[34]- محاضرات الأدباء، الراغب الأصفهاني، 2/438، دار الحياة، بيروت، 1961م.

[35]- ينظر: الجامع في تاريخ الأدب العربي/ حنا الفاخوري، مط ذوي القربى / طهران 1327هـ، ص861.

[36]- الشعر في معركة الوجود، دار مجلة شعر ، 1960، ص114.

[37]- سلسة نوابغ الفكر الغربي، كولدرج، ترجمة محمد مصطفى بدري، دار المعارف، مصر، 1958م، ص168.

[38]- الشعرية، د. أحمد مطلوب ، فرزه من مجلة المجمع العلمي العراقي 1989، ص89.

[39]- ينظر: بحث تطبيقات البديع عند أبي تمام ، حميد مخلف الهيتي، مجلة الجمعة المستنصرية، العدد / الثالث- السنة الثالثة 1972م، مط دار السلام بغداد، ص29.